-
دخول

عرض كامل الموضوع : القابض على جمرتين


مجهول الهوية
25/07/2006, 13:14
:o القابض على جمرتين -:o
كل مدخرات ذاكرتي تؤكد صدق ما أقول. كانت الليلة صيفية خانقة ، تلبدت فيها جهام الغيوم التي لا تمطر في العادة ، وقد بدأت الواقعة حين أيقظتني زوجتي بلكزة من يدها:
-قم ، انظر من يريدك الآن .
كانت الساعة الثانية ، وبالباب رجل غير معروف ،ويهمه أن يتأكد من شخصيتي ،ثم قال:
-أنت بالطبع لم تكن هنا قبل العشاء ؟
-كنا خارجين.لكن لماذا تسأل ؟
- العفو,نسيت أن أخبرك أني جارك الجديد في العمارة المجاورة،و كان رجل هنا قبيل العشاء يطرق بابك، وكنت ماراً ، فطلب مني أن أبلغك أن والدتك في حالة خطرة،وهي الآن في مستشفى(.... ).
كان هذا آخر عهدي بالنعاس، وعلت وجه زوجتي قتامة وكأنها زنجية في ظلمة السهارة الخافتة، وبينما كنت أحشر الفانلة تحت مطاط السروال،كانت تقلب اللحاف وهي تتذمر من عرقي النفاذ الذي يحلو له الفيضان ليلا .
وأتذكر أن آخر ما قلته لها:
-لا شيء ، فقط أحد الجيران يريد المساعدة .
وتعرضت في الطريق للإيقاف بسبب قطع إشارة مرور، وعندما تم تفتيش السيارة لم يجدوا إلا سكيناً صدئة،أخبرتهم أن الوالدة في خطر ، وبكل ما قد يقال ، لكنني دهشت حين احتجزت حتى غد للتحقيق،وحين قال الضابط :
- أنت حاولت التلاعب بنا .
- كيف ( قلت بدهشة ) .
- أمك لم تكن بالمستشفى .
- وماذا يهمك من ذلك ، هل تحاسبني على هذا ، أنا قطعت الإشارة وحسب.
-لا يا شاطر ، من أين أتيت بالسكين الصدئة الموجودة في سيارتك؟
- التقطتها من الشارع قبل يومين أو أكثر.
-ولماذا التقطتها؟
-لكي أستعين بها إذا احتجت إلى قطع أسلاك في السيارة أو ما شابه.
-ماذا تعني بقولك: (أو ما شابه)؟
-لا أدري،لعله كان فضولا لا غير،لقد فكّرت وقتها أنها كانت ملقاة بطريقة مغرية بالتقاطها.
-ماذا تعني؟
-لا أدري كيف أشرح لك،لكنّ منظرها كان لا يقاوم،وكأن فيها مغناطيساً خفيّا يجذبني.
كان يتوقّع أن أدلي بإفادات يمكن أن يأخذها مني في وقت لاحق،ويضرب بعضها ببعض،إلا أنّ ما ساعدني هو أني لم أكن أعرف كنه ما يريدني أن أبوح به، وبعد بضعة أيام،قال لي بعد أن أعدت عليه نفس إفادتي السابقة:
-هل تعلم أنك ذكي؟
-شكرا.
-ولكنك لست أذكى من كل هذا الكادر الذي نذر نفسه للحقيقة.
-بارك الله في سعيكم ووفقكم للحقيقة.
-لماذا تصرّ على أن تمنح قصّة السكين بعدا نفسيّا؟ألا تشعر بالخزي من نفسك؟
-بل أشعر بالرضا لقول الحق، وآسف إن كانت إفادتي لم ترشدك إلى شيء يفيد.
تهاوى صبره المتين وهجم علي بكل ما في جعبته:
- الله الله ،دوّر عن غيرها،أنت متهم بالتواطؤ على إخفاء أداة جريمة،وربما شاركت فيها أيضاً.
أصابني الذهول لهذه التداعيات المثيرة ،فقلت:
-كيف ؟!
-يا بطل،الإجابة عن كيف هذه عندك أنت، لكن سأخبرك حتى تكف عن الظن بأننا لا نعلم،هذه السكين (ورفعها في وجهي من باب الضغط على أعصابي) يا حبيبي أداة جريمة طعن قبل يومين من اعتقالك.
- وكيف علمتم بهذه السرعة أنها هي أداة الجريمة؟
- نحن من يسأل لا أنت يا سطل،ولكن لا بأس،أنا أعرف كيف أجبرك على الكلام يا حبيبي.
تُركت لأمري حتى حانت صلاة الفجر فوافق الجندي على اصطحابي إلى المصلى كالعادة،خرجنا فأغشاني الضوء الذي تشع به الأباجورات الضخمة المزعجة رغم رحيل الليل،كبّرنا خلف رجل ربعة، لم تكن ثيابه رثة لكن موضع الجلوس فيها كان متسخا كأنه جلس في وحل، وابتسمت في فترة صمت ما قبل القراءة لشبه ثوبه بثياب الصبية المنصرفين من المدارس كل ظهيرة. بعد بداية القراءة سبحت في لكنته العذبة، واستحالت غرابة هندامه أمارة زهد تنبض بمزيد من الإكبار له في صدري،تراجع تفكيري في مصيري التافه وانحصر في تشوف داهم إلى رؤية وجهه مرة أخرى لأتملاّه، وإذ استدار بعد السلام كان رمشاه يخفقان كحفيف جناحي عصفور مبتلّ، كان الضوء المبهر يؤذي عينيه كحجة قاطعة بأنه لا يمت لهذا المكان بصلة،ولعله سيق إليه جبرا،أو لقصة شبيهة بالسكين الصدئة، وساهم ذلك التصوّر المتشائم في إنعاش خيالي، فتصورتـه - كما أعتقد أنه يجب أن يكون - محاطا بلفيف من طلابه وهم يصلون خلفه،وصوته في المحراب يتهادى ليضفي على هدوء غلس الفجر مهابة وجلالا،تصورت أنهم داهموه في هذه الوضعية المقدسة واقتادوه إلى هنا،انتزعني صوت المحقق - وكان قد لحق بالصلاة متأخرا- وهو يقول للعسكري:
-" خذه لغرفة أربعة في ثمانية،ولا تسمح له بالخروج للصلاة مع الموقوفين العاديين مرة ثانية".
في الغرفة المستطيلة الواسعة عرفت كم أن المقاعد البلاستيكية تثير الحكاك في الجلد،تعلمت حشر مقعدتي مقرفصا في أكبر فراغ وجدته بين المقاعد فقط لأتفادى الحساسية، لم يتح لي التعرف على أحد من المحتجزين ربما لأنهم جميعا كانوا من ذوي الاحتجاز المؤقت، واحد منهم فقط أذكره لغرابة مظهره وليس لأنه ظل طويلا، طبّق سواد الإسفلت ملابسه علوا وسفلا ،وكان أعلى صدره مدمى، ولا أدري لماذا ذراعه المكتنزة أشبهت لي جذع الأفعى، ربما لأن الكمّ الأبيض الضيق كان مرقّطا بقطرات الدم بشكل عشوائي،وربما لأنه ظل يجوس الغرفة متربصا حانقا حتى اللحظة التي أخرجوه فيها وأراحوني من ظله المقلق لعينيّ كستارة نافذة مفتوحة تعبث بها ريح ما قبل العصر، وربما غزتني كل هذه الخيالات لأني كنت مرهقا ومحتاجا إلى النوم دونما أن أنام.
حلمت بنشوب حريق عنيف الوهج،ولكني كنت أصحو من غفوتي القصيرة لأرى الدخان المتصاعد من سجائر من حولي ونظراتهم مسلطة عليّ وكأني أعجوبة، ويبدو أن السبب كان شخيري، أو الشهقة الجهيرة التي اعتدت إطلاقها قبل صحواتي المفاجئة، أو لأني كنت الوحيد الذي لا يغادر هذه الغرفة، أعرف هذا الشعور الذي يراود الناس في الحمامات الحكومية حين يبقى أحدهم في الحمام لفترة طويلة بينما الناس يخرجون ويدخلون، ربما شكوا أني أنتظرهم أو أتلصص عليهم لحساب الحكومة،خاصة وأني كنت قليل الحديث منكبّا على همّي، وأنا أيضا في مقتبل أيامي كنت أشك أن واحدا منهم -على الأقل- وجد ليراقب ما قد أهذي به نائما في دوامة عرقي الذي تزيد كراهته رداءة التكييف ، وكأن مسامي تستنفر قواها لتقيء النكد الذي عجزت قواي النفسية عن الخلاص منه .
في غضون أيام ثبت لدي أن السكين الصدئة كانت فعلاً أداة لجريمة طعن.أحضروا الشاب من السجن(هكذا قالوا)،واعترف أمامي أنه بهذه السكين بالذات طعن صاحب السيارة الأخرى عندما وقع الحادث ثم الشجار،ولكن كان من صالحي أن الشاب لا يذكر أين افتقد السكين ، والأهم أنه لم يكن يعرفني بتاتاً ،شككت لوهلة أن الشاب لا علاقة له بأي أمر ، وأنه عميل خاص بهم لتسوية مثل هذه الإخفاقات المريعة،لكني لم أبُح بشيء.
أخيراً تقرر تعليق مسألة السكين رسميا، وتم عرضي على طبيب نفسي ، وكنت في الجلسة الثانية مع زوجتي وأمـي - اللتين تم إقناعهما بأمر ما لم تطلعاني عليه أبدا ولم ألح في سؤالهما عنه-،تأكدت أن أمي لم تكن -قطّ-مصابة بسوء ،لكني تضررت في الجلسة أكثر ؛بشهادة زوجتي التي ذكرت أنني في يوم القبض عليّ خرجت لمساعدة أحد الجيران،حسب قولي.
وبعد أن خلا بي الطبيب ، صارحني بالتواء يتضح من الأقواس التي استطعت أن أتخيل أنه وضع فيها الكلمات لكي لا يفتضح اعتقاده في شخصي:
- إما أنك تعاني من نوع ( يسير ) من الهلاوس ، ( وهذا تسهل السيطرة عليه ) ، وإما أنك (واجهت الرجل الذي زعم أنه جارك وهو ) أكذب رجل في العالم.
قلت : أنا لست ممن يتشككون في شيء رأوه بأعينهم.
قال: خذ مثلاً ، أنس بن مالك رضي الله عنه ، ظن أنه رأى الهلال ، في حين أن من معه لم يكونوا يرونه ، وهو لم يكن يكذب بالتأكيد.
أكملت أنا :
- وجاء ( إياس بن معاوية ) فأزاح الشعرة البيضاء الساقطة على عينه ، فلم يعد أنس بن مالك يرى الهلال.
ضاقت عيناه قليلا ثم استراحتا في استكانة، وكأنه شعر بخزي لأنه مضطر مع هؤلاء المرضى إلى محاولة مخاطبتهم بشيء من تراثهم الذي يكاد يكون أميا فيه، وذلك ما من شأنه أن يتهدده بعدم ثقة مرضاه في قدرته على مساعدتهم.
ولأنه لم يقدر لي أن أتشرف بمعرفة هذا الـ(إياس بن معاوية)، فقد اعتادني شعور مسبق بالإهانة لهاجس جديد، فإلى هذه اللحظات ، لم أستطع البت -أمام الأهل والأصدقاء - هل أنا كاذب عاقل، أم صادق مهلوس، إلا أنني أدركت أن من يقول ما لا يتوقعه أحد، أو ما لا يرغب أحد في أن يقال، فقد لا يكون له مفر من أن يكتوي بإحدى هاتين الجمرتين، وللأسف لم يكن من المقدور حتى الآن -رغم طول البحث والسؤال- أن ألتقي الرجل الذي زعم أنه جاري الجديد في العمارة القريبة،وألقى بي في هذه الداهية:sosweet: :sosweet: