-
عرض كامل الموضوع : دراسات في علم النفس ..
عاشق من فلسطين
01/04/2005, 13:46
المُراهِقة العربية و"الخُروج على القَطيع" منى فياض
يتألَّف هذا البحث* من جزأين: نعالج في الجزء الأول الشروط الاجتماعية العامة للإبداع. فالمراهق والمراهقة جزء من وضع اجتماعي وثقافي له خصوصيته التي يتفاعلان معها بأشكال مختلفة. أما الجزء الثاني فيتعلَّق برصد بعض المؤشرات التي قد تشير إلى إمكان مستقبلي للإبداع عند المراهِقة (سوف نشير إليها وقتئذٍ)، هذا دون أن ننسى الإشارة إلى اعتمادنا على مفهوم عام وشامل للإبداع، يشكِّل، بدوره، الإبداع العلمي والثقافي والأدبي والفني.
في العام 1927، كانت فيرجينيا وولف أول مَن تنبَّه إلى مسألة مهمة وأساسية بخصوص موضوع الإبداع عند النساء، وذلك في كتابها غرفة تخص المرء وحده؛ وهو يُعَدُّ أول بيان نسوي متبلور في مسيرة الدفاع عن حقوق المرأة. وقد أشارت فيه إلى ضرورة توافُر حدٍّ أدنى من المقوِّمات المادية (غرفة ومردود مادي) تساعد المرء – وهنا المرأة – على الإنتاج الفكري أو الإبداع، أكان ثقافيًّا أو غير ذلك.
ومع أن وضع المرأة في بلادنا لم يتحسن كثيرًا عمَّا كان عليه في الفترة التي كتبتْ فيها وولف كتابها – إذ لا تزال المرأة تعاني في بلادنا من عدم الاعتراف بحقوقها كإنسان تام – تجدر الإشارة بداية إلى أن شروط الإبداع العامة (التي تتخطَّى الفرد والنوع الاجتماعي gender، كي تشمل المجتمع ككل) غير متوافرة بشكل عام في بلادنا. وإذا كانت المرأة – كفرد – تحتاج، كي تنتج فكرًا أو فنَّا أو أيَّ شيء آخر، إلى غرفة وعمل (وتعليم بالطبع قبل ذلك)، فإن الإبداع، كما يرى ألفرد كرويبر، ليس مجرد موهبة شخصية:
إن العبقرية الفردية ليست لها أدنى قيمة تفسيرية عندما نناقش الإبداع (وهو في حدِّ ذاته بيِّن إذا اضطر للدفاع عن قضيته). إن ما يُسمَّى بالعبقرية المبدعة ليس موزعًا توزيعًا عشوائيًّا عبر التاريخ، ولكنه يتجمع، بدلاً من ذلك، على هيئة تشكيلات. وتشمل هذه التشكيلات العصور الذهبية؛ وهي عصور تفصل بينها فجوات طويلة أو عصور ظلام يركد فيها الإبداع الثقافي.
لقد استبعد كرويبر أيَّ تأثير للعرق على إبداع الجنس البشري، وقال إن المناخ الثقافي الذي يوجد فيه الفرد هو المحدِّد الوحيد للإبداع. والإبداع في حضارة معينة ينمو وينمحق، ليس باعتباره أمرًا يتزامن مع ممارسات الزواج الإنسانية، بل مع النمط الثقافي وتشبُّعه واضمحلاله.
وهنا لا يمكن لنا أن نخدع أنفسنا وندَّعي أن مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات تشكِّل تربة خصبة للإبداع، من أيِّ نوع كان. فعدا عن مشكلة الأمِّية (70 مليون أمِّي بحسب إحصاءات اليونسكو)، وعدا عن وضع المرأة غير المُرضي، نجد أن الرقابة، على الأقلية التي تقرأ، تنحو لأن تشمل مجمل أوجُه نشاطنا، خصوصًا تفكيرنا وقراءاتنا.
يجعلنا ذلك نسأل: ما الذي يعوِّق هذه المجتمعات ويبعدها عن الإنتاجية الإبداعية، بكلِّ أوجهها؟ زعم مكليلاند أن الدراسة العملية لدافع الإنجاز ستساعدنا على فهم ازدهار الحضارات وسقوطها، وقام بدراسة قارَنَ فيها أدب الأمم، باعتباره مستودعًا للقيم القومية، كما تمَّ فحص الرسوم أيضًا. وقد أظهرت الدراسة اختلافات بين الخربشات التي ينتجها شعب يتميَّز بدرجات عالية من الإنجاز وبين تلك التي ينتجها شعب يتصف بدرجات منخفضة من دوافع الإنجاز. يؤدي الدَّمج بين هاتين المجموعتين من المقاييس إلى استنتاج أن دافع الإنجاز يحفز النموَّ الاقتصادي (وهذا صحيح تاريخيًّا أيضًا).
ومن أجل تفسير التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة، بدءًا من العام 1850 وحتى العام 1950، ومن أجل الحصول على مقياس للصور الذهنية الأمريكية حول الإنجاز في هذه الفترة، قام دي تشارمز ومويلر بدراسة أكثر كتب القراءة الخاصة بالأطفال شيوعًا في المدارس الأمريكية. وهذا الخيار شبيه بالخيار الخاص بالأعمال الأدبية، لكنه يمتاز عنه بأن هذه الكتب تحاول، بالإضافة إلى تعليم مهارة القراءة، أن تغرس القيم الأساسية. وقد وجدا أن معدل ظهور الصور الذهنية الخاصة بالإنجاز في كتب القراءة هذه يتزايد تزايدًا لا انقطاع فيه حتى العام 1890، ليظهر بعده انحدارٌ حاد، دون حدوث صحوة مؤقتة، ولو ضئيلة. وبحلول العام 1950، كان دافع الإنجاز قد ضعف إلى المستوى الذي كان عليه قبل 100 عام.
وقد وجدا كذلك أن المؤشر الذي ينسب عدد براءات الاختراع إلى عدد السكان يكشف عن اتجاه زمني مماثل تمامًا لما وجد بخصوص دافع الإنجاز: فعدد الاختراعات يتزايد تزايدًا مطردًا حتى العام 1890، ويستمر معدله المرتفع حتى ظهور كساد العام 1929، ثم ينحدر انحدارًا دراميًّا بعد ذلك. والارتباط بين التصورات الخاصة بالإنجاز في كتب قراءة الأطفال وعدد براءات الاختراع بالنسبة إلى عدد السكان هو 0.79، وهو مُعامِل ارتباط لا يستهان به. وبما أن منحنى الصور الذهنية الخاص بالإنجاز يبدو وكأنه يتوقع منحنى مؤشر براءات الاختراع، فلا غرو إن قلنا إن دافع الإنجاز قد يسبِّب النموَّ التكنولوجي. فالانكماش الاقتصادي حلَّ بعد حوالى أربعين سنة من الانحدار الذي حَدَثَ في الصور الذهنية الخاصة بالإنجاز؛ وقد احتاج التلاميذ الصغار الذين تربَّوا على كتب قراءة أقل توجُّهًا نحو الإنجاز إلى بعض الوقت لكي ينمو ويتضح ضمورُ الطموح لديهم على المستوى الاقتصادي. ويظل السؤال قائمًا مع ذلك: ما الذي يقدح شرارة تطلُّب الإنجاز نفسها؟
يبرهن العديد من الأبحاث عن عمق تأثير البُنى الاجتماعية على بنية الشخصية. إن التغير في تنظيم الثروات وإنتاجها وتوزيعها يغير في بنية الفرد النفسية، كما يؤثر في مجموع أحكامه الأكسيولوجية (= القِيَمِية) والتربوية. فالتغير على المستوى النفسي يسبقه تغيُّر على المستوى الاجتماعي. المجتمع هو الذي يحدد أيَّ نمط من الشخصية هو سويٌّ أو مرضي، يحدِّد القيم المقبولة أو المرفوضة. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى تغير مفهوم العمل كقيمة في الغرب في الحقبة الصناعية وإبان ما عُرِفَ بالثورة البرجوازية: فبعدما كان العمل مُعتبَرًا كقصاص (التوراة)، صار العمل هو الذي يعطي الحياة معناها، وتم استبدال الحيوانات الرمزية: الأسد والذئب والنسر حلَّتْ محلَّها النملة والنحلة والسلحفاة (لافونتين) وصار "الفراغ أم الرذائل".
يشير هنا تونيس إلى أنه في العلاقات البدائية يغلب تطلُّب المتعة على تطلُّب العمل والإنجاز. لكن تطلب المتعة مازال سائدًا في بلادنا. وأورِد في ما يلي استشهادًا من كتاب تربية مدنية يدرَّس لطلاب السنة الأولى الابتدائية (كان يدرس فيه ابني حوالى العام 1994)، حيث يعلَّم التلاميذ ما يأتي: "إن الفلاح والمزارع يعملان، والعمل متعب. والتاجر والكاتب يعملان، وذلك متعب. التلميذ يدرس، والدرس عمل، وهو متعب." (من دون تعليق!) العمل لم يتحوَّل بعدُ في بلادنا إلى قيمة، ولم يصبح بعدُ مصدرًا للمتعة أو مرادفًا لها. فالمتعة هي في التبطل!
دور التربية
يجعلنا هذا نطرح على أنفسنا السؤال الآتي: في حال توافر المقعد الدراسي للجميع، ما هي القيم التي تنتقل إلى الأجيال الجديدة؟ وهل تقوم التربية في بلادنا بدورها في بلورة شخصيات يمكن لها أن تكون قادرة على استيعاب الماضي، عبر اتخاذ مسافة منه، وليس عبر الاندماج الالتحاقي به؟ وكيف نواجه الحاضر؟ وكيف نستعد من أجل تهيئة المستقبل وتطويره؟
في عالم ثابت ومؤطَّر، تلعب التربية دور نَمْذَجَة الحاضر انطلاقًا من الماضي. لكن هذا النموذج لم يعد يصلح الآن بسبب التربية التقليدية في بلادنا، التي تظل تردِّد رجع أصداء أزمنة غابرة. فالمعارف الإنسانية تتضاعف كلَّ أقل من 10 سنوات. ولقد ولَّى الزمن الذي يمكن فيه لجيل راهن أن يضع قدميه في الموضع نفسه للجيل السابق. فالعالم يتغيَّر بوتائر سريعة، وعلى الفرد أن يكون مهيأ للتأقلم معها من أجل التبادل مع العالم الخارجي وإيجاد حيوية داخلية تجعلنا فاعلين في عالم متغيِّر، كما يصف ذلك عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين، الذي يرى أن الثقافات والعلاقات الاجتماعية تتغير. فالفكر الاجتماعي صار تحليلاً للتغير الاجتماعي، بحيث "لم يعد يتم تعريف الأفراد حسب انتمائهم، بل حسب حركتهم، وحسب علاقات التنافس أو التعاون أو النزاع المنخرطين فيها، أكثر مما يتم حسب المجتمع الذي ينتمون إليه ويتماهون مع قيمه وتاريخه". لذا نجد أن التأهيل المتواصل (المستديم) الذي يجعل الفرد مهيأ للتعلُّم (الاكتساب) طوال فترة النشاط من حياته، يُكسِبُه حركيةً وظيفية تسمح له باستخدام المعلومات استخدامًا مناسبًا وسريعًا وفعالاً، ومن بعدُ نسيانها عندما يجب ذلك. يُعَدُّ التكيف مسألة خيال. على الإنسان أن يغرف ما هو جوهري له من قيعان إبداعية فعلية. فأين يجدها؟
لكي يتمكن الناس من تنمية قدراتهم والمشاركة مشاركة حيوية في مجتمع ينمو ويتطور، من المهم تكوين أشخاص أحرار وخلاقين، يمتلكون القدرة على المبادرة والابتكار، وليس مجرد شخصيات جامدة، بحيث يكون في استطاعتهم أن يكونوا ذواتهم، وأن يتحملوا مسؤولية أنفسهم، في الوقت الذي يأخذون فيه على عاتقهم التغيير المحيط بهم، والمتعلق بالأشخاص وبالأشياء، ويكون باستطاعتهم استخلاص قواعد سلوك وتنمية مقدرة على الفعل والتفكير والصداقة والانفتاح. وكلما كانت هذه البُنى الاجتماعية جامدة قلَّتْ فرصُ الإبداع عند الشبيبة.
وكان هذا الأمر واضحًا في عيِّنتنا من المراهقات اللواتي قمت بدراستهن. فالمدرسة ليست فقط مكانًا لنقل معلومات جامدة، غير مساعدة على الإبداع، بل هي طاردة لفئات معينة من الفقيرات، ولا تأبه لمصير البنات اللواتي يجدن صعوبات في الانتماء إليها.
عوامل تَرْك المدرسة
تتعدد أسباب ترك المدرسة. لكن إذا أخذنا نموذج أميرة، نجد أنها تركتْ المدرسة بسبب صعوبة المواصلات، من ناحية، وبسبب التعامل السيئ معها وعدم متابعة الأهل لوضعها المدرسي، من ناحية أخرى. وهذا يعود إلى بيئتها الفقيرة، التي "تخجل"، ربما، من التعامُل مع مدرِّسات ومدرِّسين "عندهم شوفة حال [مغرورين]"، الأمر الذي يُشعِرُها بالدونية حيالهم ويُبعِدُها عنهم. يضاف إلى ذلك طبعًا غيابُ الدافع الأساسي لدى أميرة. وهي تركت المدرسة ببساطة، وذلك بسبب عدم توافر مساعدة لها: "ما في حدا يساعدني، وبضل [أظل] أتعلم لحالي [وحدي]."
هبة تقول إنها كانت تحب معلمة اللغة العربية في السابق، وتحكي لها كلَّ شيء، كلَّ ما يحصل معها وما قامت به في يومها؛ تحب هذه المعلمة، وتشعر أنها مثل "أمٍّ لها". لكن الوضع تغير في المدرسة التي انتقلت إليها في ما بعد: صارت المعلِّمات "ناشفات [عديمات الحرارة الإنسانية]"، ولم تعد تحب أن تبقى في المدرسة، وأحست أنها صعبة. غيَّرتْ هبة خمس مدارس (وهذا ما يحصل، في معظم الأحيان، في هذه الأوساط)، بوتيرة مدرسة كلَّ عام. لكنها تجد أن ما جعلها تكره المدرسة وتفكر في تركها هو، ربما، موقف معلِّمات المدرسة اللواتي لم تعد تحبهن، خاصة عندما ترى الواحدة منهن ممسكة بالسيكارة وقاعدة تدخن، فلا يعجبْنها، وتجد أنهن "بيشوفوا حالهن [مغرورات]". وهي لا تحب المعلِّمة التي "تشوف حالها"، بل تحبها أن تكون مثل الأم؛ أي أنها تجدهن متكبرات أو مغرورات. أما ندى فتقول عن سبب قرارها بترك المدرسة: "ما حبيت عيد [رسبت]، أنُّو كون أكبر واحدة برفقاتي و...". وهي لم تنجح: "أهملت شوي [ قليلاً] بالدروس، التهيت برفقاتي، ومنحكي كتير بالصف [تلهيت مع رفيقاتي، ونحن نتكلم كثيرًا في الصف]."
من الملاحظ أن المدرسة تستكمل ممارسة رقابة الأهل، من جهة، بالإضافة إلى أن بعض الفتيات الفقيرات (هبة وأميرة وندى) لم يستطعن التكيف مع متطلبات المدرسة لجهة متابعة الدروس (ندى وأميرة)، ولا مع صورة المرأة–المدرِّسة المختلفة والمتناقضة مع صورة الأم (في حالة هبة)، وقررن الابتعاد عن هذا الجوِّ المقلق الذي يزعزع صورتهن عن أنفسهن وعن المرأة، ويطلب منهن القيام بتحدٍّ للذات يعجزن عن القيام به. بينما نجحت سارة (الأسرة مهاجرة من تركيا) نتيجة عاملين: عامل تطلُّب الأسرة نفسها التي لا تزال تحمل ديناميَّة ذاتية للتغير، وعامل سُكنى المدينة والالتحاق بجمعية أهلية تقدِّم برامج متخصصة من أجل توعية الفتيات الفقيرات المعرَّضات للأخطار وحمايتهن.
وهذا ما يعطينا فكرة عن وضعية مدارسنا، وعن عدم قدرة الجهاز التعليمي على تلبية المتطلَّبات التي يفرضها دورُه، وعن عدم ثبات هذا الجهاز في مدارس البيئات الفقيرة، وعن القسوة التي يتعامل بها مع التلاميذ، وعن دور هذه المدارس في نبذ التلاميذ وعدم بذل أيِّ جهد من أجل كسبهم ومساعدتهم على اجتياز المراحل الصعبة التي يمرون بها.
فهل يمكن لهؤلاء الفتيات أن يبدعن في أيِّ مجال كان؟ فكما يستنتج سايمنتُن، لقد انقضت أيام كان يمكن لشخص لم يذهب إلى المدرسة، مثل فاراداي، أن يأمل فيها بأن يقوم بمساهمة أساسية في علم الطبيعة (ونضيف: في أيِّ علم أو إبداع آخر على الأرجح). إن تأمين التعليم هو المطلب الأساسي في مطلع القرن الحادي والعشرين، وعلى مستوى العالم العربي ككل. وهذا أمرٌ مُخْزٍ بما فيه الكفاية.
ومن دون الغرق في نقاش دور الموهبة في الإبداع والخلق أو الفطرة، نورد ما كان يردِّده إديسون من أن "العبقرية هي 1% وحي و99% جهد وعَرَق". بعض الناس يعتقدون أن العبقري "يولد" كذلك، والبعض الآخر يعتقدون أنه "يُصنَع". ولعل الحقيقة توجد في تركيب معيَّن بين المقولتين. لكن لذلك شروطًا معينة في الحالتين، إلى وجوب توافر حدٍّ أدنى من الشروط الموضوعية.
وهكذا، فالتعليم هو الشرط الأولي من أجل توفر إمكان الإبداع عند أجيالنا الطالعة. أما بعض الشروط أو المؤشرات الأخرى التي اعتُمِدَتْ في هذا البحث فهي: وجود قدوة ومثال أعلى يمكن المراهق أن يتماهى معه ويقلِّده، قبول فكرة الاختلاف عن الآخرين والنظرة النقدية إلى الذات وإلى الآخرين، الموقف تجاه التمييز الممارَس ضد المراهقة في المنزل، وجود نوع من الذكاء، وجود حاجة إلى الإنجاز، الرغبة في المغامرة والمخاطرة وعمل شيء مهم، كيفية تزجية الوقت واتساع الاهتمامات، دور القراءة والمطالعات الجدية. لكن ذلك لا يعني أنه ليس للمعاناة من دور، في أحيان كثيرة، في الإبداع. ومن ذلك الصعوبات الأسرية واليتم.
اليُتْم والصعوبات الأسرية
ليس المقصود بالشروط البيئية الجيدة ما هو متعارف عليه بالمعنى السائد، أي غياب المعاناة وقسوة الحياة؛ لكن العكس ربما يكون صحيحًا. فلقد برهنت الأبحاث على أن فقد أحد الوالدين هو سمة مشتركة للعديد من القادة أو العباقرة: فلقد مات والد لينين بينما كان في سنوات مراهقته، وفقد بيتهوفن أمَّه عندما كان في السادسة عشرة، وأصبح نابليون معيلاً لأسرته في سنِّ الخامسة عشرة عندما مات أبوه، وفقد يوليوس قيصر والده في العمر نفسه تقريبًا، ومات والد نيوتن قبل ولادته. وقد أثارت هذه الحالات العديد من الباحثين لكي يتساءلوا مندهشين حول ما إذا كان لليُتْم أيُّ فضل في نموِّ العبقرية.
والشواهد المجتمعة حتى اليوم يبدو أنها تؤيد وجود مثل ذلك الفضل. فهناك نسبة تتراوح بين 22% إلى 31% من المشاهير (عيِّنة كوكس) فقدوا أحد والديهم قبل سنِّ الرشد. لقد أرجع آيزنشتات أثر فقدان أحد الوالدين إلى صدمة الفاجعة، لكنه لم يتتبَّع كلَّ النتائج العملية المترتبة على هذا التفسير داخل بياناته. وهناك تفسير آخر يتعلق باختلال الهوية الجنسية الذي يسبِّبه غياب الوالد المنتمي إلى جنس الولد (مارتنديل، 1972).
وفي عيِّنتنا، لاحظنا أن لين، التي تنتمي إلى أسرة مفكَّكة وتعاني من صعوبات جمة، تمضي وقتها في القراءة، ولديها من الآراء الشخصية والنقدية ومن الاستقلالية ما يتعدَّى النسبة الموجودة عند الأفراد العاديين، وهذا على الرغم من رسوبها في صفهِّا مرتين. أما ريم، الأصغر كثيرًا في السن، فهي متمردة، ولكنها لا تعرف ماذا تريد أن تصبح، ولم تتبلور بعدُ مواهبُها، وهي ترفض طريقة تَعامُل محيطها معها والعنف الممارَس عليها. كذلك نلاحظ أن مشكلات ريَّا الأسرية لم تمنعها من الاتجاه نحو التعبير الفني؛ بل ربما كانت هي الدافع، بالإضافة إلى نموذج أختها الكبرى. أما معاناة دانة مع القمع الممارَس في بيئتها وفي أسرتها، فيدفعها نحو الاستقلالية والرغبة في العيش بعيدًا عن الأهل في بيروت من أجل الانطلاق. لكن الانسجام أيضًا في أسرة نادين ووجود نموذج تقتدي به (والدها رسام)، بالإضافة إلى الموهبة بالطبع، ربما جعل منها رسامة مهمة.
النظرة إلى الذات وقبول الاختلاف
وقد تبيَّن، على كلِّ حال، أن الطريقة التي تعيش بها المراهِقة تجاربها، وكيفية نظرها إلى نفسها، لهما دور أكيد في نوع الشخصية التي تنمِّيها. فرفيف، التي ينعتها الآخرون بأنها "كتير هادية ورايقة [هادئة ومتزنة جدًّا]"، تجد نفسها معارِضة. تخبرني، وهي تبتسم بلطف، أنها "تعارض كلَّ شيء"، دائمًا عابسة وساكتة، وترفض التقاليد؛ بل إنها تعمل عكسها.
نلاحظ هنا أن هناك فئة من الفتيات يعرفن أنفسهن، ويقبلن باختلافهن، ويقدرن على احتمال هذا الاختلاف، على عكس الفتيات المنتميات إلى الفئات الاجتماعية الدنيا، اللواتي تركن المدرسة؛ فمن الملاحظ عدم قدرة هؤلاء على بَلْوَرَة آراء خاصة أو أخذ مسافة من الذات ونقدها، وعدم امتلاكهن أية إمكانية لتنمية شخصية مستقلة يمكن لها أن تتمتع ببعض المعارضة.
وربما برز ذلك بسبب الخوف من الابتعاد عن آراء الآخرين، وعدم تحمُّل فكرة "الخروج على القطيع". الاختلاف من الأمور التي "تضيِّع" البنت؛ لذا فهن يُعْلِنَّ أنهن مثل جميع الآخرين في محيطهن. فالطاعة هي من أولى اهتمامات هذه الفئة. فهل يكون الإبداع عبر الطاعة والالتحاق بالقطيع، أم عبر القدرة على احتمال الاختلاف وقبوله؟ ربما متابعة مساراتهن قد تساعدنا يومًا على الإجابة.
الموقف تجاه التمييز الجنسي
من الملاحظ هنا أن متطلَّبات المراهِقة تجاه نفسها، وقدراتها النقدية، وموقفها من التقاليد، ونظرتها إلى نفسها وإلى علاقاتها بالآخرين، تتعلق بالمستوى الاجتماعي والفكري الذي ينعكس، بالطبع، على المستوى التعليمي. ولقد توزَّعت آراء الفتيات بين موقف محافظ يستدخل التمييز استدخالاً تامًّا؛ وقد ظهر هذا عند المنتميات إلى الفئة التي يسود فيها عاملا الفقر والبيئة الريفية.
لم يبرز هنا العامل الديني في الاختلاف تجاه هذه المسألة. فنجد أن نسرين، المسيحية الريفية، تستدخل فكرة التمييز تجاه المرأة مع فذلكة: فأخوها وحيد بين عدد من البنات، لذلك تجد أنه من الطبيعي ألا يساهم في الأعمال المنزلية؛ لكنها تعترض قليلاً على الرقابة على أماكن خروجها وتأخرها. ومن الملاحظ عدم وجود رقابة على الملابس في هذه البيئة. أما تالة، المنتمية إلى بيئة شيعية محافظة ومتعلِّمة، ففسَّرتْ بوضوح ماذا يُفهَم من تعبير تمييز، وما معنى الإجابة العفوية في أنه لا يوجد تمييز في الأُسَر. فالذي يُفهَم عامة من كلمة "تمييز"، على ما يبدو، يحمل معنى عدم محبة الابنة، وليس معنى الحقوق والواج بات بالمقارنة مع ما هو معطى للشاب.
عاشق من فلسطين
01/04/2005, 13:52
فرويد ونفسانية المرأة
إنك تتنبأ لي بأن أخطائي معرَّضة من بعدي لأن تصبح محلَّ عبادة، شأنها شأن رفات القديسين. هذا يُضحِكني للغاية، لكنني لا أظنه سوف يحدث. أظن، على العكس، أن خلفائي سيسارعون إلى هدم كلِّ ما ليس مُسنَدًا فيما سأترك ورائي.
تسيغموند فرويد
من رسالة إلى ك.غ. يونغ، 1909
ما أكثر الآراء السائدة المغرضة بحقِّ المرأة! ليست المرأة إلا "حيوانًا أليفًا"، "ليس فيه من صفات بني آدم شيء"؛ "ضلع قاصر"، كما يقال، "عاجزة عن التفكير كما يفكر الرجال"؛ "حرمة"، "لم يفطرها الباري إلا على الإنجاب وخدمة الرجال مجانًا"؛ إلخ.[1] هذه الآراء البالية التي ما يزال الرجل والمرأة العربيين، على حدٍّ سواء، يحملانها في ثنايا الخافية (= اللاوعي) القومية national unconscious لم تُخْلِ السبيل بسهولة لحملات الحركة النسوية feminism والتعليم وتغلغُل الأفكار اللبرالية.
والغريب أن هذه النظرة لا تقتصر على العالَم الشرقي وحسب؛ إذ حوالى العام 1940 نراها تولد في الغرب من جديد، متنكرة في زي قشيب، وتسترد منزلتها مع فتوح الفرويدية المنتصرة. أما نقل مؤلَّفات فرويد إلى العربية فلم يؤدِّ إلا إلى ترسيخ وضع قائم منذ أمد بعيد نتيجة السيطرة الذكورية على الموروث الديني التقليدي.
ولعل المرأة تعاني اليوم في دفع هذه الحميَّة الجديدة – هذه الصورة المقولبة عنها – أكثر مما كانت تعاني أمُّها المتحرقة إلى التحرر في مناهضتها الأفكار البالية، وذلك لسببين: أولاً، لأن هذه الحميَّة يساهم في نشرها المربُّون وعلماء الاجتماع الذين يفترَض فيهم أن يكونوا ألدَّ أعداء الأفكار المسبقة؛ وثانيًا لأن طبيعة الفكر الفرويدي نفسه تَحُول من حيث المبدأ حيلولة قاطعة دون أية إعادة نظر في صحَّته كنظرية. فكيف نأمل أن تناهض امرأةٌ متوسطة الثقافة، لا تملك معرفة عالِم النفس و"خبرته" المزعومة في ارتياد مجاهل النفس البشرية، معتقَدًا فرويديًّا أضحى راسخًا في أذهان الناس. يتناهى إلى سمعها أن اكتشاف فرويد للخافية (أو إعادة اكتشافه لها بالأصح) كان للفكر البشري الحديث المتعطش إلى المعرفة كشفًا عظيمًا. وهي تسمع كذلك أن العلم القائم على هذا الاكتشاف ساعد عددًا من الرجال والنساء المعذَّبين. ولقد لقَّنتْها وسائل الإعلام بأن سنواتٍ طويلة من الدراسة ضروريةٌ لسبر الفكر الفرويدي وللإحاطة بجوانبه المتعددة. ولعلها تدري أيضًا إلى أيِّ حدٍّ يقاوم الذهنُ البشري مقاومة غير واعية هذه الحقيقة. أنَّى لها أن تجرؤ على وطء الأرض المقدسة التي وحدهم المحلِّلون يحق لهم التوغل في مجاهلها؟
ليس لأحد أن يشكك في عبقرية فرويد، ولا في مساهمته الاستثنائية في الثقافة الحديثة. وليس قصدُنا من إذاعة هذه الخواطر التشكيكَ في نجاعة التحليل النفسي كما يمارسه اليوم تلامذةُ فرويد ومناهضوه على حدٍّ سواء؛ لكن خبرتنا في مجال التحليل – وهي جد متواضعة إذا قيست إلى خبرة المحلِّلين! –، بالإضافة إلى الحسِّ السليم، يجيزان لنا قطعًا الاعتراض على تطبيق الأفكار الفرويدية حول الأنوثة على نساء اليوم. لا اعتراض لنا على الفنِّ العلاجي التحليلي في حدِّ ذاته، بل على استخدام النظريات التحليلية التعسفي وعلى الطريقة التي تسلَّلتْ من خلالها هذه النظرياتُ إلى الحياة المعاصرة بواسطة المجلات الشعبية وتفسيرات "الخبراء" المزعومين وتصريحاتهم. وفي اعتقادنا أن هذه الأفكار، في غالبيتها، قد تُجووِزَتْ، وأنها لا تفيد إلا في سَتْرِ الحقيقة عن النساء المعاصرات، وأن إليها أخيرًا تُعزى علةُ الهمِّ الخبيث والمبهم الذي يقع فريسة له العديدُ من النساء.
لقد كانت لمنجزات فرويد نتائج متناقضة. لقد ساعد مفهومُ "الأنا الأعلى" الإنسانَ على التحرر من سطوة الواجبات الأخلاقية الكاذبة ومن وطأة الماضي التي تحول دون الطفل وبلوغَ سنِّ الحِلم. ومع ذلك، فإن الفكر الفرويدي ساهم في خلق "أنا أعلى" superego جديد، وبالتالي في تكريس سطوة مفاهيم جديدة تكبِّل المرأة بالصورة القديمة، وتحول دونها والاختيار، وتمنعها من النمو، كما تنكر عليها كلَّ هوية مستقلة عن هوية الذَّكَر.
لقد اعتُمِدَ مفهوم "حسد القضيب"، ألا وهو مفهوم صاغه فرويد لوصف ظاهرة كان لاحَظَها عند النساء (أي عند نساء المجتمع الحَضَري للقرن التاسع عشر اللاتي كن يأتين لاستشارته في فيينا) – ومازال معتمَدًا – لتفسير كلِّ ما ليس على ما يرام عند نساء اليوم. وقلة من بين الذين نبَّهوا إلى الأخطار التي تتهدَّد الأنوثة، معرقلين بذلك تفتح النساء على الحرية والاستقلالية الداخليتين، كانوا على علم بالمصادر الفرويدية للمذهب الذي كانوا يدافعون عنه. وقلة من بين الذين استخدموه – ولسنا هنا نتكلَّم على الندرة من علماء النفس الحقيقيين، بل على المروِّجين لها من مبسِّطي العلوم، وعلماء الاجتماع، والمربين، ووكلاء شركات الإعلان، والصحافيين، وأطباء الأطفال، والمستشارين الأسريين، ورجال الدين، ومرتادي الحفلات "الاجتماعية" – كانوا على علم حقًّا بما قصد إليه فرويد بكلامه على "حسد القضيب"؛ بينما تكفي معرفة الظاهرة التي كان يصفها فرويد لدى أولئك النسوة من القرن الماضي لفهم الخديعة التي يمثلها التطبيق الحرفي لهذا المصطلح على نساء اليوم. حسبنا أن نعلم سبب اختياره لهذا المصطلح لكي نفهم أن هذه "النظرية" تُجووِزَتْ في معظمها بفضل مكتشفات العلم اللاحقة التي بات يعرفها كلُّ الاختصاصيين في الوقت الحاضر، في حين كان فرويد يجهلها آنذاك.
يرى الرأي العام أن فرويد كان مراقبًا أريبًا وفطينًا للمقولات الأساسية للشخصية الإنسانية. لكنه، بينما راح يطرح هذه المسائل، كان، من حيث لا يدري، أسير ثقافته. وفيما كان ينظِّر لبُنى فكرية جديدة للحضارة المعاصرة، لم يكن بمقدوره أن يفلت من بُنى ثقافته. وما كانت عبقريتُه نفسُها لتزوِّده بمعرفة السيرورات الثقافية التي ينمو في وسطها الإنسان العادي اليوم.
تتصف نظرية أينشتاين في النسبية – تلك النظرية التي قلبتْ مقترَبنا من المسائل العلمية رأسًا على عقب – بمرونة أقل من النسبية relativity التي تعترض مقاربة عالِم الاجتماع. ولعلنا نستطيع أن نقول – وهذه حقيقة أساسية – إنه ما من عالِم اجتماع بمقدوره أن يتحرر بالكلِّية من قيود ثقافته؛ جل ما يستطيع أن يفعل، في أحسن الأحوال، هو تأويل ما يرى من خلال الأنموذج paradigm الثقافي السائد في عصره.
لقد تبيَّن بفضل البحوث الحديثة أن غالبية ما كان في نظر فرويد يعود بأصله إلى البيولوجيا والغريزة، ويتصف من جراء ذلك بالثبات وبالديمومة، يتأسَّس على ثقافة معيَّنة ويتأثر بالإجماع الاجتماعي وبالقيم السائدة. والقسم الأكبر مما يصفه فرويد محايثًا للطبيعة البشرية كان ببساطة من مفرزات المجتمع الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر. فمن المؤكد أن اهتمام فرويد قد اتَّجه نحو الجنس لأن ثقافته كانت تتنكَّر لهذا البُعد الأساسي في الشخصية الإنسانية، الأمر الذي جعله يطوِّر نظريته بخلع مغزًى جنسي حصرًا على أشواط تفتح الشخصية التي وَصَفَها (الفمي، الشرجي، التناسلي)، وبإرجاع كافة الظواهر المرصودة إلى البُعد الجنسي وحده.
إن جهوده لترجمة الظواهر النفسانية كافة بعبارات جنسية، وتناوله مشكلات الشخصية الراشدة جميعًا من حيث هي عواقب تثبُّتات fixations جنسية تعود إلى الطفولة نتيجة رضوض traumas نفسية معينة، تعود جزئيًّا إلى تأهيله الطبي نفسه وإلى موقف الفكر العلمي لعصره من "السببية الضمنية".
إن بنيان النظرية الفرويدية كلَّه يقوم على الحتمية determinism الصارمة التي وَسَمَتْ بميسمها الفكرَ العلمي في أواخر القرن التاسع عشر. ولقد استُبدِل بالحتمية في أيامنا هذه تصورٌ أعقد عن السبب والنتيجة، مطروح بلغة السيرورات والظواهر النفسجسمية psychosomatic في آنٍ معًا. من هذا المنظور الجديد ليس الاختصاصيون في السلوك في حاجة إلى استعارة لغة الفسيولوجيا لتفسير الظواهر النفسانية؛ كما أنهم ليسوا في حاجة إلى عَزْو واقعية كاذبة إلى هذه الظواهر. إن الظواهر الجنسية ليست لا أقل ولا أكثر "واقعية"، على سبيل المثال، من الظاهرة التي جعلت شكسبير يكتب هملت والتي يتعذَّر تفسيرُها بعبارات جنسية حصرًا، كما فعل فرويد. وحتى فرويد نفسه لا يصح أن يُفسَّر بحتميته، بـ"سلبه" الفسيولوجي، على الرغم من أن مؤرِّخ سيرته يفسِّر عبقريته – "هواه الإلهي بالمعرفة" – بفضول جنسي لا يرتوي، كان يدفع به إلى الاهتمام، حتى قبل بلوغه عامَه الثالث، بما كان يجري في غرفة والديه!
ويرى البيولوجيون وعلماء الاجتماع وعدد كبير من المحلِّلين النفسيين اليوم في الدافع إلى النموِّ والتفتح عند الإنسان حاجةً إنسانية لا تقل عن الجنس بدائية. لقد بات الشوطان "الفمي" و"الشرجي" (يستمد الطفل لذة جنسية من الفم أولاً، وهو يرضع ثدي أمه، ثم من حركات مصرانه) يُعتبَران الآن شوطَيْ نموٍّ يتأثران بالوسط المحيط والثقافة والحضارة بما لا يقل عن الجنس. فمع بزوغ الأسنان يمكن للفم أن يعضَّ أيضًا، لا أن يمصَّ وحسب. هذا وإن العضلات والمخ تنمو هي الأخرى، ويصبح الطفل قادرًا على ضبط نفسه والفهم؛ وحاجته إلى النموِّ وظمأه إلى المعرفة في الخامسة، أو الخامسة والعشرين، أو الخمسين، يمكن لثقافته أن تلبيهما، أو أن تكبتهما، تقمعهما، تسبِّب ضمورهما، تستحثهما أو تثبِّطهما، على حدٍّ سواء؛ وهذا يصح كذلك على حاجاته الجنسية.
لقد شرع علماء الاجتماع والمحلِّلون الغربيون (الأمريكيون منهم بصفة خاصة)، منذ الأربعينات، في إعادة النظر في النظريات الفرويدية، مع أخذ السياق الثقافي بعين الاعتبار أكثر فأكثر؛ لكنهم – ويا للعجب! – ظلوا يعتنقون النظريات الفرويدية حول الأنوثة لتفسير اضطرابات المرأة الأمريكية.
لا ريب أن فرويد كان يرى في النساء كائنات دنيا، مبهمة الدوافع، تكاد لا تنتمي إلى الجنس البشري. كان يرى فيهن "دمى" لا تصلح إلا للحب، حبِّ الرجل وإشباع شهواته. وقد ترعرع فرويد في ظلِّ هذه الفكرة التي نحتتْها ثقافتُه – ليست ثقافة أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر[2] وحسب، بل وتلك الثقافة التلمودية العبرية التي تجعل الرجل يقول في صلاته اليومية: "الحمد لك يا رب أنك لم تخلقني امرأة"، فتردِّد المرأة وراءه في صلاتها خانعة: "الحمد لك يا رب أنك خلقتني بحسب مشيئتك"!
كانت والدة فرويد امرأة جميلة، وزوجة لينة العريكة لرجل يكبرها بمرتين. وكان والده "ربًّا" للأسرة، يتمتع بالسلطة المطلقة، التقليدية في الأسر اليهودية في تلك الفترة التي كان ما يزال للرجل فيها اليد الطولى على كلِّ ما يتعلق بشؤون أسرته. كانت الأم تعبد تسيغموند الفتى، بكرها، وكانت بحدسها الصوفي تتنبأ له بمستقبل مجيد؛ ويبدو للناظر أنها لم تكن موجودة إلا لتلبية أتفه رغباته. ولعل ذكريات الغيرة الجنسية التي شعر بها فرويد نحو والده (الذي كانت الأم تلبِّي رغباته هو الآخر) هي أصل نظريته في المركَّب الأوديبي. ومع زوجته، مثلما مع أمِّه وشقيقاته، كانت حاجاته ورغباته وأمانيه هي الشمس التي تطوف حولها حياة الأسرة. فعندما كان بيانو شقيقاته يزعجه في أثناء دراسته "كان البيانو يختفي"، كما تتذكر آنا فرويد بعد سنوات، و"بزوال الآلة [...] يتلاشى كل أمل لشقيقاته في أن يصبحن موسيقيات".
لم يكن فرويد يرى في ذلك أية غضاضة من شأنها أن تؤثر في النساء بصورة من الصور. لقد كان من الطبيعي على المرأة أن يكون الرجل "قوَّامًا" عليها وأن تحسده حتى المرض. إن قارئ رسائل فرويد التي كتبها إلى خطيبته وزوجة المستقبل إبان سنوات خطوبتهما الأربع (1882-1886) لا بدَّ أن يتميَّز فيها نبرةَ تورفلد المتعطِّفة عينها في مسرحية بيت الدمية، عندما يأخذ على نورا إرادتها أن تنال كرامتها الإنسانية. كان فرويد آنذاك يشرع في سبر أسرار المخ البشري في مختبره في فيينا، وكان على مارثا – "طفلته الحلوة"، كم كان يسميها – أن تنتظر أربع سنوات في كنف أمِّها قبل أن يأتي لأخذها إلى بيت الزوجية. وهذه الرسائل تُشعِرنا أنه كان يرى في زوجته مدبرة منزل–طفلة، في حين أنها كانت آنذاك قد تخطَّت مرحلة الطفولة ولم تكن بعدُ قد أصبحت مدبِّرة منزل! من هذه الرسائل نقتطف المقطع التالي:
أعلم بالطبع كم أنتِ حلوة، وكيف أن في وسعك أن تجعلي من المنزل جنة، وكم ستشاركينني اهتماماتي، وكم ستكونين مرحة، وإلى ذلك مجتهدة. سوف أترك لك تدبير المنزل كما تستحسنين، ولسوف تكافئينني بحبِّك الحنون، وأنتِ تترفعين عن هذه السخافات التي كثيرًا ما تستجلب الزراية على النساء. وبقدر ما تسمح لي نشاطاتي سنطالع معًا كتبًا تتفق مع ذوقينا، ولسوف ألقِّنك أشياء لا يمكن لها أن تهم فتاة مادامت لم تدخل كنف زوجها.
إن الخليط "الفكتوري" من الكياسة والتعطف الذي نقع عليه في نظريات فرويد العلمية في النساء يتضح في رسالة 5 تشرين الثاني 1883 التي تسخر من أفكار جون ستوارت مِلْ حول "تحرر النساء ومسألة المرأة عمومًا":
لعل تغييرات في التربية قادمة يومًا لتضع حدًّا لحنان المرأة هذا الذي يطالب بالحماية، مع كونه بهذا السلطان؛ ولعلها تكون عندئذٍ قادرة على كسب قوتها كالرجل. ولعله كذلك، ضمن هذه الإمكانية، ليس ثمة سبب يدعو إلى لبس الحداد على أشهى ما يمكن للعالم أن يقدِّمه لنا، ألا وهو مثالنا عن الأنوثة. لكني أظن أن كلَّ إصلاح قانوني أو إداري جهيضٌ لا محالة من جراء أن الطبيعة، حتى قبل أن يبلغ الكائن البشري سنَّ شغل موقع في المجتمع، سبق لها أن عيَّنتْ مصير المرأة بلغة الجمال والفتنة والرقة. فللقانون وللعرف أيضًا أن يمنحا النساء جملة من الأشياء التي كانت ممنوعة عليهن حتى الساعة؛ ويبقى مع ذلك أن قَدَر المرأة سيبقى على ما هو عليه: قَدَر شيء شهيٍّ مرغوب في الشباب؛ وقَدَر زوجة محبوبة في سنِّ النضج.[3]
وبما أنه من الجليِّ أن نظريات فرويد في جملتها تقوم على التحليل النفسي الذاتي النافذ والمتواصل الذي كان يُخضِع نفسه له، وبما أن الجنس كان في نظره المفتاح إلى نظرياته كافة، يحسن بنا أن نقف على عدد من المفارقات المتعلِّقة بحياته الجنسية نفسها. لقد لاحظ العديد من الجهابذة أن كتاباته تدور حول الجنس الطفلي أكثر منها حول جنس الإنسان الراشد. ويشير إرنست جونز، مؤرخ سيرته، أنه كان، بالقياس إلى عصره حتى، استثنائي التعفف والتزمت والأخلاقية. لم يكن الجنس يحظى منه إلا بالقليل من الاهتمام. وهو فتى صغير، لم يتعلق بامرأة سوى أمِّه؛ وفي الثالثة عشرة، كَلِف بـ"أميرة بعيدة"، فتاة اسمها جيزيل؛ وفي السادسة والعشرين خطب ودَّ مارثا. بيد أنه خلال الأشهر التسعة التي صرفها بالقرب منها في فيينا لم يُصِبْ نجاحًا يُذكَر لأنها، على ما يبدو، لم ترتح إليه ولم تستطع أن تكون على سجيَّتها معه؛ إنما لم تكد تُباعِد بينهما مسافةٌ مريحة حتى نشأ بينهما واستمر أربع سنوات "هوى كبير"[4]، انشرح في تسعمائة رسالة حب. وبعد زواجهما، يبدو أن الهوى تخامَد، على الرغم من أن غالبية مؤرِّخيه يُجمعون على أنه كان أكثر تشددًا من أن يفتش خارج نطاق الزواج عن أية متعة جنسية.[5] ولعل الأصح أن نقول إن امرأة واحدة – مارثا – بَلْوَرَتْ في حياة فرويد كراشد إمكانات الحبِّ والكره إبان السنوات الأولى من خطبتهما. ومن بعدُ انصرف إلى تركيز ملَكاته الهوائية على الرجال. إن جونز – مؤرِّخه المُجِلَّ – يؤيِّد وجهة النظر هذه بقوله:
لعل انحراف فرويد عن المعدَّل في هذا المجال، كما وازدواجيته الجنسية الذهنية البارزة جدًّا، أثَّرا بعض الشيء في نظرياته.
ويشير مؤرِّخون أقل إجلالاً، كما يشير جونز نفسه، إلى أن المرء لا يملك، إذ يفكر بفرويد، إلا أن تخطر في باله امرأةٌ عانس متزمِّتة ترى الجنس في كلِّ مكان!
إن في حوزتنا لمحات عن "نوايا" فرويد حيال مارثا: "نوايا جهيضة دومًا في جعلها كائنًا على صورته"، عندما يكتب إليها في أنها يجب أن "تبقى على براءة طفلة عمرها بضعة أسابيع وأن تسارع إلى نسيان كل لذوعية". لكنه إنما يخاطب نفسه بهذه المآخذ:
على المحبوبة ألا تصير لعبة، بل رفيقة قادرة ما تزال على قول الكلام العاقل عندما يفقد السيد الصارم كلَّ حكمة. وأنا قد أردت كسر عفويتها لإرغامها على الاحتفاظ برأيها حتى تصير متأكدة من رأيي.[6]
لقد ساء فرويد أن يرى أنها لم تكن تتجاوب مع الاختبار الأساسي، ألا وهو "مواحدة تامة معه، مع آرائه، ومشاعره، ونواياه". لم يكن يحس بها "له" مادام لا يستطيع أن يتعرف فيها إلى "سمته". ويتابع جونز:
أغلب الظن أن مارثا كانت تخاف هذا العاشق اللجوج؛ فكانت تلجأ، كما يحدث غالبًا في الحالات المماثلة، إلى الصمت.
بيد أنه كتب إليها أخيرًا:
إني متخلٍّ عما كنت أطالب به. لستُ في حاجة إلى رفيق السلاح الذي كنتُ آمل أن أجعلكِ إياه. أنا من القوة بحيث أجاهد وحدي. [...] ستبقين محبوبتي الغالية المعبودة.
بذا تنتهي، كما يعلِّق جونز، "اللحظة الوحيدة من حياته التي تثبَّتتْ فيها انفعالاتٌ كهذه (من حبٍّ وكره) على امرأة" بعينها.
كان زواجه بمارثا زواجًا تقليديًّا، لم يتكلَّل بحبٍّ كبير. ويصفه جونز كما يلي:
كان زواجهما ناجحًا كما قلما تنجح الزيجات. كانت مارثا بالتأكيد زوجة وأمًّا ممتازة. وقد أسفرت عن كونها منظِّمة جديرة بكلِّ إعجاب – من هذا النوع النادر من النساء اللواتي كن يستطعن الاحتفاظ بالخَدَم إلى ما شاء الله –، لكنها لم تكن قط Hausfrau [ربة منزل] ممَّن كنَّ يصادَفن في المجتمع. كانت راحةُ زوجها ولذته يأتيان دومًا في المقام الأول. بيد أنه لا يُنتظَر منها أن تتبع تحليق مخيِّلة زوجها بأكثر مما كان يتبعه بقية الناس.
كان الوسط الذي عاش فيه فرويد يقبل خضوع المرأة غير المشروط للرجل كمسلَّمة في جملة المسلَّمات السائدة. ويبدو أن غياب إمكانية الفعل المستقل أو الحياة الشخصية كثيرًا ما ولَّد ضيق المرأة وتثبُّطها وغيظ الزوج – وهي سمات تميِّز زواج فرويد. فموقف فرويد حيال النساء عمومًا، كما يلخِّصه جونز بدقة، "كان يمكن أن يوصف نوعًا ما بالبِِلى؛ ومن اليسير عَزْو ذلك إلى بيئته وعصره، لا إلى عنصر شخصي".
أيًّا كانت آراء فرويد الفكرية بهذا الخصوص، فإننا نجد في كتاباته ومراسلاته إشارات عديدة إلى موقفه العاطفي. على أن من الغلوِّ القول إنه كان يعتبر الذَّكَر سيد الأرض، لأن طبيعته كانت خالية من أيِّ أثر واضح للغطرسة؛ إنما لسنا نجانب الصحة في قولنا إنه كان يرى في الجنس اللطيف "ملائكة" أنيطت بهنَّ مهمةُ السهر على راحة الرجال وتلبية حاجاتهم. إن رسائله، كما واختياره لحبِّه، يبيِّنان أن ذهنه كان خاليًا إلا من نموذج موضوع جنسي واحد، ألا وهو نموذج المرأة الطيِّعة.
وليس ثمة مجال للشك في أن فرويد كان يجد النفسانية المؤنثة أشد إبهامًا من نفسانية الرجال. لقد أسرَّ ذات يوم إلى تلميذته ماري بونابرت:
إن السؤال الكبير الذي لم يلقَ جوابًا قط، والذي لم أقدر بعدُ على الإجابة عليه إبان ثلاثين عامًا من دراسة النفس المؤنثة، هو: ما هي رغبات المرأة؟
وعلى الرغم من أهمية الجنس في النظريات الفرويدية، يساورنا ونحن نقرأه انطباعٌ بأن الجماع يبدو له فعلاً مخزيًا؛ فمادامت النساء يظهرن له بهذا الصدد متدنِّيات في نظر الرجال، كيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟ هذه النظرات، بالطبع، لا نقع لها على أثر في نظرياته؛ بيد أن فكرة الزنا بالمحارم incest، بحسب فرويد، هي التي كانت تجعل الرجل "يعتبر الجماع شيئًا مخزيًا، من شأنه أن ينجِّس ويدنس أكثر من الجسد نفسه".
على كلِّ حال، كان من البديهيات، عند فرويد، أن النساء كائنات متدنِّيات؛ وهاهنا نجد مفتاح نظريته في الأنوثة. فالقوة الفاعلة لشخصية المرأة – بحسب نظريته – هي "اشتهاء القضيب" التي تنتقص من شأنها في نظر نفسها إلى حدٍّ لا يستهان به، "كما وفي نظر الصبي الصغير وفيما بعد، ربما، في نظر الرجل". هذه الرغبة تقودها في الحالات السوية إلى تشهِّي قضيب زوجها؛ وهي رغبة لا يتم إشباعها قط مادامت لم تنجب ابنًا ذَكَرًا. وباختصار، فهي ببساطة "رجل ناقص" يعوزه شيء ما.
يتأسَّس مفهوما "عقدة الخصاء" castration complex و"حسد القضيب" penis envy، اللذان هما فكرتان أساسيتان في المذهب الفرويدي، على مصادرة أن "النساء أدنى بيولوجيًّا من الرجال". فماذا كان فرويد يقصد على وجه الدقة بمفهوم "اشتهاء القضيب"؟ إنه يقول في محاضرة حول "نفسانية النساء":
لدى رؤيتها الأعضاء التناسلية للجنس الآخر تكابد البنتُ الصغيرة عقدة الخصاء هذه. إنها سرعان ما تلحظ الفارق وتخمن قطعًا منطوياته. إنها تشعر بالإحباط، وتصرح تكرارًا أنها تتمنَّى أن يكون لديها عضو مماثل، وتقع بذلك ضحية الرغبة بامتلاك قضيب، الرغبة التي تترك آثارًا لا تمَّحى في نفسيتها وتكوين طبعها. وهذه الرغبة، حتى في أحسن الأحوال، لا تنكبت بدون صرف طاقة ذهنية كبيرة. إن تعوُّد البنت الصغيرة على عدم امتلاك قضيب يخصُّها لا يعني أنها تقبل بطيبة خاطر حرمانها منه. إنها، على العكس، تقلع مدة طويلة عن الرغبة في امتلاك واحد وتظن، عددًا مدهشًا من السنين، أنها ستتمكن من إشباع هذه الشهوة؛ وحتى عندما تبرهن لها وقائعُ الحياة منذ أمد بعيد على بطلان رغبتها، يبيِّن تحليلٌ معمَّق أن هذه تلبث مدفونة في الخافية وتبقى مركز تراكم للطاقة.
يقود هذا الوضع إما إلى تثبيط جنسي تام وإلى عُصاب، وإما إلى "مركَّب رجولة" مردُّه إلى رفض التخلِّي عن نشاط "قضيبي" [أي نشاط يميز الذكر عادة]، وإما أيضًا إلى "أنوثة سوية" تجعلها تكبح نشاطاتها هي وتحيل "اشتهاءها للقضيب" إلى أبيها. على أن وضع المرأة لا يستقر إلا عندما تُستبدَل بهذه الرغبة في القضيب الرغبةُ في طفل – حيث يحل الطفل محلَّ القضيب.
لكن تخطِّي عوزها الطبيعي واشتهاء القضيب الذي ينجم عنه هو من الصعوبة بحيث إن الأنا الأعلى للمرأة – وعيُها، مُثُلها العليا – لا تتحدَّد قط بالوضوح والتمام الذي يتحدَّد به وعيُ الرجل ومُثُله العليا. لهذه الأسباب عينها، يقل اهتمام النساء بالحياة الجماعية شدةً عنه لدى الرجال، "وإمكانياتهن على تصعيد الغرائز تكون أضعف". وأخيرًا لا يستطيع فرويد إلا أن يذكر "انطباعًا يتجدد بلا توقف خلال عمل التحليل"، ألا وهو أن التحليل لا يستطيع الكثير من أجل النساء، من جراء العوز الملازم لأنوثتهن!
عندما يُؤوَّل اشتهاءُ القضيب هذا، كما أُوِّلت المفاهيم الفرويدية الأخرى، على ضوء المعارف الحديثة، لا بدَّ أن يتضح أن ما عزاه فرويد إلى البيولوجيا يعود، في الأعم الغالب، إلى التطويع الناجم عن الثقافة؛ وإن لَمِنَ المفهوم أن البيئة الثقافية–الاجتماعية المحيطة في القرن التاسع عشر تعطي النساء أسبابًا عديدة ليحسدن الرجال؛ فوضعهن كان الوضع عينه الذي حاولت أن تتصدى له الحركة النسوية. فعندما تتوق امرأة سرًّا إلى الحرية، إلى المنزلة، إلى الملذات التي يتمتع بها الرجال، يمكن لأحلامها أن تختصر لها الطريق، فتجعلها تتمنَّى أن تكون رجلاً وترى نفسها مزوَّدة بذلك "الشيء" الذي يجعل الرجال بلا مراء مختلفين عنها، ألا وهو القضيب. بالطبع، يتعين عليها عندئذٍ أن تخفي هذه الرغبة، هذا الغضب الدفين؛ يتعين عليها أن تحاكي الأطفال، أن تقبل اعتبارها مجرد "دمية"، مجرد ألعوبة، لأن مصيرها متوقف على الفتنة التي تمارسها على الرجال.
لكن هذه الرغبة، في قرارة نفسها، يمكن أن تفسد وتجعلها تتقزز من الحب. ولئن كانت تحتقر نفسها سرًّا، وتحسد الرجل على كلِّ ما ليس لديها، في وسعها أن تعرف مختلف مراحل الحب، أو حتى تهيم حتى العبادة (= العبودية؟). لكن أنَّى لها أن تعرف الحبَّ الطَّلْق الفَرِح؟! إن من الحيف أن نكتفي بتفسير سطحي لذلك الحسد الذي تحس به المرأة نحو الرجل – لاحتقارها لنفسها – يختزل المسألة برمَّتها إلى مجرد عدم قبولها لفارقها الجنسي – اللهم إلا إذا اعتقدنا فعلاً بأن المرأة أدنى من الرجل. إن رغبتها في المساواة، والحالة هذه، مردها بالطبع إلى عُصاب مستحكم.
من المقبول اليوم عمومًا بأن فرويد لم ينكب بجدية قط (حتى عند الرجال) على دراسة الأنية أو الأنا ego، بما هي هذا النزوع إلى الانضباط، إلى بلوغ علاقات مُرضية مع المحيط. وإن المحلِّلين الذين أفلتوا من عقال الرؤية الفرويدية واهتموا بدراسة حاجة الإنسان الماسة، دائمًا وأبدًا، إلى التفتح والنمو، توصلوا إلى الاعتقاد بأن هذه الحاجة هي أصل الحاجات الإنسانية الأخرى جميعًا، وبأن أيَّ تدخُّل مشوِّش على هذا الصعيد، مهما تكن طبيعته، من شأنه أن يحرض اضطرابات نفسية. إن الحاجة الجنسية ليست إلا بُعدًا واحد من الأبعاد الكامنة في الإنسان. ولا ننسينَّ أن فرويد كان يعتقد أن كافة الأعصبة neuroses ذات منشأ جنسي حصرًا؛ من هذا المنطلق تناول نفسانية النساء من منظور علاقاتهن الجنسية مع الرجال. بيد أن كافة النسوة اللواتي استشف لديهن مشاكل جنسية كنَّ، بلا ريب، واقعات فرائس مشكلات حادة ذات علاقة بنموٍّ نفسي تعرَّض لكبح ولتضييق شديد عليه، بحيث حيل بينهن وبين بلوغ حالة امتلاء إنساني حقيقي، مما جعلهن يُبدين "أنا" قاصر وطفولي. فالمجتمع الأوروبي آنذاك، بحرمانه القاطع للمرأة من كلِّ فرصة للتعلم والاستقلالية، حال دونها وبلوغَ الامتلاك الحقيقي لزمام أمورها، والسعيَ إلى اهتمامات ومُثُل من شأنها أن تحثَّ قُدُمًا نموَّها النفسي. لقد عاين فرويد النواقص – وهذا أمر لا يُنكَر عليه –، لكنه لم يرَ فيها إلا عواقب اشتهاء القضيب، وفسَّر حسد المرأة للرجل بداء جنسي يستحكم فيها من بعد أن تدرك الفارق الجنسي الذي يميِّزها عن الرجل. لكنه، بعَزْوِه إلى اشتهاء القضيب توقَ النساء إلى المساواة مع الرجال، ألم يكن بذلك يطرح وجهة نظره الشخصية: ألا وهي أن النساء ليس بمستطاعهن البرهنة على مساواتهن مع الرجل إلا إذا توصَّلن إلى امتلاك قضيب!
لئن كان فرويد ومعاصروه يحكمون بتدنِّي المرأة من جراء مشيئة إلهية لا رجوع فيها، فإن العلم اليوم لم يعد يسوغ مثل هذا التصور. لقد بتنا نعلم الآن أن هذا التدنِّي كان ناجمًا عن غياب التربية الجنسية الصحيحة وعن حَجْر المرأة في بيت الزوجية. أما وقد ثَبَتَ اليوم علميًّا التكافؤ بين ذكاء الرجل وذكاء المرأة، بين القدرات الذهنية لكلٍّ منهما، وتمَّ الاعتراف بتكافؤ الاستعدادات من حيث المبدأ لدى كلٍّ من الجنسين – اللهم إلا في مجال القوة العضلية المحضة –، فإن أية نظرية قائمة في أساسها على التدنِّي الطبيعي للمرأة بالقياس إلى الرجل لهي من قبيل المهزلة، إن لم نقل الرياء الديني. بيد أن هذا التصور مازال قائمًا في أساس النظرية الفرويدية في النساء، وذلك على الرغم من قناع الطبيعة الجنسية الدائم الذي تتوارى خلفه.
لا مراء في أن المجتمع البشري قد تطور إلى حدٍّ كبير بالقياس إلى ما كان عليه في القرن التاسع عشر. لكننا مازلنا نرى تلامذة فرويد، رجالاً ونساءً، يطبقون نظرية اشتهاء القضيب إلى يومنا هذا تطبيقًا أعمى. يمكننا القول، في ضوء المعارف الجديدة ومسيرة الثقافة والتفتح الإنسانيين، أن النساء اللاتي نشأن على الحقوق والحرية النسبية والثقافة، التي كانت النساء شبه محرومات منها في القرن التاسع عشر، هن مختلفات عن النساء اللواتي حاول فرويد مساعدتهن. ولعل الأسباب التي كانت تدعوهن إلى حسد الرجال قد تراجعت نظريًّا إلى حدٍّ كبير. بيد أن تأويل النظريات الفرويدية واستعمالها استعمالاً حرفيًّا يدعو للعجب قد جعلا مفهوم اشتهاء القضيب يُحاط بهالة خاصة، وكأنه موجود بمعزل عن النساء اللواتي رُصِدَ لديهن، وكأن رمز المرأة في العصر الفكتوري ينطبق على النساء كلِّهن، في كلِّ زمان ومكان.
ليس قصدنا فيما ذهبنا إليه القول إن استعمال النظريات الفرويدية، الذي أفضى عمليًّا إلى غسل أدمغة عدة أجيال من النساء "المثقفات"، إنما هو جزء من مؤامرة فرويدية! فبصرف النظر عن الأخطاء التي وقع فيها فرويد نتيجة تأثُّره بروح العصر الذي عاش فيه، يتحمل مسؤولية هذا الأمر كذلك المتحمِّسون للنظرية الفرويدية الذين روَّجوا بكلِّ حسن نية لآراء معلِّمهم، كما والمدرِّسون المهمِلون الذين زيَّفوا الأفكار، والمعتنقون الجدد الذين أضحوا "مَلَكيين أكثر من الملك"، على حد قول المثل الفرنسي، ومهووسو الانتهازية، معذَّبين ومعالِجين ومستفيدين من هذا العذاب. على أن المسألة برمَّتها قد تيسَّرت بتضافُر قوى الناس وحاجاتهم في وقت من الأوقات.
لقد كتبت إليَّ فرانسواز كلواريك، المحلِّلة الفرنسية الفرويدية المولَعة بسوريا:
خلال سنوات ممارستي للتحليل كثيرًا ما وجدت نفسي مضطرة إلى تطبيق النظريات الفرويدية في المرأة على الحياة النفسية لمعاوِداتي بما لم يكن يرضيني قط. ولقد توصَّلتُ إلى نتيجة مفادها أن "حسد القضيب" هذا ببساطة غير موجود أصلاً. فلقد صادفتُ نساء راضيات تمامًا على الصعيد الجنسي والمهبلي، لكنهن، مع ذلك، لم يبلغن لا النضج النفسي، ولا التكيف الاجتماعي، ولا حتى الحدَّ الأدنى من التفتح. لقد تعيَّن عليَّ أن أصغي ما يقرب من السنتين إلى امرأة شابة قبل أن أتلمَّس مشكلتها الحقيقية: لقد كانت أمًّا وربة منزل، لكنها ما كانت لتكتفي بذلك. لقد حلمتْ ذات يوم بأنها تدرِّس في إحدى المدارس. لم يكن في وسعي أن أربط هذه الحاجة الماسة التي انكشفت لنا إلى اشتهاء القضيب؛ إذ لا ريب أنها كانت تعبيرًا عن نضج يفتش عن توكيد لذاته. عندئذٍ أسقط في يدي. قلت لها صاغرة: "لا طاقة لي على تخليصك من هذا الحلم بالتحليل. عليك أنتِ أن تفعلي شيئًا."
قالت لي هذه المحلِّلة الموهوبة أيضًا إن خبرتها هَدَتْها إلى ضرورة "رمي الكتاب جانبًا والإنصات إلى المريض" إذا لم تجد في الكتاب تفسيرًا مقنعًا لحالته. لكن شجاعة هذه المحلِّلة التي جعلتْها، على إخلاصها لطروحات فرويد الأساسية، تنصاع للواقع الملموس أكثر من التجريد النظري، مازالت، بكلِّ أسف، حالة نادرة بين المحلِّلين، من فرويديين وسواهم. وكانت النتيجة أن غالبيتهم اكتفوا بالكتاب، وتمسَّكوا بالنظريات الفرويدية بحذافيرها – حتى لقد تبنَّتها نساء "مثقفات" لم يستلقين قط على أريكة التحليل، مكتفيات ببعض القراءات والنقاشات العامة.
إن الجمهور العريض مازال حتى الساعة يجهل أن هذا التفتح الحاذق للشعور بالإحباط، الذي ما فتئ يقض مضجع نساء كثيرات، قد لا يمت إلى الجنس بصلة. ولئن صحَّ أن عددًا من المحلِّلين لا يتردد في تقويض بعض النظريات، إخلاصًا منهم للحقيقة وحرصًا على فهم معاوِديهم، لا تصل نتائجُ أبحاثهم إلى الجمهور العريض دومًا.
يفسَّر هذا القبول الأعمى للمذهب الفرويدي – جزئيًّا على الأقل – بالأهمية التي يعوِّله هذا المذهب على المسائل العويصة التي تطرحها الوقائع الموضوعية. فلقد بات علم النفس الفرويدي في نظر الناس، بعد الأزمة الاقتصادية، وبعد الحرب، العِلْم الذي يضع في متناولهم الخطوط الناظمة للسلوك البشري، ويقدم الدواء للمعذَّبين منهم. حتى إنه صار في نظر الكثيرين في الغرب (ولاسيما في الولايات المتحدة) الدواء الإيديولوجي الشافي من كلِّ الأدواء، والدين الجديد القادر على تفسير خفايا النفس البشرية (بما فيها الشعور الديني نفسه). وبذلك أمسى هدفُه، بدلاً من أن يكون علاجيًّا، تسلية ذهنية وترفًا فكريًّا في حياة الذين باتتْ همومُهم تتعدى القضايا الدينية والقومية والمالية، وملُّوا إحساسهم بالمسؤولية عن إبادة الهنود الأمريكيين وشنق الزنوج واستعمار بلاد العالم الثالث ومعسكرات الاعتقال ومجاعات الصومال وأوبئة أفريقية. هؤلاء وجدوا في العقيدة الفرويدية مهربًا عمليًّا من كلِّ المسائل المقلقة التي من شأنها أن تفسد عليهم مذاق وجبة شهية أو لذة نزهة في السيارة أو مشاهدة مباراة بيسبول منقولة مباشرة بالأقمار الصنعية. لقد هوَّن عليهم تدبُّر أفكار فرويد التنصل من المسائل المزعجة والتنعُّم بلا وازع من "ضمير" (= أنا أعلى أبوي ضاغط) بالبحبوحة ووسائل الرفاهية. ولئن كان هذا التيار النفساني الذي يضع الجنس في منزلة الفضيلة يحلِّل كلَّ الخطايا بتسويغها، ويشكك في قيمة أسمى الأشواق والتطلُّعات العقلية والروحية للإنسان، بوصفها تعويضًا عن "أفعال خائبة"، ولئن عاد هذا "الدين" الجديد بِضَرَرٍ على النساء أكبر منه على الرجال، ما من أحد تعمَّد ذلك!
بيد أن التحليل النفسي، بما هو علاج، لا يتحمل وحده مسؤولية هذا الوضع. فقد انتشرت النظريات الفرويدية والفرويدية الكاذبة كالنار في الهشيم، واخترق الفكرُ الفرويدي علمَ الاجتماع والأنثروبولوجيا والتربية والأدب، محولاً إياها تحويلاً جذريًّا في بعض الأحيان، وفَعَلَ الأنا الأعلى (كما هو شأنه دائمًا بحسب فرويد) في عدد كبير ومتنامٍ من النساء الشابات القابلات للتأثير، وبذلك ظلَّ الماضي حيًّا.
إن البشرية لا تحيا قط في الحاضر تمامًا: فتقاليد شعب أو ثقافة لا تخضع لتأثير الاكتشافات الجديدة إلا ببطء شديد؛ ومادامت هذه تفعل في الأنا الأعلى، فإنها تؤدي دورًا هامًّا في حياة الإنسان، في معزل عن العوامل والشروط الاقتصادية.
لقد كانت النظرة الاختزالية reductionist إلى المرأة – تلك النظرة التي رفعتْها النظرية الفرويدية إلى منزلة الحقيقة العلمية – أول حجر في الجدار الدفاعي الذي ضيَّق على المرأة حياتها وحدَّ من مستقبلها. ذلك أن فتيات ممَّن تابعن تحصيلهن العالي، وأصبحن من الاستقلالية والأهلية بحيث يلعبن دورًا فعالاً في الحياة الإنسانية، وَجَدْنَ عددًا من أكابر عقول عصرنا الحالي ينصح لهنَّ بالعودة إلى الدار، وبالعيش فيها حياة مختزَلة إلى أبعاد "بيت الدمية"!
عاشق من فلسطين
01/04/2005, 13:57
العُبُور إلى الأمَان
التَزَامُن وصنَاعة النَّفْس
فكتور مانسفيلد*
فينكس، آريزونا، 12 آذار 1999. في عصر ذلك اليوم، صرفت عدة ساعات أراجع محاضرة. وبما أنني استعملت الأفكار عينها قبلئذٍ ببضعة أيام لكتابة مسوَّدة فصل من فصول كتابي الجديد، المعروض للنشر مؤخرًا، فقد كنت متحمسًا بصفة خاصة لمناقشتها. فكرتُها المركزية كانت أن جوهر النفس، في نظر أفلوطين (الفيلسوف الأفلاطوني الجديد من القرن الثاني)، منتهٍ، منقسم، وعرضة لفَسَاد الزمن؛ وهو، في الآن نفسه، لانهائي، غير منقسم، وخالد. ففي كلِّ تجربة، على المستويات كافة، مهما كان مبلغ دنيوية هذه المستويات أو سموِّها، نحن مخلوقات محدودة، منتهية، عرضة للانحلال، وفي الآن نفسه، كائنات خالدة ومتعالية. وتلكم هي الطبيعة الفريدة للنفس.
وضعتْني مراجعة المحاضرة في حالة شعورية لذيذة. كنت أشعر بالامتنان لإسباغ شَرَفَ التمكن من مناقشة مثل هذه الأفكار النبيلة عليَّ؛ لكن الساعة كانت قد تجاوزت الخامسة والنصف. كنت قد اتفقت مع مضيفيَّ على لقائي في بهو الفندق لتوصيلي بالسيارة إلى مكان المحاضرة في السابعة إلا ربعًا. كان عليَّ أن آكل وأستحمَّ في أكثر من ساعة بقليل. فكان لا بدَّ من أن أعجِّل!
خرجت في همَّة إلى ضوء الشمس الساطع، وسرت على طول طريق عامة ذات ستة مساقات، تعج بالسيارات المدوِّية. مَنَحَني الخروجُ والحركةُ شعورًا بالارتياح. ولكن أين ذلك المطعم الذي دلَّني عليه موظف النَّزْل؟ بعد خمس دقائق من السير أو نحو ذلك، رأيت المطعم، لكنه كان على مبعدة خمس دقائق أخرى. ربما كان "على بُعد رمية حَجَر" بالسيارة، لكن المسافة تستغرق عشر دقائق كاملة سيرًا على الأقدام. شعرت عندئذٍ بضغط الوقت.
عند التقاطع، رأيت المطعم أمامي مباشرة عبر الشارع. كانت هناك سيارات واقفة في المساقين الأقرب إليَّ، لكن المساق الثالث، الأبعد عنِّي، كان خاليًا. وعلى الرغم من اليد الحمراء الوامضة التي تشير إليَّ بعدم العبور، ظننت أنني أستطيع بلوغ المنصِّف عند منتصف الطريق. هرعت إلى ممرِّ السابلة، ومررت من أمام مساقَي السيارات الواقفة إلى يساري. وحين بلغت المساق الثالث: طاخ!
عدت إلى وعيي لأجدني مستلقيًا على قارعة الطريق، وأنا أسمع مكابح سيارة تئز حتى التوقف بعدي. حملت نفسي على الوقوف. وجدتُني إذ ذاك خارج ممرِّ السابلة بمسافة طويلة، والسيارات تطير من حولي في الاتجاهات كافة. أحسست بألم عميق في كتفي اليسرى، وبوجع في أنحاء جسمي كلِّها، وأنا أتعثر في مشيتي نحو السيارة السبور السوداء الصغيرة التي صدمتْني لتوِّها. كان نبض قلبي يتسارع. قلت للسائق:
- أنا آسف حقًّا.
- لقد أفزعتَني، يا رجل! هل أنت بخير؟
- هل تستطيع أن تطلب سيارة إسعاف؟ كتفي مخلوعة وجسمي مختبط بشدة.
شعرت بمزيج خارق من الامتنان البالغ والرعب الصِّرف. أبعَدَ الرجل السيارة حتى الطريق المُقاطِع واستدعى الشرطة بهاتفه الخلوي. أتت امرأتان شابتان جميلتان مسرعتين نحوي.
- هل أنت بخير؟ واو! لم أشهد شيئًا كهذا في حياتي! لقد كنت طائرًا لتوِّك في الجو. هل في وسعنا تقديم مساعدة؟
كانت أشعة الشمس الغاربة، المتخلِّلة شعرهما، ترسم هالتين نورانيتين حول رأسيهما، فبدتا كملاكين. سألتهما إذا كانتا تستطيعان إحضار الكتاب الذي كنت أحمله. أشرت لهما إلى مكانه، على مسافة أربعين قدمًا من موقع الصدمة.
من خبرتي السابقة، أعرف أن "أناي"، حين تكون في مرحلة الخروج من مركزها، كما هي حالي الآن، فإن حظوظي في إلقاء محاضرة ملهَمة تزداد. على الرغم من اشتداد الألم عليَّ، كنت ما أزال أريد إلقاء ذلك الحديث. سألت الشرطة: "هل تظنونني أستطيع أن أفلح في إلقاء محاضرة في السابعة والنصف؟" حدَّقوا فيَّ وكأنني قادم من المريخ! في الواقع، ربما كنت كذلك. فمَنْ غيري كان سيجري أمام السيارات توفيرًا للوقت؟!
وفيما كانوا يلتقطون صورًا للسيارة السبور، جلست على العشب بجانبها ورحت أتفحصها. الفانوس الأمامي الأيمن كان محطمًا، ويوجد القليل من دمي وعلامات القحوط على غطاء المحرِّك، وكان الجانب الأيمن من الزجاج الأمامي مهشمًا تهشيمًا بالغًا.
- "المُصاب قادر على الحركة، ونحن الآن في صدد اصطحابه إلى غرفة الطوارئ"، قال المساعد الطبي على هاتفه الخلوي.
شعرت عندئذٍ بالإعياء، ففضَّلت الاستلقاء. وأنا مستلقٍ على ظهري، لحظت السماء الكوبالتية الزُّرقة الشاسعة. بدت وكأنها ترفعني وتخطفني من نفسي.
- لديكم سماء جميلة هنا!
- آه، سوف تحب قطعًا سقف سيارة الإسعاف.
ثبَّتوا أنبوب تغذية وريدية في يدي، ووضعوا قناع أكسيجين على وجهي، وفحصوا عن إصابات داخلية، وعن أذيَّات عصبية، إلخ. كانوا على غاية من اللطف. شعرت باهتمام حقيقي عميق حيالهم. لم أرِدْهم أن يقلقوا بشأني. كنت أعرف أنني على ما يرام. أردت أن أطمئنهم، أن أهدئ من روعهم. شكرتهم مرارًا وتكرارًا، وفي سرِّي، شكرتُ القوى العليا صادقًا.
- كان حظك مذهلاً. لقد عطبتَ تلك السيارة فعلاً، وأنت تبدو بخير تمامًا.
في غرفة طوارئ المستشفى، اعتنى بي فريقٌ طبِّي لطيف وخبير. المزيد من الأسئلة، المزيد من الاستقصاء، قياسات ضغط الدم، والمزيد من الدهشة! نظفوا الجروح على ركبتي اليسرى، ووضعوا أكياسًا من الجليد على ساقي اليمنى وكتفي اليسرى. أشارت الممرضات بعضهن لبعض إلى الكتاب الذي كنت أحمله وأبْدَيْن ملاحظات مستمرة على العنوان: العبور إلى الأمان، من تأليف والاس ستيغنر. لم يخطر الأمر ببالي، إلى أن ذَكَرْنَه.
بعد مُضيِّ حوالى عشرين دقيقة على وجودي هناك، سمعت زمجرة هليكوبتر قوية. بدا وكأنه سوف يخترق السقف. كان الناس من حولي شديدي الانهماك، ثم تركوني للاهتمام لأمور أعْجَل. أدخلوا على نقالة رجلاً ضخم الجثة في الثلاثينات، ورأسه مثبَّت في قفص دفعًا لإصابة نخاعية. كان قميصه الموشَّع مشبعًا بالدم. تلاقتْ نظراتنا لهنيهات، وسقطتُ في أغوار عميقة من الرعب. شعرت بتعاطُف هائل معه، مدرِكًا أنه كان بإمكاني في سهولة أن أكون محلَّه.
أحسست بظمأ شديد، لكنهم رفضوا أن يسقوني ماءً خوفًا من أن أقيء. وبعد ساعة ونصف الساعة، جاء الشرطة وجعلوني أملأ تقريرًا بالحادث. ذكرت لهم كلَّ تفصيل ممكن واعترفت بكامل ذنبي وحماقتي. قوطعنا بعملية استلام أخرى بالهليكوبتر. غرَّموني بمبلغ 98 دولارًا لعبوري الطريق قبل زوال الإشارة الضوئية. وبعد ثلاث ساعات قضيتها في غرفة الطوارئ، وأخذ صور شعاعية، وإجراء فحوص مختلفة، كان كل ما وجدوه أن كتفي اليسرى مخلوعة خلعًا سيئًا، وساقيَّ مرضوضتان، ولديَّ طائفة مختارة لطيفة من الخدوش والأوجاع والآلام. لم تكن بي عظام مكسورة، ولا حتى كُشوط حيث اصطدمتُ بالقارعة. وضعوا ذراعي في حمَّالة وخرَّجوني. ونظرًا لحالي المهزوزة اكتريت سيارة أقلتْني إلى النَّزْل.
زُوِّدتُ بوصفة ببعض مسكِّنات الألم القوية. ومع أنني كنت أحس بشيء لا يستهان به من الألم، بدا لي أنني قادر على تحمُّله. وعلى الرغم من تحذير الأطباء من أنني لن أستطيع النوم من دون تناول المسكِّنات، فقد قرَّرتُ أن أغضَّ النظر عنها ليلتئذٍ ولا أفتش عن صيدلية مفتوحة. ارتأيت الاكتفاء ببعض الأسبرين؛ إذ إنني حسبت أن الأهم في حالتي أن أواجه مغزى ما حصل بذهن صاحٍ.
حاولت الاتصال بزوجتي، إيلين، التي كانت زائرة عند أصدقاء لنا في تكسُن، فلم أحظَ بجواب. تركت رسالة أقول فيها إن الأمر لم يكن مستعجلاً، وأرجوها أن تتصل بي. استمررت في وضع الجليد على رضوضي المختلفة وأقرأ في العبور إلى الأمان. كنت أفتش عن مفاتيح ما لمعنى ما حصل لي إجمالاً. وبسبب من السفر لم أكن في الليلة السابقة قد أصبت إلا ساعات قليلة من النوم. غير أني كنت آنذاك من الامتلاء بالوجع والأدرينالين والفرح بحيث لم يكن بمستطاعي أن أهتم للنوم.
كنت طوَّرتُ، على كرِّ السنين، منهجًا للتعامل مع الكوابيس والأحلام ذات الصور المضطربة: عادة ما أنهض من فراشي، ثم أتخذ جالسًا وضعية التأمل، أغمض عينيَّ، وأحدِّق في الصور المضطربة في ذهني بكلِّ ما يمكن لي من الوضوح. أغض النظر عن كلِّ الصياغات والتفسيرات الفكرية، مكتفيًا بالتركيز على الصور. أصير واحدًا معها، أستغرق فيها، مهما تكن بشاعتُها. وفي المآل، تطرد هذه التقنيةُ الخوفَ والاشمئزازَ من الصور، فأستطيع الخلود إلى النوم من جديد. أعتقد كذلك أن هذا يسمح للصور بالقيام بعملها، بتأدية تعويضاتها اللاواعية، حتى عندما لا أفهمها فهمًا تحليليًّا. جرَّبت هذه التقنية عدة مرات يوم الحادث الذي وقع لي: تركتُ للصدمة، والسَّواد، والألم، والرعب، والخوف مما كان يمكن له أن يحدث في سهولة، أن تغمرني بكلِّ وحشيتها. ومع ذلك، فقد استمر الأدرينالين ينطرح في دمي. كان من الصعب عليَّ أن أستريح على السرير، لكنني أصبتُ شيئًا من النوم حوالى الثالثة والنصف بعد منتصف الليل. استيقظت بعد ذلك ببضع ساعات، شاعرًا بأن تيارًا كهربائيًّا عالي التوتر يسري في جهازي العصبي. وعلى الرغم من الوجع والإرهاق، كنت في حال لا توصَف من الفرح والامتنان.
لقد كنتُ على حافة الهاوية. وفي شكراني، عاودت تكريس نفسي لتحقيق النفس في طبيعتيها المنقسمة وغير المنقسمة.
النمط 1 من التفسير: السير إسحق نيوتن والسببية
وأنا في غرفة الطوارئ، حاولت أن أستعيد ما حصل في الحادث. لم أرَ السيارة مقبلة قط، ولا السائق رآني. عندما ركضت أمام السيارة، صَدَمَ فانوسُها الأمامي الجانب الأيسر من ركبتي اليسرى. وأغلب الظنِّ أن الوزن الذي كانت تحمله تلك الساق كان لحظتئذٍ طفيفًا أو معدومًا؛ فلولا ذلك لكانت ركبتي قد تفتَّتتْ. بدلاً من ذلك، ونظرًا لوجود الرضِّ الهائل على الجانب الأنسي من ربلة ساقي اليمنى، قدَّرتُ أن قدمي اليسرى خبطتْ ربلتي اليمنى وطيَّرتْني في الهواء. ثم، كما بيَّنت العلاماتُ والدمُ على غطاء محرِّك السيارة، انقذفتُ على الغطاء وقدماي من جهة السائق. ثم صَدَمَ الزجاجُ الأمامي كتفي اليسرى، ورماني إلى الأعلى والأمام، وسارت السيارة من تحتي، إلى أن أزَّتْ متوقفة بعنف. لم أستطع أن أتذكر كيف طرتُ في الهواء ولا كيف حططت على قارعة الطريق. لا بدَّ أن الصدمة قد غيَّبتْ وعيي، وأنني طرت في الهواء كلعبة من الخِرَق واصطدمت بالأرض وأنا على هذه الحال. وهذا قد حال بيني وبين محاولة تمالُك نفسي، وبما أنني لم أستطع أن أقاوم، فقد خفَّف ذلك من إصابة السقوط على الأرض.
حوالى الساعة السادسة من صبيحة الحادث، عدت إلى موقع الحادث. وذهابي إلى هناك كان جزءًا من رياضتي في مواجهة الرعب مواجهة أكثر ما تكون مباشرة. قدَّرتُ كذلك أن إجراء قياسين بسيطين وبعض الحسابات السهلة القائمة على الفيزياء النيوتنية من شأنه أن يوفر تقديرًا لسرعة السيارة. كنت في حاجة إلى قياس المسافة بين موقع الصَّدْم ومكان سقوط زجاج الفانوس الأمامي وإلى معرفة ارتفاع الفانوس عن الأرض.
كنت تعلمت منذ سنين عديدة كيف أخطو خطوات طول كلٍّ منها قريب جدًّا من ثلاثة أقدام. وقد وجدت أن القِطَع الأولى تبعد 13 خطوة تامة (39 قدمًا) عن موقع الصدمة عند ممرِّ السابلة وأن أبعدها تبعد 18 خطوة (54 قدمًا). وقد عاودت عند ظهيرة اليوم التالي زيارة الموقع وأعدت قياس موضع قِطَعِ الزجاج. فقد أردت أن أتأكد مما إذا لم تكن حركة السير قد حرَّكتْ القِطَع. لكني لم أستطع أن أقيس أيَّ تغيير ملحوظ في موضع الزجاج. حتى إنني عدت بعد ذلك بأسبوع، قبل أن أطير عائدًا إلى منزلي، وعددت خطوات المسافة بين القِطَع كرة أخرى، ولم أجد أيَّ تغيير ملحوظ. والمرء ليس في حاجة إلى الكثير من المعرفة بالفيزياء لكي يقدِّر أن السيارة كانت مسرعة، إلى حدِّ أنها قذفت بالزجاج لمسافة أكثر من 50 قدمًا إلى الأمام.
أظهرتْ حساباتي أن السيارة كانت تسير بسرعة 40 ميلاً/ساعة، مع ارتياب مقداره حوالى 10 أميال/ساعة، زيادة أو نقصانًا. وهذه التقديرات تبدو مرتفعة، لكن السائق كان يتجاوز السيارات المتوقفة على كلا المساقين الجانبيين، وكان كذلك يختبر قيادة السيارة السبور التي كان في صدد شرائها من بائع؛ فلا غرو أنه كان يستمتع بتسارُع تلك السيارة وبالتلاعب بها.
ليس صدمك بسيارة تسير بتلك السرعة ونجاتك بكتف مخلوعة خلعًا سيئًا وببضعة جروح ورضوض وحسب من المعجزة في شيء. الكنيسة الكاثوليكية تعرِّف بـ"المعجزات" بكونها تدخلات إلهية تعلِّق مؤقتًا عمل قوانين الطبيعة. وإني لمتفق مع ديفيد هيوم، الذي لطالما أشار إلى مقدار عدم الاتساق في مثل هذه الفكرة. ومع ذلك، فضمن سياق ما كان يمكن له أن يقع في حادثي، أحسبني على غاية من الحظ. وتقديري لمدى سرعة سير السيارة يزيد من امتناني ولا يقلِّل منه.
النمط 2 من التفسير: ك.غ. يونغ والتزامُن
ومع انحسار الرعب وتدفق الأدرينالين، تنامت فيَّ مشاعر الامتنان والخشوع. لم أعد أريد إلا أن أحيا كلَّ لحظة وكأنها آخر لحظات حياتي، وأن أكرِّس نفسي لاكتشاف مَن أنا حقًّا. كنت فيما مضى أستجيب استجابة شديدة الانفعال لكلِّ ضروب الأشياء العديمة الشأن. أما الآن، فإن ركام الوعي العاديِّ هذا كلَّه، رميت به في البحر وأنا مبحر في بحار القدسيِّ. من تلك اللحظة فصاعدًا، لم يعد لديَّ وقت لاهتمامات أو نشاطات تافهة.
وعلى الرغم من واقعية إدراكاتي الجديدة والإصلاحات الملازمة لها ومن صِدْقِها، مازلت قديسًا مضجرًا، مليئًا بالترَّهات المدَّعية للتُّقى وبالأشفية البالية. غير أني أعلم علم اليقين أن إيلين لن تضطر إلى تحمُّلي طويلاً، بما أن الظلَّ[1] سرعان ما سوف يبرز ويرمي كلَّ تفلسفاتي المزعومة في خبر كان. أعرف عبارة "فِكْ سوف يعود إلى عادته القديمة"، لكنه الآن ممتلئ نورًا وشكرانًا. وددت أن أستفيد من الحال إلى أقصى حدٍّ ممكن.
كنَّا قد خطَّطنا للقيام بجولة ونحن في طريقنا إلى سانتا فيه، في نيومكسيكو، حيث كنت أنوي إلقاء محاضرة أخرى. غير أني كنت في حاجة إلى ترميم نفسي. لذا فقد وَقَعْنا على تلك الدار البديعة وسط الصحراء ومكثنا فيها عدة أيام. هناك، كنت في حال من الغبطة الصرف. كل تفصيل من تفاصيل الصحراء كان مشعًّا، نَضِرًا، وجليًّا. أعارني صاحب الدار قارئًا صغيرًا للأقراص المدمجة، فطفقت أستمع إلى الموسيقى التي كنت خصَّصتها للحلقة الدراسية الملغية في فينكس. كلُّ نغمة من أنغام الحركة الثانية من كونشرتو صموئيل باربر الثاني للكمان كانت بَرَكَة. بعثت إلى أصدقاء لي في نيويورك ببعض البريد الإلكتروني، أخبرهم فيه بما حَدَثَ وأصف عميق شعوري بالمودة نحوهم – الشعور الذي لا أبالي بالتعبير عنه في المناسبات العادية. وفيض البريد الإلكتروني المحب والمؤيد الذي أتاني جوابًا أدهشني وأثَّر فيَّ حتى فاضت دموعي.
وإذ أستعيد الماضي، يتجلَّى لي أن الأسبوع الذي تلا الحادث الذي وقع لي كان أجمل الخبرات الروحية في حياتي. ما كنت قطعًا لأختار تلك الطريقة في تحصيل خبرة كهذه، لكنها، مع ذلك، كانت لا تثمَّن.
هناك بعض الدروس الواضحة والهامة التي استفدتُها من الحادث. لقد بوركتُ بالكثير من الطاقة. غير أني كثيرًا ما أغالي في تكثيف عدد الخبرات، وأندفع كالمجنون إلى تنفيذها جميعًا – وهذا من شيم المريخ. في وسعي، إذن، أن أسيء استعمال بَرَكَتي. فمن دون إهمال ذلك الدرس الحَرِجَ، لا بدَّ أنه انطوى على المزيد. فإلى جانب إيماني الشخصي بهذا، هناك العنوان الغامض للكتاب الذي كنت أحمله: العبور إلى الأمان. ومع أنني لا أوصي بقراءة الكتاب، فإن عنوانه، في تلك الظروف إياها، كان مذهلاً. وعنوان ذلك الكتاب مأخوذ من قصيدة لروبرت فروست بعنوان "لأعطينَّ كلَّ شيء للزمن".
في كتابي الجديد، أوردتُ تحليلاً مفصلاً لهذه القصيدة. لن أستنسخه هاهنا، لكني سأكتفي بالقول إن القصيدة تفسِّر كيف لا يحصل "العبور إلى الأمان" إلا حين نتصل مع الجانب غير المنقسم، الخالد، من النفس. فوحده هذا العنصر من عناصرنا ناجٍ من نكبات الزمن. وكلُّ إشارة من هذا الجانب الخالد من النفس لهي تجربة روحية عميقة، وفيها يكمن "عبورنا إلى الأمان" الحقيقي.
في الحادث الذي وقع لي، عَبَرْتُ إلى الأمان جسمانيًّا، وكنت عميق الامتنان على ذلك. غير أني عبرت أيضًا عبورًا موجزًا إلى ذلك الجانب الخالد من النفس؛ وذلك الأمان يقع على صعيد أعلى. ومع أني لم أستطع أن أستمسك بذلك النور القادم من منطقة أبعد من "أناي"، إلا أنني سوف أحافظ دومًا على اختباري له هذا. ولسوف أحافظ كذلك دومًا على كيفية تعميق كلٍّ من نمطَي المعرفة واحدهما للآخر. فالفيزياء جعلتْني أقدِّر النعمة تقديرًا أتم؛ والنعمة أعانتْني على تقدير قانونية الكوسموس النيوتني، فيما بيَّنتْ لي محدوديَّتها.
في هذا الضوء، يمكن لي أن أؤوِّل خبرتي بوصفها مسارَرة إلى الجانب غير المنقسم والخالد للنفس، إلى ذلك الأبعد من مطال الزمن – عالم الأمان الحقيقي. ولقد حصل لي ذلك من خلال الدنوِّ من تدمير الجسم، ذلك التعبير عن المظهر المنتهي للنفس. وبمعنى من المعاني، وقع لي شكلٌ ملطَّف من الخبرات على تخوم الموت، واحد من هاتيك الحوادث المحوِّلة للحياة، التي يختبرها بعض الناس حينما يقتربون من الموت اقترابًا شديدًا ويُبعَثون من جديد. لم أحظَ بالمكوِّن الرؤيوي المعتاد، لكنني اختبرت فعلاً واقعًا عبرشخصيًّا، بآثاره المحوِّلة.
مقارنة بين النمطين 1 و2: تعليلات
في النمط 1 من التعليلات، يتم التشديد على السببية، حيث يؤثر شيء معين تعيينًا دقيقًا على شيء آخر عبر تبادل قوى أو طاقة أو معلومات. فعلى سبيل المثال، صَدَمَ الفانوس الأمامي الجانب الأيسر من ركبتي اليسرى، وثقلٌ طفيف واقع عليها، فيما خَبَطَتْ قدمي اليسرى الجانب الأيسر من ربلتي اليمنى، فانقذفتُ على غطاء المحرِّك من دون أن تتفتَّتْ ركبتاي. وهذه سيرورة لاشخصية وشاملة بالكامل، تحكمها الفيزياء النيوتنية. ومع أن التوقيت كان شديد الدقة قطعًا، فلا شيء خاصًّا أو فريدًا في هذا بنظري. فقد كان في وسعك أن تستبدلَ بي دمية من الخِرَق وتدرسَ الظاهرة بكاميرا فائقة السرعة. وبما أن الظواهر جميعًا موضوعية بالكامل في هذا التعليل، لا تتوقف على ما نحب وما نكره، ولا على أية أعراف محلِّية سارية، ففي وسعنا أن نكرَّر الاختبار بالدمية العددَ الضروريَّ من المرات ونتوقع نتائج متكرِّرة. والمعنى الذي ينبثق من مثل هذا التعليل ينحصر بالكلِّية في المستوى اللاشخصي، المادي، الوقائعي، للحَدَث. إنه، بعبارة أخرى، يعدم أيَّ معنى أسمى، مع تشديد تام على المغزى الحرفي من الأحداث.
في المقابل، فإن التعليلات التزامُنية من النمط 2 تعليلات لاسببية أو غير سببية، لا يحكمها تبادُل القوى والطاقة الفيزيائية. إنها، بالأحرى، تعبيرات رمزية عن معنى تحوُّلي، عن فصول ذات مغزى من أشواط تفردُن[2] الشخص، ألا وهو صيرورتنا ما هو مقدَّر لنا أن نكونه، وتحقيق كلِّيتنا الفريدة. ومن جرَّاء هذا، تتصف هذه الخبرات بالفرادة في نظر الشخص المعنيِّ. فلو أنك وضعت شخصًا آخر أمام تلك السيارة السبور الصغيرة، لكان للحادث مغزى مختلف في نظره.
مثل هذه التجارب، طبعًا، غير قابل للتكرار. أجَلْ، كان في وسعي أن أركض أمام سيارات مسرعة أكثر من مرة، لكن التجربة في كلِّ مرة ستكون مختلفة، بما أنني متحوِّل، وبالتالي، مختلف بعد كلِّ حَدَث. وأخيرًا، فإن هذه الخبرات ليست "موضوعية" بالمعنى العلمي، بل هي حدوس معنوية عميقة الذاتية.
التزامن وتحدِّياته
بوصفي فيزيائيًّا، فإني أحترم النظرة العلمية إلى العالم. فالعلم يثمر لنا عن فاكهة كثيرة، بعضها طيب وبعضها الآخر رديء؛ وقد حوَّل معرفتنا للكون ولأنفسنا تحويلاً لا رجعة عنه. ومع ذلك، فهو لا يلبي احتياجاتنا إلى التعليلات كافة. فعلى سبيل المثال، لا مكان للنفس في العلم الاتباعي المتعارَف عليه. في المقابل، فإن التعليلات التزامُنية من النمط 2 هي تعبيرات درامية لاسببية عن المعنى، لا مندوحة عنها من أجل نمائنا النفساني والروحاني – صناعة أنفسنا. ولا يمكن لها أن تُفهَم فهمًا علميًّا، بل لا ينبغي أن تُفهَم كذلك. غير أن أخذ الحوادث التزامُنية على محمل الجِدِّ يطرح تحديات عدة.
اللاسببية
إن حَمْلي لكتاب العبور إلى الأمان لم يتسبب قطعًا في نتيجة حادثي الطيبة؛ ولا حادثي هو الذي تسبَّب في حَمْلي للكتاب. فمع أن الميكانيكا الكوانتية، بلاسببيَّتها التي تتخلَّل كلَّ شيء، تعيننا على تقدير محدودية السببية، فإن غالبيتنا يجدون من الصعب عليهم قبولَ التعليلات اللاسببية.
تجاوُز الزمكان
مع أن مثل هذه التجارب لم تظهر في القصة التزامُنية المذكورة أعلاه، فإنها مرارًا ما تتضمن معرفةً تتجاوز الحدود المعتادة للمكان والزمان. وعلى الرغم من عجز العلم عن تعليل مثل هذه الظواهر، يمكن لنا أن نحصل على معلومات عبر قنوات غير حواسية. فكما بيَّنتُ في كتابي السابق – التزامن والعلم وصناعة النفس – فإن الخبرات التزامُنية مرارًا ما تعبِّر عن مثل هذه المعرفة. وحوادث تجاوُز الزمكان موثَّقة أيضًا توثيقًا جيدًا في تجارب مخبرية مضبوطة.
غلاف كتاب مانسفيلد التزامن والعلم وصناعة النفس
الوحدة والمعنى
على الرغم من اعتقادنا بالشرخ الديكارتي بين الذات والعالم، فإن الخبرات التزامُنية تقدِّم لنا الأدلة التجريبية على الوحدة المبطِّنة للروح والمادة. والوحدة تعبِّر عن نفسها في معنى صناعة النفس المتجسِّد في نفسنا وفي العالم كليهما. ولعل خبرة الوحدة هذه هي التي تجعل التزامُن شيئًا لا يُنسى إلى هذا الحد.
مهما يكن من أمر، فإني أقترح بأن أعظم تحدٍّ يقدِّمه التزامُن ليس لاسببيَّته، ولا هو طبيعته المتجاوِزة للزمكان، ولا هو انطواؤه على مفهوم الوحدة، بل هو، بالأحرى، سؤاله إيانا أن نعيد تقييم الضرَّاء ونقدِّر أن أعظم حالات شفائنا مرارًا ما تنبع من أعمق جراحاتنا.
*** *** ***
* فِكْ مانسفيلد أستاذ الفيزياء والفلك في جامعة كولغيت في هاملتون، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية. وهو يدرِّس هناك أيضًا من خلال دورات شعبية تتضمن علم النفس اليونغي والبوذية التيبتية. وقد طوَّر اهتمامه الشديد بعلم نفس الأعماق والفلسفة الشرقية وهو يحضِّر للدكتوراه في الأستروفيزياء في جامعة كورنيل. وإذ أصبح طالبًا للحكمة النقلية، الشرقية والغربية معًا، طوال ما ينوف على ثلاثين عامًا، فقد مارس ودَرَسَ على أساتذة روحيين في الولايات المتحدة وأوروبا والهند. من منشوراته كتاب التزامن والعلم وصناعة النفس. وقد ألقى محاضرات وأدار حلقات دراسية في الولايات المتحدة، من الساحل إلى الساحل، وفي عدة بلدان أوروبية. وفي وسع القارئ الاطلاع على موقعه على الإنترنت: ////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
[1] في علم النفس اليونغي يرمز "الظل" إلى وجهنا الآخر، "شقيقنا المظلم" الذي من جنسنا نفسه والذي، على كونه غير مرئي، لا يفارقنا أبدًا ويشكِّل جزءًا لا يتجزأ من كلِّيتنا. وهو صورة حلمية غالبًا ما تتميز بخاصية سوداء. والظل بعامة شأن بدائي، غير متكيِّف، شقي، لكنه ليس بالضرورة "شريرًا": إنه يمثِّل كلَّ ما نُحِّي عن الوعي باعتباره متنافرًا مع الأنا، وقِوامُه عيوبنا، ونقائصنا، وبعض خصالنا المنبوذة بمقتضى الأحكام المسبقة الاعتباطية، بالإضافة إلى منتجات الوظيفة النفسانية الأقل تمايزًا. (المحرِّر)
[2] طرح يونغ "التفرْدُن" غايةً للمعالجة النفسية. ولقد قصد به سيرورة تحول نفساني يتخلَّى فيها المرء بالتدريج عن الصورة النمطية للمجتمع التقليدي، حتى يكتشف ذاته الحقيقية الفريدة المختبئة وراء هذه الصورة. بذلك لا تشير سيرورة التفردن إلى علم النفس المختص بالوضع العلاجي النفسي الراهن وحسب، بل وإلى سيرورة التفتح الحياتية بعامة.
Atramez_Zeton
01/04/2005, 23:26
انا اسف انو الك مستحيل اقرا الموضوع يعني كتير كبير !!! فما رح ائدر اول راي غير هيك
عاشق ختصر يا اما قسمن الى اجزاء لحتى يقدر الواحد يقراهن منيح وما يشرد :D
عاشق من فلسطين
03/04/2005, 12:39
مو ضروي الواحد يقرأ وهوي على الخط .. وبدو يلحق النكت والتسالي ..
فيكون تسحبوهون على سطح المكتب أو على ورق وتقرأوهون .. طبعا" اذا الكن مراق بعلم النفس .. :D :D
Atramez_Zeton
03/04/2005, 20:04
مو ضروي الواحد يقرأ وهوي على الخط .. وبدو يلحق النكت والتسالي ..
فيكون تسحبوهون على سطح المكتب أو على ورق وتقرأوهون .. طبعا" اذا الكن مراق بعلم النفس .. :D :D
معناتا بدك تسنتى شي شهرين لحتى خلص هادا الفصل بالجامعة و بعدين بشوف الموضوع
لانو النتكة بتاخد ثاتية لحتى تئراها و تفهما اما موضوعك طويل و بدو اعدة
على فكرة لو انك عامل الموضوع على اجزاء ما كنا حسينا عليه
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة