dot
12/07/2006, 14:04
من هنا من سجن (عدرا) خطر ببالي أن أدون التالي، عله يريحني قليلاً مما أعانيه من الكآبة والألم:
انطباع:
جميلة الجلسة في المقاهي وتناول النرجيلة وإحضار (نارة) وتسريح (نارة).. الجو يوحي بالمتعة.. دخل فلان إلى المقهى وفلان خرج منها، وأجمل ما في الأمر هو الإحساس الذي ينتاب الإنسان عندما يشعر باحترام أصحاب المكان له، من خلال تفضيله على زبون جديد طلب شاياً أو قهوة أو نرجيلة، هذا إن اعتاد على ارتياد المقهى ذاته يومياً، تفرحه كلمة يعتاد أصحاب المقاهي مناداة زبائنهم باسم (زبون المحل) وبالطبع يرددون دائماً على مسامعك أن زبون المحل لا (نزعله) وهذا الموقف المعلن أمام الناس بأنك زبون المحل يشعرك بالاعتزاز ويدفعك أن تذهب يومياً إلى ذات المحل، كي لا تفقد (اللقب الذهبي) وتغدو (لست زبون المحل).
قصة إدمان مكان أولاً:
لم أكن أعرف أن الإدمان أيضاً ينطبق على المكان، إلا بعد أن أصبحت لا أطيق الذهاب إلى مقهى آخر سوى الذي اعتدت عليه، واكتشفت ذلك بعد سنة ونصف من ذهابي اليومي إلى ذلك المقهى، وعندما دعاني أحد الأصدقاء إلى مقهى آخر.. أجمل وشكله أكثر حضارة والخدمة فيه ممتازة، لكنني شعرت وقتها أنني في مكان غير مألوف، أو أن المكان رغم جماله تنقصه الحميمية، من الممكن أن يألف الإنسان مكاناً ولكن ليس إلى درجة المرض، كما حصل معي.
من المقهى إلى النادي الليلي:
كنت أمضي كل أمسياتي في ذلك المقهى، ووصلت إلـى مرحلة أفضـل فيهـا ارتياد المقهى على الجلوس في البيـت أو المكتبة لتحضير الدروس.. يومياً كنت أقول لنفسي بعد أن يغلق المقهى أبوابه، سأقوم بواجبي الدراسي، وفي كل يوم أعود إلى البيت ولا أقوم بأي واجب، لأنني أعود منهكاً وبحاجة إلى الراحة.. تكرر ذلك في كل يوم، إلى أن رسبت في السنة الثانية من (كلية الصيدلة) ورغم ذلك لم أقلع عن عادة الجلوس في المقهى، كأن شيئاً ما يشدني إليه، هو أكبر من أن أستطيع السيطرة عليه.
شلة الشباب الذين يرتادون المكان يومياً، كانت تربطني مع أغلبهم صداقات أو (هكذا كنت أظن) نلعب الورق.. نتسامر.. نتحدث عن الفتيات.. (أنا الآن ألعن الشلة والساعة التي تعرفت فيها إليهم وألعن كل ما تحدثنا عنه).
كنا نتحدث عن الفتيات، فقال أحدهم أتريدون رؤية فتيات جميلات، صرخنا جميعناً (نعم) ضحك وقال: (هذا يحتاج إلى مبلغ غير صغير) سألناه عن المبلغ؟ قال: (ليس أقل من ثلاثة آلاف ليرة لكل شخص).. ومن أين لكل واحد فينا ثلاثة آلاف!!.. أنا كنت أحمل أربعة آلاف ليرة من أجل سداد فاتورتي الهاتف والكهرباء للمنزل.. وبعضنا كان يحمل المبلغ، وآخرون لا يملكونه.. في كل الأحوال جمعنا من بعضنا ما يكفي، وذهبنا أربعة أشخاص للمكان (الحلم) بالنسبة لنا كمكبوتين.. نعم أقولها بكل صراحة..
مكبوتون جداً.. (أما قيمة الفواتير التي كانت بحوزتي فقد صارحت أبي.. عفواً كذبت عليه، بأنني أضعت المبلغ، واضطر لاستدانته من عمي ليسددها) وصلنا إلى المكان المنشود.. شيء عجيب غريب لم آلفه ولم أتوقع وجوده في دمشق، فتيات يرقصن وشباب كذلك، أنواع لا حصر لها من الخمور، متناثرة على الطاولات، فتيات يكاد لا يستر عوراتهن سوى قطع صغيرة من القماش، وزعها مصمم هذا النوع من الألبسة بذكاء خارق، ألبسة تكاد أن تدعو الناظر إليها لعناق مرتدياتها.. شيء من المستحيل أن أتخيله.. جلسنا إلى طاولة، وطلب الصديق الذي أخذنا إلى هناك مشروباً لأول مرة أراه (كنت أسمع عنه فقط) إنه الويسكي، طعمه حاد جداً ومنذ الرشفة الأولى بدأت بالإقياء، ثم حاولت ثانية.. و.. اعتدت على ذلك المشروب اللعين بعد أن أدمنت المكان الجديد.. ، ولم يعد بإمكاني ترك المكان، وأصبح المقهى مكاناً سخيفاً لا قيمة له.. لكن قاسماً مشتركاً بينه وبين النادي الليلي، هو أن أصحاب المكانين أطلقوا علينا الاسم الذهبي (زبائن المحل).
وتغير كل شيء، فلم يعد المال يكفي، ومصروف المكان الجديد بحاجة إلى ميزانية ضخمة لا أستطيع الحصول عليها من مصروفي اليومي الذي كنت آخذه من والدي، ووقعت في مشكلة لا حل لها.. خاصة بعد أن تراكمت الديون علي من كل حدب أو صوب، وبت لا أذهب إلى الجامعة، لأنني مستدين من أغلب أصدقائي مالاً لا أستطيع رده، والسبب الثاني أنني كنت أعود إلى المنزل في الخامسة صباحاً، منهكاً من شدة التعب والمشروب والرقص و.. الفتيات.
البيت:
كان أبي يثق بي ثقة عمياء، فهو على قناعة بأن أسباب تأخري عن المنزل، هو الدراسة مع الأصدقاء، وعندما كانت أمي تعترض على ذلك، كان يجيبها: (دعيه لقد أصبح شاباً ويعرف مصلحة نفسه.. وعندما يدرس مع أصدقائه، أفضل من بقائه وحيداً فيصاب بالملل ويهجر كتبه).
كان أبي رجلاً بسيطاً كوظيفته، وكنت حلمه الوحيد في هذه الحياة كما كان يقول لي (لم يبق لي في هذه الحياة غيرك، نجاحك هو حلمي المتبقي) ولم أزل حتى اللحظة أتذكر جملته التي كان يرددها (ربي لا تمتني إلا بعد أن أفرح بتخرج ولدي) وكان يناديني بكلمة (يا دكتور).
الدنيا شطارة:
لن أطيل أكثر من ذلك.. كنت بحاجة يومية إلى المال، وكنت أدفع يومياً في ذلك النادي اللعين، ما يعادل مصروف أسرتي لنصف شهر على الأقل.. لكن ذات الصديق الذي صحبني إلى النادي كان يملك مالاً لا يعد ولا يحصى، ولكن هيهات أن أمتلك مثله، كان يدفع في أغلب الأحيان الحساب عني، إلى أن سألته مرة، ماذا يعمل والده؟ فأجاب أن والده متوفى منذ زمن.. وعلمت أيضاً أنه لم يترك له تركة أو مالاً أو أي شيء.. وسألته عن مصدر ماله.. ضحك وأجاب: (الدنيا شطارة) أعجبتني الجملة ورجوته أن يفيدني من (شطارته) فوافق على الفور، وكانت القصة برمتها أنه يقوم بسرقة بعض السيارات، ويفك أشياء ثمينة منها (راديو، مسجل، إطارات، محتويات التابلوه.. الخ) ويرسلها لتباع في سوق يسمونه سوق الحرامية، وفي البداية وجدت الأمور إن سارت على هذه الناحية، سأتحول إلى سارق، لكن صديقي الغني أقنعني بأن سرقة الأغنياء حلال، أليسوا هم أيضاً لصوصاً بشكل آخر (رغم قناعتي بأن هذا لا ينطبق على جميع الأغنياء) إلا أن شوقي للنادي ومجالسة الصبايا اللاتي لا يشبعن من الطلبات، أقنعني برأيه ولكن بطريقة من (يكذب على نفسه) وصرت لصاً، كرمى لعيون الصبايا.. و..
الله يوفقك يا ولدي:
كنت قد وصلت في الخامسة صباحاً، وارتميت على سريري كالميت، دخل والدي إلى غرفتي يريد شيئاً لا أعرفه، حوالي السادسة صباحاً.. لن أنسى ذلك اليوم ما حييت.. استيقظت على صوته المرتفع.. يلعنني ويشتمني.. وكانت عيناه مغرورقة بالدموع.. ورائحة (المشروب) منتشرة في الغرفة.. وكلما سبني أضاف إلى سبابه (استغفر الله العظيم) رفعني من فراشي.. ركلني.. لكن.. كنت مخموراً، لا أقوى على فعل شيء،
خرج من غرفتي وهو يبكي (لأول مرة أرى أبي يبكي) و..
في المساء استيقظت من نومي، ووجع في الرأس شديد يهاجمني، وجدت والدتي تجلس على طرف السرير، وهي تنظر إلي وتبكي أيضاً، بادرتني بأن أعتذر من أبي وأعده بعدم تكرار هذا الخطأ.. ففعلت فوراً وقبلت يده، وبكيت فوقها.. وسامحني وقال لي: (إن الجميع قد يقعون في الخطأ لكن الاستمرار فيه هو المشكلة..).
حل الليل ولم استطع مقاومة إغراء النادي الليلي، فذهبت إلى هناك، وتكرر الحدث ذاته ودخل أبي غرفتي وأعيدت الكرة..
بكيت.. لكنه كان صلباً.. قال: لا تبك.. اذهب من هذا المنزل.. فتحت الباب.. ومضيت إلى غير رجعة.. وكانت آخر كلمة سمعتها من فمه (الله يوفقك يا ولدي).
يومان فقط:
كانت دوريات الأمن الجنائي تبحث عن ما سموه (عصابة السيارات) ولأنني لم أكن وصديقي محترفين للسرقة فقد ارتبك عناصر الأمن في إيجاد تلك العصابة، وقد علمت بعد ذلك أن العصابات المحترفة لها أساليبها التي يعرفها رجال الأمن، أما غير المحترفين من أمثالي، فيخلقون حالة من الإرباك لهم، كوني هاوٍ ولست محترفاً.. كان قد مضى على مغادرتي منزل أبي يومان، عندما هم صديقي بسرقة سيارة أثناء وجودي في النادي الليلي، معانقاً إحدى الجميلات، التي قفزت من مكانها عندما وجدت فوق رأسينا ثلاثة رجال أمن، قادوني وقادوها إلى الأمن الجنائي.. هي خرجت بعد ساعة واحدة، وأنا مكثت عشر أيام، واكتشفت بأن صديقي قد سبقني، بل هو من اعترف علي..
بقي أن أقول أنني شاهدت والدي في المحكمة رابط الجأش، أمسكني من كتفي وهزني بقوة قائلاً: (أصلحك الله.. لم تسمع مني يا ولدي.. كن رجلاً وكفر عما فعلت في سجنك.. واخرج نظيفاً.. فكلنا خطاؤون.. وستتابع حياتك بعد أن تدفع الثمن.. إنه حق الناس.. والمجتمع) ولكن هل سيغفر لي الناس والمجتمع؟ لم أسأل أبي هذا السؤال، ولم أشاهده بعد ذلك، لأنني علمت بأنه توفي بعد أربعة أيام من سجني.. ومازلت أتابع دفع الثمن.
عندما كنت أتحاور مع أبي، قبل إدماني المقهى الذي جرني إلى أبعد منه، كان يردد على مسامعي دوماً: (احذر رفاق السوء) كانت تنتابني نوبات من الضحك، وكنت أبررها لأبي بأن سبب هذه النوبات ليست النصيحة، بل كم هو غير مدرك لمستوى الوعي الذي أتمتع به، وكان يجيبني (إن شاء الله أن تكون كذلك.. ويبتسم) وفي الحقيقة كان سبب هذه النوبات هو الاستهزاء على من سبقنا من أجيال، وكيف يرون فينا أغبياء بحاجة إلى نصيحة.. ولكن على ما يبدو فإن بعض ما قالوه لنا أو نصحونا به كان صحيحاً لأنه نتاج تجارب الحياة..
الآن فقط عرفت من الغبي.
انطباع:
جميلة الجلسة في المقاهي وتناول النرجيلة وإحضار (نارة) وتسريح (نارة).. الجو يوحي بالمتعة.. دخل فلان إلى المقهى وفلان خرج منها، وأجمل ما في الأمر هو الإحساس الذي ينتاب الإنسان عندما يشعر باحترام أصحاب المكان له، من خلال تفضيله على زبون جديد طلب شاياً أو قهوة أو نرجيلة، هذا إن اعتاد على ارتياد المقهى ذاته يومياً، تفرحه كلمة يعتاد أصحاب المقاهي مناداة زبائنهم باسم (زبون المحل) وبالطبع يرددون دائماً على مسامعك أن زبون المحل لا (نزعله) وهذا الموقف المعلن أمام الناس بأنك زبون المحل يشعرك بالاعتزاز ويدفعك أن تذهب يومياً إلى ذات المحل، كي لا تفقد (اللقب الذهبي) وتغدو (لست زبون المحل).
قصة إدمان مكان أولاً:
لم أكن أعرف أن الإدمان أيضاً ينطبق على المكان، إلا بعد أن أصبحت لا أطيق الذهاب إلى مقهى آخر سوى الذي اعتدت عليه، واكتشفت ذلك بعد سنة ونصف من ذهابي اليومي إلى ذلك المقهى، وعندما دعاني أحد الأصدقاء إلى مقهى آخر.. أجمل وشكله أكثر حضارة والخدمة فيه ممتازة، لكنني شعرت وقتها أنني في مكان غير مألوف، أو أن المكان رغم جماله تنقصه الحميمية، من الممكن أن يألف الإنسان مكاناً ولكن ليس إلى درجة المرض، كما حصل معي.
من المقهى إلى النادي الليلي:
كنت أمضي كل أمسياتي في ذلك المقهى، ووصلت إلـى مرحلة أفضـل فيهـا ارتياد المقهى على الجلوس في البيـت أو المكتبة لتحضير الدروس.. يومياً كنت أقول لنفسي بعد أن يغلق المقهى أبوابه، سأقوم بواجبي الدراسي، وفي كل يوم أعود إلى البيت ولا أقوم بأي واجب، لأنني أعود منهكاً وبحاجة إلى الراحة.. تكرر ذلك في كل يوم، إلى أن رسبت في السنة الثانية من (كلية الصيدلة) ورغم ذلك لم أقلع عن عادة الجلوس في المقهى، كأن شيئاً ما يشدني إليه، هو أكبر من أن أستطيع السيطرة عليه.
شلة الشباب الذين يرتادون المكان يومياً، كانت تربطني مع أغلبهم صداقات أو (هكذا كنت أظن) نلعب الورق.. نتسامر.. نتحدث عن الفتيات.. (أنا الآن ألعن الشلة والساعة التي تعرفت فيها إليهم وألعن كل ما تحدثنا عنه).
كنا نتحدث عن الفتيات، فقال أحدهم أتريدون رؤية فتيات جميلات، صرخنا جميعناً (نعم) ضحك وقال: (هذا يحتاج إلى مبلغ غير صغير) سألناه عن المبلغ؟ قال: (ليس أقل من ثلاثة آلاف ليرة لكل شخص).. ومن أين لكل واحد فينا ثلاثة آلاف!!.. أنا كنت أحمل أربعة آلاف ليرة من أجل سداد فاتورتي الهاتف والكهرباء للمنزل.. وبعضنا كان يحمل المبلغ، وآخرون لا يملكونه.. في كل الأحوال جمعنا من بعضنا ما يكفي، وذهبنا أربعة أشخاص للمكان (الحلم) بالنسبة لنا كمكبوتين.. نعم أقولها بكل صراحة..
مكبوتون جداً.. (أما قيمة الفواتير التي كانت بحوزتي فقد صارحت أبي.. عفواً كذبت عليه، بأنني أضعت المبلغ، واضطر لاستدانته من عمي ليسددها) وصلنا إلى المكان المنشود.. شيء عجيب غريب لم آلفه ولم أتوقع وجوده في دمشق، فتيات يرقصن وشباب كذلك، أنواع لا حصر لها من الخمور، متناثرة على الطاولات، فتيات يكاد لا يستر عوراتهن سوى قطع صغيرة من القماش، وزعها مصمم هذا النوع من الألبسة بذكاء خارق، ألبسة تكاد أن تدعو الناظر إليها لعناق مرتدياتها.. شيء من المستحيل أن أتخيله.. جلسنا إلى طاولة، وطلب الصديق الذي أخذنا إلى هناك مشروباً لأول مرة أراه (كنت أسمع عنه فقط) إنه الويسكي، طعمه حاد جداً ومنذ الرشفة الأولى بدأت بالإقياء، ثم حاولت ثانية.. و.. اعتدت على ذلك المشروب اللعين بعد أن أدمنت المكان الجديد.. ، ولم يعد بإمكاني ترك المكان، وأصبح المقهى مكاناً سخيفاً لا قيمة له.. لكن قاسماً مشتركاً بينه وبين النادي الليلي، هو أن أصحاب المكانين أطلقوا علينا الاسم الذهبي (زبائن المحل).
وتغير كل شيء، فلم يعد المال يكفي، ومصروف المكان الجديد بحاجة إلى ميزانية ضخمة لا أستطيع الحصول عليها من مصروفي اليومي الذي كنت آخذه من والدي، ووقعت في مشكلة لا حل لها.. خاصة بعد أن تراكمت الديون علي من كل حدب أو صوب، وبت لا أذهب إلى الجامعة، لأنني مستدين من أغلب أصدقائي مالاً لا أستطيع رده، والسبب الثاني أنني كنت أعود إلى المنزل في الخامسة صباحاً، منهكاً من شدة التعب والمشروب والرقص و.. الفتيات.
البيت:
كان أبي يثق بي ثقة عمياء، فهو على قناعة بأن أسباب تأخري عن المنزل، هو الدراسة مع الأصدقاء، وعندما كانت أمي تعترض على ذلك، كان يجيبها: (دعيه لقد أصبح شاباً ويعرف مصلحة نفسه.. وعندما يدرس مع أصدقائه، أفضل من بقائه وحيداً فيصاب بالملل ويهجر كتبه).
كان أبي رجلاً بسيطاً كوظيفته، وكنت حلمه الوحيد في هذه الحياة كما كان يقول لي (لم يبق لي في هذه الحياة غيرك، نجاحك هو حلمي المتبقي) ولم أزل حتى اللحظة أتذكر جملته التي كان يرددها (ربي لا تمتني إلا بعد أن أفرح بتخرج ولدي) وكان يناديني بكلمة (يا دكتور).
الدنيا شطارة:
لن أطيل أكثر من ذلك.. كنت بحاجة يومية إلى المال، وكنت أدفع يومياً في ذلك النادي اللعين، ما يعادل مصروف أسرتي لنصف شهر على الأقل.. لكن ذات الصديق الذي صحبني إلى النادي كان يملك مالاً لا يعد ولا يحصى، ولكن هيهات أن أمتلك مثله، كان يدفع في أغلب الأحيان الحساب عني، إلى أن سألته مرة، ماذا يعمل والده؟ فأجاب أن والده متوفى منذ زمن.. وعلمت أيضاً أنه لم يترك له تركة أو مالاً أو أي شيء.. وسألته عن مصدر ماله.. ضحك وأجاب: (الدنيا شطارة) أعجبتني الجملة ورجوته أن يفيدني من (شطارته) فوافق على الفور، وكانت القصة برمتها أنه يقوم بسرقة بعض السيارات، ويفك أشياء ثمينة منها (راديو، مسجل، إطارات، محتويات التابلوه.. الخ) ويرسلها لتباع في سوق يسمونه سوق الحرامية، وفي البداية وجدت الأمور إن سارت على هذه الناحية، سأتحول إلى سارق، لكن صديقي الغني أقنعني بأن سرقة الأغنياء حلال، أليسوا هم أيضاً لصوصاً بشكل آخر (رغم قناعتي بأن هذا لا ينطبق على جميع الأغنياء) إلا أن شوقي للنادي ومجالسة الصبايا اللاتي لا يشبعن من الطلبات، أقنعني برأيه ولكن بطريقة من (يكذب على نفسه) وصرت لصاً، كرمى لعيون الصبايا.. و..
الله يوفقك يا ولدي:
كنت قد وصلت في الخامسة صباحاً، وارتميت على سريري كالميت، دخل والدي إلى غرفتي يريد شيئاً لا أعرفه، حوالي السادسة صباحاً.. لن أنسى ذلك اليوم ما حييت.. استيقظت على صوته المرتفع.. يلعنني ويشتمني.. وكانت عيناه مغرورقة بالدموع.. ورائحة (المشروب) منتشرة في الغرفة.. وكلما سبني أضاف إلى سبابه (استغفر الله العظيم) رفعني من فراشي.. ركلني.. لكن.. كنت مخموراً، لا أقوى على فعل شيء،
خرج من غرفتي وهو يبكي (لأول مرة أرى أبي يبكي) و..
في المساء استيقظت من نومي، ووجع في الرأس شديد يهاجمني، وجدت والدتي تجلس على طرف السرير، وهي تنظر إلي وتبكي أيضاً، بادرتني بأن أعتذر من أبي وأعده بعدم تكرار هذا الخطأ.. ففعلت فوراً وقبلت يده، وبكيت فوقها.. وسامحني وقال لي: (إن الجميع قد يقعون في الخطأ لكن الاستمرار فيه هو المشكلة..).
حل الليل ولم استطع مقاومة إغراء النادي الليلي، فذهبت إلى هناك، وتكرر الحدث ذاته ودخل أبي غرفتي وأعيدت الكرة..
بكيت.. لكنه كان صلباً.. قال: لا تبك.. اذهب من هذا المنزل.. فتحت الباب.. ومضيت إلى غير رجعة.. وكانت آخر كلمة سمعتها من فمه (الله يوفقك يا ولدي).
يومان فقط:
كانت دوريات الأمن الجنائي تبحث عن ما سموه (عصابة السيارات) ولأنني لم أكن وصديقي محترفين للسرقة فقد ارتبك عناصر الأمن في إيجاد تلك العصابة، وقد علمت بعد ذلك أن العصابات المحترفة لها أساليبها التي يعرفها رجال الأمن، أما غير المحترفين من أمثالي، فيخلقون حالة من الإرباك لهم، كوني هاوٍ ولست محترفاً.. كان قد مضى على مغادرتي منزل أبي يومان، عندما هم صديقي بسرقة سيارة أثناء وجودي في النادي الليلي، معانقاً إحدى الجميلات، التي قفزت من مكانها عندما وجدت فوق رأسينا ثلاثة رجال أمن، قادوني وقادوها إلى الأمن الجنائي.. هي خرجت بعد ساعة واحدة، وأنا مكثت عشر أيام، واكتشفت بأن صديقي قد سبقني، بل هو من اعترف علي..
بقي أن أقول أنني شاهدت والدي في المحكمة رابط الجأش، أمسكني من كتفي وهزني بقوة قائلاً: (أصلحك الله.. لم تسمع مني يا ولدي.. كن رجلاً وكفر عما فعلت في سجنك.. واخرج نظيفاً.. فكلنا خطاؤون.. وستتابع حياتك بعد أن تدفع الثمن.. إنه حق الناس.. والمجتمع) ولكن هل سيغفر لي الناس والمجتمع؟ لم أسأل أبي هذا السؤال، ولم أشاهده بعد ذلك، لأنني علمت بأنه توفي بعد أربعة أيام من سجني.. ومازلت أتابع دفع الثمن.
عندما كنت أتحاور مع أبي، قبل إدماني المقهى الذي جرني إلى أبعد منه، كان يردد على مسامعي دوماً: (احذر رفاق السوء) كانت تنتابني نوبات من الضحك، وكنت أبررها لأبي بأن سبب هذه النوبات ليست النصيحة، بل كم هو غير مدرك لمستوى الوعي الذي أتمتع به، وكان يجيبني (إن شاء الله أن تكون كذلك.. ويبتسم) وفي الحقيقة كان سبب هذه النوبات هو الاستهزاء على من سبقنا من أجيال، وكيف يرون فينا أغبياء بحاجة إلى نصيحة.. ولكن على ما يبدو فإن بعض ما قالوه لنا أو نصحونا به كان صحيحاً لأنه نتاج تجارب الحياة..
الآن فقط عرفت من الغبي.