Tarek007
17/04/2005, 17:18
مجموعة من القصص لحبيب قلبي زكريا تامر ......... :o :o :o
مو كتار كتير :wink:
بتمنى ينالو رضاكم :cry:
:hart: :hart:
:hart: :hart:
ملخص ما جرى لمحمد المحمودي
كان محمد المحمودي رجلاً هرمًا، يعيش وحيدًا في بيت صغير، فلا زوجة له ولا ولد، ولم يكن لديه ما يفعله إثر إحالته إلى التقاعد. فما إن يقبل الصباح حتى يغادر البيت، ويمشي في الشوارع وئيد الخطى، ويتوقف لحظات ليشتري جريدته المفضلة، ثم يستأنف مشيه المتباطئ متجهًا إلى مقهى لا يفصله عن الشارع الصاخب إلاّ حائط من زجاج. وحين يبلغه، يدلف إلى داخله، ويقصد طاولة معينة تتيح له التفرج على الشارع، ويجلس منتظرًا دونما كلام النرجيلة وفنجان قهوة دون سكر. ثم يخرج من جيبه نظارة يضعها على عينيه، ويستغرق في قراءة الجريدة، مدخنًا النرجيلة، متطلعًا بين الحين والحين إلى الشارع بعينين ذاهلتين.
وكلما جاع، ينهض بتثاقل وأسف، ويغادر المقهى إلى مطعم قريب، فيأكل بملل، ثم يرجع سريعًا إلى المقهى ليتابع قراءة الجريدة وتدخين النرجيلة واحتساء الشاي والقهوة والتفرج على الشارع، حتى يعمّ ظلام الليل، فيترك وقتئذ المقهى، ويذهب إلى بيته، ويخلع ثيابه، ويستلقي على سريره العريض، ويستسلم توّا لنوم عميق.
وأحيانًا كان يشاهد أمه في أثناء نومه، وكانت تؤنبه بقسوة لأنه لم يتزوج، وتعول مطالبة بطفل يقول لها: (يا جدتي اشتري لي بالونًا).
فيستيقظ من نومه مكتئبًا وخجلاً من رغبته في النحيب طويلاً.
وفي أحد الأيام، كان جالسًا في المقهى كعادته، يقرأ الجريدة ويدخن النرجيلة، فإذا بأصابعه تفلت فجأة الجريدة، وتندّ عنه شهقة، ويتهاوى أرضًا دون حراك. فاستدعى على عجل الطبيب الذي قرر بثقة أنه قد مات. وعندئذ جاءت المعاول والحرفوش تنفيذًا لوصيته، وحفرت حفرة تحت الطاولة التي اعتاد الجلوس إليها. ثم حمل برفق وسجي في قاع الحفرة، وأهيل فوقه تراب كثير، فلم يحنق أو يتذمر إنما ابتسم فرحًا بخلاصه من المشي في الشوارع والذهاب إلى البيت والمطعم. وأنصت بشغف لأحاديث رواد المقهى وقرقرة النراجيل وصيحات الجرسون، ولكنه كان يشعر ليلاً بالضجر والوحشة والخوف إذ يخوى المقهى ويقفل أبوابه.
وأتى يوم اقتحم فيه المقهى عدد من رجال الشرطة، وأخرجوا محمد المحمودي من حفرته، واقتادوه إلى أحد المخافر. وهناك قال له رئيس المخفر بصوت صارم: (نمى إلينا أنك تنتقد أعمال الحكومة وتهزأ بها وتسبّها، وتزعم أن كل قوانينها لا تخدم إلاّ أصحاب البنايات والسيارات والبطون الكبيرة).
فهتف محمد المحمودي مرتاعًا مستنكرًا: (أنا أسبّ الحكومة?! أعوذ بالله! أنا لست ممن يشربون من النبع ثم يبصقون فيه. اسأل عني. كنت موظفًا مثاليا، وكنت أطيع الأوامر والقوانين وأنفّذها بدقة. اسأل عني. لم أسكر يومًا، ولم أتحرش بامرأة، ولم أوذ أحدًا، وكنت...).
فقاطعه رئيس المخفر قائلاً: (ولكن التقارير الواردة إلينا بشأنك لا تكذب، وأصحابها موضع ثقة كاملة).
ارتعد محمد المحمودي، وقال بصوت متهدج: (أقسم بالله أني عشت حياتي كلها دون أن أتكلم يومًا في السياسة، ولم أسبّ طوال عمري لا حكومة ولا حكامًا).
قال رئيس المخفر: (ها ها.. من فمك أدينك. أنت قلت إنك لم تسبّ الحكومة، ولم تقل إنك مدحتها، أفلا تستحق في رأيك المديح).
فحاول محمد المحمودي التكلم، ولكن رئيس المخفر تابع قائلاً: (وحتى إذا كان ما تقوله صادقًا، فهو أمر غريب جدّا لأن الناس جميعًا تشوهوا وصاروا حاقدين موتورين، يسبّون الحكومة والحكام، متناسين وجوب إطاعة أولي الأمر، وأن للسياسة أهلها).
قال محمد المحمودي بصوت واهن: (هذا صحيح. الجميع يتحدثون في السياسة ولا يتركون مسؤولاً في الدولة إلاّ ويلصقون به أشنع الصفات، أما أنا...).
قال رئيس المخفر مقاطعًا بصوت وديع متسائل: (وأنت في المقهى تسمع طبعًا ما يقولون، وتعرف أسماء الذين يتكلمون).
هزّ محمد المحمودي رأسه بالإيجاب، فابتسم رئيس المخفر، وقال.. (أنت كما يبدو رجل طيب ومواطن صالح. وأنا أرغب فعلاً في مساعدتك كي تنجو من التهمة الموجَّهة إليك، ولكن عليك أيضًا أن تساعدني).
فضحك رئيس المخفر ضحكة مرحة ثم قال: (الأمر بسيط جدّا ومسلٍّ. اسمع...).
وأنصت محمد المحمودي لما قاله رئيس المخفر، ثم عاد بعد قليل إلى حفرته في المقهى وهو شديد الابتهاج، فقد بات لديه ما يفعله، ولم يعد يشعر بالوحشة والضجر والخوف حين يقفل المقهى أبوابه في منتصف الليل، إذ كان يسارع آنذاك إلى كتابة ما سمعه من رواد المقهى محاذرًا النسيان
.................................................. .................................................. ...............
الجريمة
كان سليمان الحلبي يمشي بخطى متئدة مبتهجًا بالهواء الذي يهب فيما حوله، مسقطًا الأوراق الصفر من الأشجار المنتصبة على جانبي الشارع، وكانت يداه قابعتين في جيبي بنطاله كطفلين نائمين.
وحين توقف لحظة عن السير ريثما يشعل سيجارة، دنا منه رجلان، وجهاهما متجهمان، وطلبا منه هويته بلهجة صارمة. وارتبك إذ عرف مهنتهما. وقد كانا طويلي القامة، قسمات وجهيهما متشابهة. وأعاد الرجلان إلى سليمان أوراق هويته، ثم طلبا إليه مرافقتهما، فأطاعهما دون تفكير، وسار وهو يقول لنفسه: لا بد من أن ثمة سوء تفاهم.
واقتاده الرجلان إلى مخفر غير بعيد، وأدخلاه إلى غرفة لها ثلاث نوافذ مفتوحة للشمس والهواء والسماء. وكان يجلس في صدر الغرفة رجل ذو شارب أسود، أمامه مكتب حديدي، تكومت على سطحه أكداس من الورق الأبيض.
وقال سليمان لنفسه: هذا رجل أسود.
وقال الرجل الأسود متسائلاً: (هل أنت سليمان الحلبي).
فأحنى سليمان رأسه بالإيجاب دون أن يتفوه بكلمة. وتناول الرجل الأسود ورقة بيضاء موضوعة على المكتب، وطفق يقرأ برتابة وكسل: (في ليلة السادس من حزيران، شاهد سليمان الحلبي حلمًا قتل فيه الجنرال كليبر).
وتوقّف الرجل الأسود عن القراءة، وتطلع إلى سليمان الحلبي بعينين صارمتين، بينما تحوَّل الرجلان إلى تمثالين من حجر، مسمَّرين قرب إحدى النوافذ. وكانت المدينة خلف النافذة. وتساءل الرجل الأسود مخاطبًا سليمان:( هل هذا صحيح?).
فغمغم سليمان الحلبي مستنكرًا: (لا، لا. أنا لا أعرف الجنرال كليبر).
فالتفت الرجل الأسود نحو الرجلين، وقال لهما: (أحضرا الشهود).
ولم يتحركا، غير أن باب الغرفة فُتحَ بعد لحظات، ودلف إلى الداخل ثلاثة أشخاص، ثيابهم معفرة بالتراب، ووجوههم صفر كأن أصحابها عاشوا مئات السنين في قبور تمقت الشمس. وعرفهم سليمان على الفور، وكانوا رجلاً هرمًا وامرأة كهلة وفتاة في مقتبل العمر.
وقال الرجل الأسود: (ليتقدم الشاهد الأول).
وابتعد الهرم منفصلاً عن المرأة الكهلة والفتاة، واقترب من مكتب الرجل الأسود، ووقف أمامه محني الظهر، وقال بصوت كأنه منبعث من أسطوانة عتيقة تدور بتثاقل تحت ذراع الحاكي: (في ليلة السادس من حزيران، شاهدت سليمان الحلبي يقتل الجنرال كليبر).
فقاطعه سليمان هاتفًا: (أبي!).
فلم يأبه الهرم له، وتابع كلامه قائلاً: (أبصرته يطلق من مسدس ضخم سبع رصاصات اخترقت جسد الجنرال، وانبثق الدم من سبعة ثقوب).
وكان الحزن في تلك اللحظة فارسًا يمتطي صهوة جواد غير مروض، وقد وطِئت سنابكه لحم سليمان، بينما غرس الفارس سيفه في القلب تمامًا. ولكن سليمان لم يمت، إنما سمع الرجل الأسود يقول: (الشاهد الثاني).
وتقدمت المرأة الكهلة، ووقفت بجانب الرجل الهرم، وقالت: (رأيته يقتل الجنرال، وكان يحمل فأسًا رفعها إلى أعلى، وأهوى بها بكل قوته، فشطر الرأس إلى قطعتين، وسقطت الجثة قربي، واستطعت رؤية النخاع ممزقًا خارج الجمجمة المهشمة).
وأشارت نحو سليمان الحلبي بأصبع لا ترتجف، وقالت: (هذا هو القاتل!).
فتمتم سليمان الحلبي بحسرة: (أمي، أمي!).
فرمقته الكهلة بقسوة، وقالت له: (أمك امرأة واحدة فقط).
وتذكر سليمان يوم كان صغير السن، يلعب في الزقاق ملطخًا ثيابه بالطين، فوقفت أمه على عتبة باب البيت، وكشفت عن صدرها الشديد البياض، وقالت له منادية بحنو: (تعال تعال).
وقال الرجل الأسود: (الشاهد الثالث).
وتطلع سليمان الحلبي إلى الفتاة بنظرات أسيانة. ولم تتحرك الفتاة، فدمدم الرجل الأسود بغضب: (الشاهد الثالث.. ليتقدم).
وظلت الفتاة متجمدة في مكانها، غير أنها بدأت الكلام قائلة: (رأيته راكبًا سيارة، دعست الجنرال، ومرت فوقه عدة مرات حتى تحول لحمًا لا شكل له).
وصاح سليمان الحلبي: (ماذا حدث يا أختي! ألم أتركك في البيت وقد طلبت إلى أن أشتري لك مشطًا). وأخرج يده من جيبه حاملة مشطًا أسود اللون. وقال الرجل الأسود: (لينصرف الشهود).
وأشار بيده بحركة ضجرة إلى الشهود الثلاثة، فتجمعوا في الحال متلاصقين في كتلة واحدة، واتجهوا نحو الباب، وما لبثوا أن غادروا الغرفة.
وضع الرجل الأسود سيجارة بين شفتيه، وحين رفع يده نحو السيجارة حاملة عود الثقاب المشتعل، لاحظ سليمان أن يد الرجل الأسود غريبة، فجلدها كثير التجاعيد، فكأنه جلد سرطان ميت، ظل زمنًا مديدًا تحت شمس قاسية.
ونفث الرجل الأسود دخان سيجارته، وتابعه بنظراته، بينما كان يتلوى صاعدًا في جو الغرفة ثم يتلاشى بتكاسل. وقال لسليمان: (هل سمعت ما قيل الأدلة على جريمتك ثابتة).
- (لم أعترف بشيء).
- (اعترافك ليس مهمّا. لقد اعترف غيرك بذنبك).
- (أنا بريء).
فتجهم وجه الرجل الأسود، وقال بصوت بارد قاس: (لماذا ولدت ما دمت بريئًا جئت إلى هذا العالم كي تهلك، وستهلك دون احتجاج. أنت مجرم، وكنا نراقبك منذ أمد طويل، فالناس المشبوهون نعرفهم بسرعة ولا يستطيعون خداعنا).
وتناول الرجل الأسود أوراقًا بيضًا من على سطح المكتب، وأخذ يقرأ ما كتب فيها: (في الثالث من نيسان في الساعة الحادية عشرة وثلاث دقائق، تطلع سليمان الحلبي إلى القمر، وقال لنفسه: القمر سعيد لأنه لا يعيش في مدينة حاكمها الجنرال كليبر).
وتألق القمر في مخيلة سليمان الحلبي، وكان قمرًا تهرول نحوه سحب قرمزية.
- (في يوم الحادي عشر من مارس في الساعة الثامنة صباحًا، فتح سليمان الحلبي أبواب أقفاصه وأطلق سراح عصافيره).
وتذكر سليمان رغبة في البكاء اجتاحته بينما كانت العصافير في بدء انطلاقها عبر الفضاء الأزرق ترفرف بأجنحتها بارتباك واضطراب.
- (وفي الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الثاني من حزيران خطر في ذهن سليمان الحلبي أن العالم سيكون سعيدًا لو هلك بعض الأشخاص).
ورمى الرجل الأسود الأوراق على المكتب بحركة ساخطة، وقال: (ألم أقل لك إن أمثالك لا يستطيعون خداعنا?).
وظل سليمان صامتًا وقد استغرب أن ينمو في أعماقه شعور حقيقي بالذنب، ولكنه كان في الوقت نفسه شديد الاقتناع ببراءته.
وابتسم الرجل الأسود، ولعق بلسانه شفته السفلى، وقال: (ستعدم في الساعة السادسة).
فألقى سليمان نظرة سريعة على ساعته، فألفاها توشك أن تصبح السادسة، فانتابه الهلع، ورفض تصديق ما حدث حوله، وعَدَّه مجرد حلم سيصحو منه بعد لحظات على هزة من يد أمه وسيسمع صوتها.
وقال الرجل الأسود بتشف: (ستعدم).
- (ألن أحاكم).
فضحك الرجل الأسود، وقال: (انتهت المحاكمة. أنا القاضي).
وتناهى إلى سمع سليمان صفير قطار. لا بد من أن القطار يهدر الآن مارّا تحت الجسر، قاذفًا دخانه في سحابة صغيرة لن تعيش طويلاً، وستضمحل إثر ابتعاد القطار.
- (هل سأموت شنقًا).
- (لا).
- (هل ستطلق النار علي).
- (لا).
- (هل سأحرق).
- (لا).
- (هل سأدفن حيا في التراب).
- (لا).
وأشار إلى الرجلين قائلاً: (هيا.. نفذا الحكم بالإعدام).
الساعة الآن هي السادسة تمامًا، والمدينة مستسلمة بفتور لضياء الشمس الآفلة. وكانت كامرأة ترغب في النوم قليلاً بعد أن أنهكها العمل من أجل أولادها.
وعُري سليمان الحلبي من ملابسه كلها، ولم يخجل من وقوفه عاريا عريا كاملاً أمام أعين الرجال الثلاثة. وكانت السيارات تعبر الشوارع وهي تزعق بأبواقها عند المنعطفات. وأخرج الرجلان من خزانة خشبية مدية كبيرة، ثم ألقيا سليمان على الأرض، ولم يحاول المقاومة.
وكان بجانب الرجل الأسود منضدة قصيرة القوائم، ملتصقة بالجدار، يقبع فوقها مذياع صغير، مدّ إليه الرجل الأسود يده. وبعد قليل انسابت منه أغنية لامرأة، صوتها مفعم بالعذوبة والشجن، ويتلاقى فيه الريح والمطر والحنان العارم.
وأنصت الرجلان قليلاً للأغنية، ثم تحولا جلادين، وبترا أصابع اليد اليمنى بالمدية، فصرخ سليمان متألمًا، وتدفق الدم. خمس أصابع كانت ملكًا لسليمان الحلبي، وقد صافحت الأصدقاء، ولمست باشتهاء لحم النساء، وكان باستطاعتها في لحظة غضب خنق مخلوق ما وقال الرجل الجلاد لزميله: (يا لها من أغنية! ماذا تغديت?).
فأجاب الرجل الآخر: (حساء وقليلاً من الخبز. أسناني تؤلمني).
- (مسكين).
وأشعل الرجل الأسود سيجارة أخري، وتركها معلقة بين شفتيه لتحترق على مهل.
وقطع ساعد سليمان، فتأوه وأطلق صرخة حيوان، صرخة طويلة مبحوحة. ولقد كان سليمان يحلم بأن تنام الفتاة التي سيحبها على ساعده لا على وسادة محشوة بالصوف أو القطن.
وقال أحد الرجلين بينما كانت أصابعه تلتف حول مقبض المدية كأنها تتوق إلى أن تصير قطعة منها: (ليلة أمس شاهدت فيلمًا وكان سخيفًا).
- (كل الأفلام سخيفة في هذا الأسبوع).
وكانت أغنية المذياع تصعد وتبوح بالعذاب المرّ الذي يبقي إثر اندثار الحب.
واضمحل مرفق سليمان، وكان مرفقًا يتكئ على حواجز الأنهر ومناضد المقاهي، ويلكز الأصدقاء.
وجثا أحد الرجلين على ركبتيه، وبتر الذراع اليمنى كلها بحركة سريعة، بينما كان الرجل الثاني يمسك بسليمان لمنعه من الحركة. ولم يحاول سليمان الحلبي المقاومة، إنما كان ينتفض كلما مست المدية لحمه، ويتلوى على الأرض الناعمة الملساء بينما الدم يتابع تساقطه ذا الإيقاع الكئيب.
وفتحت دور السينما أبوابها، وغادرها روادها بخطى متثاقلة. وبترت ذراع سليمان اليسرى. ولو كان سليمان الآن متسولاً يمشي في الشوارع لاستدر الشفقة ولانهمرت النقود عليه، فهو بلا ذراعين، ولن يستطيع معانقة امرأة. وإذا جاع فمن سيضع اللقمة في فمه?!
وكان الرجل الأسود يبتسم منتشيا بالأغنية المنبعثة من المذياع. وتابع الرجلان عملهما، وابتدأ جسد سليمان الحلبي ينقرض متضائلاً رويدًا رويدًا، وكانت الأعضاء المقطوعة تلقى جانبًا. وكان الناس في الشوارع يسيرون على الأرصفة، وبعضهم يقف قليلاً أمام واجهات المكتبات متطلعًا إلى عناوين الكتب والجرائد. وكانت أصوات بائعي أوراق اليانصيب تتصاعد مطاردة المارة بإلحاح: (ستربح مئة ألف ليرة). وكانت الباصات تواظب على المسير متوقفة بين الحين والحين في أمكنة معينة.
وقال الرجل الأسود مخاطبًا الرجلين: (لننته بسرعة. لدي موعد).
وتخيل الرجل الأسود بيته. لا بد من أن ضيوفه ينتظرون مقدمه، ولا بد من أن زوجته ترحب بهم، وتقدم لهم فناجين القهوة. وكانت زوجته جميلة، ويشعر الآن بأنه يحبها بضراوة.
وكان الرجلان في تلك اللحظة متغضني الجبين، ويداهما ملوثتين بالدم.
وقال الرجل الممسك بالمدية لزميله: (إلى أين تنوي الذهاب بعد العمل).
- (إلى المقهى).
- (أنا سأذهب إلى البيت. سأقرأ قليلاً من الشعر، ثم أنام).
ووضع حد المدية على عنق سليمان الحلبي، وأغمض سليمان عينيه بينما كان يحس بنصل المدية يلامس حنجرته موشكًا على ذبحها، وشاهد نجومًا تبزغ كأنها عصافير ميتة. وجمع الرجل الجلاد قوته، وضغط على المدية، فاخترقت اللحم والعظم اللدن، وفصلت الرأس الذي تدحرج مبتعدًا عن قطعة اللحم الباقية، وكانت قلبًا وكتفين. وظلت عينا سليمان الحلبي مفتوحتين، تطل منهما نظرة بلهاء. ونهض الرجل الأسود، ووضع في جيبه علبة السجائر، ثم سار متجهًا نحو باب الغرفة، وعندما أمسك مقبض الباب التفت نحو الرجلين، وقال لهما: (نظفا الغرفة قبل ذهابكما). وعندئذٍ تذمر الرجلان بأصوات مرتفعة .
.................................................. .................................................. ............................
في ليلة من الليالي
يجيء الليل كفنًا أسود، فيبتعد أبو حسن بخطى هارب عن حارته الخرساء، وأزقتها الملتوية المظلمة، وناسها العجاف، وبيوتها الرثة المتلاصقة، ومقهاها الذي يشبه تابوتًا مهترئ الخشب. وحين يبلغ الشوارع العريضة، تبهره ضوضاؤها وسياراتها المسرعة وناسها المتأنقون وأنوارها الساطعة المتعددة الألوان، فيمشي بخطى ذاهلة متباطئة، مشدود القامة، مرفوع الرأس، ذا وجه متجعد، شديد الزهو بشاربيه الكثّين اللذين كانا يغريان عيونًا كثيرة بالتحديق إليهما بفضول ودهشة. إيه! أنت أبو حسن. ويحقّ لك أن تنال الإعجاب والاحترام. أنت خير الرجال. خنجرك البرق الذي يعقبه مطر من دم، وقلبك فضة، ويدك من صخر الجبال. أنت رجل لا كبقية الرجال. تفرح فتصير بستانًا أخضر. تغضب فيحمل الموت نعشًا فارغًا وينتظر أشلاء فريسة. تحب فتخلص. لا تغش ولا تكذب. لا تتملق ولا تنافق. الأعور أعور، والأعمى أعمى. تضرب فتدمي ولا تقتل. تعادي فيختفي من تعاديه. تصادق فتهب حتى روحك لمن صادقته. عمرك أكثر من أربعين سنة، ولكنك حين تلتقي بجسد امرأة، تبقي في دمها حتى القبر. تشرب العرق كأنه ماء ولا تسكر. تخوض مشاجرات تسيل فيها الدماء كأنك تدخن سيجارة على ضفة نهر. يعلو صوتك الخشن بموّال فتبكي الحجارة. أنت الرجل الذي يكنّ له الرجال والنساء والأطفال في حارته المحبة والإجلال. إذا تشاجرت امرأة مع زوجها، فلا تقصد بيت أهلها شاكية، إنما تلجأ إليك واثقة بأن ما لحق بها من ظلم سيزول لا محالة. يحبك الأطفال ويصرخون مستنجدين بك لحظة تضربهم أمهاتهم. وقطط الحارة ساعة تجوع تأتي إليك وهي تموء. وإذا تخاصم صديقان فلا أحد غيرك يستطيع بكلمة أن يوقد من جديد ما انطفأ في قلبيهما من ودّ. والشاب اليتيم إذا رغب في الزواج من فتاة، تصبح أنت عائلته. كنت دائمًا تنصر الضعيف المظلوم، وتجابه القوي الظالم غير هياب. ولم تعرف يومًا أحنيت فيه رأسك لهوان أو ذلّ.
ويبتسم أبو حسن ابتسامة مغتبطة متفاخرة، بينما هو مستمرّ في سيره المتمهِّل على أرصفة مكتظة برجال لا شوارب كثة لهم، وبنساء يمشين بخطوات واثقة شامخات الرؤوس، معطرات، أنيقات، جميلات كدمى غالية الثمن. انظر يا أبا حسن انظر. رجال كالنساء ونساء كالرجال. لا تعجب ولا تستنكر. هذه هي سنّة الحياة، فلا شيء يبقى ويدوم، وكل زمان له رجاله ونساؤه.
ويلمح أبو حسن فتاتين في مقتبل العمر، جميلتين أكثر من زهرة ياسمين في الصباح. وكانتا ترنوان إلى شاربيه الكثّين بنظرات مستغربة، فيتزايد اعتداده بشاربيه، وتلمسهما أصابع يده اليمنى بحركة مزهوة.
وتهامست الفتاتان، ثم ضحكتا ضحكًا ساخرًا، ففوجىء أبو حسن، وارتبك، وحثَّ خطاه مبتعدًا عن الفتاتين، وسلك طريقًا فرعية تضيئها مصابيح كهربائية، شاحبة النور، متدلِّية من أعمدة خشبية تتناثر متباعدة. أنت! أنت أبو حسن، ويسخر منك فتستحي كبنت ما باس فمها إلاّ أمها! آخ يا زمن.. أنت كلب يعضّ صاحبه.
وتناهى إلى سمع أبي حسن أغنية آتية من إحدى البنايات من نافذة مفتوحة مضاءة، فتوقف عن السير، واستند إلى جذع شجرة. وكان المغني أجشَّ الصوت، وأغنيته مبهمة الكلمات، غير أن صوته كان كصرخة مخنوقة لطير فقد جناحيه بغتة وهوى في فراغ لا أرض له.
وتخيل أبو حسن الفتاتين وقد اختطفتا وترقصان مرعوبتين عاريتين في غرفة يحتشد فيها عدد من رجال ذوي شوارب كثة وأعين مفترسة. ثم تذكَّر امرأة جميلة من حارته، وكانت تقول له: (تزوَّجني وسأكون خادمتك). ولكن ولولة انبثقت ذات صباح من بيتها، جلَّلت الحارة وسكانها بلون أسود. ولم يمش أبو حسن وراء نعشها، إنما اختبأ في غرفته، ودفن وجهه في الوسادة. ولم يستطع أن يبكي، ولكن صوته كان يتصاعد بين الحين والحين أجشَّ مبحوحًا أكثر حزنًا من بكاء الأم التي فقدت ابنتها.
وتعالت صرخة استغاثة حادّة من امرأة، وأبصر أبو حسن رجلاً يركض باتجاهه، تتبعه صيحات تقول إنه لص وتحثّ على إمساكه .
ولما اقترب الرجل الهارب من أبي حسن، حاول إمساكه، ولكنه راغ ببراعة، وأفلت منه، واستأنف ركضه السريع دون أن يبالي باسترداد ما سقط من يده.
وانحنى أبو حسن على الأرض، وتناول ما سقط من الهارب، فإذا هو حقيبة يد نسائية، فتأملها وهو يقول لنفسه بسخرية: ماذا سيحكي أهل حارتي إن أبصروا أبا حسن يحمل ما تحمله النساء!
وأقبل الذين كانوا يطاردون الرجل الهارب، وبرفقتهم شرطي بدين، فقال لهم أبو حسن بلهجة اعتذار وأسف: (اللعين كان كالزئبق وهرب مني). فصاحت امرأة وهي تشير إلى أبي حسن: (اقبضوا عليه. هو اختطف حقيبتي، وها هي ذي بيده).
قال أبو حسن: (عيب يا امرأة! ما هذا الحكي!).
فانتزعت المرأة الحقيبة من يده، وصاحت: (انتبهوا سيهرب).
فسارع الشرطي البدين وعدد من الرجال إلى إمساكه، وقال له الشرطي: (هيا، امش).
قال أبو حسن متسائلاً بدهشة: (إلى أين).
قال الشرطي: (إلى أين! إلى المخفر طبعًا. لعلك ظننت أننا سنأخذك إلى كباريه!).
فحاول أبو حسن الكلام والاحتجاج، ولكن شتائم كثيرة انهالت عليه، فسكت، وسار برفقة الشرطي يحيط به رجال ونساء وأطفال، يتكلمون بأصوات عالية، ويشيرون إليه قائلين إنه لص.
ولم يستمر السير طويلاً إذ كان مخفر الشرطة قريبًا. واقتيد أبو حسن توّا إلى غرفة رئيس المخفر الذي كان شابّا ذا وجه أبيض وسيم حليق وعينين صارمتين واجمتين، ويجلس وراء طاولة، على سطحها جرائد وأوراق وتلفون.
وتقدم الشرطي من رئيس المخفر، وشدَّ قامته، ورفع يده محييا، ثم تكلم ملخصًا ما جرى. فقال أبو حسن مقاطعًا: (كل ما يقوله غير صحيح).
فقال رئيس المخفر لأبي حسن: (اخرس. لا تتكلم. تتكلم فقط عندما آمرك بالكلام).
وصاحت المرأة صاحبة الحقيبة:(هو اختطف حقيبتي من يدي وهرب).
وتلتها أصوات عديدة تؤيدها، ويضيف أصحابها قائلين:(كلنا رأيناه ولحقنا به حتى قبضنا عليه).
وقال الشرطي:(ضبطته يا سيدي والحقيبة بيده).
ظل رئيس المخفر صامتًا، ووجّه إلى أبي حسن نظرة طويلة متفحِّصة، ثم قال له بازدراء:(تفضل.. جاء الآن دورك. هيا أسمعنا فصاحتك. ما لك! هل ابتلعت لسانك يا لص).
قال أبو حسن: (أنا لست لصّا).
قال رئيس المخفر بحنق: (إذن من أنت لعلك شيخ جامع ولا ندري).
قال أبو حسن: (أنا رجل.. والرجل لا يسرق امرأة).
فنهض رئيس المخفر عن كرسيه، وترك طاولته، ودنا من أبي حسن، وقال له هازئًا: (ما شاء الله! أنت لص، ولص وقح أيضًا).
قال أبو حسن: (أنا لم أختطف الحقيبة. رأيتها تقع من سارقها فالتقطتها).
قال رئيس المخفر: (اسمع. الإنكار هنا لن ينفعك. من الأفضل لك ولنا أن تعترف بما فعلت، وإلاّ جعلتك تتمني لو أن أمك لم تلدك).
فأمسك أبو حسن بأصابع يده اليسرى أحد شاربيه، وقال: (شاربي شارب امرأة إذا كنت أكذب).
قال رئيس المخفر: (تفو عليك وعلى شواربك. لا وقت لدي للقيل والقال. تكلم وإلاّ كسرت رأسك).
قال أبو حسن محمر الوجه: (لم يخلق بعد الشخص الذي يكسر رأس أبي حسن. اسأل عني أهل حارتي فتعرف من هو أبو حسن).
وقال رئيس المخفر وقد ازداد غيظًا: (يا كلب.. إذا لم تعترف سأضربك بالحذاء، وأضرب أهل حارتك).
قال أبو حسن: (لا داعي إلى التمادي في الكلام. كنْ رجلاً، والرجل يعرف قدْر الرجال).
فهز رئيس المخفر رأسه، وقال بصوت حاول أن يكون هادئًا: (أنت بالتأكيد بحاجة إلى تربية وتأديب، وقد وقعت في يد من يتقن التعامل مع أمثالك).
والتفت إلى الشرطي البدين، وقال له آمرًا بخشونة (اذهب كالبرق وأحضر مقصّا).
قال الشرطي: (أمرك سيدي).
ثم غادر الغرفة بخطى سريعة. واتجه رئيس المخفر نحو طاولته، وضغط بإصبعه على زر جرس، ثم وقف متصلب القامة، مقطب الجبين حتى دخل الغرفة شرطي أصفر الوجه وقال بصوت جامد: (أمر سيدي).
فقال رئيس المخفر وهو يشير إلى المرأة صاحبة الحقيبة والشهود: (خذهم وسجِّل أقوالهم).
فنفذ أمره توّا، وخوت الغرفة إلاّ من رئيس المخفر وأبي حسن، وعندئذ قال أبو حسن بصوت متهدج: (انظر إلي. هل يمكن أن أكون لصّا يسرق امرأة!).
لم يجب رئيس المخفر إنما ازداد وجهه صرامة، وأمسك بسماعة الهاتف، ورفعها، وأدناها من فمه، وتكلم بصوت خفيض، ثم أعادها إلى مكانها. واسترخى على كرسيه صامتًا يحدق بهزء ووعيد إلى أبي حسن الذي كان يقف منفرج القدمين مضطربًا حائرًا.
وفتح باب الغرفة، ودلف إلى داخلها الشرطي البدين حاملاً مقصّا كبيرًا، ثم تبعه عدد من رجال الشرطة الذين نظروا توّا إلى أبي حسن نظرات كره واحتقار. فنهض رئيس المخفر واقفًا مبتهج الوجه، وتناول المقص من الشرطي البدين، ثم قال لرجال الشرطة وهو يشير بالمقص إلى أبي حسن: (أمسكوا بهذا الكلب).
فصاح أبو حسن: (أنا كلب يا نصف رجل خسئت).
وهجم على رئيس المخفر وهو يزعق بغضب، غير أن رجال الشرطة أمسكوا به، فقاومهم محاولاً الإفلات من أيديهم، فانهالت عليه صفعاتهم وركلاتهم. كانوا يضربونه بشراسة وكراهية كأنه ذبح أمهاتهم. وظلوا يضربونه حتى تلاشت مقاومته واستحال بين أيديهم جسمًا شبيهًا بقطعة قماش مهترئة. وعندئذ قال رئيس المخفر لرجاله: (أمسكوا به جيدًا).
وأضاف مخاطبًا الشرطي البدين: (تحرك.. أمسك برأسه، وإن تحرك أقلّ حركة وضعت رجليك في الفلقة).
فسارع الشرطي البدين إلى الإمساك بشعر أبي حسن، وشده إلى الوراء شدّا عنيفًا، فبات وجه أبي حسن فريسة عزلاء.
ابتسم رئيس المخفر، واقترب من أبي حسن ويده تحمل المقص، وقال له: (والآن ستدفع ثمن سبّك، وسترى ماذا يفعل نصف رجل).
ودنا المقص من شاربي أبي حسن، فذعر، وحاول التملص من أيدي رجال الشرطة، ولكن أيديهم كانت تقيده وتشله عن أي حركة، فصاح بضراعة: (والله أنا بريء).
فازداد المقص دنُوّا من شاربي أبي حسن، فصاح وقد طغى عليه رعب شديد: (دخيلكم).
قال رئيس المخفر: (قل إنك سرقت فلا يمسّك أذى).
وران الصمت لحظة، ثم قال أبو حسن بصوت مرتعش: (أنا سرقت الحقيبة من المرأة).
فضحك رئيس المخفر، وقال باحتقار: (إلى متى ستظل البلد تحوي أمثالك!).
وانقضّ المقص على شاربي أبي حسن، وقضى عليهما بحركات متأنية متشفية بينما كان أبو حسن يصرخ صراخًا مديدًا أجش مبحوحًا.
وخطا رئيس المخفر نحو طاولته، ورمى المقص على سطحها، وقال لرجاله: (ماذا تفعلون أيطربكم صوته أسكتوه).
فبادروا إلى ضرب أبي حسن ثانية ضربًا قاسيا حتى أرغموه على السقوط أرضًا. ولكنه استمر يصرخ ويشتم، فنزعوا حذاءه، ورفعوا قدميه إلى أعلى، وهوت عصا رفيعة على باطن القدمين بضربات قصيرة متلاحقة، فصاح أبو حسن: (سأذبحكم جميعًا يا أولاد الزنا، ولو بقي من عمري يوم واحد).
قال رئيس المخفر بينما كان يعاود الجلوس وراء طاولته: (استمروا في ضربه حتى يسكت. اسكت. لا أريد سماع أي صوت منك).
وألفى أبو حسن نفسه بعد حين يضغط بأسنانه على شفته السفلى خانقًا الصراخ المتوجع الذي يريد أن ينفجر خارج الفم المدمي.وحينئذ قال رئيس المخفر لرجاله: (اتركوه).
ثم وجّه الكلام إلى أبي حسن: (هيا انهض وقفْ على قدميك).
فأطاع أبو حسن، ووقف بصعوبة مستجمعًا كل مابقي من قواه كي لا يتهاوى على الأرض، فقال له رئيس المخفر: (هيا احمل حذاءك).
فنفذ أبو حسن الأمر وهو يئنّ أنينًا خافتًا، ثم وقف مقوس الظهر وكل يد تحمل فردة حذاء.
قال له رئيس المخفر: (قل لي يا أبا حسن.. أنت رجل أم امرأة!).
لم يجب أبو حسن، فقال رئيس المخفر بحدة: (انطق، ألم تسمع ما قلت أنت رجل أم امرأة).
قال أبو حسن: (أنا طبعًا رجل).
قال رئيس المخفر بصوت مرح: (كذبت. أنت امرأة. هيا تكلم، وقل إنك امرأة. سأغضب إذا لم تقل إنك امرأة، وأنت صرت تعرف ما يحدث حين أغضب).
قال أبو حسن بصوت خافت: (أنا.. امرأة).
قال رئيس المخفر: (لم أسمع ما قلت. تكلم بصوت عال. أتظن أنك توشوش حبيبتك!).
قال أبو حسن بصوت مرتفع وهو ينظر إلى الأرض: (أنا امرأة).
فقهقه رئيس المخفر، وقال: (احمد ربك، لأننا هنا لسنا من الشاذّين جنسيا!).
ضجّ رجال الشرطة بالضحك، فقال لهم رئيس المخفر بلهجة آمرة مشمئزة: (خذوه، وسأراه فيما بعد، لأتابع تربيته وتأديبه).
فانقضّ رجال الشرطة على أبي حسن، وجرّوه إلى خارج الغرفة، وهم يركلونه ويصفعونه ويشتمونه. واقتادوه إلى إحدى الغرف، ودفعوه إليها وأقفلوا بابها. وكانت غرفة تخلو من أي أثاث، ولا نوافذ لها، يتدلى من سقفها مصباح كهربائي ضعيف النور، فتهاوى أبو حسن على أرضها وهو يئن متوجعًا.
وسمح فجأة صوتًا رفيعًا يقول له بنبرة متسائلة: (ضربوك كثيرًا! لا تزعل.. الضرب تسليتهم الوحيدة).
فرفع أبو حسن رأسه مستطلعًا، فرأى ولدًا لا يتجاوز عمره الثانية عشرة، وكان قاعدًا على الأرض، مسندًا ظهره إلى الحائط. فسأله أبو حسن باستغراب: (ماذا تفعل هنا!).
أشار الولد بيده نحو الباب، وقال: (هم قبضوا علي).
- (لم أفعل شيئًا).
- (قبضوا عليك دون أن تفعل شيئًا).
- (ذبحت أمي).
فصاح أبو حسن مرتاعًا: (الله يلعنك.. ماذا قلت).
- (ذبحت أمي. كانت تطهو طعامًا لا تأكله حتى الكلاب
وخيل إلى أبي حسن أنه غارق في سبات عميق ويشاهد حلمًا مرعبًا، ولاذ بالصمت. وحدق إلى الولد مذهولاً متناسيا الألم الذي يحرق عظمه ولحمه. وكان الولد ذا وجه أسمر وديع وشعر أسود طويل ناعم.
قال الولد: (أريد أن أنام).
قال أبو حسن بصوت فظ. (نم. من يمنعك).
قال الولد: (تعودت ألاّ أنام إلاّ بعد أن تروي لي أمي حكاية). قال أبو حسن: (اخرس ونم).
قال الولد: (احك لي حكاية).
فظل أبو حسن ساكتًا يحملق واجمًا، فقال له الولد: (إذا حكيت لي حكاية فسأعطيك سكينًا تذبح مئة شخص).
فبدت في عيني أبي حسن نظرة دهشة، فسارع الولد إلى خلع فردة حذائه، وأخرج منها سكينًا ذات نصل طويل رفيع رقيق ملطخ بدم جاف، ولوّح بها قائلاً: (ها هي ذي.. ظننت أني أكذب عليك).
مدّ أبو حسن يده نحوه قائلاً بلهجة آمرة: (هاتها).
فأعطاه الولد السكين، وما إن أمسك أبو حسن بها حتى التفَّت أصابعه حول مقبضها بحركة ضارية.
واستلقى الولد على الأرض، وقال بصوت متوسل: (هيا احك لي حكاية).
ساد الصمت هنيهات، ثم قال أبو حسن بصوت رتيب: (كان في سالف العصر والأوان رجل اسمه مصطفى، وكان فقيرًا لا يملك من متاع الدنيا سوى شاربيه. وفي يوم من الأيام أصدر ملك البلاد أمرًا يقضي بأن يحلق كل الرجال في مملكته شواربهم، فأطاع الجميع أمر الملك ما عدا مصطفى الذي أبى التخلي عن شاربيه، فاعتقل، وضرب وأهين وسجن. ثم أخرج من السجن ليمثل بين يدي الملك وينال ما يستحق من جزاء.
قال مصطفى للملك: (أنا ملك يديك وتستطيع أن تفعل بي ما تشاء. أنا أرحب بأن يقطع رأسي ولكني لن أرضى بأن أحلق شاربي).
ابتسم الملك بمكر، وقال: (سأمنحك ألف دينار إذا حلقت شاربيك).
قال مصطفى: (لا).
قال الملك: (لا تكن عنيدًا متسرعًا. اسمع. أتريد أكثر حسنًا. سأعطيك ألف ألف دينار).
قال مصطفى: كل ما في الدنيا من ذهب لا يساوي شعرة من شاربي رجل).
قال الملك: (سأعينك وزيرًا لي).
فظل مصطفى مصرًّا على الرفض، فقال الملك: (سأعينك رئيسًا لوزرائي).
قال مصطفى: (أفضل أن أكون شحاذًا. شحاذ بشاربين أفضل من رئيس وزراء بلا شاربين).
قال الملك: (سأجعلك شريكي.. تحكم مملكتي كما أحكمها).
فلم يتراجع مصطفى عن رفضه حلق شاربيه. فأطرق الملك برأسه وفكّر ساعة، وتكلم بعدها، وقال لمصطفى: (أنتَ فعلاً رجل. وقد أثبتّ أنك الرجل الوحيد في مملكتي، فاحتفظ بشاربيك، وسأكافئك خير مكافأة). وزوّج الملك مصطفى من ابنته التي كانت أجمل امرأة في الدنيا.
وأحب مصطفى بنت الملك أشد الحب، وعاش معها أشهرًا بسعادة وهناء، حتى جاء يوم أفاق فيه مصطفى من نومه صباحًا، فإذا بنت الملك عابسة الوجه مكتبئة، فسألها مصطفى بلهفة عما بها. فقالت له: (أتسأل وأنت السبب).
قال لها مصطفى متعجبًا محتارًا: (أنا! لا عاش من يزعلك. قولي لي متْ فألبي رغبتك دون تردد).
قالت بنت الملك: (أنا متضايقة جدّا من شاربيك، ولو تخلّصت منهما، فلا بد أنك ستصير أجمل رجل وسأحبك أكثر).
فاستنكر مصطفى كلامها، وحاول إقناعها بخطإ ما قالته، ولكنها لم تقتنع، وقالت له: (لن تبصر وجهي بعد اليوم إلاّ إذا حلقت شاربيك).
ونفذت بنت الملك وعيدها، وحبست نفسها في مخدعها، وأقفلت بابها من الداخل.
وتعذب مصطفى طويلاً لما حرم رؤية من يحب، ولكنه صبر وتجلد، إلى أن جاء يوم ضعف فيه واستسلم لصوت قلبه، فحلق شاربيه، وهرع إلى مخدع بنت الملك، وقرع بابه وهو يهتف: (افتحي.. فعلت ما ترغبين فيه).
وفتحت بنت الملك باب مخدعها. وما إن رأت مصطفى حتى تراجعت إلى الوراء وهي تضحك ضحكًا متواصلاً. فدنا مصطفى منها متلهفًا إليها وحاول معانقتها، ولكنها قفزت مبتعدة عنه وهي تقول بجفاء: (إياك والاقتراب مني!).
قال مصطفى: (لماذا).
قالت بنت الملك: (إذا أردت معرفة السبب، فاذهب إلى المرآة وانظر فيها، فقد صرت دون شاربين مثيرًا للضحك أكثر من أي مهرج في مملكة أبي، وصرت أيضًا قبيحًا إلى حد أن كلبة عمرها مئة سنة لا تقبل بالنظر إليك نظرة واحدة!).
لما سمع مصطفى كلام بنت الملك حزن حزنًا شديدًا، واستلّ خنجره، وطعن به قلبه طعنة قوية وهو ينظر إلى بنت الملك نظرة وداع وحب ولوم. وصاحت بنت الملك مستاءة، بينما كان مصطفى يترنّح موشكًا على السقوط أرضًا: (ابتعد.. ابتعد عن سريري لئلا تقع عليه فتتسخ أغطيته بدمك). وعندما علم الناس بموت مصطفى وما جرى له، حزنوا عليه كثيرًا وبكوا...). بتر أبو حسن كلامه، ونظر إلى الولد، فألفاه متمددًا على الأرض، مغمض العينين، مستسلمًا بوداعة لنوم عميق، فازدادت أصابعه الملتفة حول مقبض السكين شراسة. وزحفت السكين رويدًا رويدًا نحو الولد، ثم توقفت مرتجفة، غاضبة، حائرة بين قلب أبي حسن وعنق الولد .
.................................................. .................................................. .......................
المطربش
كان منصور الحاف رجلاً من دمشق يهابه أشرس الرجال، بحرًا بلا موج، رابط الجأش في ساعات العسر وساعات اليسر، غير أن خنجره كان سريع الغضب، يجرح بازدراء ولا يقتل، ولا مهرب لخصومه من برق نصله الهبّار وندامة متأخرة لا تنجي اللحم من التمزق. وكان منصور الحاف يرحب بالسجن كأنّه مصح في مصيف، ويردد يوم يخرج منه: (الأهبل وحده يفرح بالانتقال من سجن صغير إلى سجن كبير).
وقد أحب منصور الحاف زوجته نزيهة منذ أن لمحتها عيناه أول مرة، ولم يبح لها يومًا بكلمة واحدة تفصح عن ناره المخبأة، ولكنه لم يكن يخجل من الاعتراف علانية بأنّ كل ما تقوله نزيهة هو أوامر يسارع إلى إطاعتها بغير نقاش. ولو طلبت منه أن يحلق شاربيه لما تردد لحظة. ولكنه تبدل لحظة تكلمت مصادفة عن طربوشه، ونصحته بالتخلي عنه، واستحال رجلاً غريبًا فظّا لا تعرفه. وقال لها باعتداد وتجهم: إنّ الطرابيش خلقت زينة للرجال. فقالت له: إنّ الطربوش ضيف قبيح سمج. فقال لها إنّه ولد مطربشًا وسيموت مطربشًا. فقالت له إنّها لم تعد تطيق رؤية أي طربوش. فقال لها إن الطرابيش للرجال والملاءات للنساء والأغصان للشجر.
وفي أحد الأيام، قالت نزيهة لزوجها بصوت حانق، نافد الصبر: (إمّا أن تطلق الطربوش، وإمّا أن تطلقني).
فغضب منصور الحاف، ولكنه لم يشهر خنجرًا، واكتفى بأن قال لزوجته عابس الوجه: (باب البيت عريض يخرج منه جمل، فهيا اركضي إلى أهلك. أنت طالق.. أنت طالق.. أنت طالق).
فبهتت نزيهة، وخرجت من البيت بغير ملاءة وهي تصيح بصوت متهدج مستغيث: (واغوراه!).
فحمل هواء فضولي واش صيحتها إلى أذني الجنرال الفرنسي هنري غورو، فبادر إلى نجدتها، وسار بجيوشه إلى دمشق، ودخلها غازيا منتصرًا ملطخًا بدماء أبنائها القتلى على أرض ميسلون. فاستقبلته دمشق بحزن صقرٍ حُرم سماءه وسُجن في قفص. ولكن شرذمة من وجهائها وخدمهم حاولت أن تحمل سيارته على ظهورها تعبيرًا عن ترحيبها الحار به، فمست يده المتوارية في قفاز جلدي أيدي مستقبليه المرتعشة فخرًا. وسارع إلى زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال له بتشف وشماتة: (ها قد عدنا).
فتكلم صلاح الدين الأيوبي، وقال للجنرال غورو بصوت أرض غسل مطرٌ مباغتٌ دموعها، واستعادت قدرتها على النطق بعد أن فقدتها طوال سنين: (ولكنكم ستعودون يومًا إلى بلادكم في توابيت سود).
فلم يبال الجنرال غورو بما قيل له، وطاف في شوارع دمشق مرح الوجه محاطًا بالكثير من حراسه اليقظين المتسلحين بآخر زي من أزياء المسدسات والبنادق الحديثة، والمتأهبين لإطلاق النار على أي غيمة قد تعبر السماء من دون إذن مسبق. وكانت خطاه المتمهلة خطى من يرغب في الإقامة بها حتى موته، ولكنه تأفف من تلك الطرابيش الحمر الجاثمة على رؤوس الرجال. وعاد إلى مكتبه الرسمي، وأصدر أمرًا صارمًا مفعمًا بالتهديد والوعيد، ينصُّ على إلغاء الطرابيش وحظر صنعها. فجمعت الطرابيش كافة، وقذفت إلى مياه نهر بردى. واضطر الرجال إلى السير في الطرقات حاسري الرؤوس، متعثري الخطى كأنّهم حفاة، ولكن رأس منصور الحاف أصرّ على التشبث بطربوشه، فقبض عليه الجنود الفرنسيون، ووضعوه في السجن بغير تحقيق أو محاكمة.
وعندما ملّ الجنرال غورو مغازلة النساء والطعام الدسم واحتساء الخمور، وتاق إلى تسلية من نوع مختلف، أمر بإحضار الرجل الذي عصى أمره وظل محتفظًا بطربوشه، فاقتيد منصور الحاف مكبل اليدين إلى قاعة فسيحة الأرجاء ملأى بالضباط والجنود، وأُوقف قبالة الجنرال غورو الذي سأله بصوت نزق: (أتعرف ما عقوبة كل من يتجرأ على مخالفة أمر من أوامري).
فابتسم منصور الحاف، وأجاب بهدوء: (الموت فقط).
قال الجنرال غورو: (أنصحك ألاّ تحاول تمثيل دور الرجل الشجاع الذي يرحب بالموت، وهو تمثيل لن ينفعك الآن).
فحاول منصور الحاف أن يتكلم، ولكنه تلعثم إذ تخيل الكرة الأرضية على شكل طربوش مقلوب يتساقط في جوفه الجنود من مختلف الجنسيات جثثًا باردة. وسمع الجنرال غورو يقول له بصوت متسائل ساخر: (ما بك خرست).
فقال منصور الحاف بصوت واثق خشن: (الموت في سبيل الطربوش شرف يتمناه كل رجل).
فتصنع الجنرال غورو أنّه يرى طربوشًا أول مرة في حياته، وحملق إليه بنظرات متفحصة، ثم قال لمنصور الحاف: (أعجبني طربوشك، ويصلح هدية طريفة لزوجتي، بكم تبيعه? سأدفع لك عشر ليرات ذهبية.. عشرين.. مائة.. ألفًا.. ألفين..).
فقاطعه منصور الحاف قائلاً: (طربوشي ليس للبيع، ولن أبيعه ولو دفع لي مال هارون وقارون).
فغضب الجنرال غورو، وعاوده ملله، وأشار بسبابته إلى منصور الحاف صائحًا بجنوده: (أعدموه فورًا).
فصرخ منصور الحاف: (جيفة لا تعكر بحرًا).
واقترب أحد الضباط من الجنرال غورو، وسأله بصوت خفيض: (وكيف نعدمه? أنشنقه أم نطلق الرصاص عليه?).
فقال الجنرال غورو مخاطبًا كل من كان حوله وبلهجة معلم يخاطب تلاميذه الصغار السذج: (اسمعوا.. لكل بلد خصائصه المتوارثة، وينبغي لنا بوصفنا من رسل الحضارة والمدنية أن نحترمها ولا نستهتر بها. ونحن الآن في بلاد يألف سكانها قطع الرؤوس).
فتراكض الجنود نحو منصور الحاف، وأرغموه على الركوع وإحناء رأسه، فصاح باستنكار: (ما هذا الظلم ألن أسأل عن رغباتي الأخيرة).
فقال الجنرال غورو لأحد جنوده: (اسأله. لعله يريد أن يتوضأ). قال الجندي لمنصور الحاف: (ما آخر رغباتك).
فضحك منصور الحاف، وقال: (أن أقتل على ركبتي زوجتي السابقة!).
فسأله الجندي: (وأين تريد أن تدفن).
قال منصور الحاف: (لحمي لا يفرّق بين دود ودود).
وسأل الجنرال غورو منصور الحاف: (أتعرف لماذا ستموت الآن).
فشحب وجه منصور الحاف، ولكنه قال بصوت مطمئن واثق: كل شيء هالك إلاّ وجهه..
فتساءل الجنرال غورو: (وجه من عمن تحكي).
قال منصور الحاف بصوت متبتِّل خاشع: قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ودمَّرْنا ما كان يصنع فرعون وقومه
فقال الجنرال غورو: (أأنت أعمى! نحن الأعلون، ولا أحد غيرنا يدمر أعداءه).
فقال منصور الحاف: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا أزِفَت الآزفة ، ليس لها من دون الله كاشفة .. ليس لها من دون الله كاشفة
وبدا منصور الحاف لعيني الجنرال غورو في تلك اللحظة وهو راكع على ركبتيه مخلوقًا بغيضًا محيرًا غبيا متكبرًا مغرورًا منفرًا بليدًا، كأنّه لا يدرك ما يحدث حوله، ويشترك في مبارزة يرحب بخاتمتها الفاجعة موقنًا أنّها ليست نتيجة عقوبة أو هزيمة، ويردد كالحاكي ما سجل على أسطوانته من كلمات ليست بكلماته. فامتلأ الجنرال غورو بسخط جموح حاول التخلص منه بأن صاح بجنوده آمرًا بصوت صارم: (أعدموه حالاً).
فأهوى سيف على رقبة منصور الحاف الجاثي على ركبتيه، وأطاح رأسه الذي تدحرج على الأرض كأنّه كرة ركلتها قدم طفل، ولكن الطربوش ظل ملتصقًا بالرأس، فأمر الجنرال غورو جنوده بنزعه عن الرأس، فبادروا إلى إطاعة أمره. ولم تنجح كل الوسائل التي لجأوا إليها، وبدا الطربوش كأنّه جزء عنيد من الرأس. فطلب الجنرال غورو من جنوده إحراق الرأس وطربوشه، فبادروا إلى إشعال نار في ساحة من ساحات ثكنتهم تكفي لإحراق بقرة، ورموا فيها الرأس وطربوشه. ولما انطفأت النار وصارت رمادًا، اختفى الرأس كأنّه لم يكن في يوم من الأيام حيا مفعمًا بالنزوات مرفوعًا بفخر بين كتفين، ولكن طربوشه ظل أحمر سليمًا لم يمسسه أي سوء.
ولما أُعلم الجنرال غورو بما جرى، دهش واغتاظ وتحير، وأمر بحفظ الطربوش ريثما يرسل إلى مختبرات فرنسا العلمية لتحليله والكشف عن أسرار قوته الغامضة. ولكن الطربوش لم يقيض له أن يزور فرنسا، إذ فُقد في ظروف غامضة، وشوهد يومًا على رأس رجل أسمر الجلد يطلق الأعيرة النارية من مسدسه على طائرة حربية كانت تحلق فوق دمشق وتقصف حيا من أحيائها، وشوهد ثانية على رأس رجل يصنع توابيت ويخبئها ليوم تتضاعف فيه أسعارها وتباع في السوق السوداء، وشوهد مرة ثالثة وقد تحوّل كرة مرحة حمراء يتقاذفها أطفال ضاحكون .
.................................................. .................................................. ................................
الناجحون في الاختبار
دخل إلى غرفة الطبيب ثلاثة رجال وممرضة، فرحّب الطبيب بالرجال، ورجاهم الجلوس مشيرًا إلى المقاعد القريبة من الطاولة التي كان يجلس وراءها، وطلب إلى الممرضة أن تحضر لهم القهوة، فبادرت إلى الخروج من الغرفة بخطى مسرعة.
قال الطبيب للرجال الثلاثة: (أرجو ألاّ تَعُدُّوا هذه الجلسة جلسة طبيب مع مرضاه، بل عُدُّوها جلسة تسلية ومزيد من التعارف خاصة وأنّكم شفيتم وستغادرون المستشفى في وقت قريب بعد أن أنجز كتابة تقريري عن أحوالكم).
لم يتفوه المرضى الثلاثة بأي كلمة، فقال الطبيب لهم: (أنا محتار، ولا أعرف كيف أبدأ حديثي معكم لأنّي تعوّدت الأسئلة الطبية، وصرت أجهل الأحاديث العادية. سأسألكم: مَنْ مِنكم رأى بحرًا).
فظلّ المرضى الثلاثة صامتين واجمين. فقال الطبيب لأحدهم: (تكلّم يا أنور.. ألم تر في حياتك بحرًا).
فهزّ أنور رأسه هزة تعني أنّه رأى البحر، فسأله الطبيب: (ومتى رأيته).
قال أنور: (رأيته قبل ثلاثة أيام عندما عرض التلفزيون فيلمًا تدور حوادثه في باخرة بحجم بناية وتغرق).
قال الطبيب: (وكيف غرقت الباخرة).
قال أنور: (لا أدري، وغرقتُ من دون أن أعلم السبب).
قال الطبيب: (لو كنتَ تجيد السباحة لما غرقت).
قال أنور: (كنت أجيد السباحة، ولكنّ الماء المالح الذي دخل فمي كان أثقل مني وشدّني إلى قاع البحر).
فأشار الطبيب بيده إلى مريض آخر، وسأله: (وأنت يا أمجد .. ألم تر البحر).
فقال أمجَد: (أنا أيضًا كنت في هذه الباخرة التي غرقت، وكنت بحّارًا من بحّارتها).
قال الطبيب: (وهل غرقتَ كما غرق أنور).
قال أمجد: (قتلتُ قبل أن أغرق، وسقطت كتلة حديدية على رأسي وحطّمته).
قال الطبيب بأسف: (لا حول ولا قوة إلاّ بالله).
قال أمجد: (والباخرة لم تغرق مصادفة، بل أنا الذي ثقبها وأغرقها!).
قال الطبيب: (ولماذا أغرقتها).
قال أمجد: (ما هذا السؤال أغرقتُها لأنّ على سطحها كمية كبيرة من الناس الفاسدين).
قال الطبيب: (وبالطبع مات الأبرياء ومات المذنبون).
قال أمجد: (إذا كان قتل مليون بريء يؤدي إلى قتل مذنب واحد، فهو قتل مفيد، ويجب أن يتكرر كلّما سنحت الفرصة).
قال الطبيب: (ولكنّك كنت تقول كلامًا مختلفًا قبل أن تأتي إلى مستشفانا. أنسيتَه).
قال أمجد: (لم أنسه، وما زلت أتذكّره وأسخر من بلاهتي. كنتُ أقول إنّ قتل مليون مذنب لا يسوِّغ قتل بريء واحد).
فابتسم الطبيب، وقال للمريض الثالث: (وأنت يا سالم).
قال سالم: (أنا الوحيد الذي يستحق أن يسأل عن البحر، لأنّي ولدتُ في بيت قريب من البحر، وتعوّدت كلّ يوم أن أمشي فوقه اختصارًا للمسافة بين البيت والمدرسة).
قال الطبيب: (أكنت تمشي على وجه البحر).
قال سالم: (أحيانًا كنت أمشي على قدمي، وأحيانًا كنت أمرّ فوقه راكبًا دراجتي).
في تلك اللحظة، عادت الممرضة إلى الغرفة حاملة صينية عليها ثلاثة فناجين من القهوة، وأعطت كلّ رجل من الرجال الثلاثة فنجانه، فراح الثلاثة يحتسون قهوتهم على مهل غير مبالين بالطبيب الذي كان يحملق إليهم بدهشة ممتزجة بكثير من الغبطة والفخر
.................................................. .................................................. ...................................
الأغصان
ذهب بلال الدندشي إلى مدرسته كعادته في صباح كل يوم، ووصل إليها متأخرًا، ودخلها وهو يرتعد خوفًا من معلمه وتوبيخه الفظّ الساخر. ولكنه وجد التلاميذ نائمين والمعلمين نائمين، فحاول إيقاظهم، فلم يستيقظ أحد. وسئم الجلوس وحده، فتثاءب ونام، ورأى في أثناء نومه أنه نائم في مدرسة تلاميذها نائمون نومًا عميقًا غير مبالين بصيحات معلميهم الغاضبة. وأيقظته أمّه من نومه، وحثته على الإسراع حتّى لا يتأخر عن مدرسته، فهرول قاصدًا مدرسته ليجد معلميها مقتولين وتلاميذها يلعبون مرحين، ولم يلعب معهم لأن أمّه أيقظته من نومه ليذهب إلى مدرسته. فارتدى ثيابه على عجل، وغادر البيت من دون أن يأكل، وهرع إلى مدرسته وجلس في صفه بين التلاميذ متأهبًا لما سيحدث. ودخل المعلم الصف بوجه عابس وعينين صارمتين، فحدّق إليه التلاميذ الصغار بنظرات ملأى بالكراهية، وتهامسوا فيما بينهم بكلمات مبهمة، فصاح بهم غاضبًا: (اخرسوا).
فصمت التلاميذ فورًا، ووضع المعلم محفظته المهترئة على سطح طاولته، وفتحها، وأخرج منها رزمة من الأوراق لوّح بها قائلاً للتلاميذ: (أتعرفون ما هذه الأوراق? هذه أجوبتكم المكتوبة ردّا عن سؤالي عن المهنة التي ستختارونها حين تصيرون رجالاً).
واقترب المعلم من سلة المهملات، ولوّح بالأوراق ثانية، وقال للتلاميذ: (هذه أجوبة لا تستحق حتى الصفر).
ورمى الأوراق في سلة المهملات بحركة المتخلص من قمامة مقززة، وقال لتلاميذه: (علّمتكم طوال أيام النشيد الوطني الرسمي لترددوه في الحفلة التي ستقام بمناسبة انتهاء العام المدرسي، وسأمتحن اليوم قدرتكم على الحفظ، والويل لمن يخفق).
فتهامس التلاميذ متذمرين، فزعق بهم معلمهم بصوت حانق: (اخرسوا).
فسكت التلاميذ، وقال لهم معلمهم: (سأعدّ من الرقم واحد إلى الرقم ثلاثة، وحين أصل إلى الرقم ثلاثة تبادرون إلى ترديد النشيد بصوت واحد. هيا استعدوا. واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتبادل التلاميذ النظرات الغامضة، وشرعوا في إنشاد مقطع من أغنية غرامية معروفة بأصوات عالية حماسية محافظين على اللحن الأصلي للنشيد الوطني، فصاح بهم معلمهم: (اخرسوا).
فاندفع التلاميذ نحوه كطلق ناري، وضربوه، بمساطرهم وكتبهم ودفاترهم وأقدامهم طالبين إليه أن يخرس. فبوغت المعلم بما حدث، وصاح غاضبًا مستنجدًا، فلم يأتِ أحد من المدرسة لنجدته. وترنح وارتمى على الأرض بعد أن أصيبت عظام ساقيه بضربات موجعة، وحاول أن يقاوم ويهدد ويتوعد ويصبر، ولكن ألمًا طاغيا أجبره على البكاء والتوسل إليهم أن يكفوا عن ضربه، فلم يبالوا بتوسله، ولم يتوقفوا عن ضربه إلاّ عندما أذعن ولم يعد يصدر عنه أي صوت. فأوثقوه بحبال أعدوها سلفًا، وأمروه بترديد النشيد الوطني، فبادر إلى إطاعة أمرهم، وردد النشيد الوطني بصوت متحشرج مرتجف، فسدّوا آذانهم بأصابعهم متأففين. وانفصل بلال الدندشي عن التلاميذ، ووقف قبالتهم مقلدًا وقفة معلمهم، وصاح بهم بلهجة مرحة آمرة: (واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتعالت أصوات التلاميذ تردد النشيد الوطني متآلفة متناسقة، وتوحدت في صوت واحد خرج من نوافذ المدرسة ليتحوّل موجًا .
.................................................. .................................................. ................................................
يوم أشهب
تمرّن شكري المبيض مع زملائه في السجن تمارين رياضية لا تخلو من العنف، غايتها الحفاظ على سلامة صحته، فأدت إلى إصابة جسمه بالكثير من الرضوض والكدمات والجروح. ومارس شكري المبيض هوايته في شي الكستناء، الفاكهة المفضلة لديه، فأحرقت النار أصابع يديه وقدميه وظهره وصدره وبطنه. وحاول شكري المبيض حلاقة ذقنه صباحًا بينما كان منهمكًا في الاستماع إلى ما يقدمه مذياعه من نشرات أخبار وأغان، فأخطأت يده اليمنى الممسكة بموسى الحلاقة، ولم تخلص جلد الوجه من شعر لا لزوم له، وذبحت بحركة طائشة العنق من الوريد إلى الوريد، فنُقل شكري المبيض توّا إلى أفضل مستشفى، وهناك حاول الأطباء إصلاحه، فعجزوا، ووضعت جثته في كيس من قماش متين، وسلمت إلى سيارة توزع الموتى يوميا على بيوت أهاليهم. ولم يواجه سائقها أي مشقة في الاهتداء إلى بيت أهل شكري المبيض في حارة قويق، ولكنه بوغت به خاليا منذ شهور. فأبوه مقبوض عليه بتهمة التشرد والتسول، وأخوه يحاكم لسطوه على أموال الدولة، وأمه مسجونة لاعتدائها الشفوي على أعراض نساء محترمات، وأخته معتقلة لأنها تتعمد ألا تعبر عن فرحتها أو حزنها.
وسأل سائق السيارة الجيران عن أقرباء شكري المبيض، فأخبروه أن عمه هاجر إلى أميركا، وخاله وأبناءه وبناته إلى كندا، وابن خالته إلى أستراليا، وخالته تعمل خادمة بدبي. فسأل السائق عن عناوين أصدقائه، ولكن كل الذين قيل عليهم إنهم من أصدقاء شكري المبيض أقسموا شاحبي الوجوه أنهم ليسوا بأصدقائه، ولم يتبادلوا معه كلمة واحدة، ولو رأوه اليوم مصادفة لما عرفوه. فخجل شكري المبيض من السائق، وانتهز فرصة انشغاله بشراء خضراوات وفاكهة طلبتها زوجته، ولاذ بالفرار، واختبأ في بيت أهله منتظرًا عودتهم ليدفنوه مطلقين الزغاريد ابتهاجًا بخروجه من السجن .
.................................................. .................................................. ...............................
الأدغال
جرت في المقهى مباراة صاخبة في لعبة الكونكان بين معروف السماع ورشيد القليل، كثر مشاهدوها وتطايرت في أجوائها التعليقات الحماسية الساخرة المتحدية، وانتهت بهزيمة رشيد، فتباهى معروف بانتصاره، ونصح خصمه بلهجة ممازحة بمواصلة التدرب ليل نهار قبل اللعب مع أساتذة مثله. فاغتاظ رشيد، ومزق أوراق اللعب، وقذف بها إلى الأرض، ونصح معروف السماع بصوت مرتفع سمعه كل رواد المقهى بأن يخجل قليلاً ولا يتمادى في التباهي أمام رجال يعرفون جسم أخته أكثر مما تعرفه أمها. فأحنى معروف رأسه، ولم يفه بكلمة، وأنصت لأصوات هامسة يسمعها عادة وحده.
همس الأرنب: (اهرب تنج).
همست النعامة: (دفن الرأس اليوم يليه دفن بقية الجسم غدًا).
همس الضبع: (من لا يأكل يؤكل).
همست الحية: (ملمسي ناعم، والموت في أنيابي).
همس الذئب: (إذا لم تكن ذئبًا أكلتك الخراف).
همس الغراب: (لكم أنا مشتاق إلى النعيب!).
ولم يتكلم الأسد، واكتفى بالزئير الحانق متأهبًا للانقضاض على فريسته. ونهض معروف واقفًا كأنّه يهمّ بمغادرة المقهى، وفجأة لطم رشيدًا لطمتين على خده الأيمن وخده الأيسر، فبوغت رشيد وبهت إذ كان يتوقع شتائم متبادلة يليها تماسك بالأيدي يليه تدخل الوسطاء. واستل معروف سكينه بحركة سريعة، وطعن رشيدًا في صدره وعنقه ثلاث طعنات، فصاح رشيد: (أخ! قتلتني!).
وابتعد الأسد عن فريسته ملطخ الفم بالدماء، وغادر معروف المقهى هاربًا ويده لا تزال ممسكة بالسكين التي تقطر دمًا. وتنبه وهو يركض بأقصى سرعة إلى أنه وحيد أبويه، لا أخت له ولا إخوة
.................................................. .................................................. .....................
انتظار امرأة
ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمّه، وشهق الطبيب مذعورًا، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتَّتت الممرضات في أروقة المستشفى.
ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل. فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنّه ربح أكثر مما خسر.
ولم يكفّ فارس عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعًا جديدًا من البشر آملاً ألاّ يطول انتظاره
.................................................. .................................................. ...........................
نبوءة كافور الإخشيدي
صاح كافور الإخشيدي بأعوانه: (قبل ثلاثة أيام دخل البلاد رجل غريب اسمه المتنبي، وآمركم بإحضاره إلي فورًا حيا أو ميتًا).
وكان المتنبي آنئذٍ يمشي في شوارع القاهرة، وئيد الخطى، متنقلاً من شارعٍ إلى شارع، وكل شارع يبدو لعينيه عالمًا جديدًا سحريا قادرًا على أن يهب بهجة تحول الرمل عشبًا أخضر.
وبلغت بهجة المتنبي الذروة عندما رأى نهر النيل، فتوقف عن المسير، ونظر إلى ماء النهر كأنه طفل يشاهد بحرًا أول مرة في حياته.
قال النيل للمتنبي: (اهرب. الهرب مما ينتظرك جرأة وشجاعة وبطولة).
فلم يسمع المتنبي ما قاله النهر، إنما تدفقت إلى مخيلته كلمات كثيرة تتنافس على وصف نهر وامرأة وملك عادل.
قال النيل للمتنبي: (اهرب، اهرب، اهرب!).
ولكن المتنبي كان يجهل لغة الأنهار، واستمرت كلماته في التنافس على وصف نهر عظيم وامرأة جميلة وملك رحيم متسامح. ثم تبددت فجأة حين انقض على المتنبي عدد من الرجال الأقوياء، القساة الوجوه والأيدي، واقتادوه إلى قصر كافور الإخشيدي غير مبالين بتساؤلاته وصياحه النزق المحتج.
كافور الإخشيدي: (المعلومات المتوافرة لدي تقول إنك لست مصريا).
المتنبي: (إذا كنت مولودًا بالكوفة وجئت مصر زائرًا، فهل هذا مسوِّغ لاعتقالي ومعاملتي أسوأ معاملة).
المتنبي (بهزء): (أمرك مطاع).
كافور: (اخرس. ألم آمرك بألا تتكلم).
المتنبي: (لن أتكلم).
كافور: (ليس من حقك أن تتكلم أو تسكت إلا وفق أوامري. قل لي: ما اسمك).
المتنبي: (المتنبي.. أبو الطيب المتنبي).
كافور: (ماذا تشتغل).
المتنبي: (لا مهنة لي سوى الكتابة. أنا شاعر).
كافور: (لا تتحذلق. الشعر أيضًا مهنة لا تختلف عن مهنة الحداد والنجار والدهان وحفار القبور. اسمع. ما دمت تزعم أنك شاعر، فهل نلت إذنًا من السلطات المختصة).
المتنبي: (وهل تطلب السحابة إذنًا إذا أرادت أن تمطر).
كافور: (إني أكلمك عن قوانين وأنظمة، فلا تجاوبني بكلام منمق سخيف يصلح لأن يوجه إلى مراهقات. أنت الآن لست في الصحراء. أنت في بلاد يسودها التنظيم، وكل عمل لابد لصاحبه من أن ينال إذنًا رسميا قبل أن يمارسه، وأنت خالفت القوانين عندما نظمت شعرًا من غير إذن).
المتنبي: (لقد جئت إلى مصر قبل ثلاثة أيام فقط، ولم أنظم بعد أي قصيدة، ولم أخالف أي قانون من قوانين البلاد).
كافور: (أنت تدعي أنك شاعر، فما الدليل على أنك شاعر حقًا?).
المتنبي: (أشعاري مشهورة في البلاد العربية كلها، ولا أحد يجهلها).
كافور: (يا لك من وقح! أتجرؤ على اتهامنا بالجهل?).
المتنبي: (كل ما أردت قوله هو أني شاعر ذائع الصيت. ونظمت كثيرًا من الأشعار).
كافور: (هل غنّى أشعارك مشاهير المغنين والمغنيات? أم كلثوم.. لبلبلة.. وردة الجزائرية.. أحمد عدوية.. محرم فؤاد.. شادية.. عبد الحليم حافظ? ما لك صامت? لماذا لا تجيب? أرى أن وجهك قد احمرّ.. احمرّ خجلاً من افتضاح كذبك. سأُتيح لك الفرصة لتثبت أنك شاعر. هيا أسمعني بعض أشعارك).
المتنبي:
يا أعـدل الناس إلاّ فـي معاملتي فيك الخصام وأنت الخصـم والحكم
أعيـذهـا نظـرات منـك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
ومـا انتفاع أخـي الدنيا بناظـره إذا استوت عنـده الأنوار والظلـم
أنا الذي نظـر الأعمـى إلى أدبي وأسمعـتْ كلماتي مـن بـه صمم
كافور: (ما سمعته ليس سيِّئًا. أتجيد نظم قصائد المدح?).
المتنبي: (سبق لي أن مدحت الكثير من الملوك والأمراء.
كافور: (ما دمت تتقن المدح، فينبغي لك أن تنظم قصيدة في مدحي. أنت الآن في مصر، وأنا حاكم مصر. وإذا كنت لست عميلاً لأعداء مصر وتحب مصر، فمن واجبك مدح حاكمها).
المتنبي: (أنا لم أمدح في حياتي سوى رجال عرفتهم، وعرفت ما لهم وما عليهم).
كافور: (أتلمح إلي أنك لا تعرفني? ها أنا ذا قاعد قبالتك وقد صرت تعرفني).
المتنبي: (لم أعرفك بعد المعرفة التي تتيح لي نظم قصيدة في مدحك).
فابتسم كافور الإخشيدي، وأشار بيده إلى أعوانه، فهجموا على المتنبي، وطرحوه أرضًا، ووضعوا رجليه في فلقة، وانهال بعضهم بالعصا ضربًا على باطن قدميه، بينما راح بعضهم الآخر يركل رأسه وجسمه ركلاً شديدًا.
تألم المتنبي، ورغب في أن يصرخ متوجعًا، ولكنه قاوم، وكظم رغبته، وما لبث الألم أن دفعه إلى الصراخ شاتمًا، مستغيثًا. فضحك كافور، وقال: (ما هذا الصوت الجميل? أنت لست شاعرًا. أنت تصلح لأن تكون مغنيا. الله! ما أجمل هذا الصوت! تابع.. أطربنا).
وحين تحول صراخ المتنبي إلى بكاء ذليل، أمر كافور بالكف عن ضربه.
ووقف المتنبي أمام كافور الإخشيدي محني الرأس بذل، مبتل الوجه بالدموع والدماء.
كافور: (ستنظم قصيدة مطوّلة تمتدحني).
المتنبي: سأفعل ما تأمر به.
كافور: (سأعطيك مهلة مدتها سبعة أيام لنظم القصيدة، وستنجو من القتل إذا أعجبتني).
وهمّ المتنبي بالخروج، فقال له كافور: (قف واسمع يا متنبي. إياك وأن تظن أني كغيري من الحكام. إذا أعجبتني قصيدتك، فلا تحلم بنيل درهم واحد من أموالي).
وعاد المتنبي إلى كافور الإخشيدي بعد أربعة أيام، وأسمعه ما نظم من شعر في مدحه، فطرب كافور، وانتشى، وقال: (أنت شاعر حقّا).
وفكر كافور الإخشيدي لحظات، ثم قال للمتنبي: (سأعرض عليك عرضًا لا مثيل له. اختر إما الضرب حتى الموت وإما الحصول على ألف دينار).
المتنبي: (لا أحد يفضل الضرب على ألف دينار).
كافور: (ستنال ألف دينار إذا نظمت قصيدة تهجوني فيها أقذع هجاء).
حاول المتنبي أن يتكلم، ولكن كافورا قال له: (اسكت ولا تنطق بكلمة واحدة. إذا لم تنظمها ضربت، وإذا هجوتني نلت ألف دنيار).
فوعد المتنبي بأنه سيهجوه، وبرّ بوعده، ونظم قصيدة في هجاء كافور الإخشيدي، ونال ألف دينار.
وما إن خرج المتنبي حتى تصايح أعوان كافور الإخشيدي مستغربين مستنكرين، فقال لهم كافور بصوت صارم: (ستظلون أغبياء تجهلون التعامل مع البشر والحياة. سأشرح لكم ما فعلت وأسبابه. المتنبي شاعر متكبر، متعجرف، معتد بنفسه، ويجب أن يعاقب ولا سيما أنه سيكون في المستقبل من الشعراء الخالدين. وقد عاقبته شر عقاب. لقد أرغمته على مدحي ثم أرغمته على هجائي، وهذا التناقض سيصبح في المستقبل تهمة شائنة تدين المتنبي، وتبرهن على أنه مجرد مرتزق صغير غير جدير بالاحترام).
وفيما بعد، اغتيل المتنبي، ومات كافور الإخشيدي، ولكن ما تنبأ به كافور تحقق وعوقب المتنبي شرّ عقاب حيّا وميتًا .
.................................................. .................................................. ...............................
قبر خاو
كان الجنرال رجلاً ذا رئتين ومعدة وأمعاء غليظة وأمعاء دقيقة وكبد وشرايين ملأى بالدم الأحمر، ولا يختلف عن غيره من الرجال إلاّ بكونه جنرالاً في جيش محارب في بلاد ليست بلاده. وكان الجنرال كثير الضجر من مهنته الخالية من الإثارة، ويحلم بأن يعمل يومًا في مزرعة لتربية البقر والغنم أو في مستشفى للمعوقين والمسنين. وكان الجنرال صارمًا كثير الاكتئاب، لا يبتهج إلاّ حين يتخيل عصفورًا صغيرًا يحاول الطيران ويخفق، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل جنوده المطيعين لأوامره يحتلون القرى والمدن متنافسين على هدمها وقتل سكانها، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل أنّه يزود جنوده بأسلحة قادرة على إبادة مئات الألوف في ثوان، فلا يحاولون استخدامها حتى لا يحرموا قتل أعدائهم ببطء وتشف. وابتهج في أحد الأيام ابتهاجًا مختلفًا حين تنبه إلى أن شعرًا جديدًا أسود بدأ ينبت في رأسه ويحل محلّ الشعر القليل الأشيب، وتباهى به دليلاً على الرجولة وعودة الشباب. وتزايد نمو شعر جسمه مغطيا الجلد بطبقة كثيفة خشنة، وتبدل شكل وجهه تدريجيا. وحاول في إحدى الليالي أن يستسلم للنوم، فأخفق، وأحس بقوة غامضة تجتاح كل جسده، فقفز من سريره، وتمطى أمام المرآة وهو ينظر إليها مليا، فرأى أنّه قد صار ضبعًا ذا مهابة مغطى بشعر كثيف، واستحالت أظفار يديه إلى مخالب وأسنانه وأضراسه إلى أنياب. فاستمتع بتبدله، ودهمه جوع لا يقاوم، فانقض على عنق زوجته التي كانت نائمة، وقتلها قبل أن تصحو، ولكنه لم يستسغ لحمها المترهل القاسي، فتركها مشمئزًا، ووثب على ابنها الرضيع المبتسم إبان نومه، وأُعجب بلحمه الطازج الغض.
وكان أحد حراس الجنرال واقفا خارج غرفة النوم مشدود القامة وإصبعه على زناد بندقيته تأهبًا لأي حدث طارئ، فبوغت بضبع يخرج من الغرفة ملطخًا بالدماء، فبادر إلى إطلاق النار عليه، وأرداه قتيلاً، فتراكض بقية الحراس مضطربين متصايحين، وعثروا على بقايا الزوجة وابنها، ولم يعثروا على الجنرال، فساد اعتقاد بأنّ الضبع أكله بأكمله، ولم يترك منه ما يحتاج إلى قبر
.................................................. .................................................. ......................................
الساحر
أُوثقت يدا طفل في الخامسة من عمره خلف ظهره، وعُصبت عيناه الخضراوان بقطعة قماش قاتم، ووقف قبالته خمسة جنود وقفة استعداد متنكبين بنادقهم متأهبين لتنفيذ الجديد من أوامر ضابطهم المتوقعة.
وتعالى صوت ضابطهم آمرًا، فسددوا بحركات سريعة فوهات بنادقهم نحو قلب الطفل، وأمرهم ضابطهم بإطلاق النار، واختلط صوت الضابط الصارم الآمر بضحكة ندت عن الطفل، وبلغت مسامع الجنود الخمسة، فتذكر الأول زوجته الجميلة حين تضحك، وتذكر الثاني سريره قرب نافذة مطلة على نهر، وتذكر الثالث شارعًا مشجرًا يمشي فيه مثرثرًا مع صديق، وتذكر الرابع يوم كان صغير السن يعلمه أبوه صيد السمك على شاطئ بحر، وتذكر الخامس أمه تكبر في السن فجأة يوم مرض.
وبادر الجنود الخمسة إلى إطاعة الأمر العسكري، وأطلقوا نيران بنادقهم على صدر ضابطهم الذي تهاوى أرضًا مثقوبًا خمسة ثقوب دامية، وانتظروا غير آسفين أن تُطلق النار عليهم، ولكنهم ظلوا أحياء ومات كل آمر بإطلاق النار .
.................................................. .................................................. .....................................
الذي أحرق السفن
1 الاعتقال
الأشجار الخضر في الشارع كفت عن الغناء لحظة تحلق عدد من رجال الشرطة متجهمي الوجوه حول رجل يمشي على الرصيف سيفًا هرمًا، رمحًا متعبًا، آن له أن يخلد إلى الراحة بعد انتصاره في آلاف المعارك. وابتدره واحد منهم قائلاً له بلهجة فظة: (أعطنا هويتك).
فتقبّل الرجل لهجة الشرطي باستنكار، وأوشك أن يستسلم لحنق عارم، لكنه اكتفى بالابتسام باستعلاء. ومدّ يده إلى جيبه، وأخرج هويته، وقدمها للشرطي الذي ألقى عليها نظرة سريعة ثم قال متسائلاً: (أنت إذن طارق بن زياد?).
فأجاب الرجل باعتزاز: (نعم أنا طارق بن زياد).
عندئذ قال الشرطي ساخرًا: (هلا تفضلت بمرافقتنا?).
- (إلى أين?).
- (إلى المخفر).
- (المخفر! ولماذا).
- (مطلوب للتحقيق).
- (أنا أنا طارق بن زياد!).
- (لا يهمّنا من تكون. أنت الآن شخص تقضي الأوامر باعتقالك حيا أو ميتًا).
فقطّب طارق بن زياد جبينه بينما كان الدم المتدفق في شرايينه رعدًا شرسًا، غير أنه لم يكد يهمّ باستئناف سيره حتى طوّقه رجال الشرطة وأمسكوا به. فحاول الإفلات من أيديهم، فبادروا يضربونه بقسوة وتشفٍّ، حتى أرغموه على الكف عن المقاومة، وتهاوى أرضًا يغمره الخجل والدم.
2 الاستجواب
في اليوم الأول خلق الجوع في اليوم الثاني خلقت الموسيقى في اليوم الثالث خلقت الكتب والقطط في اليوم الرابع خلقت السجائر في اليوم الخامس خلقت المقاهي في اليوم السادس خلق الغضب في اليوم السابع خلقت العصافير وأعشاشها المخبأة في الأشجار.
وفي اليوم الثامن خلق المحققون، فانحدروا توّا إلى المدن، وبرفقتهم رجال الشرطة والسجون والقيود الحديدية.
(طارق بن زياد.. أنت متهم بتبديد أموال الدولة).
- (مخطئون. أنا لم أبدد أي أموال).
(ألست أنت الذي أحرق السفن).
- (حرق السفن كان لا بد منه لكسب النصر).
(لا نريد سماع أعذار. أجب عن سؤالنا فقط. هل أحرقت السفن أم لم تحرقها).
- (أنا أحرقت السفن..).
(وأحرقتها دونما إذن! لماذا لا تجيب هل حصلت على إذن من رؤسائك بحرق السفن).
- (إذن?! الحرب تختلف عن الكلام في المقاهي والشوارع).
وتأمّل طارق بن زياد بعينين مفعمتين بالازدراء والنقمة وجوه المحققين المحيطين به، ثم سألهم بهدوء: (أين كنتم وقت الحرب).
(كنا نؤدي واجبنا).
(نحن أيضًا حملنا السلاح).
فصاح طارق بن زياد بصوت نزق: (حملتم السلاح وجلستم وراء المكاتب تحتسون الشاي والقهوة وتتحدثون عن الوطن والنساء!).
فضحك المحققون، ثم تعالت أصواتهم جوفاء صارمة باردة:
(أنت خائن).
(حرق السفن كان ضربة لقوة الوطن).
(من الذي استفاد من حرق السفن لا أحد سوى العدو).
(تكلم. السكوت لن ينفعك).
(لدينا الوثائق التي تثبت خيانتك وتعاونك مع العدو).
(الشعب يعرف كيف يعاقب الخونة).
وهجم البحر والأعداء، وامتزجا بصرخة رجل: (البحر من ورائكم والعدو أمامكم).
فصاح طارق بن زياد بصوت متهدج: (ولكني أنا الذي هزم الأعداء).
فقيل له إن ما يقوله لا علاقة له بالتهمة الموجهة إليه.
(...)
3 الإعدام
هربت النجوم، فها هم أولاء قد أتوا، وفتحوا باب الزنزانة، ودلفوا إلى داخلها جرادًا جائعًا، ولم يدهشوا عندما ألفوا طارق بن زياد جثة هامدة، إنما سارعوا ينقلونه إلى ساحة المدينة، وهناك تلوا الحكم بإعدامه شنقًا، ثم سألوه عن رغباته الأخيرة، فلم يفه بكلمة، فعَدُّوا صمته دليلاً على عدم وجود ما يرغب فيه، وبعدئذ تدلى مشنوقًا.
من مواطن مثالي إلى السيد مدير الشرطة: خضوعًا لأوامركم، أرجو السماح لي بأن أموت .
.................................................. .................................................. ........................................
الطائر الأخضر
أحرق أبو حيان التوحيدي كل كلماته المكتوبة على الورق، ورمق رمادها بتشف متنهدًا بارتياح. وأحسّ بالجوع، ولم يجد في بيته ما يصلح لأن يأكله، فمسح فمه بظهر يده، وحمد الله. ووقف أمام المرآة، فلم يعجب بما رأى، وتحوّل خروفًا تحوّل هرّا تحوّل ذئبًا تحوّل طائرًا أخضر الريش، وخرج من النافذة المفتوحة، وطار فوق البيوت، وحطّ على غصن شجرة، وراقب بفضول رجلاً يجلس في حديقة قصره محاطًا بالكثير من ندمائه وخدمه وحراسه، وقد تطلع الرجل حوله، فرأى كل شيء جميلاً، فالعشب أخضر، والأشجار خضر مثقلة أغصانها بالثمر الناضج، والسماء زرقاء، والشمس مشرقة، والورد متنوع الأشكال والألوان، وتساءل الرجل بصوت مرتفع منتش: (هل هناك رجل في العالم أسعد مني?).
فتنافس جميع الذين كانوا متحلقين حوله على التأكيد له أنّه أسعد رجل وأقوى رجل وأرحم رجل وأغنى رجل وأسخى رجل. فاغتاظ الطائر الأخضر، وتحوّل غرابًا أسود، ونعب نعيبًا أجش أزعج الرجل، ودفعه إلى أن يأمر حراسه بطرد الغراب من حديقة قصره، فحاولوا وأخفقوا، وحنوا رؤوسهم خجلين بينما ظل الغراب يطير من شجرة إلى شجرة مواظبًا على إطلاق نعيبه. فاضطر الرجل إلى ترك الحديقة غاضبًا، فاغتبط الغراب، وطار مبتعدًا عن الحديقة بأقصى سرعة حتى بلغ أحد الأزقة، وحطّ على سلك كهربائي، ونظر إلى أطفال يلعبون بمرح صاخبين، فزال عنه حنقه، وتحوّل عصفورًا مغردًا، فلم يتنبه الأطفال إليه، واستمروا يلعبون ضاحكين. فطار العصفور، ورأى في أثناء طيرانه معركة ضارية بين جيشين، فتحوّل طائرة حربية ألقت قنابلها فوق الجيشين، وأبادتهما أجمعين. وطارت الطائرة بعيدًا عن أشلاء الجثث الممزقة، وحلقت فوق ساحة سجن يضرب حراسه سجناءهم بالعصي الغليظة، وقذفت بناءه بقنابلها وهدمته. فبادر السجناء توّا إلى بناء سجن جديد ذي أسوار شاهقة. ورأت الطائرة سفينة تمخر البحر، ويظن ركابها أنّ الطوفان يجتاح الأرض بكاملها، فتحوّلت الطائرة حمامة بيضاء طارت وعادت بعد حين إلى السفينة تحمل في منقارها غصنًا أخضر يقطر دمًا أو حبرًا أحمر
.................................................. .................................................. .......................
العشاء الأخير
تسكن عائلة الحواصلي وعائلة الخربوطلي في بيتين متجاورين، وتسود بينهما علاقات ودّية تجعلهما أشبه بأهل بيت واحد. ولكنّهما اختلفتا فجأة بسبب كلب اقتنته عائلة الحواصلي. واحتجّت عائلة الخربوطلي على وجوده قائلة: إنّ الكلب نجس، وأنفاسه تنجّس كلّ شيء في دائرة قطرها أربعون ذراعًا. فكان ردّ عائلة الحواصلي أنّ كلبها مطيع، مؤدّب، مهذّب، لطيف، مسالم، وديع، ذكي، لا ينبح ولا يعضّ، يلاعب الأولاد ويحرس البيت.
وعندما تكاثرت احتجاجات عائلة الخربوطلي، سمعت من عائلة الحواصلي جوابًا باردًا صارمًا: الكلب كلبها والبيت بيتها، وهي حرّة تفعل ما تشاء، فاعتقدت عائلة الخربوطلي أنّها قد أهينت إهانة بالغة، وسارعت إلى شراء كلب شرس، يعضّ وينبح ليلاً ونهارًا، ويهاجم كلّ من يراه، ويحلو له كلّما خرج للتنزه في الحارة أن يرفع إحدى قائمتيه الخلفيتين ويبول على باب البيت الذي تسكنه عائلة الحواصلي التي نبهت عائلة الخربوطلي إلى ما يفعله كلبها كلّ يوم، فلم تتخذ عائلة الخربوطلي أي إجراء، واكتفت بالقول: إنّ الكلب مجرد حيوان ولا يمكن التفاهم معه، لأنّه لا يعرف اللغة العربية. فصبرت عائلة الحواصلي آملة أن تتبدّل الأحوال، ولكن لا شيء تبدّل، وبات بيتها ذا رائحة مقززة لا تطاق.
وفي صباح يوم من الأيام، وجدت عائلة الخربوطلي كلبها مقتولاً، فحزنت عليه حزنًا شديدًا، ولكنّها لم تتهم أحدًا بقتل كلبها، وحرصت على أن تشيع الفقيد تشييعًا يعبّر عمّا تكنّ له من محبة، فوُضع الكلب في نعش غُطّي بحرير وردي اللون، وسار الرجال والأطفال وراء النعش بخطوات بطيئة وثياب سود منكسي الرؤوس بينما كانت النساء يطلقن الولاويل التي تندب من مات في عزّ الشباب وريعان الصبا.
وبعد أسابيع من مصرع الكلب، دعت عائلةُ الخربوطلي عائلةَ الحواصلي إلى عشاء تعود فيه العلاقات الودية إلى سابق عهدها، فرحبت عائلة الحواصلي بتلك الدعوة ولبتها، وجاء إلى العشاء الرجال والنساء والأطفال وبرفقتهم كلبهم، فإذا الأبواب بعد دخولهم تغلق سرًّا وبإحكام شديد، ويهجم رجال عائلة الخربوطلي ونساؤها وأطفالها بالسكاكين على عائلة الحواصلي وكلبها، ويذبحون الجميع قبل إطعامهم، ويدفنونهم في حديقة البيت.
وخلعت عائلة الخربوطلي الثياب السود، وأذاعت في الحارة نبأ مفاده أنّ عائلة الحواصلي اضطرت بغتة إلى السفر. ولكنّ بهجتها لم تستمر، ففي كلّ صباح تجد على باب بيتها ما يدلّ على أنّ كلبًا ما قد بال عليه في الليل، واستخدمت كلّ السبل لضبط الفاعل ومعرفته، فلم توفق. وزعم بعض السكارى والمقامرين ورواد الملاهي الذين يعودون إلى بيوتهم في آخر الليل أنّهم رأوا كلب عائلة الحواصلي يبول على الباب، فسُخر من زعمهم، فالكلب رحل برفقة عائلته المسافرة، وهو كلب مؤدّب ومهذّب، لا يمكن أن يبدر منه ما لا يليق .
.................................................. .................................................. ..........................
خضراء
وقفت المرأة في الحديقة، يطلّ عليها من الأعالي قمر من حجر أصفر، وكانت قدماها اللتان تطآن التراب عاريتين. وتناهى إلى سمعها غناء خشن ناء، فأحنت رأسها بانكسار. وكان الخوف في تلك اللحظة طيرًا أبيض، مذبوح العنق.
وارتجف جسد المرأة، واغرورقت عيناها بالدموع، وابتدأ لحمها يتصلب شيئًا فشيئًا، ونمت جذور في باطن قدميها، وشقّت التراب الجاف، وراحت تتغلغل فيه بينما كانت المرأة لا تزال تبكي منكّسة الرأس. وبغتة ندت عن المرأة صرخة ذعر خافتة، ورفعت ذراعيها إلى أعلى محاولة التخلص من التراب غير أن ذراعيها تيبستا وبقيتا مرفوعتين. وتمايل الجسد يمنة ويسرة، ونضبت دموع العينين رويدًا رويدًا، وتحول اللحم خشبًا اكتسى بقشرة متشققة. وأقبل الشتاء فيما بعد، وغسلت أمطاره المرأة المثبتة في التراب. ثم أتى الربيع، فبدأت تنبت أوراق خضر صغيرة في ذراعي المرأة وشعرها، ثم ما لبث أن انبثق زهر كثير.
وسطعت شمس الصيف على الحديقة، وعندئذ أقبل صاحب الحديقة، وكان رجلاً هرمًا، فألفى أشجار التفاح في حديقته مثقلة الأغصان بالثمار عدا شجرة واحدة لم يتحول زهرها تفاحًا، فاستاء منها، وسارع إلى إحضار فأسه، وراح يهوي بها على جذع الشجرة، وتوالت ضرباته حتى سقطت الشجرة على الأرض ميتة .
.................................................. .................................................. ...........................
رجل غاضب
رجال يرتعدون متلاصقين، ينصتون لدوي انفجارات نائية، وتحدق أعينهم بتحفز وحذر إلى رجل صارم الوجه، يقف قبالتهم مشدود القامة، منفرج القدمين، ويحاول ألاّ يستسلم لغضب جامح. وقد قال بصوت بذل جهده كي يكون هادئًا: (أعرف أن مهمتي ستكون شاقة، لكنها ستصبح سهلة إذا تعاونتم معي. مهمتي الآن إقناعكم بأن الموت غير مخيف ولا يستحق أن تهربوا منه).
بقي الرجال صامتين، فأشار الرجل الغاضب بيده نحو رجل طويل القامة، عريض الكتفين، وقال له آمرًا: (أنت. تكلَّم).
- (ماذا أقول).
- (قل ما تشاء).
- (أنا متزوج. وإذا متّ، فمن سيطعم امرأتي).
وبلل شفتيه بلسانه، ثم أضاف بخجل: (أنا غيور وأحب امرأتي، ولا أرغب في تركها لرجل آخر).
فضحك الرجل الغاضب ضحكة هازئة، وأشار إلى رجل ثانٍ متسائلاً: (وأنت).
- (أنا لي خمسة أولاد، ومن واجبي رعايتهم حتى يكبروا ويصبحوا شبانًا).
- (وأنت).
- (ليس في حياتي سوى البؤس، فلماذا أموت).
- (وأنت).
- (أنا لا أريد أن أموت لأني أحب الحياة حبّا لا يوصف).
فصاح الرجل الغاضب بصوت متهدج: (ولأنك تحب الحياة، يجب أن تموت).
ورمق الرجال بنظرة لوم وتأنيب، ثم تابع الكلام بصوت بارد: (أنتم جبناء، وإذا لم تختاروا الموت فستفقدون ما تحبون).
وعمّ ضجيج حاد انبثقت منه أصوات نزقة:
(لا نريد أن نموت).
(لن نموت كالكلاب).
(الحياة أفضل من القبر).
(مت وحدك).
(جبان حي أفضل من شجاع ميت).
فصرخ الرجل الغاضب متضرّعًا: (أنا أحبكم.. أحب كل الناس. ولأني أحبكم أريد أن تجابهوا العدو وتموتوا).
(هيا اذهب ومت إذا كنت غير خائف من الموت).
دسّ الرجل الغاضب يده في جيبه، وأخرج منه مسدسًا قاتم اللون، فبادر الرجال إلى التراجع بحركة وجلة، فصاح الرجل الغاضب: (لا ترتعبوا. لن أؤذيكم. أنتم ستقتلون في مخادع النوم).
ورفع مسدسه، وألصق فوهته بصدغه، وقال مبتسمًا: (الموت كما قلت لكم تافه سخيف).
وضغط بإصبع هادئة زناد المسدس، فدوى طلق ناري، وتهاوى الرجل الغاضب دامي الرأس بينما كان دوي الانفجارات يقترب رويدًا رويدًا منذرًا محاصرًا .
.................................................. .................................................. .................................
الرعد
لا تذهب الغيوم صباحًا إلى المدرسة، وأنا أمرت الشمس بألاّ تشرق، فلم تطعني، فعزمت على الانتقام منها حين أصبح طويل القامة.
وحملقت إلى معلم الحساب الذي يملك وجهًا مثلث الشكل، فانتبه إلي، وصاح بي غاضبًا: (انهض يا ولد).
فنهضت واقفًا، بينما تابع المعلم مخاطبتي بصرامة واشمئزاز: (كفّ عن مسح أنفك بكمِّ قميصك).
فتجمدت، فأردف المعلم قائلاً: (أجبْ بسرعة.. لدينا عشرة ملايين شخص، شنقنا سبعة ملايين، فكم شخصًا بقي على قيد الحياة).
فأجبت فورًا: (لا أعرف).
فقال المعلم بحنق: (أف! إلى متى ستظل تلميذًا جاهلاً?!).
فقلت له بفتور: (أنا أكره الحساب).
فاحمرَّ وجه المعلم، وقال بلهجة حادة: (ها... إذن أنت تكره الحساب).
وصمت لحظة متجهِّم الوجه، ثم استأنف الكلام متسائلاً بلهجة هازئة: (وماذا تكره أيضًا هيا أخبرنا).
- (أكره الشتاء).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره الشتاء والصيف والخريف والربيع).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره الليل والنهار).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره الشمس والقمر والنجوم).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره الأغاني والقطط والعصافير).
- (وماذا تكره...).
- (أكره الرجال أكره النساء أكره الأولاد).
................
عندئذ صاح المعلم: (اسكت. ستظل تلميذًا جاهلاً).
فاخترعت توّا قنبلة ذرية، وطوَّحت بها بأقصى ما أملك من قوة، فانفجرت، وأشرقت الشمس على أنقاض .
.................................................. .................................................. ....................................
الكذب
أنهى المعلم درسه قائلاً لتلاميذه: (والآن وقد أصبحتم تعلمون أن أعظم ما في الإنسان يكمن في رأسه، فإياكم ونسيان هذه الحقيقة الرائعة).
فتبادل التلاميذ النظرات الدهشة، وراقبوا المعلم بفضول بينما كان يغادر قاعة الدرس مشدود القامة، مرفوع الرأس. وظلوا لائذين بالصمت هنيهات، ثم ما لبثوا أن نهضوا عن مقاعدهم، وتراكضوا منطلقين نحو باحة المدرسة. وهناك لم يلعبوا كعادتهم، إنما تجمعوا وراحوا يتجادلون حول ما قاله المعلم.
واستمرّت أصواتهم تتعالى متحمسة أشدّ الحماسة، حتى قرع الجرس معلنًا بدء درس جديد. وعندئذ عادوا إلى قاعة الدرس، وجلسوا على المقاعد منتظرين قدوم المعلم بلهفة وتحفّز، غير أن المعلم لم يحضر، إنما أقبل مدير المدرسة صارم الوجه، وقور الخطى، وأخبرهم أن معلمهم أصابه صداع مباغت، وطلب إليهم بصوت خشن أن يقضوا وقت الدرس في مطالعة عشر صفحات من كتاب التاريخ، ونصحهم بعدم التكاسل في نشدان العلم.
ولم يكد المدير يغادر قاعة الدرس حتى عاد التلاميذ إلى الجدل ثانية:
(المعلم لم يكذب).
وصاح واحد من التلاميذ بلهجة واثقة: (الرأس موجود فقط من أجل حَمل العينين والأنف والحاجبين والشعر والأذنين).
وطال الجدال واشتدّ، ثم انتهى أخيرًا بالاتفاق على أن التجربة وحدها القادرة على إعطاء البرهان على كذب المعلم أو صدقه.
واختار التلاميذ واحدًا منهم. كان أصغرهم سنًا، ذا عينين زرقاوين وشعر أشقر. وقد سارع إلى الاستلقاء على الأرض ضاحكًا فخورًا، وبادر التلاميذ إلى فصل رأسه عن جسده بمدية مرهفة الحد، ثم حملوا الرأس، وتطلعوا إلى جوفه من ثقب العنق المقطوع، فلم يبصروا سوى عتمة. عندئذ سارعوا إلى إحضار حجر من باحة المدرسة، وكان الحجر صلدًا وصلبًا، ووضعوا الرأس على أرضية قاعة الدرس، وانهالوا عليه ضربًا بالحجر حتى تكسّر. وعندما أبصروا ما يحتوي ضحكوا بهزء، ورمقوا بقرف النخاع الشبيه بنخاع الخروف الذي يباع نيئًا في دكاكين القصابين، وهزوا رؤوسهم بأسف، وقالوا بثقة: (كذب المعلم).
بعدئذ أحضروا صمغًا، وألصقوا قطع الرأس بعضها ببعض، ثم ألصقوا الرأس بالجسد الملقي على الأرض، وتبادلوا نظرات تنمّ عن انتصار أكيد، وردّدوا ثانية: (كذب المعلم).
ولكز أحدهم الصغير ذا العينين الزرقاوين والشعر الأشقر، فوثب على الفور واقفًا، وصاح متسائلاً بفضول: (هل كذب المعلم
.................................................. .................................................. ....................) .
رجال
أقسم عبد الحليم المرّ أنه سيطلق زوجته نبيلة إذا ما تجرأت على الخروج وحدها من البيت من غير إذنه، فحرصت نبيلة بعد قسمه على الخروج من البيت كل يوم. فغضب، وأقسم أنه سيطلّقها إذا ما تجرأت على المشي في الشوارع بغير ملاءة، فهجرت نبيلة ملاءتها السوداء، واستخدمتها ممسحة للبلاط. فغضب، وأقسم أنه سيطلّقها إذا ما علم أنها تكلّم رجلاً غيره. وعاد ظهر أحد الأيام
مو كتار كتير :wink:
بتمنى ينالو رضاكم :cry:
:hart: :hart:
:hart: :hart:
ملخص ما جرى لمحمد المحمودي
كان محمد المحمودي رجلاً هرمًا، يعيش وحيدًا في بيت صغير، فلا زوجة له ولا ولد، ولم يكن لديه ما يفعله إثر إحالته إلى التقاعد. فما إن يقبل الصباح حتى يغادر البيت، ويمشي في الشوارع وئيد الخطى، ويتوقف لحظات ليشتري جريدته المفضلة، ثم يستأنف مشيه المتباطئ متجهًا إلى مقهى لا يفصله عن الشارع الصاخب إلاّ حائط من زجاج. وحين يبلغه، يدلف إلى داخله، ويقصد طاولة معينة تتيح له التفرج على الشارع، ويجلس منتظرًا دونما كلام النرجيلة وفنجان قهوة دون سكر. ثم يخرج من جيبه نظارة يضعها على عينيه، ويستغرق في قراءة الجريدة، مدخنًا النرجيلة، متطلعًا بين الحين والحين إلى الشارع بعينين ذاهلتين.
وكلما جاع، ينهض بتثاقل وأسف، ويغادر المقهى إلى مطعم قريب، فيأكل بملل، ثم يرجع سريعًا إلى المقهى ليتابع قراءة الجريدة وتدخين النرجيلة واحتساء الشاي والقهوة والتفرج على الشارع، حتى يعمّ ظلام الليل، فيترك وقتئذ المقهى، ويذهب إلى بيته، ويخلع ثيابه، ويستلقي على سريره العريض، ويستسلم توّا لنوم عميق.
وأحيانًا كان يشاهد أمه في أثناء نومه، وكانت تؤنبه بقسوة لأنه لم يتزوج، وتعول مطالبة بطفل يقول لها: (يا جدتي اشتري لي بالونًا).
فيستيقظ من نومه مكتئبًا وخجلاً من رغبته في النحيب طويلاً.
وفي أحد الأيام، كان جالسًا في المقهى كعادته، يقرأ الجريدة ويدخن النرجيلة، فإذا بأصابعه تفلت فجأة الجريدة، وتندّ عنه شهقة، ويتهاوى أرضًا دون حراك. فاستدعى على عجل الطبيب الذي قرر بثقة أنه قد مات. وعندئذ جاءت المعاول والحرفوش تنفيذًا لوصيته، وحفرت حفرة تحت الطاولة التي اعتاد الجلوس إليها. ثم حمل برفق وسجي في قاع الحفرة، وأهيل فوقه تراب كثير، فلم يحنق أو يتذمر إنما ابتسم فرحًا بخلاصه من المشي في الشوارع والذهاب إلى البيت والمطعم. وأنصت بشغف لأحاديث رواد المقهى وقرقرة النراجيل وصيحات الجرسون، ولكنه كان يشعر ليلاً بالضجر والوحشة والخوف إذ يخوى المقهى ويقفل أبوابه.
وأتى يوم اقتحم فيه المقهى عدد من رجال الشرطة، وأخرجوا محمد المحمودي من حفرته، واقتادوه إلى أحد المخافر. وهناك قال له رئيس المخفر بصوت صارم: (نمى إلينا أنك تنتقد أعمال الحكومة وتهزأ بها وتسبّها، وتزعم أن كل قوانينها لا تخدم إلاّ أصحاب البنايات والسيارات والبطون الكبيرة).
فهتف محمد المحمودي مرتاعًا مستنكرًا: (أنا أسبّ الحكومة?! أعوذ بالله! أنا لست ممن يشربون من النبع ثم يبصقون فيه. اسأل عني. كنت موظفًا مثاليا، وكنت أطيع الأوامر والقوانين وأنفّذها بدقة. اسأل عني. لم أسكر يومًا، ولم أتحرش بامرأة، ولم أوذ أحدًا، وكنت...).
فقاطعه رئيس المخفر قائلاً: (ولكن التقارير الواردة إلينا بشأنك لا تكذب، وأصحابها موضع ثقة كاملة).
ارتعد محمد المحمودي، وقال بصوت متهدج: (أقسم بالله أني عشت حياتي كلها دون أن أتكلم يومًا في السياسة، ولم أسبّ طوال عمري لا حكومة ولا حكامًا).
قال رئيس المخفر: (ها ها.. من فمك أدينك. أنت قلت إنك لم تسبّ الحكومة، ولم تقل إنك مدحتها، أفلا تستحق في رأيك المديح).
فحاول محمد المحمودي التكلم، ولكن رئيس المخفر تابع قائلاً: (وحتى إذا كان ما تقوله صادقًا، فهو أمر غريب جدّا لأن الناس جميعًا تشوهوا وصاروا حاقدين موتورين، يسبّون الحكومة والحكام، متناسين وجوب إطاعة أولي الأمر، وأن للسياسة أهلها).
قال محمد المحمودي بصوت واهن: (هذا صحيح. الجميع يتحدثون في السياسة ولا يتركون مسؤولاً في الدولة إلاّ ويلصقون به أشنع الصفات، أما أنا...).
قال رئيس المخفر مقاطعًا بصوت وديع متسائل: (وأنت في المقهى تسمع طبعًا ما يقولون، وتعرف أسماء الذين يتكلمون).
هزّ محمد المحمودي رأسه بالإيجاب، فابتسم رئيس المخفر، وقال.. (أنت كما يبدو رجل طيب ومواطن صالح. وأنا أرغب فعلاً في مساعدتك كي تنجو من التهمة الموجَّهة إليك، ولكن عليك أيضًا أن تساعدني).
فضحك رئيس المخفر ضحكة مرحة ثم قال: (الأمر بسيط جدّا ومسلٍّ. اسمع...).
وأنصت محمد المحمودي لما قاله رئيس المخفر، ثم عاد بعد قليل إلى حفرته في المقهى وهو شديد الابتهاج، فقد بات لديه ما يفعله، ولم يعد يشعر بالوحشة والضجر والخوف حين يقفل المقهى أبوابه في منتصف الليل، إذ كان يسارع آنذاك إلى كتابة ما سمعه من رواد المقهى محاذرًا النسيان
.................................................. .................................................. ...............
الجريمة
كان سليمان الحلبي يمشي بخطى متئدة مبتهجًا بالهواء الذي يهب فيما حوله، مسقطًا الأوراق الصفر من الأشجار المنتصبة على جانبي الشارع، وكانت يداه قابعتين في جيبي بنطاله كطفلين نائمين.
وحين توقف لحظة عن السير ريثما يشعل سيجارة، دنا منه رجلان، وجهاهما متجهمان، وطلبا منه هويته بلهجة صارمة. وارتبك إذ عرف مهنتهما. وقد كانا طويلي القامة، قسمات وجهيهما متشابهة. وأعاد الرجلان إلى سليمان أوراق هويته، ثم طلبا إليه مرافقتهما، فأطاعهما دون تفكير، وسار وهو يقول لنفسه: لا بد من أن ثمة سوء تفاهم.
واقتاده الرجلان إلى مخفر غير بعيد، وأدخلاه إلى غرفة لها ثلاث نوافذ مفتوحة للشمس والهواء والسماء. وكان يجلس في صدر الغرفة رجل ذو شارب أسود، أمامه مكتب حديدي، تكومت على سطحه أكداس من الورق الأبيض.
وقال سليمان لنفسه: هذا رجل أسود.
وقال الرجل الأسود متسائلاً: (هل أنت سليمان الحلبي).
فأحنى سليمان رأسه بالإيجاب دون أن يتفوه بكلمة. وتناول الرجل الأسود ورقة بيضاء موضوعة على المكتب، وطفق يقرأ برتابة وكسل: (في ليلة السادس من حزيران، شاهد سليمان الحلبي حلمًا قتل فيه الجنرال كليبر).
وتوقّف الرجل الأسود عن القراءة، وتطلع إلى سليمان الحلبي بعينين صارمتين، بينما تحوَّل الرجلان إلى تمثالين من حجر، مسمَّرين قرب إحدى النوافذ. وكانت المدينة خلف النافذة. وتساءل الرجل الأسود مخاطبًا سليمان:( هل هذا صحيح?).
فغمغم سليمان الحلبي مستنكرًا: (لا، لا. أنا لا أعرف الجنرال كليبر).
فالتفت الرجل الأسود نحو الرجلين، وقال لهما: (أحضرا الشهود).
ولم يتحركا، غير أن باب الغرفة فُتحَ بعد لحظات، ودلف إلى الداخل ثلاثة أشخاص، ثيابهم معفرة بالتراب، ووجوههم صفر كأن أصحابها عاشوا مئات السنين في قبور تمقت الشمس. وعرفهم سليمان على الفور، وكانوا رجلاً هرمًا وامرأة كهلة وفتاة في مقتبل العمر.
وقال الرجل الأسود: (ليتقدم الشاهد الأول).
وابتعد الهرم منفصلاً عن المرأة الكهلة والفتاة، واقترب من مكتب الرجل الأسود، ووقف أمامه محني الظهر، وقال بصوت كأنه منبعث من أسطوانة عتيقة تدور بتثاقل تحت ذراع الحاكي: (في ليلة السادس من حزيران، شاهدت سليمان الحلبي يقتل الجنرال كليبر).
فقاطعه سليمان هاتفًا: (أبي!).
فلم يأبه الهرم له، وتابع كلامه قائلاً: (أبصرته يطلق من مسدس ضخم سبع رصاصات اخترقت جسد الجنرال، وانبثق الدم من سبعة ثقوب).
وكان الحزن في تلك اللحظة فارسًا يمتطي صهوة جواد غير مروض، وقد وطِئت سنابكه لحم سليمان، بينما غرس الفارس سيفه في القلب تمامًا. ولكن سليمان لم يمت، إنما سمع الرجل الأسود يقول: (الشاهد الثاني).
وتقدمت المرأة الكهلة، ووقفت بجانب الرجل الهرم، وقالت: (رأيته يقتل الجنرال، وكان يحمل فأسًا رفعها إلى أعلى، وأهوى بها بكل قوته، فشطر الرأس إلى قطعتين، وسقطت الجثة قربي، واستطعت رؤية النخاع ممزقًا خارج الجمجمة المهشمة).
وأشارت نحو سليمان الحلبي بأصبع لا ترتجف، وقالت: (هذا هو القاتل!).
فتمتم سليمان الحلبي بحسرة: (أمي، أمي!).
فرمقته الكهلة بقسوة، وقالت له: (أمك امرأة واحدة فقط).
وتذكر سليمان يوم كان صغير السن، يلعب في الزقاق ملطخًا ثيابه بالطين، فوقفت أمه على عتبة باب البيت، وكشفت عن صدرها الشديد البياض، وقالت له منادية بحنو: (تعال تعال).
وقال الرجل الأسود: (الشاهد الثالث).
وتطلع سليمان الحلبي إلى الفتاة بنظرات أسيانة. ولم تتحرك الفتاة، فدمدم الرجل الأسود بغضب: (الشاهد الثالث.. ليتقدم).
وظلت الفتاة متجمدة في مكانها، غير أنها بدأت الكلام قائلة: (رأيته راكبًا سيارة، دعست الجنرال، ومرت فوقه عدة مرات حتى تحول لحمًا لا شكل له).
وصاح سليمان الحلبي: (ماذا حدث يا أختي! ألم أتركك في البيت وقد طلبت إلى أن أشتري لك مشطًا). وأخرج يده من جيبه حاملة مشطًا أسود اللون. وقال الرجل الأسود: (لينصرف الشهود).
وأشار بيده بحركة ضجرة إلى الشهود الثلاثة، فتجمعوا في الحال متلاصقين في كتلة واحدة، واتجهوا نحو الباب، وما لبثوا أن غادروا الغرفة.
وضع الرجل الأسود سيجارة بين شفتيه، وحين رفع يده نحو السيجارة حاملة عود الثقاب المشتعل، لاحظ سليمان أن يد الرجل الأسود غريبة، فجلدها كثير التجاعيد، فكأنه جلد سرطان ميت، ظل زمنًا مديدًا تحت شمس قاسية.
ونفث الرجل الأسود دخان سيجارته، وتابعه بنظراته، بينما كان يتلوى صاعدًا في جو الغرفة ثم يتلاشى بتكاسل. وقال لسليمان: (هل سمعت ما قيل الأدلة على جريمتك ثابتة).
- (لم أعترف بشيء).
- (اعترافك ليس مهمّا. لقد اعترف غيرك بذنبك).
- (أنا بريء).
فتجهم وجه الرجل الأسود، وقال بصوت بارد قاس: (لماذا ولدت ما دمت بريئًا جئت إلى هذا العالم كي تهلك، وستهلك دون احتجاج. أنت مجرم، وكنا نراقبك منذ أمد طويل، فالناس المشبوهون نعرفهم بسرعة ولا يستطيعون خداعنا).
وتناول الرجل الأسود أوراقًا بيضًا من على سطح المكتب، وأخذ يقرأ ما كتب فيها: (في الثالث من نيسان في الساعة الحادية عشرة وثلاث دقائق، تطلع سليمان الحلبي إلى القمر، وقال لنفسه: القمر سعيد لأنه لا يعيش في مدينة حاكمها الجنرال كليبر).
وتألق القمر في مخيلة سليمان الحلبي، وكان قمرًا تهرول نحوه سحب قرمزية.
- (في يوم الحادي عشر من مارس في الساعة الثامنة صباحًا، فتح سليمان الحلبي أبواب أقفاصه وأطلق سراح عصافيره).
وتذكر سليمان رغبة في البكاء اجتاحته بينما كانت العصافير في بدء انطلاقها عبر الفضاء الأزرق ترفرف بأجنحتها بارتباك واضطراب.
- (وفي الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الثاني من حزيران خطر في ذهن سليمان الحلبي أن العالم سيكون سعيدًا لو هلك بعض الأشخاص).
ورمى الرجل الأسود الأوراق على المكتب بحركة ساخطة، وقال: (ألم أقل لك إن أمثالك لا يستطيعون خداعنا?).
وظل سليمان صامتًا وقد استغرب أن ينمو في أعماقه شعور حقيقي بالذنب، ولكنه كان في الوقت نفسه شديد الاقتناع ببراءته.
وابتسم الرجل الأسود، ولعق بلسانه شفته السفلى، وقال: (ستعدم في الساعة السادسة).
فألقى سليمان نظرة سريعة على ساعته، فألفاها توشك أن تصبح السادسة، فانتابه الهلع، ورفض تصديق ما حدث حوله، وعَدَّه مجرد حلم سيصحو منه بعد لحظات على هزة من يد أمه وسيسمع صوتها.
وقال الرجل الأسود بتشف: (ستعدم).
- (ألن أحاكم).
فضحك الرجل الأسود، وقال: (انتهت المحاكمة. أنا القاضي).
وتناهى إلى سمع سليمان صفير قطار. لا بد من أن القطار يهدر الآن مارّا تحت الجسر، قاذفًا دخانه في سحابة صغيرة لن تعيش طويلاً، وستضمحل إثر ابتعاد القطار.
- (هل سأموت شنقًا).
- (لا).
- (هل ستطلق النار علي).
- (لا).
- (هل سأحرق).
- (لا).
- (هل سأدفن حيا في التراب).
- (لا).
وأشار إلى الرجلين قائلاً: (هيا.. نفذا الحكم بالإعدام).
الساعة الآن هي السادسة تمامًا، والمدينة مستسلمة بفتور لضياء الشمس الآفلة. وكانت كامرأة ترغب في النوم قليلاً بعد أن أنهكها العمل من أجل أولادها.
وعُري سليمان الحلبي من ملابسه كلها، ولم يخجل من وقوفه عاريا عريا كاملاً أمام أعين الرجال الثلاثة. وكانت السيارات تعبر الشوارع وهي تزعق بأبواقها عند المنعطفات. وأخرج الرجلان من خزانة خشبية مدية كبيرة، ثم ألقيا سليمان على الأرض، ولم يحاول المقاومة.
وكان بجانب الرجل الأسود منضدة قصيرة القوائم، ملتصقة بالجدار، يقبع فوقها مذياع صغير، مدّ إليه الرجل الأسود يده. وبعد قليل انسابت منه أغنية لامرأة، صوتها مفعم بالعذوبة والشجن، ويتلاقى فيه الريح والمطر والحنان العارم.
وأنصت الرجلان قليلاً للأغنية، ثم تحولا جلادين، وبترا أصابع اليد اليمنى بالمدية، فصرخ سليمان متألمًا، وتدفق الدم. خمس أصابع كانت ملكًا لسليمان الحلبي، وقد صافحت الأصدقاء، ولمست باشتهاء لحم النساء، وكان باستطاعتها في لحظة غضب خنق مخلوق ما وقال الرجل الجلاد لزميله: (يا لها من أغنية! ماذا تغديت?).
فأجاب الرجل الآخر: (حساء وقليلاً من الخبز. أسناني تؤلمني).
- (مسكين).
وأشعل الرجل الأسود سيجارة أخري، وتركها معلقة بين شفتيه لتحترق على مهل.
وقطع ساعد سليمان، فتأوه وأطلق صرخة حيوان، صرخة طويلة مبحوحة. ولقد كان سليمان يحلم بأن تنام الفتاة التي سيحبها على ساعده لا على وسادة محشوة بالصوف أو القطن.
وقال أحد الرجلين بينما كانت أصابعه تلتف حول مقبض المدية كأنها تتوق إلى أن تصير قطعة منها: (ليلة أمس شاهدت فيلمًا وكان سخيفًا).
- (كل الأفلام سخيفة في هذا الأسبوع).
وكانت أغنية المذياع تصعد وتبوح بالعذاب المرّ الذي يبقي إثر اندثار الحب.
واضمحل مرفق سليمان، وكان مرفقًا يتكئ على حواجز الأنهر ومناضد المقاهي، ويلكز الأصدقاء.
وجثا أحد الرجلين على ركبتيه، وبتر الذراع اليمنى كلها بحركة سريعة، بينما كان الرجل الثاني يمسك بسليمان لمنعه من الحركة. ولم يحاول سليمان الحلبي المقاومة، إنما كان ينتفض كلما مست المدية لحمه، ويتلوى على الأرض الناعمة الملساء بينما الدم يتابع تساقطه ذا الإيقاع الكئيب.
وفتحت دور السينما أبوابها، وغادرها روادها بخطى متثاقلة. وبترت ذراع سليمان اليسرى. ولو كان سليمان الآن متسولاً يمشي في الشوارع لاستدر الشفقة ولانهمرت النقود عليه، فهو بلا ذراعين، ولن يستطيع معانقة امرأة. وإذا جاع فمن سيضع اللقمة في فمه?!
وكان الرجل الأسود يبتسم منتشيا بالأغنية المنبعثة من المذياع. وتابع الرجلان عملهما، وابتدأ جسد سليمان الحلبي ينقرض متضائلاً رويدًا رويدًا، وكانت الأعضاء المقطوعة تلقى جانبًا. وكان الناس في الشوارع يسيرون على الأرصفة، وبعضهم يقف قليلاً أمام واجهات المكتبات متطلعًا إلى عناوين الكتب والجرائد. وكانت أصوات بائعي أوراق اليانصيب تتصاعد مطاردة المارة بإلحاح: (ستربح مئة ألف ليرة). وكانت الباصات تواظب على المسير متوقفة بين الحين والحين في أمكنة معينة.
وقال الرجل الأسود مخاطبًا الرجلين: (لننته بسرعة. لدي موعد).
وتخيل الرجل الأسود بيته. لا بد من أن ضيوفه ينتظرون مقدمه، ولا بد من أن زوجته ترحب بهم، وتقدم لهم فناجين القهوة. وكانت زوجته جميلة، ويشعر الآن بأنه يحبها بضراوة.
وكان الرجلان في تلك اللحظة متغضني الجبين، ويداهما ملوثتين بالدم.
وقال الرجل الممسك بالمدية لزميله: (إلى أين تنوي الذهاب بعد العمل).
- (إلى المقهى).
- (أنا سأذهب إلى البيت. سأقرأ قليلاً من الشعر، ثم أنام).
ووضع حد المدية على عنق سليمان الحلبي، وأغمض سليمان عينيه بينما كان يحس بنصل المدية يلامس حنجرته موشكًا على ذبحها، وشاهد نجومًا تبزغ كأنها عصافير ميتة. وجمع الرجل الجلاد قوته، وضغط على المدية، فاخترقت اللحم والعظم اللدن، وفصلت الرأس الذي تدحرج مبتعدًا عن قطعة اللحم الباقية، وكانت قلبًا وكتفين. وظلت عينا سليمان الحلبي مفتوحتين، تطل منهما نظرة بلهاء. ونهض الرجل الأسود، ووضع في جيبه علبة السجائر، ثم سار متجهًا نحو باب الغرفة، وعندما أمسك مقبض الباب التفت نحو الرجلين، وقال لهما: (نظفا الغرفة قبل ذهابكما). وعندئذٍ تذمر الرجلان بأصوات مرتفعة .
.................................................. .................................................. ............................
في ليلة من الليالي
يجيء الليل كفنًا أسود، فيبتعد أبو حسن بخطى هارب عن حارته الخرساء، وأزقتها الملتوية المظلمة، وناسها العجاف، وبيوتها الرثة المتلاصقة، ومقهاها الذي يشبه تابوتًا مهترئ الخشب. وحين يبلغ الشوارع العريضة، تبهره ضوضاؤها وسياراتها المسرعة وناسها المتأنقون وأنوارها الساطعة المتعددة الألوان، فيمشي بخطى ذاهلة متباطئة، مشدود القامة، مرفوع الرأس، ذا وجه متجعد، شديد الزهو بشاربيه الكثّين اللذين كانا يغريان عيونًا كثيرة بالتحديق إليهما بفضول ودهشة. إيه! أنت أبو حسن. ويحقّ لك أن تنال الإعجاب والاحترام. أنت خير الرجال. خنجرك البرق الذي يعقبه مطر من دم، وقلبك فضة، ويدك من صخر الجبال. أنت رجل لا كبقية الرجال. تفرح فتصير بستانًا أخضر. تغضب فيحمل الموت نعشًا فارغًا وينتظر أشلاء فريسة. تحب فتخلص. لا تغش ولا تكذب. لا تتملق ولا تنافق. الأعور أعور، والأعمى أعمى. تضرب فتدمي ولا تقتل. تعادي فيختفي من تعاديه. تصادق فتهب حتى روحك لمن صادقته. عمرك أكثر من أربعين سنة، ولكنك حين تلتقي بجسد امرأة، تبقي في دمها حتى القبر. تشرب العرق كأنه ماء ولا تسكر. تخوض مشاجرات تسيل فيها الدماء كأنك تدخن سيجارة على ضفة نهر. يعلو صوتك الخشن بموّال فتبكي الحجارة. أنت الرجل الذي يكنّ له الرجال والنساء والأطفال في حارته المحبة والإجلال. إذا تشاجرت امرأة مع زوجها، فلا تقصد بيت أهلها شاكية، إنما تلجأ إليك واثقة بأن ما لحق بها من ظلم سيزول لا محالة. يحبك الأطفال ويصرخون مستنجدين بك لحظة تضربهم أمهاتهم. وقطط الحارة ساعة تجوع تأتي إليك وهي تموء. وإذا تخاصم صديقان فلا أحد غيرك يستطيع بكلمة أن يوقد من جديد ما انطفأ في قلبيهما من ودّ. والشاب اليتيم إذا رغب في الزواج من فتاة، تصبح أنت عائلته. كنت دائمًا تنصر الضعيف المظلوم، وتجابه القوي الظالم غير هياب. ولم تعرف يومًا أحنيت فيه رأسك لهوان أو ذلّ.
ويبتسم أبو حسن ابتسامة مغتبطة متفاخرة، بينما هو مستمرّ في سيره المتمهِّل على أرصفة مكتظة برجال لا شوارب كثة لهم، وبنساء يمشين بخطوات واثقة شامخات الرؤوس، معطرات، أنيقات، جميلات كدمى غالية الثمن. انظر يا أبا حسن انظر. رجال كالنساء ونساء كالرجال. لا تعجب ولا تستنكر. هذه هي سنّة الحياة، فلا شيء يبقى ويدوم، وكل زمان له رجاله ونساؤه.
ويلمح أبو حسن فتاتين في مقتبل العمر، جميلتين أكثر من زهرة ياسمين في الصباح. وكانتا ترنوان إلى شاربيه الكثّين بنظرات مستغربة، فيتزايد اعتداده بشاربيه، وتلمسهما أصابع يده اليمنى بحركة مزهوة.
وتهامست الفتاتان، ثم ضحكتا ضحكًا ساخرًا، ففوجىء أبو حسن، وارتبك، وحثَّ خطاه مبتعدًا عن الفتاتين، وسلك طريقًا فرعية تضيئها مصابيح كهربائية، شاحبة النور، متدلِّية من أعمدة خشبية تتناثر متباعدة. أنت! أنت أبو حسن، ويسخر منك فتستحي كبنت ما باس فمها إلاّ أمها! آخ يا زمن.. أنت كلب يعضّ صاحبه.
وتناهى إلى سمع أبي حسن أغنية آتية من إحدى البنايات من نافذة مفتوحة مضاءة، فتوقف عن السير، واستند إلى جذع شجرة. وكان المغني أجشَّ الصوت، وأغنيته مبهمة الكلمات، غير أن صوته كان كصرخة مخنوقة لطير فقد جناحيه بغتة وهوى في فراغ لا أرض له.
وتخيل أبو حسن الفتاتين وقد اختطفتا وترقصان مرعوبتين عاريتين في غرفة يحتشد فيها عدد من رجال ذوي شوارب كثة وأعين مفترسة. ثم تذكَّر امرأة جميلة من حارته، وكانت تقول له: (تزوَّجني وسأكون خادمتك). ولكن ولولة انبثقت ذات صباح من بيتها، جلَّلت الحارة وسكانها بلون أسود. ولم يمش أبو حسن وراء نعشها، إنما اختبأ في غرفته، ودفن وجهه في الوسادة. ولم يستطع أن يبكي، ولكن صوته كان يتصاعد بين الحين والحين أجشَّ مبحوحًا أكثر حزنًا من بكاء الأم التي فقدت ابنتها.
وتعالت صرخة استغاثة حادّة من امرأة، وأبصر أبو حسن رجلاً يركض باتجاهه، تتبعه صيحات تقول إنه لص وتحثّ على إمساكه .
ولما اقترب الرجل الهارب من أبي حسن، حاول إمساكه، ولكنه راغ ببراعة، وأفلت منه، واستأنف ركضه السريع دون أن يبالي باسترداد ما سقط من يده.
وانحنى أبو حسن على الأرض، وتناول ما سقط من الهارب، فإذا هو حقيبة يد نسائية، فتأملها وهو يقول لنفسه بسخرية: ماذا سيحكي أهل حارتي إن أبصروا أبا حسن يحمل ما تحمله النساء!
وأقبل الذين كانوا يطاردون الرجل الهارب، وبرفقتهم شرطي بدين، فقال لهم أبو حسن بلهجة اعتذار وأسف: (اللعين كان كالزئبق وهرب مني). فصاحت امرأة وهي تشير إلى أبي حسن: (اقبضوا عليه. هو اختطف حقيبتي، وها هي ذي بيده).
قال أبو حسن: (عيب يا امرأة! ما هذا الحكي!).
فانتزعت المرأة الحقيبة من يده، وصاحت: (انتبهوا سيهرب).
فسارع الشرطي البدين وعدد من الرجال إلى إمساكه، وقال له الشرطي: (هيا، امش).
قال أبو حسن متسائلاً بدهشة: (إلى أين).
قال الشرطي: (إلى أين! إلى المخفر طبعًا. لعلك ظننت أننا سنأخذك إلى كباريه!).
فحاول أبو حسن الكلام والاحتجاج، ولكن شتائم كثيرة انهالت عليه، فسكت، وسار برفقة الشرطي يحيط به رجال ونساء وأطفال، يتكلمون بأصوات عالية، ويشيرون إليه قائلين إنه لص.
ولم يستمر السير طويلاً إذ كان مخفر الشرطة قريبًا. واقتيد أبو حسن توّا إلى غرفة رئيس المخفر الذي كان شابّا ذا وجه أبيض وسيم حليق وعينين صارمتين واجمتين، ويجلس وراء طاولة، على سطحها جرائد وأوراق وتلفون.
وتقدم الشرطي من رئيس المخفر، وشدَّ قامته، ورفع يده محييا، ثم تكلم ملخصًا ما جرى. فقال أبو حسن مقاطعًا: (كل ما يقوله غير صحيح).
فقال رئيس المخفر لأبي حسن: (اخرس. لا تتكلم. تتكلم فقط عندما آمرك بالكلام).
وصاحت المرأة صاحبة الحقيبة:(هو اختطف حقيبتي من يدي وهرب).
وتلتها أصوات عديدة تؤيدها، ويضيف أصحابها قائلين:(كلنا رأيناه ولحقنا به حتى قبضنا عليه).
وقال الشرطي:(ضبطته يا سيدي والحقيبة بيده).
ظل رئيس المخفر صامتًا، ووجّه إلى أبي حسن نظرة طويلة متفحِّصة، ثم قال له بازدراء:(تفضل.. جاء الآن دورك. هيا أسمعنا فصاحتك. ما لك! هل ابتلعت لسانك يا لص).
قال أبو حسن: (أنا لست لصّا).
قال رئيس المخفر بحنق: (إذن من أنت لعلك شيخ جامع ولا ندري).
قال أبو حسن: (أنا رجل.. والرجل لا يسرق امرأة).
فنهض رئيس المخفر عن كرسيه، وترك طاولته، ودنا من أبي حسن، وقال له هازئًا: (ما شاء الله! أنت لص، ولص وقح أيضًا).
قال أبو حسن: (أنا لم أختطف الحقيبة. رأيتها تقع من سارقها فالتقطتها).
قال رئيس المخفر: (اسمع. الإنكار هنا لن ينفعك. من الأفضل لك ولنا أن تعترف بما فعلت، وإلاّ جعلتك تتمني لو أن أمك لم تلدك).
فأمسك أبو حسن بأصابع يده اليسرى أحد شاربيه، وقال: (شاربي شارب امرأة إذا كنت أكذب).
قال رئيس المخفر: (تفو عليك وعلى شواربك. لا وقت لدي للقيل والقال. تكلم وإلاّ كسرت رأسك).
قال أبو حسن محمر الوجه: (لم يخلق بعد الشخص الذي يكسر رأس أبي حسن. اسأل عني أهل حارتي فتعرف من هو أبو حسن).
وقال رئيس المخفر وقد ازداد غيظًا: (يا كلب.. إذا لم تعترف سأضربك بالحذاء، وأضرب أهل حارتك).
قال أبو حسن: (لا داعي إلى التمادي في الكلام. كنْ رجلاً، والرجل يعرف قدْر الرجال).
فهز رئيس المخفر رأسه، وقال بصوت حاول أن يكون هادئًا: (أنت بالتأكيد بحاجة إلى تربية وتأديب، وقد وقعت في يد من يتقن التعامل مع أمثالك).
والتفت إلى الشرطي البدين، وقال له آمرًا بخشونة (اذهب كالبرق وأحضر مقصّا).
قال الشرطي: (أمرك سيدي).
ثم غادر الغرفة بخطى سريعة. واتجه رئيس المخفر نحو طاولته، وضغط بإصبعه على زر جرس، ثم وقف متصلب القامة، مقطب الجبين حتى دخل الغرفة شرطي أصفر الوجه وقال بصوت جامد: (أمر سيدي).
فقال رئيس المخفر وهو يشير إلى المرأة صاحبة الحقيبة والشهود: (خذهم وسجِّل أقوالهم).
فنفذ أمره توّا، وخوت الغرفة إلاّ من رئيس المخفر وأبي حسن، وعندئذ قال أبو حسن بصوت متهدج: (انظر إلي. هل يمكن أن أكون لصّا يسرق امرأة!).
لم يجب رئيس المخفر إنما ازداد وجهه صرامة، وأمسك بسماعة الهاتف، ورفعها، وأدناها من فمه، وتكلم بصوت خفيض، ثم أعادها إلى مكانها. واسترخى على كرسيه صامتًا يحدق بهزء ووعيد إلى أبي حسن الذي كان يقف منفرج القدمين مضطربًا حائرًا.
وفتح باب الغرفة، ودلف إلى داخلها الشرطي البدين حاملاً مقصّا كبيرًا، ثم تبعه عدد من رجال الشرطة الذين نظروا توّا إلى أبي حسن نظرات كره واحتقار. فنهض رئيس المخفر واقفًا مبتهج الوجه، وتناول المقص من الشرطي البدين، ثم قال لرجال الشرطة وهو يشير بالمقص إلى أبي حسن: (أمسكوا بهذا الكلب).
فصاح أبو حسن: (أنا كلب يا نصف رجل خسئت).
وهجم على رئيس المخفر وهو يزعق بغضب، غير أن رجال الشرطة أمسكوا به، فقاومهم محاولاً الإفلات من أيديهم، فانهالت عليه صفعاتهم وركلاتهم. كانوا يضربونه بشراسة وكراهية كأنه ذبح أمهاتهم. وظلوا يضربونه حتى تلاشت مقاومته واستحال بين أيديهم جسمًا شبيهًا بقطعة قماش مهترئة. وعندئذ قال رئيس المخفر لرجاله: (أمسكوا به جيدًا).
وأضاف مخاطبًا الشرطي البدين: (تحرك.. أمسك برأسه، وإن تحرك أقلّ حركة وضعت رجليك في الفلقة).
فسارع الشرطي البدين إلى الإمساك بشعر أبي حسن، وشده إلى الوراء شدّا عنيفًا، فبات وجه أبي حسن فريسة عزلاء.
ابتسم رئيس المخفر، واقترب من أبي حسن ويده تحمل المقص، وقال له: (والآن ستدفع ثمن سبّك، وسترى ماذا يفعل نصف رجل).
ودنا المقص من شاربي أبي حسن، فذعر، وحاول التملص من أيدي رجال الشرطة، ولكن أيديهم كانت تقيده وتشله عن أي حركة، فصاح بضراعة: (والله أنا بريء).
فازداد المقص دنُوّا من شاربي أبي حسن، فصاح وقد طغى عليه رعب شديد: (دخيلكم).
قال رئيس المخفر: (قل إنك سرقت فلا يمسّك أذى).
وران الصمت لحظة، ثم قال أبو حسن بصوت مرتعش: (أنا سرقت الحقيبة من المرأة).
فضحك رئيس المخفر، وقال باحتقار: (إلى متى ستظل البلد تحوي أمثالك!).
وانقضّ المقص على شاربي أبي حسن، وقضى عليهما بحركات متأنية متشفية بينما كان أبو حسن يصرخ صراخًا مديدًا أجش مبحوحًا.
وخطا رئيس المخفر نحو طاولته، ورمى المقص على سطحها، وقال لرجاله: (ماذا تفعلون أيطربكم صوته أسكتوه).
فبادروا إلى ضرب أبي حسن ثانية ضربًا قاسيا حتى أرغموه على السقوط أرضًا. ولكنه استمر يصرخ ويشتم، فنزعوا حذاءه، ورفعوا قدميه إلى أعلى، وهوت عصا رفيعة على باطن القدمين بضربات قصيرة متلاحقة، فصاح أبو حسن: (سأذبحكم جميعًا يا أولاد الزنا، ولو بقي من عمري يوم واحد).
قال رئيس المخفر بينما كان يعاود الجلوس وراء طاولته: (استمروا في ضربه حتى يسكت. اسكت. لا أريد سماع أي صوت منك).
وألفى أبو حسن نفسه بعد حين يضغط بأسنانه على شفته السفلى خانقًا الصراخ المتوجع الذي يريد أن ينفجر خارج الفم المدمي.وحينئذ قال رئيس المخفر لرجاله: (اتركوه).
ثم وجّه الكلام إلى أبي حسن: (هيا انهض وقفْ على قدميك).
فأطاع أبو حسن، ووقف بصعوبة مستجمعًا كل مابقي من قواه كي لا يتهاوى على الأرض، فقال له رئيس المخفر: (هيا احمل حذاءك).
فنفذ أبو حسن الأمر وهو يئنّ أنينًا خافتًا، ثم وقف مقوس الظهر وكل يد تحمل فردة حذاء.
قال له رئيس المخفر: (قل لي يا أبا حسن.. أنت رجل أم امرأة!).
لم يجب أبو حسن، فقال رئيس المخفر بحدة: (انطق، ألم تسمع ما قلت أنت رجل أم امرأة).
قال أبو حسن: (أنا طبعًا رجل).
قال رئيس المخفر بصوت مرح: (كذبت. أنت امرأة. هيا تكلم، وقل إنك امرأة. سأغضب إذا لم تقل إنك امرأة، وأنت صرت تعرف ما يحدث حين أغضب).
قال أبو حسن بصوت خافت: (أنا.. امرأة).
قال رئيس المخفر: (لم أسمع ما قلت. تكلم بصوت عال. أتظن أنك توشوش حبيبتك!).
قال أبو حسن بصوت مرتفع وهو ينظر إلى الأرض: (أنا امرأة).
فقهقه رئيس المخفر، وقال: (احمد ربك، لأننا هنا لسنا من الشاذّين جنسيا!).
ضجّ رجال الشرطة بالضحك، فقال لهم رئيس المخفر بلهجة آمرة مشمئزة: (خذوه، وسأراه فيما بعد، لأتابع تربيته وتأديبه).
فانقضّ رجال الشرطة على أبي حسن، وجرّوه إلى خارج الغرفة، وهم يركلونه ويصفعونه ويشتمونه. واقتادوه إلى إحدى الغرف، ودفعوه إليها وأقفلوا بابها. وكانت غرفة تخلو من أي أثاث، ولا نوافذ لها، يتدلى من سقفها مصباح كهربائي ضعيف النور، فتهاوى أبو حسن على أرضها وهو يئن متوجعًا.
وسمح فجأة صوتًا رفيعًا يقول له بنبرة متسائلة: (ضربوك كثيرًا! لا تزعل.. الضرب تسليتهم الوحيدة).
فرفع أبو حسن رأسه مستطلعًا، فرأى ولدًا لا يتجاوز عمره الثانية عشرة، وكان قاعدًا على الأرض، مسندًا ظهره إلى الحائط. فسأله أبو حسن باستغراب: (ماذا تفعل هنا!).
أشار الولد بيده نحو الباب، وقال: (هم قبضوا علي).
- (لم أفعل شيئًا).
- (قبضوا عليك دون أن تفعل شيئًا).
- (ذبحت أمي).
فصاح أبو حسن مرتاعًا: (الله يلعنك.. ماذا قلت).
- (ذبحت أمي. كانت تطهو طعامًا لا تأكله حتى الكلاب
وخيل إلى أبي حسن أنه غارق في سبات عميق ويشاهد حلمًا مرعبًا، ولاذ بالصمت. وحدق إلى الولد مذهولاً متناسيا الألم الذي يحرق عظمه ولحمه. وكان الولد ذا وجه أسمر وديع وشعر أسود طويل ناعم.
قال الولد: (أريد أن أنام).
قال أبو حسن بصوت فظ. (نم. من يمنعك).
قال الولد: (تعودت ألاّ أنام إلاّ بعد أن تروي لي أمي حكاية). قال أبو حسن: (اخرس ونم).
قال الولد: (احك لي حكاية).
فظل أبو حسن ساكتًا يحملق واجمًا، فقال له الولد: (إذا حكيت لي حكاية فسأعطيك سكينًا تذبح مئة شخص).
فبدت في عيني أبي حسن نظرة دهشة، فسارع الولد إلى خلع فردة حذائه، وأخرج منها سكينًا ذات نصل طويل رفيع رقيق ملطخ بدم جاف، ولوّح بها قائلاً: (ها هي ذي.. ظننت أني أكذب عليك).
مدّ أبو حسن يده نحوه قائلاً بلهجة آمرة: (هاتها).
فأعطاه الولد السكين، وما إن أمسك أبو حسن بها حتى التفَّت أصابعه حول مقبضها بحركة ضارية.
واستلقى الولد على الأرض، وقال بصوت متوسل: (هيا احك لي حكاية).
ساد الصمت هنيهات، ثم قال أبو حسن بصوت رتيب: (كان في سالف العصر والأوان رجل اسمه مصطفى، وكان فقيرًا لا يملك من متاع الدنيا سوى شاربيه. وفي يوم من الأيام أصدر ملك البلاد أمرًا يقضي بأن يحلق كل الرجال في مملكته شواربهم، فأطاع الجميع أمر الملك ما عدا مصطفى الذي أبى التخلي عن شاربيه، فاعتقل، وضرب وأهين وسجن. ثم أخرج من السجن ليمثل بين يدي الملك وينال ما يستحق من جزاء.
قال مصطفى للملك: (أنا ملك يديك وتستطيع أن تفعل بي ما تشاء. أنا أرحب بأن يقطع رأسي ولكني لن أرضى بأن أحلق شاربي).
ابتسم الملك بمكر، وقال: (سأمنحك ألف دينار إذا حلقت شاربيك).
قال مصطفى: (لا).
قال الملك: (لا تكن عنيدًا متسرعًا. اسمع. أتريد أكثر حسنًا. سأعطيك ألف ألف دينار).
قال مصطفى: كل ما في الدنيا من ذهب لا يساوي شعرة من شاربي رجل).
قال الملك: (سأعينك وزيرًا لي).
فظل مصطفى مصرًّا على الرفض، فقال الملك: (سأعينك رئيسًا لوزرائي).
قال مصطفى: (أفضل أن أكون شحاذًا. شحاذ بشاربين أفضل من رئيس وزراء بلا شاربين).
قال الملك: (سأجعلك شريكي.. تحكم مملكتي كما أحكمها).
فلم يتراجع مصطفى عن رفضه حلق شاربيه. فأطرق الملك برأسه وفكّر ساعة، وتكلم بعدها، وقال لمصطفى: (أنتَ فعلاً رجل. وقد أثبتّ أنك الرجل الوحيد في مملكتي، فاحتفظ بشاربيك، وسأكافئك خير مكافأة). وزوّج الملك مصطفى من ابنته التي كانت أجمل امرأة في الدنيا.
وأحب مصطفى بنت الملك أشد الحب، وعاش معها أشهرًا بسعادة وهناء، حتى جاء يوم أفاق فيه مصطفى من نومه صباحًا، فإذا بنت الملك عابسة الوجه مكتبئة، فسألها مصطفى بلهفة عما بها. فقالت له: (أتسأل وأنت السبب).
قال لها مصطفى متعجبًا محتارًا: (أنا! لا عاش من يزعلك. قولي لي متْ فألبي رغبتك دون تردد).
قالت بنت الملك: (أنا متضايقة جدّا من شاربيك، ولو تخلّصت منهما، فلا بد أنك ستصير أجمل رجل وسأحبك أكثر).
فاستنكر مصطفى كلامها، وحاول إقناعها بخطإ ما قالته، ولكنها لم تقتنع، وقالت له: (لن تبصر وجهي بعد اليوم إلاّ إذا حلقت شاربيك).
ونفذت بنت الملك وعيدها، وحبست نفسها في مخدعها، وأقفلت بابها من الداخل.
وتعذب مصطفى طويلاً لما حرم رؤية من يحب، ولكنه صبر وتجلد، إلى أن جاء يوم ضعف فيه واستسلم لصوت قلبه، فحلق شاربيه، وهرع إلى مخدع بنت الملك، وقرع بابه وهو يهتف: (افتحي.. فعلت ما ترغبين فيه).
وفتحت بنت الملك باب مخدعها. وما إن رأت مصطفى حتى تراجعت إلى الوراء وهي تضحك ضحكًا متواصلاً. فدنا مصطفى منها متلهفًا إليها وحاول معانقتها، ولكنها قفزت مبتعدة عنه وهي تقول بجفاء: (إياك والاقتراب مني!).
قال مصطفى: (لماذا).
قالت بنت الملك: (إذا أردت معرفة السبب، فاذهب إلى المرآة وانظر فيها، فقد صرت دون شاربين مثيرًا للضحك أكثر من أي مهرج في مملكة أبي، وصرت أيضًا قبيحًا إلى حد أن كلبة عمرها مئة سنة لا تقبل بالنظر إليك نظرة واحدة!).
لما سمع مصطفى كلام بنت الملك حزن حزنًا شديدًا، واستلّ خنجره، وطعن به قلبه طعنة قوية وهو ينظر إلى بنت الملك نظرة وداع وحب ولوم. وصاحت بنت الملك مستاءة، بينما كان مصطفى يترنّح موشكًا على السقوط أرضًا: (ابتعد.. ابتعد عن سريري لئلا تقع عليه فتتسخ أغطيته بدمك). وعندما علم الناس بموت مصطفى وما جرى له، حزنوا عليه كثيرًا وبكوا...). بتر أبو حسن كلامه، ونظر إلى الولد، فألفاه متمددًا على الأرض، مغمض العينين، مستسلمًا بوداعة لنوم عميق، فازدادت أصابعه الملتفة حول مقبض السكين شراسة. وزحفت السكين رويدًا رويدًا نحو الولد، ثم توقفت مرتجفة، غاضبة، حائرة بين قلب أبي حسن وعنق الولد .
.................................................. .................................................. .......................
المطربش
كان منصور الحاف رجلاً من دمشق يهابه أشرس الرجال، بحرًا بلا موج، رابط الجأش في ساعات العسر وساعات اليسر، غير أن خنجره كان سريع الغضب، يجرح بازدراء ولا يقتل، ولا مهرب لخصومه من برق نصله الهبّار وندامة متأخرة لا تنجي اللحم من التمزق. وكان منصور الحاف يرحب بالسجن كأنّه مصح في مصيف، ويردد يوم يخرج منه: (الأهبل وحده يفرح بالانتقال من سجن صغير إلى سجن كبير).
وقد أحب منصور الحاف زوجته نزيهة منذ أن لمحتها عيناه أول مرة، ولم يبح لها يومًا بكلمة واحدة تفصح عن ناره المخبأة، ولكنه لم يكن يخجل من الاعتراف علانية بأنّ كل ما تقوله نزيهة هو أوامر يسارع إلى إطاعتها بغير نقاش. ولو طلبت منه أن يحلق شاربيه لما تردد لحظة. ولكنه تبدل لحظة تكلمت مصادفة عن طربوشه، ونصحته بالتخلي عنه، واستحال رجلاً غريبًا فظّا لا تعرفه. وقال لها باعتداد وتجهم: إنّ الطرابيش خلقت زينة للرجال. فقالت له: إنّ الطربوش ضيف قبيح سمج. فقال لها إنّه ولد مطربشًا وسيموت مطربشًا. فقالت له إنّها لم تعد تطيق رؤية أي طربوش. فقال لها إن الطرابيش للرجال والملاءات للنساء والأغصان للشجر.
وفي أحد الأيام، قالت نزيهة لزوجها بصوت حانق، نافد الصبر: (إمّا أن تطلق الطربوش، وإمّا أن تطلقني).
فغضب منصور الحاف، ولكنه لم يشهر خنجرًا، واكتفى بأن قال لزوجته عابس الوجه: (باب البيت عريض يخرج منه جمل، فهيا اركضي إلى أهلك. أنت طالق.. أنت طالق.. أنت طالق).
فبهتت نزيهة، وخرجت من البيت بغير ملاءة وهي تصيح بصوت متهدج مستغيث: (واغوراه!).
فحمل هواء فضولي واش صيحتها إلى أذني الجنرال الفرنسي هنري غورو، فبادر إلى نجدتها، وسار بجيوشه إلى دمشق، ودخلها غازيا منتصرًا ملطخًا بدماء أبنائها القتلى على أرض ميسلون. فاستقبلته دمشق بحزن صقرٍ حُرم سماءه وسُجن في قفص. ولكن شرذمة من وجهائها وخدمهم حاولت أن تحمل سيارته على ظهورها تعبيرًا عن ترحيبها الحار به، فمست يده المتوارية في قفاز جلدي أيدي مستقبليه المرتعشة فخرًا. وسارع إلى زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال له بتشف وشماتة: (ها قد عدنا).
فتكلم صلاح الدين الأيوبي، وقال للجنرال غورو بصوت أرض غسل مطرٌ مباغتٌ دموعها، واستعادت قدرتها على النطق بعد أن فقدتها طوال سنين: (ولكنكم ستعودون يومًا إلى بلادكم في توابيت سود).
فلم يبال الجنرال غورو بما قيل له، وطاف في شوارع دمشق مرح الوجه محاطًا بالكثير من حراسه اليقظين المتسلحين بآخر زي من أزياء المسدسات والبنادق الحديثة، والمتأهبين لإطلاق النار على أي غيمة قد تعبر السماء من دون إذن مسبق. وكانت خطاه المتمهلة خطى من يرغب في الإقامة بها حتى موته، ولكنه تأفف من تلك الطرابيش الحمر الجاثمة على رؤوس الرجال. وعاد إلى مكتبه الرسمي، وأصدر أمرًا صارمًا مفعمًا بالتهديد والوعيد، ينصُّ على إلغاء الطرابيش وحظر صنعها. فجمعت الطرابيش كافة، وقذفت إلى مياه نهر بردى. واضطر الرجال إلى السير في الطرقات حاسري الرؤوس، متعثري الخطى كأنّهم حفاة، ولكن رأس منصور الحاف أصرّ على التشبث بطربوشه، فقبض عليه الجنود الفرنسيون، ووضعوه في السجن بغير تحقيق أو محاكمة.
وعندما ملّ الجنرال غورو مغازلة النساء والطعام الدسم واحتساء الخمور، وتاق إلى تسلية من نوع مختلف، أمر بإحضار الرجل الذي عصى أمره وظل محتفظًا بطربوشه، فاقتيد منصور الحاف مكبل اليدين إلى قاعة فسيحة الأرجاء ملأى بالضباط والجنود، وأُوقف قبالة الجنرال غورو الذي سأله بصوت نزق: (أتعرف ما عقوبة كل من يتجرأ على مخالفة أمر من أوامري).
فابتسم منصور الحاف، وأجاب بهدوء: (الموت فقط).
قال الجنرال غورو: (أنصحك ألاّ تحاول تمثيل دور الرجل الشجاع الذي يرحب بالموت، وهو تمثيل لن ينفعك الآن).
فحاول منصور الحاف أن يتكلم، ولكنه تلعثم إذ تخيل الكرة الأرضية على شكل طربوش مقلوب يتساقط في جوفه الجنود من مختلف الجنسيات جثثًا باردة. وسمع الجنرال غورو يقول له بصوت متسائل ساخر: (ما بك خرست).
فقال منصور الحاف بصوت واثق خشن: (الموت في سبيل الطربوش شرف يتمناه كل رجل).
فتصنع الجنرال غورو أنّه يرى طربوشًا أول مرة في حياته، وحملق إليه بنظرات متفحصة، ثم قال لمنصور الحاف: (أعجبني طربوشك، ويصلح هدية طريفة لزوجتي، بكم تبيعه? سأدفع لك عشر ليرات ذهبية.. عشرين.. مائة.. ألفًا.. ألفين..).
فقاطعه منصور الحاف قائلاً: (طربوشي ليس للبيع، ولن أبيعه ولو دفع لي مال هارون وقارون).
فغضب الجنرال غورو، وعاوده ملله، وأشار بسبابته إلى منصور الحاف صائحًا بجنوده: (أعدموه فورًا).
فصرخ منصور الحاف: (جيفة لا تعكر بحرًا).
واقترب أحد الضباط من الجنرال غورو، وسأله بصوت خفيض: (وكيف نعدمه? أنشنقه أم نطلق الرصاص عليه?).
فقال الجنرال غورو مخاطبًا كل من كان حوله وبلهجة معلم يخاطب تلاميذه الصغار السذج: (اسمعوا.. لكل بلد خصائصه المتوارثة، وينبغي لنا بوصفنا من رسل الحضارة والمدنية أن نحترمها ولا نستهتر بها. ونحن الآن في بلاد يألف سكانها قطع الرؤوس).
فتراكض الجنود نحو منصور الحاف، وأرغموه على الركوع وإحناء رأسه، فصاح باستنكار: (ما هذا الظلم ألن أسأل عن رغباتي الأخيرة).
فقال الجنرال غورو لأحد جنوده: (اسأله. لعله يريد أن يتوضأ). قال الجندي لمنصور الحاف: (ما آخر رغباتك).
فضحك منصور الحاف، وقال: (أن أقتل على ركبتي زوجتي السابقة!).
فسأله الجندي: (وأين تريد أن تدفن).
قال منصور الحاف: (لحمي لا يفرّق بين دود ودود).
وسأل الجنرال غورو منصور الحاف: (أتعرف لماذا ستموت الآن).
فشحب وجه منصور الحاف، ولكنه قال بصوت مطمئن واثق: كل شيء هالك إلاّ وجهه..
فتساءل الجنرال غورو: (وجه من عمن تحكي).
قال منصور الحاف بصوت متبتِّل خاشع: قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ودمَّرْنا ما كان يصنع فرعون وقومه
فقال الجنرال غورو: (أأنت أعمى! نحن الأعلون، ولا أحد غيرنا يدمر أعداءه).
فقال منصور الحاف: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا أزِفَت الآزفة ، ليس لها من دون الله كاشفة .. ليس لها من دون الله كاشفة
وبدا منصور الحاف لعيني الجنرال غورو في تلك اللحظة وهو راكع على ركبتيه مخلوقًا بغيضًا محيرًا غبيا متكبرًا مغرورًا منفرًا بليدًا، كأنّه لا يدرك ما يحدث حوله، ويشترك في مبارزة يرحب بخاتمتها الفاجعة موقنًا أنّها ليست نتيجة عقوبة أو هزيمة، ويردد كالحاكي ما سجل على أسطوانته من كلمات ليست بكلماته. فامتلأ الجنرال غورو بسخط جموح حاول التخلص منه بأن صاح بجنوده آمرًا بصوت صارم: (أعدموه حالاً).
فأهوى سيف على رقبة منصور الحاف الجاثي على ركبتيه، وأطاح رأسه الذي تدحرج على الأرض كأنّه كرة ركلتها قدم طفل، ولكن الطربوش ظل ملتصقًا بالرأس، فأمر الجنرال غورو جنوده بنزعه عن الرأس، فبادروا إلى إطاعة أمره. ولم تنجح كل الوسائل التي لجأوا إليها، وبدا الطربوش كأنّه جزء عنيد من الرأس. فطلب الجنرال غورو من جنوده إحراق الرأس وطربوشه، فبادروا إلى إشعال نار في ساحة من ساحات ثكنتهم تكفي لإحراق بقرة، ورموا فيها الرأس وطربوشه. ولما انطفأت النار وصارت رمادًا، اختفى الرأس كأنّه لم يكن في يوم من الأيام حيا مفعمًا بالنزوات مرفوعًا بفخر بين كتفين، ولكن طربوشه ظل أحمر سليمًا لم يمسسه أي سوء.
ولما أُعلم الجنرال غورو بما جرى، دهش واغتاظ وتحير، وأمر بحفظ الطربوش ريثما يرسل إلى مختبرات فرنسا العلمية لتحليله والكشف عن أسرار قوته الغامضة. ولكن الطربوش لم يقيض له أن يزور فرنسا، إذ فُقد في ظروف غامضة، وشوهد يومًا على رأس رجل أسمر الجلد يطلق الأعيرة النارية من مسدسه على طائرة حربية كانت تحلق فوق دمشق وتقصف حيا من أحيائها، وشوهد ثانية على رأس رجل يصنع توابيت ويخبئها ليوم تتضاعف فيه أسعارها وتباع في السوق السوداء، وشوهد مرة ثالثة وقد تحوّل كرة مرحة حمراء يتقاذفها أطفال ضاحكون .
.................................................. .................................................. ................................
الناجحون في الاختبار
دخل إلى غرفة الطبيب ثلاثة رجال وممرضة، فرحّب الطبيب بالرجال، ورجاهم الجلوس مشيرًا إلى المقاعد القريبة من الطاولة التي كان يجلس وراءها، وطلب إلى الممرضة أن تحضر لهم القهوة، فبادرت إلى الخروج من الغرفة بخطى مسرعة.
قال الطبيب للرجال الثلاثة: (أرجو ألاّ تَعُدُّوا هذه الجلسة جلسة طبيب مع مرضاه، بل عُدُّوها جلسة تسلية ومزيد من التعارف خاصة وأنّكم شفيتم وستغادرون المستشفى في وقت قريب بعد أن أنجز كتابة تقريري عن أحوالكم).
لم يتفوه المرضى الثلاثة بأي كلمة، فقال الطبيب لهم: (أنا محتار، ولا أعرف كيف أبدأ حديثي معكم لأنّي تعوّدت الأسئلة الطبية، وصرت أجهل الأحاديث العادية. سأسألكم: مَنْ مِنكم رأى بحرًا).
فظلّ المرضى الثلاثة صامتين واجمين. فقال الطبيب لأحدهم: (تكلّم يا أنور.. ألم تر في حياتك بحرًا).
فهزّ أنور رأسه هزة تعني أنّه رأى البحر، فسأله الطبيب: (ومتى رأيته).
قال أنور: (رأيته قبل ثلاثة أيام عندما عرض التلفزيون فيلمًا تدور حوادثه في باخرة بحجم بناية وتغرق).
قال الطبيب: (وكيف غرقت الباخرة).
قال أنور: (لا أدري، وغرقتُ من دون أن أعلم السبب).
قال الطبيب: (لو كنتَ تجيد السباحة لما غرقت).
قال أنور: (كنت أجيد السباحة، ولكنّ الماء المالح الذي دخل فمي كان أثقل مني وشدّني إلى قاع البحر).
فأشار الطبيب بيده إلى مريض آخر، وسأله: (وأنت يا أمجد .. ألم تر البحر).
فقال أمجَد: (أنا أيضًا كنت في هذه الباخرة التي غرقت، وكنت بحّارًا من بحّارتها).
قال الطبيب: (وهل غرقتَ كما غرق أنور).
قال أمجد: (قتلتُ قبل أن أغرق، وسقطت كتلة حديدية على رأسي وحطّمته).
قال الطبيب بأسف: (لا حول ولا قوة إلاّ بالله).
قال أمجد: (والباخرة لم تغرق مصادفة، بل أنا الذي ثقبها وأغرقها!).
قال الطبيب: (ولماذا أغرقتها).
قال أمجد: (ما هذا السؤال أغرقتُها لأنّ على سطحها كمية كبيرة من الناس الفاسدين).
قال الطبيب: (وبالطبع مات الأبرياء ومات المذنبون).
قال أمجد: (إذا كان قتل مليون بريء يؤدي إلى قتل مذنب واحد، فهو قتل مفيد، ويجب أن يتكرر كلّما سنحت الفرصة).
قال الطبيب: (ولكنّك كنت تقول كلامًا مختلفًا قبل أن تأتي إلى مستشفانا. أنسيتَه).
قال أمجد: (لم أنسه، وما زلت أتذكّره وأسخر من بلاهتي. كنتُ أقول إنّ قتل مليون مذنب لا يسوِّغ قتل بريء واحد).
فابتسم الطبيب، وقال للمريض الثالث: (وأنت يا سالم).
قال سالم: (أنا الوحيد الذي يستحق أن يسأل عن البحر، لأنّي ولدتُ في بيت قريب من البحر، وتعوّدت كلّ يوم أن أمشي فوقه اختصارًا للمسافة بين البيت والمدرسة).
قال الطبيب: (أكنت تمشي على وجه البحر).
قال سالم: (أحيانًا كنت أمشي على قدمي، وأحيانًا كنت أمرّ فوقه راكبًا دراجتي).
في تلك اللحظة، عادت الممرضة إلى الغرفة حاملة صينية عليها ثلاثة فناجين من القهوة، وأعطت كلّ رجل من الرجال الثلاثة فنجانه، فراح الثلاثة يحتسون قهوتهم على مهل غير مبالين بالطبيب الذي كان يحملق إليهم بدهشة ممتزجة بكثير من الغبطة والفخر
.................................................. .................................................. ...................................
الأغصان
ذهب بلال الدندشي إلى مدرسته كعادته في صباح كل يوم، ووصل إليها متأخرًا، ودخلها وهو يرتعد خوفًا من معلمه وتوبيخه الفظّ الساخر. ولكنه وجد التلاميذ نائمين والمعلمين نائمين، فحاول إيقاظهم، فلم يستيقظ أحد. وسئم الجلوس وحده، فتثاءب ونام، ورأى في أثناء نومه أنه نائم في مدرسة تلاميذها نائمون نومًا عميقًا غير مبالين بصيحات معلميهم الغاضبة. وأيقظته أمّه من نومه، وحثته على الإسراع حتّى لا يتأخر عن مدرسته، فهرول قاصدًا مدرسته ليجد معلميها مقتولين وتلاميذها يلعبون مرحين، ولم يلعب معهم لأن أمّه أيقظته من نومه ليذهب إلى مدرسته. فارتدى ثيابه على عجل، وغادر البيت من دون أن يأكل، وهرع إلى مدرسته وجلس في صفه بين التلاميذ متأهبًا لما سيحدث. ودخل المعلم الصف بوجه عابس وعينين صارمتين، فحدّق إليه التلاميذ الصغار بنظرات ملأى بالكراهية، وتهامسوا فيما بينهم بكلمات مبهمة، فصاح بهم غاضبًا: (اخرسوا).
فصمت التلاميذ فورًا، ووضع المعلم محفظته المهترئة على سطح طاولته، وفتحها، وأخرج منها رزمة من الأوراق لوّح بها قائلاً للتلاميذ: (أتعرفون ما هذه الأوراق? هذه أجوبتكم المكتوبة ردّا عن سؤالي عن المهنة التي ستختارونها حين تصيرون رجالاً).
واقترب المعلم من سلة المهملات، ولوّح بالأوراق ثانية، وقال للتلاميذ: (هذه أجوبة لا تستحق حتى الصفر).
ورمى الأوراق في سلة المهملات بحركة المتخلص من قمامة مقززة، وقال لتلاميذه: (علّمتكم طوال أيام النشيد الوطني الرسمي لترددوه في الحفلة التي ستقام بمناسبة انتهاء العام المدرسي، وسأمتحن اليوم قدرتكم على الحفظ، والويل لمن يخفق).
فتهامس التلاميذ متذمرين، فزعق بهم معلمهم بصوت حانق: (اخرسوا).
فسكت التلاميذ، وقال لهم معلمهم: (سأعدّ من الرقم واحد إلى الرقم ثلاثة، وحين أصل إلى الرقم ثلاثة تبادرون إلى ترديد النشيد بصوت واحد. هيا استعدوا. واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتبادل التلاميذ النظرات الغامضة، وشرعوا في إنشاد مقطع من أغنية غرامية معروفة بأصوات عالية حماسية محافظين على اللحن الأصلي للنشيد الوطني، فصاح بهم معلمهم: (اخرسوا).
فاندفع التلاميذ نحوه كطلق ناري، وضربوه، بمساطرهم وكتبهم ودفاترهم وأقدامهم طالبين إليه أن يخرس. فبوغت المعلم بما حدث، وصاح غاضبًا مستنجدًا، فلم يأتِ أحد من المدرسة لنجدته. وترنح وارتمى على الأرض بعد أن أصيبت عظام ساقيه بضربات موجعة، وحاول أن يقاوم ويهدد ويتوعد ويصبر، ولكن ألمًا طاغيا أجبره على البكاء والتوسل إليهم أن يكفوا عن ضربه، فلم يبالوا بتوسله، ولم يتوقفوا عن ضربه إلاّ عندما أذعن ولم يعد يصدر عنه أي صوت. فأوثقوه بحبال أعدوها سلفًا، وأمروه بترديد النشيد الوطني، فبادر إلى إطاعة أمرهم، وردد النشيد الوطني بصوت متحشرج مرتجف، فسدّوا آذانهم بأصابعهم متأففين. وانفصل بلال الدندشي عن التلاميذ، ووقف قبالتهم مقلدًا وقفة معلمهم، وصاح بهم بلهجة مرحة آمرة: (واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتعالت أصوات التلاميذ تردد النشيد الوطني متآلفة متناسقة، وتوحدت في صوت واحد خرج من نوافذ المدرسة ليتحوّل موجًا .
.................................................. .................................................. ................................................
يوم أشهب
تمرّن شكري المبيض مع زملائه في السجن تمارين رياضية لا تخلو من العنف، غايتها الحفاظ على سلامة صحته، فأدت إلى إصابة جسمه بالكثير من الرضوض والكدمات والجروح. ومارس شكري المبيض هوايته في شي الكستناء، الفاكهة المفضلة لديه، فأحرقت النار أصابع يديه وقدميه وظهره وصدره وبطنه. وحاول شكري المبيض حلاقة ذقنه صباحًا بينما كان منهمكًا في الاستماع إلى ما يقدمه مذياعه من نشرات أخبار وأغان، فأخطأت يده اليمنى الممسكة بموسى الحلاقة، ولم تخلص جلد الوجه من شعر لا لزوم له، وذبحت بحركة طائشة العنق من الوريد إلى الوريد، فنُقل شكري المبيض توّا إلى أفضل مستشفى، وهناك حاول الأطباء إصلاحه، فعجزوا، ووضعت جثته في كيس من قماش متين، وسلمت إلى سيارة توزع الموتى يوميا على بيوت أهاليهم. ولم يواجه سائقها أي مشقة في الاهتداء إلى بيت أهل شكري المبيض في حارة قويق، ولكنه بوغت به خاليا منذ شهور. فأبوه مقبوض عليه بتهمة التشرد والتسول، وأخوه يحاكم لسطوه على أموال الدولة، وأمه مسجونة لاعتدائها الشفوي على أعراض نساء محترمات، وأخته معتقلة لأنها تتعمد ألا تعبر عن فرحتها أو حزنها.
وسأل سائق السيارة الجيران عن أقرباء شكري المبيض، فأخبروه أن عمه هاجر إلى أميركا، وخاله وأبناءه وبناته إلى كندا، وابن خالته إلى أستراليا، وخالته تعمل خادمة بدبي. فسأل السائق عن عناوين أصدقائه، ولكن كل الذين قيل عليهم إنهم من أصدقاء شكري المبيض أقسموا شاحبي الوجوه أنهم ليسوا بأصدقائه، ولم يتبادلوا معه كلمة واحدة، ولو رأوه اليوم مصادفة لما عرفوه. فخجل شكري المبيض من السائق، وانتهز فرصة انشغاله بشراء خضراوات وفاكهة طلبتها زوجته، ولاذ بالفرار، واختبأ في بيت أهله منتظرًا عودتهم ليدفنوه مطلقين الزغاريد ابتهاجًا بخروجه من السجن .
.................................................. .................................................. ...............................
الأدغال
جرت في المقهى مباراة صاخبة في لعبة الكونكان بين معروف السماع ورشيد القليل، كثر مشاهدوها وتطايرت في أجوائها التعليقات الحماسية الساخرة المتحدية، وانتهت بهزيمة رشيد، فتباهى معروف بانتصاره، ونصح خصمه بلهجة ممازحة بمواصلة التدرب ليل نهار قبل اللعب مع أساتذة مثله. فاغتاظ رشيد، ومزق أوراق اللعب، وقذف بها إلى الأرض، ونصح معروف السماع بصوت مرتفع سمعه كل رواد المقهى بأن يخجل قليلاً ولا يتمادى في التباهي أمام رجال يعرفون جسم أخته أكثر مما تعرفه أمها. فأحنى معروف رأسه، ولم يفه بكلمة، وأنصت لأصوات هامسة يسمعها عادة وحده.
همس الأرنب: (اهرب تنج).
همست النعامة: (دفن الرأس اليوم يليه دفن بقية الجسم غدًا).
همس الضبع: (من لا يأكل يؤكل).
همست الحية: (ملمسي ناعم، والموت في أنيابي).
همس الذئب: (إذا لم تكن ذئبًا أكلتك الخراف).
همس الغراب: (لكم أنا مشتاق إلى النعيب!).
ولم يتكلم الأسد، واكتفى بالزئير الحانق متأهبًا للانقضاض على فريسته. ونهض معروف واقفًا كأنّه يهمّ بمغادرة المقهى، وفجأة لطم رشيدًا لطمتين على خده الأيمن وخده الأيسر، فبوغت رشيد وبهت إذ كان يتوقع شتائم متبادلة يليها تماسك بالأيدي يليه تدخل الوسطاء. واستل معروف سكينه بحركة سريعة، وطعن رشيدًا في صدره وعنقه ثلاث طعنات، فصاح رشيد: (أخ! قتلتني!).
وابتعد الأسد عن فريسته ملطخ الفم بالدماء، وغادر معروف المقهى هاربًا ويده لا تزال ممسكة بالسكين التي تقطر دمًا. وتنبه وهو يركض بأقصى سرعة إلى أنه وحيد أبويه، لا أخت له ولا إخوة
.................................................. .................................................. .....................
انتظار امرأة
ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمّه، وشهق الطبيب مذعورًا، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتَّتت الممرضات في أروقة المستشفى.
ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل. فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنّه ربح أكثر مما خسر.
ولم يكفّ فارس عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعًا جديدًا من البشر آملاً ألاّ يطول انتظاره
.................................................. .................................................. ...........................
نبوءة كافور الإخشيدي
صاح كافور الإخشيدي بأعوانه: (قبل ثلاثة أيام دخل البلاد رجل غريب اسمه المتنبي، وآمركم بإحضاره إلي فورًا حيا أو ميتًا).
وكان المتنبي آنئذٍ يمشي في شوارع القاهرة، وئيد الخطى، متنقلاً من شارعٍ إلى شارع، وكل شارع يبدو لعينيه عالمًا جديدًا سحريا قادرًا على أن يهب بهجة تحول الرمل عشبًا أخضر.
وبلغت بهجة المتنبي الذروة عندما رأى نهر النيل، فتوقف عن المسير، ونظر إلى ماء النهر كأنه طفل يشاهد بحرًا أول مرة في حياته.
قال النيل للمتنبي: (اهرب. الهرب مما ينتظرك جرأة وشجاعة وبطولة).
فلم يسمع المتنبي ما قاله النهر، إنما تدفقت إلى مخيلته كلمات كثيرة تتنافس على وصف نهر وامرأة وملك عادل.
قال النيل للمتنبي: (اهرب، اهرب، اهرب!).
ولكن المتنبي كان يجهل لغة الأنهار، واستمرت كلماته في التنافس على وصف نهر عظيم وامرأة جميلة وملك رحيم متسامح. ثم تبددت فجأة حين انقض على المتنبي عدد من الرجال الأقوياء، القساة الوجوه والأيدي، واقتادوه إلى قصر كافور الإخشيدي غير مبالين بتساؤلاته وصياحه النزق المحتج.
كافور الإخشيدي: (المعلومات المتوافرة لدي تقول إنك لست مصريا).
المتنبي: (إذا كنت مولودًا بالكوفة وجئت مصر زائرًا، فهل هذا مسوِّغ لاعتقالي ومعاملتي أسوأ معاملة).
المتنبي (بهزء): (أمرك مطاع).
كافور: (اخرس. ألم آمرك بألا تتكلم).
المتنبي: (لن أتكلم).
كافور: (ليس من حقك أن تتكلم أو تسكت إلا وفق أوامري. قل لي: ما اسمك).
المتنبي: (المتنبي.. أبو الطيب المتنبي).
كافور: (ماذا تشتغل).
المتنبي: (لا مهنة لي سوى الكتابة. أنا شاعر).
كافور: (لا تتحذلق. الشعر أيضًا مهنة لا تختلف عن مهنة الحداد والنجار والدهان وحفار القبور. اسمع. ما دمت تزعم أنك شاعر، فهل نلت إذنًا من السلطات المختصة).
المتنبي: (وهل تطلب السحابة إذنًا إذا أرادت أن تمطر).
كافور: (إني أكلمك عن قوانين وأنظمة، فلا تجاوبني بكلام منمق سخيف يصلح لأن يوجه إلى مراهقات. أنت الآن لست في الصحراء. أنت في بلاد يسودها التنظيم، وكل عمل لابد لصاحبه من أن ينال إذنًا رسميا قبل أن يمارسه، وأنت خالفت القوانين عندما نظمت شعرًا من غير إذن).
المتنبي: (لقد جئت إلى مصر قبل ثلاثة أيام فقط، ولم أنظم بعد أي قصيدة، ولم أخالف أي قانون من قوانين البلاد).
كافور: (أنت تدعي أنك شاعر، فما الدليل على أنك شاعر حقًا?).
المتنبي: (أشعاري مشهورة في البلاد العربية كلها، ولا أحد يجهلها).
كافور: (يا لك من وقح! أتجرؤ على اتهامنا بالجهل?).
المتنبي: (كل ما أردت قوله هو أني شاعر ذائع الصيت. ونظمت كثيرًا من الأشعار).
كافور: (هل غنّى أشعارك مشاهير المغنين والمغنيات? أم كلثوم.. لبلبلة.. وردة الجزائرية.. أحمد عدوية.. محرم فؤاد.. شادية.. عبد الحليم حافظ? ما لك صامت? لماذا لا تجيب? أرى أن وجهك قد احمرّ.. احمرّ خجلاً من افتضاح كذبك. سأُتيح لك الفرصة لتثبت أنك شاعر. هيا أسمعني بعض أشعارك).
المتنبي:
يا أعـدل الناس إلاّ فـي معاملتي فيك الخصام وأنت الخصـم والحكم
أعيـذهـا نظـرات منـك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
ومـا انتفاع أخـي الدنيا بناظـره إذا استوت عنـده الأنوار والظلـم
أنا الذي نظـر الأعمـى إلى أدبي وأسمعـتْ كلماتي مـن بـه صمم
كافور: (ما سمعته ليس سيِّئًا. أتجيد نظم قصائد المدح?).
المتنبي: (سبق لي أن مدحت الكثير من الملوك والأمراء.
كافور: (ما دمت تتقن المدح، فينبغي لك أن تنظم قصيدة في مدحي. أنت الآن في مصر، وأنا حاكم مصر. وإذا كنت لست عميلاً لأعداء مصر وتحب مصر، فمن واجبك مدح حاكمها).
المتنبي: (أنا لم أمدح في حياتي سوى رجال عرفتهم، وعرفت ما لهم وما عليهم).
كافور: (أتلمح إلي أنك لا تعرفني? ها أنا ذا قاعد قبالتك وقد صرت تعرفني).
المتنبي: (لم أعرفك بعد المعرفة التي تتيح لي نظم قصيدة في مدحك).
فابتسم كافور الإخشيدي، وأشار بيده إلى أعوانه، فهجموا على المتنبي، وطرحوه أرضًا، ووضعوا رجليه في فلقة، وانهال بعضهم بالعصا ضربًا على باطن قدميه، بينما راح بعضهم الآخر يركل رأسه وجسمه ركلاً شديدًا.
تألم المتنبي، ورغب في أن يصرخ متوجعًا، ولكنه قاوم، وكظم رغبته، وما لبث الألم أن دفعه إلى الصراخ شاتمًا، مستغيثًا. فضحك كافور، وقال: (ما هذا الصوت الجميل? أنت لست شاعرًا. أنت تصلح لأن تكون مغنيا. الله! ما أجمل هذا الصوت! تابع.. أطربنا).
وحين تحول صراخ المتنبي إلى بكاء ذليل، أمر كافور بالكف عن ضربه.
ووقف المتنبي أمام كافور الإخشيدي محني الرأس بذل، مبتل الوجه بالدموع والدماء.
كافور: (ستنظم قصيدة مطوّلة تمتدحني).
المتنبي: سأفعل ما تأمر به.
كافور: (سأعطيك مهلة مدتها سبعة أيام لنظم القصيدة، وستنجو من القتل إذا أعجبتني).
وهمّ المتنبي بالخروج، فقال له كافور: (قف واسمع يا متنبي. إياك وأن تظن أني كغيري من الحكام. إذا أعجبتني قصيدتك، فلا تحلم بنيل درهم واحد من أموالي).
وعاد المتنبي إلى كافور الإخشيدي بعد أربعة أيام، وأسمعه ما نظم من شعر في مدحه، فطرب كافور، وانتشى، وقال: (أنت شاعر حقّا).
وفكر كافور الإخشيدي لحظات، ثم قال للمتنبي: (سأعرض عليك عرضًا لا مثيل له. اختر إما الضرب حتى الموت وإما الحصول على ألف دينار).
المتنبي: (لا أحد يفضل الضرب على ألف دينار).
كافور: (ستنال ألف دينار إذا نظمت قصيدة تهجوني فيها أقذع هجاء).
حاول المتنبي أن يتكلم، ولكن كافورا قال له: (اسكت ولا تنطق بكلمة واحدة. إذا لم تنظمها ضربت، وإذا هجوتني نلت ألف دنيار).
فوعد المتنبي بأنه سيهجوه، وبرّ بوعده، ونظم قصيدة في هجاء كافور الإخشيدي، ونال ألف دينار.
وما إن خرج المتنبي حتى تصايح أعوان كافور الإخشيدي مستغربين مستنكرين، فقال لهم كافور بصوت صارم: (ستظلون أغبياء تجهلون التعامل مع البشر والحياة. سأشرح لكم ما فعلت وأسبابه. المتنبي شاعر متكبر، متعجرف، معتد بنفسه، ويجب أن يعاقب ولا سيما أنه سيكون في المستقبل من الشعراء الخالدين. وقد عاقبته شر عقاب. لقد أرغمته على مدحي ثم أرغمته على هجائي، وهذا التناقض سيصبح في المستقبل تهمة شائنة تدين المتنبي، وتبرهن على أنه مجرد مرتزق صغير غير جدير بالاحترام).
وفيما بعد، اغتيل المتنبي، ومات كافور الإخشيدي، ولكن ما تنبأ به كافور تحقق وعوقب المتنبي شرّ عقاب حيّا وميتًا .
.................................................. .................................................. ...............................
قبر خاو
كان الجنرال رجلاً ذا رئتين ومعدة وأمعاء غليظة وأمعاء دقيقة وكبد وشرايين ملأى بالدم الأحمر، ولا يختلف عن غيره من الرجال إلاّ بكونه جنرالاً في جيش محارب في بلاد ليست بلاده. وكان الجنرال كثير الضجر من مهنته الخالية من الإثارة، ويحلم بأن يعمل يومًا في مزرعة لتربية البقر والغنم أو في مستشفى للمعوقين والمسنين. وكان الجنرال صارمًا كثير الاكتئاب، لا يبتهج إلاّ حين يتخيل عصفورًا صغيرًا يحاول الطيران ويخفق، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل جنوده المطيعين لأوامره يحتلون القرى والمدن متنافسين على هدمها وقتل سكانها، ولا يبتهج إلاّ حين يتخيل أنّه يزود جنوده بأسلحة قادرة على إبادة مئات الألوف في ثوان، فلا يحاولون استخدامها حتى لا يحرموا قتل أعدائهم ببطء وتشف. وابتهج في أحد الأيام ابتهاجًا مختلفًا حين تنبه إلى أن شعرًا جديدًا أسود بدأ ينبت في رأسه ويحل محلّ الشعر القليل الأشيب، وتباهى به دليلاً على الرجولة وعودة الشباب. وتزايد نمو شعر جسمه مغطيا الجلد بطبقة كثيفة خشنة، وتبدل شكل وجهه تدريجيا. وحاول في إحدى الليالي أن يستسلم للنوم، فأخفق، وأحس بقوة غامضة تجتاح كل جسده، فقفز من سريره، وتمطى أمام المرآة وهو ينظر إليها مليا، فرأى أنّه قد صار ضبعًا ذا مهابة مغطى بشعر كثيف، واستحالت أظفار يديه إلى مخالب وأسنانه وأضراسه إلى أنياب. فاستمتع بتبدله، ودهمه جوع لا يقاوم، فانقض على عنق زوجته التي كانت نائمة، وقتلها قبل أن تصحو، ولكنه لم يستسغ لحمها المترهل القاسي، فتركها مشمئزًا، ووثب على ابنها الرضيع المبتسم إبان نومه، وأُعجب بلحمه الطازج الغض.
وكان أحد حراس الجنرال واقفا خارج غرفة النوم مشدود القامة وإصبعه على زناد بندقيته تأهبًا لأي حدث طارئ، فبوغت بضبع يخرج من الغرفة ملطخًا بالدماء، فبادر إلى إطلاق النار عليه، وأرداه قتيلاً، فتراكض بقية الحراس مضطربين متصايحين، وعثروا على بقايا الزوجة وابنها، ولم يعثروا على الجنرال، فساد اعتقاد بأنّ الضبع أكله بأكمله، ولم يترك منه ما يحتاج إلى قبر
.................................................. .................................................. ......................................
الساحر
أُوثقت يدا طفل في الخامسة من عمره خلف ظهره، وعُصبت عيناه الخضراوان بقطعة قماش قاتم، ووقف قبالته خمسة جنود وقفة استعداد متنكبين بنادقهم متأهبين لتنفيذ الجديد من أوامر ضابطهم المتوقعة.
وتعالى صوت ضابطهم آمرًا، فسددوا بحركات سريعة فوهات بنادقهم نحو قلب الطفل، وأمرهم ضابطهم بإطلاق النار، واختلط صوت الضابط الصارم الآمر بضحكة ندت عن الطفل، وبلغت مسامع الجنود الخمسة، فتذكر الأول زوجته الجميلة حين تضحك، وتذكر الثاني سريره قرب نافذة مطلة على نهر، وتذكر الثالث شارعًا مشجرًا يمشي فيه مثرثرًا مع صديق، وتذكر الرابع يوم كان صغير السن يعلمه أبوه صيد السمك على شاطئ بحر، وتذكر الخامس أمه تكبر في السن فجأة يوم مرض.
وبادر الجنود الخمسة إلى إطاعة الأمر العسكري، وأطلقوا نيران بنادقهم على صدر ضابطهم الذي تهاوى أرضًا مثقوبًا خمسة ثقوب دامية، وانتظروا غير آسفين أن تُطلق النار عليهم، ولكنهم ظلوا أحياء ومات كل آمر بإطلاق النار .
.................................................. .................................................. .....................................
الذي أحرق السفن
1 الاعتقال
الأشجار الخضر في الشارع كفت عن الغناء لحظة تحلق عدد من رجال الشرطة متجهمي الوجوه حول رجل يمشي على الرصيف سيفًا هرمًا، رمحًا متعبًا، آن له أن يخلد إلى الراحة بعد انتصاره في آلاف المعارك. وابتدره واحد منهم قائلاً له بلهجة فظة: (أعطنا هويتك).
فتقبّل الرجل لهجة الشرطي باستنكار، وأوشك أن يستسلم لحنق عارم، لكنه اكتفى بالابتسام باستعلاء. ومدّ يده إلى جيبه، وأخرج هويته، وقدمها للشرطي الذي ألقى عليها نظرة سريعة ثم قال متسائلاً: (أنت إذن طارق بن زياد?).
فأجاب الرجل باعتزاز: (نعم أنا طارق بن زياد).
عندئذ قال الشرطي ساخرًا: (هلا تفضلت بمرافقتنا?).
- (إلى أين?).
- (إلى المخفر).
- (المخفر! ولماذا).
- (مطلوب للتحقيق).
- (أنا أنا طارق بن زياد!).
- (لا يهمّنا من تكون. أنت الآن شخص تقضي الأوامر باعتقالك حيا أو ميتًا).
فقطّب طارق بن زياد جبينه بينما كان الدم المتدفق في شرايينه رعدًا شرسًا، غير أنه لم يكد يهمّ باستئناف سيره حتى طوّقه رجال الشرطة وأمسكوا به. فحاول الإفلات من أيديهم، فبادروا يضربونه بقسوة وتشفٍّ، حتى أرغموه على الكف عن المقاومة، وتهاوى أرضًا يغمره الخجل والدم.
2 الاستجواب
في اليوم الأول خلق الجوع في اليوم الثاني خلقت الموسيقى في اليوم الثالث خلقت الكتب والقطط في اليوم الرابع خلقت السجائر في اليوم الخامس خلقت المقاهي في اليوم السادس خلق الغضب في اليوم السابع خلقت العصافير وأعشاشها المخبأة في الأشجار.
وفي اليوم الثامن خلق المحققون، فانحدروا توّا إلى المدن، وبرفقتهم رجال الشرطة والسجون والقيود الحديدية.
(طارق بن زياد.. أنت متهم بتبديد أموال الدولة).
- (مخطئون. أنا لم أبدد أي أموال).
(ألست أنت الذي أحرق السفن).
- (حرق السفن كان لا بد منه لكسب النصر).
(لا نريد سماع أعذار. أجب عن سؤالنا فقط. هل أحرقت السفن أم لم تحرقها).
- (أنا أحرقت السفن..).
(وأحرقتها دونما إذن! لماذا لا تجيب هل حصلت على إذن من رؤسائك بحرق السفن).
- (إذن?! الحرب تختلف عن الكلام في المقاهي والشوارع).
وتأمّل طارق بن زياد بعينين مفعمتين بالازدراء والنقمة وجوه المحققين المحيطين به، ثم سألهم بهدوء: (أين كنتم وقت الحرب).
(كنا نؤدي واجبنا).
(نحن أيضًا حملنا السلاح).
فصاح طارق بن زياد بصوت نزق: (حملتم السلاح وجلستم وراء المكاتب تحتسون الشاي والقهوة وتتحدثون عن الوطن والنساء!).
فضحك المحققون، ثم تعالت أصواتهم جوفاء صارمة باردة:
(أنت خائن).
(حرق السفن كان ضربة لقوة الوطن).
(من الذي استفاد من حرق السفن لا أحد سوى العدو).
(تكلم. السكوت لن ينفعك).
(لدينا الوثائق التي تثبت خيانتك وتعاونك مع العدو).
(الشعب يعرف كيف يعاقب الخونة).
وهجم البحر والأعداء، وامتزجا بصرخة رجل: (البحر من ورائكم والعدو أمامكم).
فصاح طارق بن زياد بصوت متهدج: (ولكني أنا الذي هزم الأعداء).
فقيل له إن ما يقوله لا علاقة له بالتهمة الموجهة إليه.
(...)
3 الإعدام
هربت النجوم، فها هم أولاء قد أتوا، وفتحوا باب الزنزانة، ودلفوا إلى داخلها جرادًا جائعًا، ولم يدهشوا عندما ألفوا طارق بن زياد جثة هامدة، إنما سارعوا ينقلونه إلى ساحة المدينة، وهناك تلوا الحكم بإعدامه شنقًا، ثم سألوه عن رغباته الأخيرة، فلم يفه بكلمة، فعَدُّوا صمته دليلاً على عدم وجود ما يرغب فيه، وبعدئذ تدلى مشنوقًا.
من مواطن مثالي إلى السيد مدير الشرطة: خضوعًا لأوامركم، أرجو السماح لي بأن أموت .
.................................................. .................................................. ........................................
الطائر الأخضر
أحرق أبو حيان التوحيدي كل كلماته المكتوبة على الورق، ورمق رمادها بتشف متنهدًا بارتياح. وأحسّ بالجوع، ولم يجد في بيته ما يصلح لأن يأكله، فمسح فمه بظهر يده، وحمد الله. ووقف أمام المرآة، فلم يعجب بما رأى، وتحوّل خروفًا تحوّل هرّا تحوّل ذئبًا تحوّل طائرًا أخضر الريش، وخرج من النافذة المفتوحة، وطار فوق البيوت، وحطّ على غصن شجرة، وراقب بفضول رجلاً يجلس في حديقة قصره محاطًا بالكثير من ندمائه وخدمه وحراسه، وقد تطلع الرجل حوله، فرأى كل شيء جميلاً، فالعشب أخضر، والأشجار خضر مثقلة أغصانها بالثمر الناضج، والسماء زرقاء، والشمس مشرقة، والورد متنوع الأشكال والألوان، وتساءل الرجل بصوت مرتفع منتش: (هل هناك رجل في العالم أسعد مني?).
فتنافس جميع الذين كانوا متحلقين حوله على التأكيد له أنّه أسعد رجل وأقوى رجل وأرحم رجل وأغنى رجل وأسخى رجل. فاغتاظ الطائر الأخضر، وتحوّل غرابًا أسود، ونعب نعيبًا أجش أزعج الرجل، ودفعه إلى أن يأمر حراسه بطرد الغراب من حديقة قصره، فحاولوا وأخفقوا، وحنوا رؤوسهم خجلين بينما ظل الغراب يطير من شجرة إلى شجرة مواظبًا على إطلاق نعيبه. فاضطر الرجل إلى ترك الحديقة غاضبًا، فاغتبط الغراب، وطار مبتعدًا عن الحديقة بأقصى سرعة حتى بلغ أحد الأزقة، وحطّ على سلك كهربائي، ونظر إلى أطفال يلعبون بمرح صاخبين، فزال عنه حنقه، وتحوّل عصفورًا مغردًا، فلم يتنبه الأطفال إليه، واستمروا يلعبون ضاحكين. فطار العصفور، ورأى في أثناء طيرانه معركة ضارية بين جيشين، فتحوّل طائرة حربية ألقت قنابلها فوق الجيشين، وأبادتهما أجمعين. وطارت الطائرة بعيدًا عن أشلاء الجثث الممزقة، وحلقت فوق ساحة سجن يضرب حراسه سجناءهم بالعصي الغليظة، وقذفت بناءه بقنابلها وهدمته. فبادر السجناء توّا إلى بناء سجن جديد ذي أسوار شاهقة. ورأت الطائرة سفينة تمخر البحر، ويظن ركابها أنّ الطوفان يجتاح الأرض بكاملها، فتحوّلت الطائرة حمامة بيضاء طارت وعادت بعد حين إلى السفينة تحمل في منقارها غصنًا أخضر يقطر دمًا أو حبرًا أحمر
.................................................. .................................................. .......................
العشاء الأخير
تسكن عائلة الحواصلي وعائلة الخربوطلي في بيتين متجاورين، وتسود بينهما علاقات ودّية تجعلهما أشبه بأهل بيت واحد. ولكنّهما اختلفتا فجأة بسبب كلب اقتنته عائلة الحواصلي. واحتجّت عائلة الخربوطلي على وجوده قائلة: إنّ الكلب نجس، وأنفاسه تنجّس كلّ شيء في دائرة قطرها أربعون ذراعًا. فكان ردّ عائلة الحواصلي أنّ كلبها مطيع، مؤدّب، مهذّب، لطيف، مسالم، وديع، ذكي، لا ينبح ولا يعضّ، يلاعب الأولاد ويحرس البيت.
وعندما تكاثرت احتجاجات عائلة الخربوطلي، سمعت من عائلة الحواصلي جوابًا باردًا صارمًا: الكلب كلبها والبيت بيتها، وهي حرّة تفعل ما تشاء، فاعتقدت عائلة الخربوطلي أنّها قد أهينت إهانة بالغة، وسارعت إلى شراء كلب شرس، يعضّ وينبح ليلاً ونهارًا، ويهاجم كلّ من يراه، ويحلو له كلّما خرج للتنزه في الحارة أن يرفع إحدى قائمتيه الخلفيتين ويبول على باب البيت الذي تسكنه عائلة الحواصلي التي نبهت عائلة الخربوطلي إلى ما يفعله كلبها كلّ يوم، فلم تتخذ عائلة الخربوطلي أي إجراء، واكتفت بالقول: إنّ الكلب مجرد حيوان ولا يمكن التفاهم معه، لأنّه لا يعرف اللغة العربية. فصبرت عائلة الحواصلي آملة أن تتبدّل الأحوال، ولكن لا شيء تبدّل، وبات بيتها ذا رائحة مقززة لا تطاق.
وفي صباح يوم من الأيام، وجدت عائلة الخربوطلي كلبها مقتولاً، فحزنت عليه حزنًا شديدًا، ولكنّها لم تتهم أحدًا بقتل كلبها، وحرصت على أن تشيع الفقيد تشييعًا يعبّر عمّا تكنّ له من محبة، فوُضع الكلب في نعش غُطّي بحرير وردي اللون، وسار الرجال والأطفال وراء النعش بخطوات بطيئة وثياب سود منكسي الرؤوس بينما كانت النساء يطلقن الولاويل التي تندب من مات في عزّ الشباب وريعان الصبا.
وبعد أسابيع من مصرع الكلب، دعت عائلةُ الخربوطلي عائلةَ الحواصلي إلى عشاء تعود فيه العلاقات الودية إلى سابق عهدها، فرحبت عائلة الحواصلي بتلك الدعوة ولبتها، وجاء إلى العشاء الرجال والنساء والأطفال وبرفقتهم كلبهم، فإذا الأبواب بعد دخولهم تغلق سرًّا وبإحكام شديد، ويهجم رجال عائلة الخربوطلي ونساؤها وأطفالها بالسكاكين على عائلة الحواصلي وكلبها، ويذبحون الجميع قبل إطعامهم، ويدفنونهم في حديقة البيت.
وخلعت عائلة الخربوطلي الثياب السود، وأذاعت في الحارة نبأ مفاده أنّ عائلة الحواصلي اضطرت بغتة إلى السفر. ولكنّ بهجتها لم تستمر، ففي كلّ صباح تجد على باب بيتها ما يدلّ على أنّ كلبًا ما قد بال عليه في الليل، واستخدمت كلّ السبل لضبط الفاعل ومعرفته، فلم توفق. وزعم بعض السكارى والمقامرين ورواد الملاهي الذين يعودون إلى بيوتهم في آخر الليل أنّهم رأوا كلب عائلة الحواصلي يبول على الباب، فسُخر من زعمهم، فالكلب رحل برفقة عائلته المسافرة، وهو كلب مؤدّب ومهذّب، لا يمكن أن يبدر منه ما لا يليق .
.................................................. .................................................. ..........................
خضراء
وقفت المرأة في الحديقة، يطلّ عليها من الأعالي قمر من حجر أصفر، وكانت قدماها اللتان تطآن التراب عاريتين. وتناهى إلى سمعها غناء خشن ناء، فأحنت رأسها بانكسار. وكان الخوف في تلك اللحظة طيرًا أبيض، مذبوح العنق.
وارتجف جسد المرأة، واغرورقت عيناها بالدموع، وابتدأ لحمها يتصلب شيئًا فشيئًا، ونمت جذور في باطن قدميها، وشقّت التراب الجاف، وراحت تتغلغل فيه بينما كانت المرأة لا تزال تبكي منكّسة الرأس. وبغتة ندت عن المرأة صرخة ذعر خافتة، ورفعت ذراعيها إلى أعلى محاولة التخلص من التراب غير أن ذراعيها تيبستا وبقيتا مرفوعتين. وتمايل الجسد يمنة ويسرة، ونضبت دموع العينين رويدًا رويدًا، وتحول اللحم خشبًا اكتسى بقشرة متشققة. وأقبل الشتاء فيما بعد، وغسلت أمطاره المرأة المثبتة في التراب. ثم أتى الربيع، فبدأت تنبت أوراق خضر صغيرة في ذراعي المرأة وشعرها، ثم ما لبث أن انبثق زهر كثير.
وسطعت شمس الصيف على الحديقة، وعندئذ أقبل صاحب الحديقة، وكان رجلاً هرمًا، فألفى أشجار التفاح في حديقته مثقلة الأغصان بالثمار عدا شجرة واحدة لم يتحول زهرها تفاحًا، فاستاء منها، وسارع إلى إحضار فأسه، وراح يهوي بها على جذع الشجرة، وتوالت ضرباته حتى سقطت الشجرة على الأرض ميتة .
.................................................. .................................................. ...........................
رجل غاضب
رجال يرتعدون متلاصقين، ينصتون لدوي انفجارات نائية، وتحدق أعينهم بتحفز وحذر إلى رجل صارم الوجه، يقف قبالتهم مشدود القامة، منفرج القدمين، ويحاول ألاّ يستسلم لغضب جامح. وقد قال بصوت بذل جهده كي يكون هادئًا: (أعرف أن مهمتي ستكون شاقة، لكنها ستصبح سهلة إذا تعاونتم معي. مهمتي الآن إقناعكم بأن الموت غير مخيف ولا يستحق أن تهربوا منه).
بقي الرجال صامتين، فأشار الرجل الغاضب بيده نحو رجل طويل القامة، عريض الكتفين، وقال له آمرًا: (أنت. تكلَّم).
- (ماذا أقول).
- (قل ما تشاء).
- (أنا متزوج. وإذا متّ، فمن سيطعم امرأتي).
وبلل شفتيه بلسانه، ثم أضاف بخجل: (أنا غيور وأحب امرأتي، ولا أرغب في تركها لرجل آخر).
فضحك الرجل الغاضب ضحكة هازئة، وأشار إلى رجل ثانٍ متسائلاً: (وأنت).
- (أنا لي خمسة أولاد، ومن واجبي رعايتهم حتى يكبروا ويصبحوا شبانًا).
- (وأنت).
- (ليس في حياتي سوى البؤس، فلماذا أموت).
- (وأنت).
- (أنا لا أريد أن أموت لأني أحب الحياة حبّا لا يوصف).
فصاح الرجل الغاضب بصوت متهدج: (ولأنك تحب الحياة، يجب أن تموت).
ورمق الرجال بنظرة لوم وتأنيب، ثم تابع الكلام بصوت بارد: (أنتم جبناء، وإذا لم تختاروا الموت فستفقدون ما تحبون).
وعمّ ضجيج حاد انبثقت منه أصوات نزقة:
(لا نريد أن نموت).
(لن نموت كالكلاب).
(الحياة أفضل من القبر).
(مت وحدك).
(جبان حي أفضل من شجاع ميت).
فصرخ الرجل الغاضب متضرّعًا: (أنا أحبكم.. أحب كل الناس. ولأني أحبكم أريد أن تجابهوا العدو وتموتوا).
(هيا اذهب ومت إذا كنت غير خائف من الموت).
دسّ الرجل الغاضب يده في جيبه، وأخرج منه مسدسًا قاتم اللون، فبادر الرجال إلى التراجع بحركة وجلة، فصاح الرجل الغاضب: (لا ترتعبوا. لن أؤذيكم. أنتم ستقتلون في مخادع النوم).
ورفع مسدسه، وألصق فوهته بصدغه، وقال مبتسمًا: (الموت كما قلت لكم تافه سخيف).
وضغط بإصبع هادئة زناد المسدس، فدوى طلق ناري، وتهاوى الرجل الغاضب دامي الرأس بينما كان دوي الانفجارات يقترب رويدًا رويدًا منذرًا محاصرًا .
.................................................. .................................................. .................................
الرعد
لا تذهب الغيوم صباحًا إلى المدرسة، وأنا أمرت الشمس بألاّ تشرق، فلم تطعني، فعزمت على الانتقام منها حين أصبح طويل القامة.
وحملقت إلى معلم الحساب الذي يملك وجهًا مثلث الشكل، فانتبه إلي، وصاح بي غاضبًا: (انهض يا ولد).
فنهضت واقفًا، بينما تابع المعلم مخاطبتي بصرامة واشمئزاز: (كفّ عن مسح أنفك بكمِّ قميصك).
فتجمدت، فأردف المعلم قائلاً: (أجبْ بسرعة.. لدينا عشرة ملايين شخص، شنقنا سبعة ملايين، فكم شخصًا بقي على قيد الحياة).
فأجبت فورًا: (لا أعرف).
فقال المعلم بحنق: (أف! إلى متى ستظل تلميذًا جاهلاً?!).
فقلت له بفتور: (أنا أكره الحساب).
فاحمرَّ وجه المعلم، وقال بلهجة حادة: (ها... إذن أنت تكره الحساب).
وصمت لحظة متجهِّم الوجه، ثم استأنف الكلام متسائلاً بلهجة هازئة: (وماذا تكره أيضًا هيا أخبرنا).
- (أكره الشتاء).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره الشتاء والصيف والخريف والربيع).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره الليل والنهار).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره الشمس والقمر والنجوم).
- (وماذا تكره أيضًا).
- (أكره الأغاني والقطط والعصافير).
- (وماذا تكره...).
- (أكره الرجال أكره النساء أكره الأولاد).
................
عندئذ صاح المعلم: (اسكت. ستظل تلميذًا جاهلاً).
فاخترعت توّا قنبلة ذرية، وطوَّحت بها بأقصى ما أملك من قوة، فانفجرت، وأشرقت الشمس على أنقاض .
.................................................. .................................................. ....................................
الكذب
أنهى المعلم درسه قائلاً لتلاميذه: (والآن وقد أصبحتم تعلمون أن أعظم ما في الإنسان يكمن في رأسه، فإياكم ونسيان هذه الحقيقة الرائعة).
فتبادل التلاميذ النظرات الدهشة، وراقبوا المعلم بفضول بينما كان يغادر قاعة الدرس مشدود القامة، مرفوع الرأس. وظلوا لائذين بالصمت هنيهات، ثم ما لبثوا أن نهضوا عن مقاعدهم، وتراكضوا منطلقين نحو باحة المدرسة. وهناك لم يلعبوا كعادتهم، إنما تجمعوا وراحوا يتجادلون حول ما قاله المعلم.
واستمرّت أصواتهم تتعالى متحمسة أشدّ الحماسة، حتى قرع الجرس معلنًا بدء درس جديد. وعندئذ عادوا إلى قاعة الدرس، وجلسوا على المقاعد منتظرين قدوم المعلم بلهفة وتحفّز، غير أن المعلم لم يحضر، إنما أقبل مدير المدرسة صارم الوجه، وقور الخطى، وأخبرهم أن معلمهم أصابه صداع مباغت، وطلب إليهم بصوت خشن أن يقضوا وقت الدرس في مطالعة عشر صفحات من كتاب التاريخ، ونصحهم بعدم التكاسل في نشدان العلم.
ولم يكد المدير يغادر قاعة الدرس حتى عاد التلاميذ إلى الجدل ثانية:
(المعلم لم يكذب).
وصاح واحد من التلاميذ بلهجة واثقة: (الرأس موجود فقط من أجل حَمل العينين والأنف والحاجبين والشعر والأذنين).
وطال الجدال واشتدّ، ثم انتهى أخيرًا بالاتفاق على أن التجربة وحدها القادرة على إعطاء البرهان على كذب المعلم أو صدقه.
واختار التلاميذ واحدًا منهم. كان أصغرهم سنًا، ذا عينين زرقاوين وشعر أشقر. وقد سارع إلى الاستلقاء على الأرض ضاحكًا فخورًا، وبادر التلاميذ إلى فصل رأسه عن جسده بمدية مرهفة الحد، ثم حملوا الرأس، وتطلعوا إلى جوفه من ثقب العنق المقطوع، فلم يبصروا سوى عتمة. عندئذ سارعوا إلى إحضار حجر من باحة المدرسة، وكان الحجر صلدًا وصلبًا، ووضعوا الرأس على أرضية قاعة الدرس، وانهالوا عليه ضربًا بالحجر حتى تكسّر. وعندما أبصروا ما يحتوي ضحكوا بهزء، ورمقوا بقرف النخاع الشبيه بنخاع الخروف الذي يباع نيئًا في دكاكين القصابين، وهزوا رؤوسهم بأسف، وقالوا بثقة: (كذب المعلم).
بعدئذ أحضروا صمغًا، وألصقوا قطع الرأس بعضها ببعض، ثم ألصقوا الرأس بالجسد الملقي على الأرض، وتبادلوا نظرات تنمّ عن انتصار أكيد، وردّدوا ثانية: (كذب المعلم).
ولكز أحدهم الصغير ذا العينين الزرقاوين والشعر الأشقر، فوثب على الفور واقفًا، وصاح متسائلاً بفضول: (هل كذب المعلم
.................................................. .................................................. ....................) .
رجال
أقسم عبد الحليم المرّ أنه سيطلق زوجته نبيلة إذا ما تجرأت على الخروج وحدها من البيت من غير إذنه، فحرصت نبيلة بعد قسمه على الخروج من البيت كل يوم. فغضب، وأقسم أنه سيطلّقها إذا ما تجرأت على المشي في الشوارع بغير ملاءة، فهجرت نبيلة ملاءتها السوداء، واستخدمتها ممسحة للبلاط. فغضب، وأقسم أنه سيطلّقها إذا ما علم أنها تكلّم رجلاً غيره. وعاد ظهر أحد الأيام