عاشق من فلسطين
14/04/2005, 15:12
العالم مكان أفقر وأكثر إثارة للاكتئاب وأقل بعثًا للأمل من دون أمثال إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي وآخرين أقل شهرة. هؤلاء الأشخاص المتعِبون، لأنفسهم ولغيرهم، يمنعون تسلُّل التعب والضجر إلى الحرية – حرية الضمير والعقل. نحن أقل حرية بغيابهم، لا لأن الغياب يقلِّل ثروتنا من التنوع، ولكن لأنهم يمنعوننا من الغرق في الدناءة والصَّغار.
العرب – والفلسطينيون بخاصة – أفقر وأضيق آفاقًا من دون إدوارد سعيد، الذي غادر إلى ما وراء السماء السابعة في 25/9/2003. ساعَدَنا مؤلِّف الثقافة والإمبريالية أن نرفض التبعية للأمريكيين – أعني للسلطة – من دون أن نستسلم لإغراء القومية الضيقة أو الأصولية المنغلقة، أي لسلطات "القبيلة" ووعي "القبيلة"، كما كان يمكن له أن يقول. ساعدنا أن نرفض بوش من دون أن نلتحق بصدام أو بابن لادن، كما يفعل بعضنا. لكنه ساعدنا أيضًا أن نرفض صدام وابن لادن من دون أن نلتحق ببوش، على غرار ما يفعل مكية وشركاه. والثلاثة – الإمبراطور والطاغية والظَّلامي – هم الذين يحتلون آفاقنا منذ عقود.
يخترق عمل إدوارد سعيد كلَّه توترٌ لا يقبل التسوية بين وعي المثقَّف ووعي القبيلة، بين التضامن والنقد، بين الجمالي والاجتماعي، بين الأخلاقي والسياسي، بين المعرفة والسلطة. "لم أشعر مطلقًا بحاجة إلى إغلاق الفجوة، لكنني آثرت أن أتركهما كمتناقضين، ودائمًا شعرت بأن لوعي المثقف الأولوية على وعي القبيلة"، قال سعيد في مقابلة مع صحيفة The Guardian في 10/12/2001. لم يشعر بحاجة إلى إغلاق الفجوة لأنه يسكن فيها. هذه الفجوة هي نفسها التوتر الذي شخَّصه تيودور أدورنو بين الجمالي والاجتماعي، ورأى أنه توتر واسِمٌ للحَداثة وممتنع على التسوية.[1]
ولم يمنعه تضامنُه مع "قبائله" الفلسطينية والعربية، وغير الغربية عمومًا، من إعمال مبضع نقده في السلطات والهويات وسياسات الهوية في هذا المجال ما بعد الكولونيالي المضطرب. بل إنه لم يتضامن مع هذه القبائل إلا بقدر ما هي مضطهَدة ومفترى عليها، وبقدر ما هي ضحية للسلطة الإمبريالية وللتمثيلات التي تنتجها. لكن تضامنه من النوع التعاقدي: أتضامَن محتفظًا بحقِّي في النقد، باستقلال ضميري وعقلي؛ إذ: "لا تضامن بلا نقد." لكن سعيد لا يبيح لنفسه أن ينتقد إلا لأن تضامنه مع المضطهَدين لا جدال فيه. فالتضامن بلا نقد تعصُّب وقبلية، والنقد بلا تضامن عداء وتجريح مجاني.
هذا هو الفرق الجوهري، الذي لا يقبل الاختزال، بينه وبين عبيد القوة الأدنياء من أضراب كنعان مكية وفؤاد عجمي. فهو لا ينتقد المضطهَدين من موقع الالتحاق السياسي والثقافي بمضطهديهم؛ لكنه كذلك لا يمنح المضطهَدين صكَّ براءة من ارتكاب أسوأ ما يفعله مضطَّهِدوهم. وهو يصدر، ضمنًا، عن مبدأ تُصادِق عليه تجاربُ حركات مقاومة السلطة في عصرنا كلُّها: أن تكون على حقٍّ لا يعني أنك محقٌّ في كلِّ ما تفعل. فشرعية القضايا لا تضمن في شيء شرعية الوسائل، كما قال القس ديزموند توتو.[2] من هذا الباب كان موقف إدوارد سعيد السلبي من العمليات التفجيرية الفلسطينية ضدَّ المدنيين الإسرائيليين. فقد كان يسعى على الدوام إلى استعادة السموِّ الأخلاقي للقضية الفلسطينية، ولم يستطع أن يفهم كيف نكافح من أجل الحياة بوسائل تقضي على الحياة. وفي هذا السياق ساهم، إلى جانب مصطفى البرغوثي وحيدر عبد الشافي، في إطلاق "المبادرة الوطنية الفلسطينية" الداعية إلى استخدام وسائل غير عنيفة في مقاومة الاحتلال. ومن باب التضامن النقدي أيضًا دفاعُه عن العرب – الدفاع الذي لم يمنعه من صبِّ احتقاره كلِّه على رؤوس حكَّامنا المفلسين أخلاقيًّا وسياسيًّا.
ولعلنا سنفتقده، أكثر وأكثر، في هذه المرحلة التي يلتقي فيها أطرافٌ متنوعون على الحطِّ من شأن العرب وتشويه صورتهم، أمام أنفسهم وأمام العالم، وتشكيكهم في جدارتهم الإنسانية والحضارية. وعن الخلفية نفسها يصدر دفاعُه عن الإسلام: فهو يرى أن التمثيلات الغربية للعرب والمسلمين والفلسطينيين وسائل مكمِّلة لعلاقة السيطرة والفتح التي واكبت العلاقة الإمبريالية الحديثة.
والأصح في الحقيقة أن نقول إنه يقاوم، بكلِّ قواه، مختلف أشكال التشويه والإساءة إلى الفلسطينيين أو العرب أو الإسلام، أكثر من القول إنه يدافع عنهم. فهو يحامي عنهم، لا بوصفهم بني قومه، بل كمضطهَدين ومحتقَرين وخاسرين. ولذلك كان أيضًا متضامنًا مع معاناة اليهود حين كانوا في صفِّ الضحايا. وأكثر ما كان يثير حنقه ذلك الموقف الذي يشكِّك في اضطهاد اليهود السابق. فهذا التشكيك يوحي بأننا لسنا ضدَّ الاضطهاد إلا حين نكون نحن ضحاياه؛ وهو ما لا ينبغي أن يرتضيه "ضحايا الضحايا" السابقين. ولا شك أن كون الفلسطينيين والعرب "قبيلته" سهَّل عليه فهمَهم والتعاطفَ معهم، لكنه لم يجعل من الهوية منهجًا للمعرفة، ولا من "القبيلة" شرعة أخلاقية، ولا من التضامن دستورًا لفكره وعمله: "لم أشعر قط أني أنتمي حصرًا إلى بلد واحد بعينه، كما لم أستطع أن أتماهى إلا مع القضايا الخاسرة"، كتب في مجلة The Nation الأمريكية في العام 1991.
ليس إدوارد سعيد سياسيًّا. لكن السياسة التي يغيب عن أفقها هذا "اللاسياسي" الميؤوس منه تنحطُّ كسياسة؛ أو لنقل إن السياسة أهم من أن تُترَك للسياسيين، وبخاصة بالنسبة لشعب يتعرَّض لإبادة سياسية ومعنوية غير مسبوقة، مثل الشعب الفلسطيني. ثمة بُعد تأسيسي في كلِّ عمل سياسي، وكلُّ عمل سياسي لا يستوعب هذا البُعد ما وراء السياسي لن يفضي، من موقع الضعف الحالي، إلى نتائج تختلف عن الوضع الحالي.
نكسب فلسطين مرتين إذا وضعنا الكفاح الفلسطيني في سياق القيم الإنسانية الكونية وسياق الكفاح التحرري العالمي: نكسبها لأننا نحرر فلسطيننا الداخلية، جدارتنا بها واستحقاقنا لها، حين نضعها ضمن هذين الإحداثيين؛ ونكسبها لأن فرص استعادة فلسطين الخارجية تغدو أكبر. ونخسر فلسطين مرتين إذا جعلنا منها سلَّمًا إلى السلطة وتسليم حياة أجيالنا للطوارئ وأحوالها وحكامها: مرة بترك شعبها بين قتلة عنصريين، ومرة بمنح أمثال شارون فرصة للتفوق الأخلاقي. قد لا نستطيع أن نستعيد فلسطين لأهلها؛ لكننا، قبل ذلك، لن نستطيع استعادة الأهل لفلسطينهم إلا بقدر ما نتابع عمل إدوارد سعيد لاستعادة الجوهر الأخلاقي للقضية الفلسطينية كقضية حرية وعدالة.
فلسطين اليوم هي الاسم الآخر للحرية في العالم بقدر ما اتَّجه إسرائيل لأن يصبح الأمس الآخر للأمن (و"مفتاح الأمن العالمي كلِّه"، كما زايدت قبل زمن غير بعيد غوندوليزا رايس). وحكوماتنا وسياستنا "إسرائيلية" كثيرًا و"فلسطينية" قليلاً، بصرف النظر عن العلاقات والسفارات و"التطبيع". فالعلاقات والتطبيع نتيجة "الأسْرَلَة"، وليست سببها. وإذا كان تاريخ العقود الثلاثة الأخيرة هو تاريخ اندحارنا السياسي والعسكري أمام إسرائيل وحلفائها، فإنه قبل ذلك تاريخ اندحارنا الأخلاقي والقيمي والثقافي، أي تاريخ "أسْرَلَتنا"، كما تجسَّد في مسوخ اجتمعت لهم وفيهم القسوة والجهل والحقد، من شاكلة صدام حسين ونظرائه.
مشكلة "اللاسياسي" إدوارد سعيد هي مشكلة السياسة في عصرنا: هل السياسة ممكنة من دون "قبيلة" ومن دون عدو؟ من دون هوية توحِّدنا "نحن" وتميِّزنا عن "هم"؟ من دون أوطان وحدود وأمن؟ هل هناك سياسة لا ترتد في النهاية إلى سياسة هوية؟ هل هناك سياسة لا تستبطن الحرب؟
لكننا قد نقترب من فهم عمل إدوارد سعيد إذا تبيَّنا طابعه "الإرهابي": فاستراتيجيته لا تتوسل رفض الهويات لمنع الحرب، بل تسريب الحرب والتنازع داخل كلِّ هوية مستقرة. التهجين والتنازع والتركيب والتوتر هي الألغام التي أدخلها الفلسطيني المحروم من الأمن في الهويات التي لا تعترف به ولا تمنحه أمنًا.
العرب – والفلسطينيون بخاصة – أفقر وأضيق آفاقًا من دون إدوارد سعيد، الذي غادر إلى ما وراء السماء السابعة في 25/9/2003. ساعَدَنا مؤلِّف الثقافة والإمبريالية أن نرفض التبعية للأمريكيين – أعني للسلطة – من دون أن نستسلم لإغراء القومية الضيقة أو الأصولية المنغلقة، أي لسلطات "القبيلة" ووعي "القبيلة"، كما كان يمكن له أن يقول. ساعدنا أن نرفض بوش من دون أن نلتحق بصدام أو بابن لادن، كما يفعل بعضنا. لكنه ساعدنا أيضًا أن نرفض صدام وابن لادن من دون أن نلتحق ببوش، على غرار ما يفعل مكية وشركاه. والثلاثة – الإمبراطور والطاغية والظَّلامي – هم الذين يحتلون آفاقنا منذ عقود.
يخترق عمل إدوارد سعيد كلَّه توترٌ لا يقبل التسوية بين وعي المثقَّف ووعي القبيلة، بين التضامن والنقد، بين الجمالي والاجتماعي، بين الأخلاقي والسياسي، بين المعرفة والسلطة. "لم أشعر مطلقًا بحاجة إلى إغلاق الفجوة، لكنني آثرت أن أتركهما كمتناقضين، ودائمًا شعرت بأن لوعي المثقف الأولوية على وعي القبيلة"، قال سعيد في مقابلة مع صحيفة The Guardian في 10/12/2001. لم يشعر بحاجة إلى إغلاق الفجوة لأنه يسكن فيها. هذه الفجوة هي نفسها التوتر الذي شخَّصه تيودور أدورنو بين الجمالي والاجتماعي، ورأى أنه توتر واسِمٌ للحَداثة وممتنع على التسوية.[1]
ولم يمنعه تضامنُه مع "قبائله" الفلسطينية والعربية، وغير الغربية عمومًا، من إعمال مبضع نقده في السلطات والهويات وسياسات الهوية في هذا المجال ما بعد الكولونيالي المضطرب. بل إنه لم يتضامن مع هذه القبائل إلا بقدر ما هي مضطهَدة ومفترى عليها، وبقدر ما هي ضحية للسلطة الإمبريالية وللتمثيلات التي تنتجها. لكن تضامنه من النوع التعاقدي: أتضامَن محتفظًا بحقِّي في النقد، باستقلال ضميري وعقلي؛ إذ: "لا تضامن بلا نقد." لكن سعيد لا يبيح لنفسه أن ينتقد إلا لأن تضامنه مع المضطهَدين لا جدال فيه. فالتضامن بلا نقد تعصُّب وقبلية، والنقد بلا تضامن عداء وتجريح مجاني.
هذا هو الفرق الجوهري، الذي لا يقبل الاختزال، بينه وبين عبيد القوة الأدنياء من أضراب كنعان مكية وفؤاد عجمي. فهو لا ينتقد المضطهَدين من موقع الالتحاق السياسي والثقافي بمضطهديهم؛ لكنه كذلك لا يمنح المضطهَدين صكَّ براءة من ارتكاب أسوأ ما يفعله مضطَّهِدوهم. وهو يصدر، ضمنًا، عن مبدأ تُصادِق عليه تجاربُ حركات مقاومة السلطة في عصرنا كلُّها: أن تكون على حقٍّ لا يعني أنك محقٌّ في كلِّ ما تفعل. فشرعية القضايا لا تضمن في شيء شرعية الوسائل، كما قال القس ديزموند توتو.[2] من هذا الباب كان موقف إدوارد سعيد السلبي من العمليات التفجيرية الفلسطينية ضدَّ المدنيين الإسرائيليين. فقد كان يسعى على الدوام إلى استعادة السموِّ الأخلاقي للقضية الفلسطينية، ولم يستطع أن يفهم كيف نكافح من أجل الحياة بوسائل تقضي على الحياة. وفي هذا السياق ساهم، إلى جانب مصطفى البرغوثي وحيدر عبد الشافي، في إطلاق "المبادرة الوطنية الفلسطينية" الداعية إلى استخدام وسائل غير عنيفة في مقاومة الاحتلال. ومن باب التضامن النقدي أيضًا دفاعُه عن العرب – الدفاع الذي لم يمنعه من صبِّ احتقاره كلِّه على رؤوس حكَّامنا المفلسين أخلاقيًّا وسياسيًّا.
ولعلنا سنفتقده، أكثر وأكثر، في هذه المرحلة التي يلتقي فيها أطرافٌ متنوعون على الحطِّ من شأن العرب وتشويه صورتهم، أمام أنفسهم وأمام العالم، وتشكيكهم في جدارتهم الإنسانية والحضارية. وعن الخلفية نفسها يصدر دفاعُه عن الإسلام: فهو يرى أن التمثيلات الغربية للعرب والمسلمين والفلسطينيين وسائل مكمِّلة لعلاقة السيطرة والفتح التي واكبت العلاقة الإمبريالية الحديثة.
والأصح في الحقيقة أن نقول إنه يقاوم، بكلِّ قواه، مختلف أشكال التشويه والإساءة إلى الفلسطينيين أو العرب أو الإسلام، أكثر من القول إنه يدافع عنهم. فهو يحامي عنهم، لا بوصفهم بني قومه، بل كمضطهَدين ومحتقَرين وخاسرين. ولذلك كان أيضًا متضامنًا مع معاناة اليهود حين كانوا في صفِّ الضحايا. وأكثر ما كان يثير حنقه ذلك الموقف الذي يشكِّك في اضطهاد اليهود السابق. فهذا التشكيك يوحي بأننا لسنا ضدَّ الاضطهاد إلا حين نكون نحن ضحاياه؛ وهو ما لا ينبغي أن يرتضيه "ضحايا الضحايا" السابقين. ولا شك أن كون الفلسطينيين والعرب "قبيلته" سهَّل عليه فهمَهم والتعاطفَ معهم، لكنه لم يجعل من الهوية منهجًا للمعرفة، ولا من "القبيلة" شرعة أخلاقية، ولا من التضامن دستورًا لفكره وعمله: "لم أشعر قط أني أنتمي حصرًا إلى بلد واحد بعينه، كما لم أستطع أن أتماهى إلا مع القضايا الخاسرة"، كتب في مجلة The Nation الأمريكية في العام 1991.
ليس إدوارد سعيد سياسيًّا. لكن السياسة التي يغيب عن أفقها هذا "اللاسياسي" الميؤوس منه تنحطُّ كسياسة؛ أو لنقل إن السياسة أهم من أن تُترَك للسياسيين، وبخاصة بالنسبة لشعب يتعرَّض لإبادة سياسية ومعنوية غير مسبوقة، مثل الشعب الفلسطيني. ثمة بُعد تأسيسي في كلِّ عمل سياسي، وكلُّ عمل سياسي لا يستوعب هذا البُعد ما وراء السياسي لن يفضي، من موقع الضعف الحالي، إلى نتائج تختلف عن الوضع الحالي.
نكسب فلسطين مرتين إذا وضعنا الكفاح الفلسطيني في سياق القيم الإنسانية الكونية وسياق الكفاح التحرري العالمي: نكسبها لأننا نحرر فلسطيننا الداخلية، جدارتنا بها واستحقاقنا لها، حين نضعها ضمن هذين الإحداثيين؛ ونكسبها لأن فرص استعادة فلسطين الخارجية تغدو أكبر. ونخسر فلسطين مرتين إذا جعلنا منها سلَّمًا إلى السلطة وتسليم حياة أجيالنا للطوارئ وأحوالها وحكامها: مرة بترك شعبها بين قتلة عنصريين، ومرة بمنح أمثال شارون فرصة للتفوق الأخلاقي. قد لا نستطيع أن نستعيد فلسطين لأهلها؛ لكننا، قبل ذلك، لن نستطيع استعادة الأهل لفلسطينهم إلا بقدر ما نتابع عمل إدوارد سعيد لاستعادة الجوهر الأخلاقي للقضية الفلسطينية كقضية حرية وعدالة.
فلسطين اليوم هي الاسم الآخر للحرية في العالم بقدر ما اتَّجه إسرائيل لأن يصبح الأمس الآخر للأمن (و"مفتاح الأمن العالمي كلِّه"، كما زايدت قبل زمن غير بعيد غوندوليزا رايس). وحكوماتنا وسياستنا "إسرائيلية" كثيرًا و"فلسطينية" قليلاً، بصرف النظر عن العلاقات والسفارات و"التطبيع". فالعلاقات والتطبيع نتيجة "الأسْرَلَة"، وليست سببها. وإذا كان تاريخ العقود الثلاثة الأخيرة هو تاريخ اندحارنا السياسي والعسكري أمام إسرائيل وحلفائها، فإنه قبل ذلك تاريخ اندحارنا الأخلاقي والقيمي والثقافي، أي تاريخ "أسْرَلَتنا"، كما تجسَّد في مسوخ اجتمعت لهم وفيهم القسوة والجهل والحقد، من شاكلة صدام حسين ونظرائه.
مشكلة "اللاسياسي" إدوارد سعيد هي مشكلة السياسة في عصرنا: هل السياسة ممكنة من دون "قبيلة" ومن دون عدو؟ من دون هوية توحِّدنا "نحن" وتميِّزنا عن "هم"؟ من دون أوطان وحدود وأمن؟ هل هناك سياسة لا ترتد في النهاية إلى سياسة هوية؟ هل هناك سياسة لا تستبطن الحرب؟
لكننا قد نقترب من فهم عمل إدوارد سعيد إذا تبيَّنا طابعه "الإرهابي": فاستراتيجيته لا تتوسل رفض الهويات لمنع الحرب، بل تسريب الحرب والتنازع داخل كلِّ هوية مستقرة. التهجين والتنازع والتركيب والتوتر هي الألغام التي أدخلها الفلسطيني المحروم من الأمن في الهويات التي لا تعترف به ولا تمنحه أمنًا.