-
دخول

عرض كامل الموضوع : قانا طبعة ثانية


firstlook
20/08/2006, 14:05
يـومـيّات


محمود درويش



(فلسطين)



أبعد من التماهي

أجْلِسُ أمام التلفزيون، إذ ليس في وسعي أن أَفعل شيئاً آخر. هناك، أمام التلفزيون، أَعثر على عواطفي. وأرى ما يحدث بي ولي. الدخانُ يتصاعد مني، وأَمدُّ يدي المقطوعةَ لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسوم عديدة، فلا أجدها ولا أهرب منها من فرط جاذبيّة الألم. أنا المحاصر من البرّ والجو والبحر واللغة. أقلعتْ آخرُ طائرةٍ من مطار بيروت، ووَضَعَتْني أمام التلفزيون، لأرى بقيَّة موتي مع ملايين المشاهدين. لا شيء يثبت أني موجود حين أفكّر مع ديكارت، بل حين ينهض مني القربانُ، الآن، في لبنان. أدخل في التلفزيون، أنا والوحش. أَعلم أن الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر. ولكني أَدْمَنْتُ، ربما أكثر مما ينبغي، بُطُولَةَ المجاز: التَهَمني الوحش ولم يهضمني. وخرجتُ سالماً أكثر من مرة. كانت روحي التي طارت شعاعاً مني ومن بطن الوحش تسكن جسداً آخر أَخفَّ وأَقوى. لكني لا أعرف أين أنا الآن: أمام التلفزيون، أم في التلفزيون. أما القلب فإني أراه يتدحرج، ككوز صنوبر، من جبل لبناني إلى غزة!.

العدو

كُنْتُ هناك قبل شهر. كُنْتُ هناك قبل سنة. وكنت هناك دائماً كأني لم أكن إلاّ هناك. وفي عام 82 من القرن الماضي حدث لنا شيء مما يحدث لنا الآن. حُوصِرْنا وقُتِلْنا وقاومنا ما يُعْرَضُ علينا من جهنم. القتلى/ الشهداء لا يتشابهون. لكلِّ واحدٍ منهم قوامٌ خاص، وملامحُ خاصة، وعينان واسمٌ وعُمْرٌ مختلف. لكن القتلة هم الذين يتشابهون. فهم واحد مُوَزَّع على أَجهزة معدنية. يضغط على أزرار الكترونية. يقتل ويختفي. يرانا ولا نراه، لا لأنه شَبَحٌ بل لأنه قناعٌ فولاذيٌّ لفكرة... لا ملامحَ له ولا عينان ولا عمر ولا اسم. هو... هو الذي اختار أن يكون له اسم وحيد: العَدُوّ.

نيرون

ماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرّج على حريق لبنان؟ عيناه زائغتان من النشوة، ويمشي كالراقص في حفلة عرس: هذا الجنون، جنوني، سيّد الحكمة، فلتشعلوا النار في كل شيء خارج طاعتي... وعلى الأطفال أن يتأدبوا ويتهذبوا ويكفوا عن الصراخ بحضرة أنغامي!
وماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرّج على حريق العراق؟ يسعده أن يوقظ في تاريخ الغابات ذاكرة تحفظ اسمه عدواً لحمورابي وجلجامش وأبي نواس: شريعتي هي أُمُّ الشرائع. وعشبةُ الخلود تنمو في مزرعتي. والشعر، ما معنى هذه الكلمة؟
وماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرّج على حريق فلسطين؟ يبهجه أن يدرج اسمه في قائمة الأنبياء نبيّاً لم يؤمن به أحدٌ من قبل. نبيّاً للقتل كَلفَهُ اللهُ بتصحيح الأخطاء التي لا حصر لها في الكتب السماوية: "أنا أيضاً كليم الله"!


وماذا يدور في بال نيرون وهو يتفرّج على حريق العالم؟ "أنا صاحب القيامة". ثم يطلب من الكاميرا وقف التصوير، لأنه لا يريد لأحد أن يرى النار المشتعلة في أصابعه في نهاية هذا الفيلم الأميركي الطويل!.



حمام

رفٌ من الحمام ينقشع فجأة من خلل الدخان. يلمع كبارقةِ سلْمٍ سماوية. يحلِّق بين الرماديّ وفُتَات الأزرق على مدينة من ركام. ويذكّرنا بأنَّ الجمال ما زال موجوداً، وبأنَّ اللاموجود لا يعبث بنا تماماً إذ يَعِدُنا، أو نظنُّ أنه يَعِدُنا بتجلِّي اختلافه عن العدم. في الحرب لا يشعر أحد منا بأنه مات إذا أَحس بالألم. الموت يسبق الألم، الألم هو النعمة الوحيدة في الحرب. ينتقل من حَيٍّ إلى حَيّ مع وقف التنفيذ. وإذا حالف الحظُّ أحداً نسي مشاريعه البعيدة وانتظر اللاموجود وقد وُجد محلِّقاً في رفّ حمام. أرى في سماء لبنان كثيراً من الحمام العابث بدخان يتصاعد من جهة العدم!

البيت قتيلاً

بدقيقةٍ واحدة، تنتهي حياةُ بيت كاملة. البيت قتيلاً هو أيضاً قَتْلٌ جماعيٌّ حتى لو خلا من سكانه. مقبرةٌ جماعيَّةٌ للمواد الأولية المُعَدَّةِ لبناء مبنى للمعنى، أو قصيدةٍ غير ذاتِ شأْنٍ في زمن الحرب. البيت قتيلاً هو بَتْرُ الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء المشاعر، وحاجَةُ التراجيديا إلى تصويب البلاغة نحو التبصُّر في حياة الشيء. في كل شيء كائنٌ يتوجّع... ذكرى أصابع وذكرى رائحة وذكرى صورة. والبيوت تُقْتَلُ كما يقتل سكانها. وتُقْتَلُ ذاكرة الأشياء: الحجر والخشب والزجاج والحديد والاسمنت تتناثر أشلاء كالكائنات. والقطن والحرير والكتان والدفاتر والكتب تتمزق كالكلمات التي لم يتسنّ لأصحابها أن يقولوها. وتنكسر الصحون والملاعق والألعاب والأسطوانات والحنفيات والأنابيب ومقابض الأبواب والثلاَّجة والغسّالة والمزهريات ومرطبانات الزيتون والمخللات والمعلبات كما انكسر أصحابها. ويُسحق الأبيضان الملح والسكر والبهارات وعلب الكبريت وأقراص الدواء وحبوب منع الحمل/ والعقاقِير المنشطة وجدائل الثوم والبصل والبندورة والبامية المجففة والأَرُزُّ والعدس كما يحدث لأصحابها. وتتمزق عقود الإيجار ووثيقة الزواج وشهادة الميلاد وفاتورة الماء والكهرباء وبطاقات الهوية وجوازات السفر والرسائل الغرامية كما تتمزّق قلوب أصحابها. وتتطاير الصور وفُرَشُ الأسنان وأمشاط الشَعْر وأدوات الزينة والأحذية والثياب الداخلية والشراشف والمناشف كأسرار عائلية تُنْشَرُ على الملأ والخراب. كل هذه الأشياء ذاكرة الناس التي أفرغت من الأشياء، وذاكرة الأشياء التي أفرغت من الناس... تنتهي بدقيقة واحدة. إن أشياءنا تموت مثلنا، لكنها لا تدفن معنا!



عملية تسلّل

اليوم، في السادس والعشرين من تموز، تمكن واحد وعشرون قتيلاً/ شهيداً في غزة، بينهما رضيعان، من اجتياز الحواجز العسكرية والأسلاك الشائكة... والتسلّل إلى نشرة الأخبار. لم يُدْلُوا بأي تعليق، إذ وقع الألم منهم قبل الوصول إلى الكلمة. ولم يبوحوا بأسمائهم من فرط ما هي فقيرة وعاديّة. ولم يرفعوا إشارات النصر أمام الكاميرا لازدحام الكاميرا بصُوَرٍ أكثرَ إثارة. الحرب إثارة، مسلسل يقضي فيه الفصلُ الجديدُ على الفصل السابق، ومذبحةٌ تنسخ مذبحة. وحين يصير القتل يومياً يصير عادياً ويتحول القتلى أرقاماً، ويصير الموت إلى روتين، ولا تتجاوز الحرارة درجة الثلاثين. الروتين يسبِّب الملل. والملل يبعد المشاهد عن الشاشة، ويحرم المراسل من العمل. وحين يقلُّ المشاهدون تنضب الإعلانات فتصاب صناعةُ الصورة بالكساد. يضاف إلى ذلك: أن مواقع غزة التصويرية صارت مألوفةً ضعيفةَ الإيحاء. سماءٌ رصاصيّةٌ على أزقة ضيقة في مخيمات لا تطل على البحر. لا مرتفعات هناك، ولا مَشَاهِدَ طبيعية تسرّ المُشَاهِد. كل شيء عادي القتل عادي والجنازة عادية والشوارع رمادية. أَمَّا ما هو غير عادي اليوم، فهو: أن يتمكن واحد وعشرون قتيلاً/ شهيداً من التسلّل الجريء، وبلا مرشدين، إلى نشرة الأخبار!


قانا [طبعة ثانية]

فجر اليوم، الثلاثين من تموز، حَقَّقت دولة إسرائيل تَفَوُّقَها العسكري الكاسح: انتصرت على الأطفال في قانا، وقطَّعتهم أشلاء. كان الأطفال نائمين حالمين بالعودة إلى أَسِرَّتهم الأصليّة سالمين، وربما حالمين بسلام صغير على هذه الأرض الصغيرة، يكبرون على مَهْلٍ على مهل، ويذهبون إلى المدرسة في أول الخريف، ويهربون منها لا خوفاً من الطائرات.. بل سأماً من درس الجغرافيا. لكنهم قُتلوا دون أن ينتبهوا، فيخافوا ويصرخوا. كانوا نائمين وظلوا نائمين.. أَيدي بعضهم على صدورهم، وأَيدي بعضهم مقطوعة. لم أَبْكِ منذ فترة طويلة، منذ أدركتُ أن دمعتي تُفرح من يُحبُّونني ميتاً. ولكن الذين يريدوننا ميتين فرحون اليوم مَزْهُوُّون بانتصارهم... بانتصار غريزة الكراهية والقتل المجانيّ على فطرة حبّ الأطفال لأمهاتهم. لا، ليس الحليب أسود. الحليب دم سائل ومُجَفَّف. فلأبْكِ إذاً بلا حَرَجٍ وبلا خشية من شماتة. فالقتلة إيّاهم الخارجون من قانا الأولى يخافون علينا من النسيان، ويعيدون تمثيل المذبحة وارتكابها لئلا يحسب أحدٌ منا أن أحلام أطفالنا بالسلام ممكنة التحقّق. لم يعتذروا هذه المرة، لئلا يتهمهم أَحد منا بالرغبة في التكافؤ الأخلاقي بين القاتل والقتيل. لا، لا أستطيع الكلام مع أحد لئلا يسألني: ماذا تكتب؟ لا أَخلاق للوصف إذا نزعتْ اللغةُ إلى البلاغة، فليس من حق اللغة أن تشرح الصورة، الصورة التي تضيق بتناثر أشلاء الملائكة الصغار. كم من يسوع صغير تتسع له الأيقونة؟ من يستطيع أن يكتب شعراً اليوم وأن يرسم لوحة وأن يقرأ رواية وأن يستمع إلى موسيقى... فهو آثم. إنه عيد الدولة التي انتصرت على الملائكة، وذكَّرتْنا بأن الهدنة هي استراحتها القصيرة بين مذبحة ومذبحة!

رام الله، تموز 2006