-
عرض كامل الموضوع : حوار طويل عمره ثلاث سنوات- مع حسن نصر الله .
عبدالله السناوي
توقع حربا مفتوحة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل بالنيابة بعد سقوط بغداد قال: لا أعد بالنصر.. ولكننا سنوقع بهم خسائر باهظة استنادا إلى هذا الحوار: بدأ حزب الله فى الاستعداد للمواجهة العسكرية فى ربيع 2003 قصة نصر الله مع السفراء الأوروبيين السبعة الذين سألوه فى يوم واحد عن مستقبل نظام الحكم المصرى قصة أخرى يرويها عن صدام حسين والشيعة فى العراق استفاد من تجربة ياسر عرفات البيروتية فى التخفى وتغيير أماكن النوم من يوم لآخر
التقيناه فى شقة متواضعة فى تجمع سكنى يلعب فى باحته أطفال صغار كرة قدم قال: تولد عندى من خبرة قيادة حزب الله حسا سياسيا وإعلاميا وأمنيا
لم يكن يتصور أحد -مهما جمحت به التخيلات والمني- أن بمقدور مقاتلى حزب الله إلحاق هزيمة عسكرية محققة بجيش الدفاع الإسرائيلى على النحو الذى جرت به وقائع الصدامات البرية فى محيط بنت جبيل ومارون الرأس وعيترون. فما الذى جرى بالضبط؟.
وكيف استعد حزب الله فى صمت ولسنين طويلة لمنازلة آلة الحرب الإسرائيلية؟.
وكيف كان يفكر قائد المقاومة حسن نصر الله فى أعقاب احتلال العراق، وفى الآثار السلبية لبعض مواقف شيعة العراق على مجمل التحولات الاستراتيجية الخطيرة التى تهدد المنطقة، وتنذر بتفكيك حزب الله والهيمنة الكاملة على المشرق العربي، ولبنان بالخصوص.
1
دفعت المصادفات والمقادير بى فى إبريل 2003، وبعد أقل من شهر من غزو العراق واحتلال عاصمته بغداد، إلى حارة حريك فى الضاحية الجنوبية من بيروت للقاء أمين عام حزب الله حسن نصر الله.
لم يكن اللقاء مخططا، ولا فحواه مسموحا بنشره، كنا فى ذلك الوقت ببيروت للمشاركة فى اجتماع طارئ للمؤتمر القومى العربى للبحث فى تداعيات احتلال العراق، وحضر نصر الله هذا الاجتماع وتحدث فيه، ثم طرأت فكرة اللقاء معه بترتيب من نواف الموسوى أمين العلاقات العربية والدولية فى حزب الله، وعند الظهر طلب منا على نحو مفاجئ الوقوف عند مدخل الفندق الذى كان يعقد فيه المؤتمر بشارع الحمراء الشهير، وأخذتنا سيارة كأنها تخطفنا، وبدا أن السائق من الكوادر العليا فى حزب الله، يتصرف فى حدود مهمته، لكنه عندما أخذ يتحدث بدا مثقفا رفيعا وعلى إلمام كامل بما كان يجرى فى المؤتمر القومى العربى من محاورات ومناقشات. وعلى الجانب الأيمن من المقعد الأمامى بجوار السائق كان هناك مدفع كلاشينكوف، هذا سائق ورجل عسكرى مدرب وكادر سياسى يدرك ما يقول، ولكنه يتصرف فى حدود المهمة التى كلف بها.
وبدا أن هناك سيارات أخرى تتابع حركة السيارة التى أقلتنا إلى مكان مجهول للقاء قائد المقاومة، حتى لا يكون هناك من يحاول الوصول إليه والنيل من حياته.
وربما استلهم نصر الله أسلوب الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات فى مرحلته البيروتية أو استفاد من طرائقه فى التخفى وتغيير أماكن النوم من يوم لآخر، ومن اجتماع لآخر.
2
وصلت السيارة إلى الضاحية الجنوبية، ثم شقت طريقها إلى حارة حريك، قلعة حزب الله، والتى تدخل فيما يسمى المربع الأمني، قبل أن تدلف من بوابة حديدية كبيرة لما يمكن أن نسميه مع بعض التجاوز تجمعا سكنيا. فى باحة هذا التجمع كان هناك أطفال فى حدود سن العاشرة من العمر يلعبون كرة قدم، لا شيء فى المكان يدل على أنه متميز، أو أن قائد المقاومة وابن حارة حريك، يقيم فى إحدى مبانيها المتواضعة.
عند مدخل المبني، وأمام مصعد قديم، استقبلنا أحد كوادر الحزب، وأبلغ الحرس الخاص بالشيخ نصر الله، فى الدور الثالث بأن الضيوف قد وصلوا.
و.. كان اللقاء الذى استمر نحو ساعتين فى شقة متواضعة ومؤثثة بطريقة تذكرك ببيوت موظفى السكك الحديدية فى مصر. وبدأ الحديث الطويل من العراق وما جرى فيه وتداعيات أحداثه العاصفة على المنطقة، وبالذات على مستقبل حزب الله، ولعلى أستميح الشيخ نصر الله عذرا فى كشف بعض ما قاله يومها، فما كان يمنع النشر ذهب مع عملية الوهم المتبدد بتداعياتها الدراماتيكية.
3
فى هذا اليوم تطرق الشيخ نصر الله إلى ثلاث قضايا مقلقة وأبدى ملاحظاته عليها. القضية الأولي، تتعلق مباشرة باحتلال العراق والموقف منه.
وكانت تلك مشكلة، فحزب الله بحكم تكوينه طائفى وشيعي، وبحكم توجهاته العامة وطنى لبنانى وعروبي. ومن حيث هو شيعى بالتكوين، وحليف لإيران بالطبيعة، بدا أن هناك شحنا طائفيا فى لبنان، وداخل حزب الله نفسه، ضد نظام صدام حسين، ومن حيث هو وطنى وعروبى بدا حسن نصر الله -فى ذلك اليوم قبل أكثر من ثلاث سنوات- قلقاً على أن تأخذ هذه الأجواء الطائفية حزب الله إلى حيث لا يريد، أو أن تنال من طابعه القتالى والتحررى والمعادى للولايات المتحدة وإسرائيل.
قال نصر الله: انتظروا قليلا، فهذه تداعيات إنسانية وسياسية. وحاول أن يشرح لنا تعقيدات الموقف الشيعى فى العراق، وبطبيعة الحال ممتدا إلى لبنان، راويا قصة استمع إليها من أحد المراجع الشيعية العليا فى العراق، مؤداها أن هذا المرجع الشيعى الكبير اتصل بصديق له فور احتلال العراق واختفاء الرئيس السابق صدام حسين مباركا ومهنئا، فرفض الصديق تلك المباركة والتهنئة قائلا: لا أصدق أننا تخلصنا منه حتى أرى جثته، ثم أجلس على قبره ثلاثة أيام كاملة حتى أطمئن أنه لن يعود.
لم يكن نصر الله موافقا على تلك القراءات المبالغة فى عداوتها، بل أبدى خشية من أن تؤدى هذه المبالغات فى الثأر السياسى إلى غياب رؤية حقيقية لما سوف يجرى فى المنطقة.
4
وكانت ملاحظته الثانية، وثبت أنه مصيب فيها، أن احتلال بغداد ووجود القوات العسكرية الأمريكية بصورة مباشرة فى المشرق العربي، سوف يؤدى إلى تبنى خطط عسكرية جديدة ضد لبنان والمقاومة فيه، وكانت حسابات حسن نصر الله -فى ذلك الوقت- أن الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بنفسها بتلك العمليات العسكرية ضد حزب الله مستفيدة من وجودها العسكرى الكبير فى المنطقة، أو يحتمل أن تسند تلك المهمة إلى إسرائيل.
وقال: لا أعد بالنصر، ولكننا سوف نقاوم بشراسة، قد نُهزم، ولكننا سوف نلحق بهم خسائر باهظة.
وكانت تلك تقديرات واقعية لحدود قوة حزب الله فى ذلك الوقت.
ولعلى أميل إلى الاعتقاد- استنادا إلى هذا الحوار مع الشيخ نصر الله- ان الاستعداد الكبير للحرب ضد الولايات المتحدة بذاتها، أو مع إسرائيل بالنيابة عنها، بدأ فى الأسابيع الأولى من احتلال العراق.
وهناك- الآن- من يعتقد أن الاستعداد قد بدأ بعد تحرير الجنوب عام 2000. وقد تكون بالفعل جرت بعض الاستعدادات، لكن - باليقين- أن رفع مستويات التسليح والتدريب والتجنيد بدأ بعد غزو العراق مباشرة، فلا أحد يستعد بمثل هذا المستوى وهذه الجدية إلا تحت سقف اعتقاد سياسى واستراتيجى راسخ بأن الحرب قادمة لا محالة، وأن ثمة فى التطورات السياسية بالمنطقة ما يشير إلى هذا الاعتقاد ويؤكده.
وكانت قراءات نصر الله نافذة إلى ما سوف يحدث.
ولعل فضله الحقيقى أنه تحسب للأمر وأعد له، ولم يكتف بالتحليلات السياسية، واستخدم علاقاته الإقليمية فى إقناع حلفائه برفع مستويات التسليح.
وكانت تلك مفاجأته الكبرى فى حرب الصواريخ وفى المنازلة البرية عند بنت جبيل.
وعندما بدأت عمليات القتال وعد نصر الله مقاتليه ومواطنيه وأمته بالنصر، وهو ما لم يكن متأكدا منه قبل ثلاث سنوات.
5
و.. وكانت الملاحظة الثالثة للشيخ حسن نصر الله فى هذا الحوار الطويل تتعلق بمصر ودورها فى المنطقة. وكانت الملاحظة نافذة، وكأنها اكتشاف قومى عربى جديد للشيخ نصر الله.
أخذ يروى لنا أن سبعة من سفراء الاتحاد الأوروبى ببيروت طلبوا لقاء عاجلا معه أثناء مظاهرات الغضب المصرية الواسعة التى عمت شوارع العاصمة والمدن المصرية مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وقال إنه سأل نفسه عن سر هذا التدافع الدبلوماسى الغربى لطلب مثل هذه اللقاءات العاجلة فى هذا التوقيت، وبدا الأمر محيرا، حتى اكتشف -بحس سياسى وإعلامى وأمنى اكتسبه من خبرة قيادة حزب الله- بحسب تعبيره الحرفي، أن السؤال عن مصر ومستقبل نظامها السياسى فيما لو تصاعدت موجة الاحتجاجات الشعبية هو نقطة التقاطع فى ركام أسئلة تلقاها من السفراء الأوروبيين، وهو ما لفت نظره إلى الدور المحورى الذى تلعبه مصر فى الصراع على المنطقة، سلبا أو ايجابا، وكانت تلك الملاحظة التى أبداها أمام ضيوفه، وكلهم مصريون وقوميون عرب، تعبيرا عن تطور لافت فى التفكير السياسى لقائد ينتمى بالتكوين إلى طائفة سياسية ويتزعم حزبا ينتسب إليها.
وكانت مشكلة نصر الله -دائما- أن ينتصر للوطنى اللبنانى وللقومى العربى فيه، وهو شرط ضرورى لتوحيد الصف اللبنانى خلف المقاومة، والحصول على دعم شعبى عربى واسع، فى حرب كسر العظام مع آلة الحرب الإسرائيلية، فى مقابل تكوين سياسى طائفى داخلا فى تعقيدات المعادلات السياسية اللبنانية.
غير أنه لم يتوقع -يومها- أن يضفى نظام الحكم المصرى غطاء عربيا على العدوان الذى كان ينتظره وبدا فى الاستعداد لمواجهته.
وباليقين هو لم يراهن على النظام المصري، أو الجامعة العربية، فبيانات الشجب والإدانة هى أقصى ما كان يمكن تصوره، لكن المفاجأة أن النظام المصرى بدأ مع السعودية والأردن فى إدانة حزب الله ب المغامرة، وبدا مستعدا للمضى فى أية سيناريوهات أمريكية، قبل أن تنقلب الطاولة وتضرب الهزيمة المعنوية إسرائيل، فأخذ يتلعثم بما لا يمكنك ان تعرف ماذا يقول.
وكانت قمة المفاجآت السلبية للرئيس مبارك قوله إن مصر لن تحارب من أجل لبنان، وهو تصريح مسيء لمصر التى لم يطلب أحد منها أن تحارب، وأقصى ما طلبه اللبنانيون على لسان رئيس مجلس النواب نبيه برى هو دعم طلب وقف إطلاق النار، ولعل المواقف المصرية المهزوزة والمخجلة تستحق -بحق- طلب نصر الله من الحكام العرب أن يفكوا عنا.
ولعل اشارات نصر الله فى الحوار الطويل، الذى لم يكن للنشر قبل ثلاث سنوات، تكشف بعض الخطوط الرئيسية فى التفكير الاستراتيجى لقائد المقاومة، وتفسر إلى حد ما بعض ما يجرى الآن من مفاجآت فى ميادين السلاح.
6
كان الاعتقاد السائد أن أقصى ما بوسع قوات غير نظامية تنتهج أسلوب حرب العصابات فى مواجهة برية مع لواء جولانى الذى يمثل أعلى مراتب التدريب والكفاءة فى الجيش الإسرائيلى أن يلحق به خسائر باهظة، أو أن يجعل التوغل البرى مكلفا، ولم يكن أحد يعتقد أن قوات حزب الله لديها القدرة القتالية على إيقاف هذا التوغل عند نقاطه الأولي، وإلحاق الهزيمة الفادحة بالجيش الإسرائيلي، وإجباره على استدعاء قوات إحتياط إضافية، وعقد مؤتمر صحفى عاجل لوزير الدفاع مصحوبا برئيس هيئة الأركان لمنع الانهيار المعنوى فى إسرائيل والتحكم فى تداعيات هيستريا الخوف من مواجهة مقاتلى حزب الله، بتأكيد أن الخسائر الباهظة التى تكبدها الجيش الإسرائيلى لن تؤدى الى انكساره، وهذه لغة لم نتعودها من وزراء الدفاع الإسرائيليين، أو من رؤساء هيئة أركان جيش الدفاع، الذى قيل طويلا وكثيرا إنه لا يهزم، فإذا بنخبته العسكرية تسحق أمام حرب عصابات منظمة ومقتدرة. وقد صاحب تلك الهزيمة البرية عجز صريح لسلاح الطيران الإسرائيلى فى ضرب منصات صواريخ حزب الله، التى ضربت عمق الدول العبرية لأول مرة فى تاريخ الصراع، وأنزلت باقتصادها خسائر باهظة، وأثارت فزعاً غير مسبوق دعا نحو مليونى إسرائيلى إلى التزام الملاجئ لأكثر من أسبوعين -حتى الآن.-
7
السؤال الحاكم فى كل ما جري: من يصرخ أولا؟.
تعذب لبنان، وكما لم يحدث له من قبل، ودمرت أحد أجمل عواصم العالم بصورة بشعة، وضرب اقتصاده وسياحته. يكفى أن بيروت قد ضربت بنيتها التحتية وهدمت مبانى أحياء كاملة فيها بنحو سبعة آلاف طن متفجرات، أى أكثر مما تعرضت له بغداد أثناء الغزو الأمريكي، أو بما يفوق القوة التدميرية لقنبلة نووية، ونزح نحو ثلاثة أرباع مليون لبناني، وقتل وجرح آلاف أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، واستخدمت على نطاق واسع قنابل محرمة دولياً -بشهادة منظمة هيومان رايتس ووتش. غير أن لبنان أفشل- وبصورة تدعو للاعجاب- الرهان على تفككه الداخلى أثناء الحرب، وكانت تلك إحدى مفاجآتها.
وفيما يبدو أن إسرائيل بدأت فى الصراخ. غير أنه يصعب أن تتوقف الحرب فوراً، فالولايات المتحدة غير مستعدة لقبول هزيمة إسرائيلية بسلاح إيراني، وقد تمدد لإسرائيل مهلة أخرى حتى يتسنى لجيشها أن يحفظ ماء وجهه، أو أن يحقق إنجازا عسكريا يخول للسياسات الأمريكية فرض الشروط على لبنان والمقاومة فيه.
وقد تجبر إسرائيل، بدواعى الخوف من انهيار داخلي، على طلب وقف إطلاق النار، وقد تضطر الولايات المتحدة للدعوة إلى وقف القتال، هذه افتراضات، غير أن السياسة الأمريكية فى كل الأحوال سوف تحاول بضغوط على حلفائها الغربيين والعرب أن تملى الشروط، كما لو أن إسرائيل قد انتصرت. وهذه مأساة، ورئيس الأركان الإسرائيلى اعتبر مؤتمر روما، الذى شاركت فيه ثلاث دول عربية هى مصر والسعودية والأردن بالإضافة إلى لبنان، قد أعطى ضوءا أخضر للعدوان والاستمرار فيه والامتناع عن وقف إطلاق النار.
لم يقل رئيس الأركان الإسرائيلى أن مؤتمر روما بالإجمال أعطى مثل هذا الضوء الاخضر، بل خص الدول العربية بالذكر، واعتبر حضورها الهامشى تفويضا بقتل اللبنانيين.
8
فى البداية كان التقدير الزمنى للعمليات أسبوعا، وعندما فشلت إسرائيل فى ايقاف صواريخ حزب الله، منحتها الإدارة الأمريكية اسبوعا آخر، وقد تمنحها مددا إضافية، وكان الهدف هو كسر لبنان والمقاومة فيه، وتنفيذ الأجندة الإسرائيلية وبخاصة وضع قوات دولية على الحدود اللبنانية بحجم وصلاحيات تضمن أمن إسرائيل، وإبعاد قوات حزب الله عن الحدود، وتفكيكها مستقبلا، وعودة الجنديين الأسيرين بدون تفاوض أو تبادل للأسري، وهو ما يعنى إجمالا التخلص من صداع حزب الله فى رأس الجيش الإسرائيلي.
ومع الهزيمة العسكرية، بالوقائع والمعنويات، أخذت هذه الأجندة تهتز، وأخذ المعسكر الغربى يتصدع، وبدا ان هناك اتجاها واسعا بقيادة فرنسية لاستبعاد قيادة حلف الناتو للقوات الدولية فى الجنوب اللبناني، بل أخذت فرنسا فى إعداد مشروع قرار بوقف إطلاق النار استعدادا لتقديمه لمجلس الأمن، قد يختلف فى بعض جوانبه وصياغاته وتوازناته عن التصورات الأمريكية التى أيدتها فرنسا فى البداية، بل أصبح مستحيلا القبول بفكرة عودة الأسيرين الإسرائيليين بدون تفاوض غير مباشر وتبادل أسري، والأكثر من ذلك أن أصواتا لبنانية، من خارج حزب الله، بدأت ترتفع وتتساءل- ومعها حق: من يملى شروطه.. المنتصر أم المهزوم؟، وداعية لوجود القوات الدولية على جانبى الحدود، وليس على الجانب اللبنانى فقط. فإذا كان دور القوات الدولية، كما تطلب واشنطن، حماية إسرائيل من حزب الله، فمن يحمى لبنان من إسرائيل؟.
السؤال مشروع، والأهم أنه يستند الآن إلى حقائق السلاح.
وذلك مما لا يمكن أن تقبله أمريكا بسهولة، ولا أن تهضمه إسرائيل بسهولة، غير أن المضى فى الحرب والتخريب بدون قدرة تقريبا على إيقاف صواريخ حزب الله أو مواجهته برياً قد يجبر آلة الحرب فى النهاية على التوقف والاعتراف بالهزيمة، ثم محاولة الالتفاف عليها بغطاء عربى وغربي!.
وكان الاعتقاد الأمريكى أن مؤتمر روما قد يكون مهيأ لطبخة سياسية تفرض الأجندة الإسرائيلية، وتمهد لتنفيذ مشروع شرق أوسط جديد يخرج لبنان من المعادلة، ويستفرد بسوريا وإيران تاليا، بما قد يمكن للهيمنة الأمريكية أن تفرض كلمتها على المنطقة بدون ممانعة أو مقاومة. غير أن رياح السلاح الإسرائيلى لم تجر بما تشتهى وتتمنى الاستراتيجية الأمريكية.
9
مفاجآت حزب الله القتالية أوقفت طبخة روما، وأصدر الرئيس الأمريكى تعليمات لوزيرة خارجيته بإفشال أية قرارات لوقف إطلاق النار، فالطبخة لم تنضج بعد، والحقائق العسكرية لا تساعد على فرض الأجندات والشروط.
وفى حقيقة الأمر فإن هذه المواجهة العربية الإسرائيلية الجديدة، أو الحرب السادسة بين العرب وإسرائيل، انطوت على سلسلة من المفاجآت الإستراتيجية.
المفاجأة الأولي، مستوى تنفيذ عملية خطف الجنديين الإسرائيليين، والتى وصلت فى إتقانها إلى حد إذلال جيش الدفاع الإسرائيلى وكشف ضعف استخباراته ومستويات الكفاءة القتالية فيه.
المفاجأة الثانية، مستوى رد الفعل الإسرائيلي، وكانت تلك مفاجأة أكيدة لحزب الله، دعت بعض القادة العرب إلى وصفها بالمغامرة، والمفاجأة الإسرائيلية كشفت عن أن هناك خططا إسرائيلية جاهزة لضرب حزب الله وتنفيذ القرار 1559 بالقوة العسكرية، والمعنى -هنا- يتجاوز حزب الله إلى الهيمنة على لبنان، والتحكم فى مقاديره ومصائره السياسية.
المفاجأة الثالثة، أن مستوى التخطيط الإستراتيجى الإسرائيلى بدا فقيرا، واختراقه الاستخباراتى لحزب الله معدوما، واعتمد على القوة المجردة دون تعرف حقيقى على قوة الخصم وإمكاناته المستجدة، وهذا مؤشر جديد لمستويات كفاءة الجهاز العسكرى الإسرائيلي.
المفاجأة الرابعة، أن حزب الله، الذى أخذته مفاجأة المستوى العنيف وغير المسبوق لرد الفعل الإسرائيلى والذى يتجاوز ملف الجنديين الأسيرين، كان مستعدا ومتأهبا للقتال وإلحاق الوجع البالغ بإسرائيل وآلتها العسكرية.
وهذه المفاجأة -بالذات- هى مفتاح فهم كل ما جرى فى لبنان ومن حوله فى الأيام الأخيرة. وحوار حارة حريك يكشف أن نصر الله كان مستعدا، وأخذ الأمور جادا، فور سقوط بغداد.
10
فى حروب العصابات لا يتوقع أحد إلحاق هزيمة برية مباشرة وسريعة بجيش نظامى يقال إنه أقوى رابع جيش فى العالم، إلا إذا كانت مستويات التدريب ونوعية التسليح متقدمة وكفؤة، وجرت بروفات واستعدادات لمثل هذه المواجهة أخذت وقتها وعلى مهل، من خطط عسكرية وبرامج تدريب، فلا شيء يولد بالمصادفة، ولا انتصار بلا ثمن أو تدريب.
ثم إن القدرة الصاروخية لحزب الله، وكفاءة الأداء، رغم القوة التدميرية المحدودة لصواريخ الكاتيوشا، تكشف عن قدرة استخباراتية رفيعة المستوى لحزب الله فى الداخل الإسرائيلي، وتؤكد أن لدى هذا الحزب خرائط تفصيلية للمدن والقرى الإسرائيلية، تتجاوز الشمال إلى العمق، أو حيفا وما بعدها وما بعد بعدها- بتعبير حسن نصر الله، وهو ما يعنى أن لدى حزب الله قدرة على ضرب تل أبيب، وأن لديه صواريخ أبعد مدى وأكثر تقدما، ولا يشك أحد فى أن لإيران وسوريا أدوارا مقدرة فى تسليح حزب الله، غير أن اللبنانيين وحدهم الذين قاتلوا والذين انتصروا، وهذا انتصار لبنانى يتجاوز حزب الله إلى الوطن ثم إلى الأمة، وهذه حقائق قوة ومقادير سياسة تغير- بالطبيعة- من المعادلات الحاكمة فى المنطقة، وهذا مما لا يمكن أن تؤاخذ عليه إيران أو سوريا، وإلا قولوا لنا من أين حصلت إسرائيل على أسلحتها المدمرة؟ ثم لماذا أمدت أمريكا إسرائيل وآلتها العسكرية بقنابل موجهة بالليزر أثناء المعارك، إلا أن تكون حليفتها فى خطر، وإلا أن تكون الولايات المتحدة فى مشكلة كبرى بهزيمة سلاحها أمام السلاح الإيراني!.
ومما يحسب لحزب الله وقائده حسن نصر الله أنه قرأ الخريطة السياسية والإستراتيجية بعد غزو العراق فى الربيع الدامى لعام 2003 مبكرا وتوقع- فى حوار حارة حريك- عمليات عسكرية ضد حزبه وتستهدفه شخصيا، وأخذ يعد للأمر عدته بالجدية الكاملة التى صدمت إسرائيل وأذهلت العالم.
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة