عاشق من فلسطين
29/03/2005, 18:36
قصة المهد والمطر
الشريف حسن بوغزيل
الفضاء والحركة
1
جلس وعيناه صوب السماء.
سَكَبَ جفنيه بالأفق وبأول سحابة ملونة.
أدلق القماش وحدود الفضاء، وبدأ يرسم بعد أن أغمض عينيه.
أسدل من هناك، حيث الأخدود الفاصل بين البارحة وتاريخ حياته، لونًا برتقاليًّا، علَّه يلقاها.
وضع أساس بيته عند حافة الموعد اليومي، حيث بزوغ نجمه المطلِّ على سرداب المسرَّة وجاره الثرثار.
رفع السياج، ولوَّن جِيد حبيبته التي بدأت ملامحُها تظهر مع النبض ورائحة اللون المتبقي من الهيام وأعقاب السجائر.
أشعل الفانوس. تغيرت الظلال. امتزج اللون مع الفلسفة وهواجس النساء. زحف الضوء البطيء، تحرَّك الألم، وانتقل الجارُ إلى حارة أخرى، و"انتظر ليجفَّ أساسُ البداية".
2
شقَّ طريقًا في البعيد، تخطَّى الصخرة–الغيمة التي شكَّلها التكوين، وشعر بالراحة عند انزلاق الشعاع حيث الصخرة–الغيمة، حيث الأرض والسماء، حيث تنعم حبيبتُه في ذات الزمان.
انساب الدمُ في الشريان والحرارةُ بالقلب. سال اللون ونطقت الحبيبة! حرَّك الفرشاة بنعومة على الوجنتين كي لا تخدش، كي لا تُظهِر الفرشاة فعل الزمان، كي لا يترك حدُّ اللون تجاعيد العمر المرفوضة.
إذ ذاك تجلَّتْ صورتُها وهي تشعل السيجار من حلمة النهد، وتقشع الضباب البارد عن بشرة الكون الطرية، وتقذف الرمال في وجوه المهرِّبين والمتطرِّفين عرقيًّا.
3
رسم خطًّا يوازي خطًّا، ومحطة لقطارات العودة، تلك التي نبيعها خُلسة والجرار، وتبيع رسائل الحبِّ المعطَّرة وصور الحسناوات، لتعود ببراحها للَّذين ضيَّعتْهم القصيدة نصفين: امرأة عاشقة، ورجل فَقَدَ الذاكرة، وطفلين.
تحرَّك اللون صوب الظلِّ، فتحول القطار إلى عربة، وبائع متجول يصرخ بملء فمه: "زهاري!"، ويبيع من تحت الرفِّ الكلمات والأقلام والأسهم المسمومة.
تَعِبَ الرأس، واللون يتحرَّك رغمًا عنه في منعطفات تائهة، تحاول أن تلتمس التردد كمعزوفة تبحث في الوديان عن أصدائها.
تَعِبَ الرأس، وزاد الدوار الذي يشبه رائحة الأحبار ولوحات الزنك وما تبقى من حليب وألوان لإظهار الصحيفة.
4
انحنى قليلاً بالكرسي. وضع الفرشاة على خارطته المشبوهة. وضعها عند الورقة المائلة وأسراب الفناجين التي فقدت التذوق، التي تاهت بين رائحة القهوة ورائحة تلك الفناجين التي ما عادت تسمع لأسباب طرأت بعد التكوين، وقبل هجر العرفان للمرسم والكوخ المجاور الذي يرتاده الصحفيون الذين يقسمون بأن الصحافة ليست مهنتهم، إنما هي تهمة لفَّقتْها الأحلامُ المشاكسة بمقهى.
5
رسم قلعةً، فيلاً، حصانًا، وسياجًا لحديقة، وحمل ما تبقى من تموينه اليومي.
تيقَّن من أن الجندي الثالث المتأخر يحوك مؤامرة. وضع تحت قدمه لغمًا أو منجنيقًا كي يسمِّره. أوصله بالحدِّ الفاصل للتعاقب اليومي، وعمَّق اللوحة ورجل الحصان، ثم نام!
قفز الحصان، تحرَّك السلك، انفجر اللغم، تناثر غبار المنجنيق، تمزقت اللوحة، شُوِّه الأفق.
عاد من سورياليته الرتيبة. أدرك الكرسي الذي يجلس عليه وموسيقى الصالة. صفَّق الجمهور. وانفتح الستار عن صخرة مكوَّمة، وطفل، وأغنية تردَّدتْ من زمن انسياب الماء وتكوين الصخر في يد الصبي: "وطني الكبير، أراك تصرخ في الصباح وفي المساء."
***
الحبُّ والغبار والزمن
مدخل
عندما دخل إلى المكان نفسه، تطايرتْ تحت قدميه عشرون سنة من غبار الذكريات والحنين والفرح... الفرح الذي كان شاهدًا ذات مرة على لحظة لقائه بها!
هامش
إنه زمن الفرح... عشرون سنة تلتقي بالفرح من جديد، وكأن كلَّ ما حدث خلالها من عذاب وألم ذهب أدراج رياح هذه اللحظة المرتقبة.
رؤية
عندما التقى بها، كان يدرك معنى أن ينتظر الإنسان الحبيبة – تلك التي تنام بمهدها الخالد.
أحلام الرجال – الرجال الذين يعرفون كيف ينسجون الحكاية، ويصهرونها مع عالم الشعر والعطر والفلسفة، ويضعونها في آنية تتسع لتستوعب المزيد من هذا العالم – حتى بقاياهم.
حتمية
إنه الضلع المفقود... إنه الكمال.
فور أن خطرتْ في مخيِّلته خطرتْ أيضًا غربتُه وبحثُه الدائم عنها الذي جُبِلَ عليه منذ أن تفكَّكتْ أشلاؤه وتناثرتْ، لتظهر كما هي "حواء".
إنه الضلع الأبهى والأجمل! إنه زمن البحث والبحث المستمر كي يعود ذلك الذي تناثر إلى مستقره ومكانه، ليتمَّ العشق – عشق الذي ضاع بالذي أتى.
هاجس
ليت الزمن يعود! لا. إنه لم ينقضِ حتى نطالب بعودته. إنه يتجدد فقط. ما علينا إلا أن ندرك هذا. إن دائرة الزمن والعلاقة الإنسانية لا تنتهي، بل تستمر مادام الموضوع هو الإنسان دائمًا. والعلاقة هي الإنسان ذاته. تصور أن اللحظة الفارقة بين أول بنيان وآخر ذرة من الغبار تعني الغبار كلَّه. الحبَّ واللوعة والفرح كلَّه تعنيني وتعنيك، وتعني زمنًا تراكم فيه هذا الغبار ليتطاير، ولتلتقي الخطى بعضُها ببعض. ويتلاشى الزمن ليتواصل العمر في عالم الذاكرة والسموِّ والخيال – وهو العالم الأكثر حركة والأكثر إشراقًا.
أفق
استمرت خطواته في المكان ذاته الذي تطايرتْ فيه الحياة، وراح يبحث عن عشرين عامًا جديدة من عمر امرأة تنثر الحبَّ والغبار والزمن، بجدلية البحث الدائم: بحث الإنسان عن الإنسان، بحث الرجل عن المرأة، بحث العمر عمَّا يعادله من بهجة.
***
امرأة، مدينة وقصيدة
1
ويمقتها الزمان، رافضًا كلَّ ما تنعم به من أنوثة وكبرياء، ناحتًا تفاصيله المعقدة، غير مكترث بكلِّ أحلامها ورشاقتها وينوعها. وفكرة الغد تخطو باتجاه ذلك المدرَّج الذي أسند إليه عقل البشرية. يحدوها الأمل بأن تجد مذكرات لامرأة تشبهها، أو قصيدة تكون هي عزاءها الوحيد (تقنعها بأن الحياة هكذا!).
ساهمت في بناء المدينة التي تزخر برائحة القهوة وعبق الأزل والحكايات المشعة دفئًا وخوفًا! إنها هي: المدينة–القصيدة المبتدئة، التي يحكمها قانون الرجال، الرجال الذين يعرفون كيف ينسجون العلاقات المشبوهة ويهتكون بيت العنكبوت، ويتَّهمون الوَجْد بأنه أكذوبة، والعشق بأنه حالة اضطرارية احتاجها الكون مرة!
2
مدينة وامرأة وقصيدة...
أبجدية عرفتْها هذه الرقعة الجبلية من بلادي. علَّمتْهم المدينة بأن القصيدة متربِّعة، بكلِّ خطوط طولها وعرضها، وبكلِّ ألوانها المشعة شمسًا ودفلة وقممًا لجبال خضر. تنام على راحة أكفِّ الأمَّهات والرعاة الحالمين بشجرة المطر، والركن المطلِّ على أودية النضال، وأحلام العاشقات التي تُنسَج لمن سيأتون بعد تمام الدرس.
3
علَّمتْهم المرأة بأن المدينة صدرٌ تنام فيه الأحلام الصغيرة المباحة، وبأن الحبَّ أن ترى البسمة معلقة على شفاه المدائن والمداخل المتزاحمة، لتقول لك: "أهلاً، ولدي، عدت." لن تسألك هذه المداخل، ولن تنثر حقائبك المعبأة، ولن تقول لك: "ماذا تحمل، معولاً أم مطرقة؟" فقط "ادخل، ابحث عن مكامن البهجة والفرح والغد البهي، ثم استرخِ ونَمْ."
أطفال، وبيت، وحكايات أجيال...
4
علَّمتْهم القصيدة بأن المدينة–المرأة، أو المرأة–المدينة، أن تدخلوها بسلام آمنين، غير عابثين بالمعتقد والميثاق، غير ناسفين لذلك العقل الذي علَّمتْ حتى صارت قصائدُكم يريدها الباعة المتجولون، ولوحاتكم مستَقرًّا لأعين كلِّ من ينشدون الجمال والرفعة.
ولازالت تلك الفناجين ورائحة البرق والقهوة وأقلام الرصاص ومقاعد المقهى التي رافقتْكم شاهدًا على كلِّ ما حدث وما لم يحدث.
***
حوارية: الحرية والأمان
1
وتتآمر الخطوة مع الجبل، مع الأفق، لتبلغ الرؤية الفضاء وحدَّ الأثير. لنسمع أنين الحكاية هناك، حيث العراء والتجرُّد من كلِّ شيء، حتى الصفة. ذلك الفضاء الذي غاب كساعة حائط ضاع الزمن من تفاصيلها، فغابت عنها التفاصيل الكونية واتُّهِمَتْ بالتآمر على حركة الأجرام والفلك والتاريخ.
2
عندما نشاهد، بأمِّ العين، ذلك الطائر الخرافي الذي حلَّق يومًا فوق عشِّ الوقواق للكاتب الروائي كين كيسي، نجد أنفسنا أمام مرآة تعكس الظلَّ الذي لا يقابلها تمامًا، ونعيش حكاية سَرْدٍ لأنين إنسانية عاشت قهر "أنانية التسلُّط" الذهني والتقني وألمه.
إنها رواية الرؤية والوجع – وجع المواطن الذي تُراهن عليه كلُّ المؤسَّسات، بما في ذلك الماسونية، ربة كلِّ المؤسَّسات النافية للجاذبية الإنسانية والوَجْد!
3
هنا أُنْهِكَ الإنسان بكافة القضايا التي حمَّلتْه إياها هذه المؤسَّسات، دونما رغبة منه، فأصبح يخاف كلَّ ما يصدر عن هذه المؤسَّسات التي تسعى حثيثًا إلى تطبيع الفكر و"كَرْبَنَتِه" (استنساخًا يتفق والرؤية التي تبتغيها)، فأصبح بذلك يوقن بأن هناك قوة خفية، يرمز لها أحيانًا، وبشكل شعبي أمريكي، بـThink Tank، "صهريج الفكر". وهي فكرة تفوق كوكبة الكوكب البشري وعولمته.
ولكن الفكر الإنساني تنبَّه إلى هذه الرؤى، وعرف مكامن السُّمِّ، وبهذا بدأ يؤرخ أدبيًّا وفنيًّا لهذه المسيرة. إنها مسيرة السيطرة الفكرية التاريخية؛ وهي عبارة عن زرع إرث وتاريخ وثقافة تلغي القديم تعبويًّا وتقنيًّا، لتحلَّ محلَّه تاريخ تلك القوةُ الخفية وثقافتُها. والدليل على ذلك هي الصرخة التي انطلقت من أعماق أدباء ومثقفي وفناني الولايات المتحدة في سلسلة الأدبيات والسينمائيات الحديثة.
4
إنها حكاية حدثتْ ذات يوم هناك، حيث الوطن الذي استبدل أهلُه بالحرية الأمانَ. إنه وطن الاسترقاق بأسلوبه الناعم؛ وطن تصدير الفكر في علب الصفيح!
***
قصة المهد والمطر
1
وتنمو الحكاية بيننا مثل بذرة بكر، لقطرة بكر، على ضفاف جبل متأهِّب لشرب الحكاية ونصيبه من المطر.
كلما انهمر المطر كبرت الحكاية، ودفئت الحكاية. احتضنت السحائب بعضها بعضًا برقًا، رعدًا وماءً، وخيالات مهر.
"في مدينة الحكايات هذه، علَّمونا أن البردَ بردُ القلب، والدفءَ دفءُ القلب. وبصفاء القلوب تصفى السماء والدنيا."
2
أن يلتصق ثلاثتُنا في مقعد الدرس – ذلك يعني تَوَهَان النبض، وتوحُّد المشاعر، وبداية الحكاية.
يحكي لي صديقي، بعد ثلاثين عامًا من بدء الطفولة، عن حكاية نسجناها سوية، وعرفتْها المدينة، وقالوا إنها حكاية الولي الصالح الذي مرَّ يومًا من هنا ثم اختفى. (وإلى الآن لم يعرفوا أننا أولياء هذه المدينة الصالحون!) وهل نحن أبناء صالحون حقًّا؟!
3
في هذه المدينة–الحكاية، عندما عدنا إليها من مقاعد الدرس، علَّمناهم بأن الوطن هو القلب، وهو حكاية العمر. فأوَّاه، أيها الوطن، يا مهد الحكاية والبذرة والقطرة البكر، ويا حكاية المهد عندما كنَّا صغارًا بكرًا، قبل أن نتعلَّم سرد الحكاية بقليل...
4
"في مدينة الأحلام هذه"، قالوا لنا، "ليس هنالك جُزُر تحطُّون عليها للراحة، مثلما مدن البحار تلك. فعليكم أن تصنعوا لأنفسكم جزائر تحطُّون عليها!"
فأول جزيرة صنعتها لنفسي هي "جزيرة الأحلام". علَّمتْني جزيرتي، عندما التصقتُ بها في لحظة الدرس، بأننا "الواحدون" – واحدون بغور الخيال، بغور الزهور المبعثرة على شفاه المدائن. واحدون نحن، مَن يسامرون الحلم ويرسمون تفاصيل هذا الحلم... نلاعبه، نراقصه، نهادنه. لا نعاند كي لا يعاندنا الحلم. حتى إن صحونا يكون في الصباح الباكر. لا يقولون لنا إن أردتم تفسير الحلم... فالحلم عكس الحلم.
*** *** ***
§ صحفي وقاص من ليبيا؛ عضو اتحاد الصحفيين العرب؛ عضو رابطة الأدباء والكتَّاب، ليبيا؛ الأمين المساعد لرابطة الصحفيين، الجبل الأخضر، ليبيا؛ رئيس تحرير صحيفة عمر المختار الصادرة عن جامعة عمر المختار؛ مُعِدُّ ومقدِّم برامج إذاعة "صوت أفريقيا"؛ مُعِدُّ ومقدِّم برامج إذاعة "الجبل الأخضر"؛ مدير تحرير مجلة المدن العربية الصادرة عن شبكة المدن؛ المشرف على "مدينة القصة" بمنتدى المدن، والمشرف على "نهر القصة" بمنتدى أنهار.
الشريف حسن بوغزيل
الفضاء والحركة
1
جلس وعيناه صوب السماء.
سَكَبَ جفنيه بالأفق وبأول سحابة ملونة.
أدلق القماش وحدود الفضاء، وبدأ يرسم بعد أن أغمض عينيه.
أسدل من هناك، حيث الأخدود الفاصل بين البارحة وتاريخ حياته، لونًا برتقاليًّا، علَّه يلقاها.
وضع أساس بيته عند حافة الموعد اليومي، حيث بزوغ نجمه المطلِّ على سرداب المسرَّة وجاره الثرثار.
رفع السياج، ولوَّن جِيد حبيبته التي بدأت ملامحُها تظهر مع النبض ورائحة اللون المتبقي من الهيام وأعقاب السجائر.
أشعل الفانوس. تغيرت الظلال. امتزج اللون مع الفلسفة وهواجس النساء. زحف الضوء البطيء، تحرَّك الألم، وانتقل الجارُ إلى حارة أخرى، و"انتظر ليجفَّ أساسُ البداية".
2
شقَّ طريقًا في البعيد، تخطَّى الصخرة–الغيمة التي شكَّلها التكوين، وشعر بالراحة عند انزلاق الشعاع حيث الصخرة–الغيمة، حيث الأرض والسماء، حيث تنعم حبيبتُه في ذات الزمان.
انساب الدمُ في الشريان والحرارةُ بالقلب. سال اللون ونطقت الحبيبة! حرَّك الفرشاة بنعومة على الوجنتين كي لا تخدش، كي لا تُظهِر الفرشاة فعل الزمان، كي لا يترك حدُّ اللون تجاعيد العمر المرفوضة.
إذ ذاك تجلَّتْ صورتُها وهي تشعل السيجار من حلمة النهد، وتقشع الضباب البارد عن بشرة الكون الطرية، وتقذف الرمال في وجوه المهرِّبين والمتطرِّفين عرقيًّا.
3
رسم خطًّا يوازي خطًّا، ومحطة لقطارات العودة، تلك التي نبيعها خُلسة والجرار، وتبيع رسائل الحبِّ المعطَّرة وصور الحسناوات، لتعود ببراحها للَّذين ضيَّعتْهم القصيدة نصفين: امرأة عاشقة، ورجل فَقَدَ الذاكرة، وطفلين.
تحرَّك اللون صوب الظلِّ، فتحول القطار إلى عربة، وبائع متجول يصرخ بملء فمه: "زهاري!"، ويبيع من تحت الرفِّ الكلمات والأقلام والأسهم المسمومة.
تَعِبَ الرأس، واللون يتحرَّك رغمًا عنه في منعطفات تائهة، تحاول أن تلتمس التردد كمعزوفة تبحث في الوديان عن أصدائها.
تَعِبَ الرأس، وزاد الدوار الذي يشبه رائحة الأحبار ولوحات الزنك وما تبقى من حليب وألوان لإظهار الصحيفة.
4
انحنى قليلاً بالكرسي. وضع الفرشاة على خارطته المشبوهة. وضعها عند الورقة المائلة وأسراب الفناجين التي فقدت التذوق، التي تاهت بين رائحة القهوة ورائحة تلك الفناجين التي ما عادت تسمع لأسباب طرأت بعد التكوين، وقبل هجر العرفان للمرسم والكوخ المجاور الذي يرتاده الصحفيون الذين يقسمون بأن الصحافة ليست مهنتهم، إنما هي تهمة لفَّقتْها الأحلامُ المشاكسة بمقهى.
5
رسم قلعةً، فيلاً، حصانًا، وسياجًا لحديقة، وحمل ما تبقى من تموينه اليومي.
تيقَّن من أن الجندي الثالث المتأخر يحوك مؤامرة. وضع تحت قدمه لغمًا أو منجنيقًا كي يسمِّره. أوصله بالحدِّ الفاصل للتعاقب اليومي، وعمَّق اللوحة ورجل الحصان، ثم نام!
قفز الحصان، تحرَّك السلك، انفجر اللغم، تناثر غبار المنجنيق، تمزقت اللوحة، شُوِّه الأفق.
عاد من سورياليته الرتيبة. أدرك الكرسي الذي يجلس عليه وموسيقى الصالة. صفَّق الجمهور. وانفتح الستار عن صخرة مكوَّمة، وطفل، وأغنية تردَّدتْ من زمن انسياب الماء وتكوين الصخر في يد الصبي: "وطني الكبير، أراك تصرخ في الصباح وفي المساء."
***
الحبُّ والغبار والزمن
مدخل
عندما دخل إلى المكان نفسه، تطايرتْ تحت قدميه عشرون سنة من غبار الذكريات والحنين والفرح... الفرح الذي كان شاهدًا ذات مرة على لحظة لقائه بها!
هامش
إنه زمن الفرح... عشرون سنة تلتقي بالفرح من جديد، وكأن كلَّ ما حدث خلالها من عذاب وألم ذهب أدراج رياح هذه اللحظة المرتقبة.
رؤية
عندما التقى بها، كان يدرك معنى أن ينتظر الإنسان الحبيبة – تلك التي تنام بمهدها الخالد.
أحلام الرجال – الرجال الذين يعرفون كيف ينسجون الحكاية، ويصهرونها مع عالم الشعر والعطر والفلسفة، ويضعونها في آنية تتسع لتستوعب المزيد من هذا العالم – حتى بقاياهم.
حتمية
إنه الضلع المفقود... إنه الكمال.
فور أن خطرتْ في مخيِّلته خطرتْ أيضًا غربتُه وبحثُه الدائم عنها الذي جُبِلَ عليه منذ أن تفكَّكتْ أشلاؤه وتناثرتْ، لتظهر كما هي "حواء".
إنه الضلع الأبهى والأجمل! إنه زمن البحث والبحث المستمر كي يعود ذلك الذي تناثر إلى مستقره ومكانه، ليتمَّ العشق – عشق الذي ضاع بالذي أتى.
هاجس
ليت الزمن يعود! لا. إنه لم ينقضِ حتى نطالب بعودته. إنه يتجدد فقط. ما علينا إلا أن ندرك هذا. إن دائرة الزمن والعلاقة الإنسانية لا تنتهي، بل تستمر مادام الموضوع هو الإنسان دائمًا. والعلاقة هي الإنسان ذاته. تصور أن اللحظة الفارقة بين أول بنيان وآخر ذرة من الغبار تعني الغبار كلَّه. الحبَّ واللوعة والفرح كلَّه تعنيني وتعنيك، وتعني زمنًا تراكم فيه هذا الغبار ليتطاير، ولتلتقي الخطى بعضُها ببعض. ويتلاشى الزمن ليتواصل العمر في عالم الذاكرة والسموِّ والخيال – وهو العالم الأكثر حركة والأكثر إشراقًا.
أفق
استمرت خطواته في المكان ذاته الذي تطايرتْ فيه الحياة، وراح يبحث عن عشرين عامًا جديدة من عمر امرأة تنثر الحبَّ والغبار والزمن، بجدلية البحث الدائم: بحث الإنسان عن الإنسان، بحث الرجل عن المرأة، بحث العمر عمَّا يعادله من بهجة.
***
امرأة، مدينة وقصيدة
1
ويمقتها الزمان، رافضًا كلَّ ما تنعم به من أنوثة وكبرياء، ناحتًا تفاصيله المعقدة، غير مكترث بكلِّ أحلامها ورشاقتها وينوعها. وفكرة الغد تخطو باتجاه ذلك المدرَّج الذي أسند إليه عقل البشرية. يحدوها الأمل بأن تجد مذكرات لامرأة تشبهها، أو قصيدة تكون هي عزاءها الوحيد (تقنعها بأن الحياة هكذا!).
ساهمت في بناء المدينة التي تزخر برائحة القهوة وعبق الأزل والحكايات المشعة دفئًا وخوفًا! إنها هي: المدينة–القصيدة المبتدئة، التي يحكمها قانون الرجال، الرجال الذين يعرفون كيف ينسجون العلاقات المشبوهة ويهتكون بيت العنكبوت، ويتَّهمون الوَجْد بأنه أكذوبة، والعشق بأنه حالة اضطرارية احتاجها الكون مرة!
2
مدينة وامرأة وقصيدة...
أبجدية عرفتْها هذه الرقعة الجبلية من بلادي. علَّمتْهم المدينة بأن القصيدة متربِّعة، بكلِّ خطوط طولها وعرضها، وبكلِّ ألوانها المشعة شمسًا ودفلة وقممًا لجبال خضر. تنام على راحة أكفِّ الأمَّهات والرعاة الحالمين بشجرة المطر، والركن المطلِّ على أودية النضال، وأحلام العاشقات التي تُنسَج لمن سيأتون بعد تمام الدرس.
3
علَّمتْهم المرأة بأن المدينة صدرٌ تنام فيه الأحلام الصغيرة المباحة، وبأن الحبَّ أن ترى البسمة معلقة على شفاه المدائن والمداخل المتزاحمة، لتقول لك: "أهلاً، ولدي، عدت." لن تسألك هذه المداخل، ولن تنثر حقائبك المعبأة، ولن تقول لك: "ماذا تحمل، معولاً أم مطرقة؟" فقط "ادخل، ابحث عن مكامن البهجة والفرح والغد البهي، ثم استرخِ ونَمْ."
أطفال، وبيت، وحكايات أجيال...
4
علَّمتْهم القصيدة بأن المدينة–المرأة، أو المرأة–المدينة، أن تدخلوها بسلام آمنين، غير عابثين بالمعتقد والميثاق، غير ناسفين لذلك العقل الذي علَّمتْ حتى صارت قصائدُكم يريدها الباعة المتجولون، ولوحاتكم مستَقرًّا لأعين كلِّ من ينشدون الجمال والرفعة.
ولازالت تلك الفناجين ورائحة البرق والقهوة وأقلام الرصاص ومقاعد المقهى التي رافقتْكم شاهدًا على كلِّ ما حدث وما لم يحدث.
***
حوارية: الحرية والأمان
1
وتتآمر الخطوة مع الجبل، مع الأفق، لتبلغ الرؤية الفضاء وحدَّ الأثير. لنسمع أنين الحكاية هناك، حيث العراء والتجرُّد من كلِّ شيء، حتى الصفة. ذلك الفضاء الذي غاب كساعة حائط ضاع الزمن من تفاصيلها، فغابت عنها التفاصيل الكونية واتُّهِمَتْ بالتآمر على حركة الأجرام والفلك والتاريخ.
2
عندما نشاهد، بأمِّ العين، ذلك الطائر الخرافي الذي حلَّق يومًا فوق عشِّ الوقواق للكاتب الروائي كين كيسي، نجد أنفسنا أمام مرآة تعكس الظلَّ الذي لا يقابلها تمامًا، ونعيش حكاية سَرْدٍ لأنين إنسانية عاشت قهر "أنانية التسلُّط" الذهني والتقني وألمه.
إنها رواية الرؤية والوجع – وجع المواطن الذي تُراهن عليه كلُّ المؤسَّسات، بما في ذلك الماسونية، ربة كلِّ المؤسَّسات النافية للجاذبية الإنسانية والوَجْد!
3
هنا أُنْهِكَ الإنسان بكافة القضايا التي حمَّلتْه إياها هذه المؤسَّسات، دونما رغبة منه، فأصبح يخاف كلَّ ما يصدر عن هذه المؤسَّسات التي تسعى حثيثًا إلى تطبيع الفكر و"كَرْبَنَتِه" (استنساخًا يتفق والرؤية التي تبتغيها)، فأصبح بذلك يوقن بأن هناك قوة خفية، يرمز لها أحيانًا، وبشكل شعبي أمريكي، بـThink Tank، "صهريج الفكر". وهي فكرة تفوق كوكبة الكوكب البشري وعولمته.
ولكن الفكر الإنساني تنبَّه إلى هذه الرؤى، وعرف مكامن السُّمِّ، وبهذا بدأ يؤرخ أدبيًّا وفنيًّا لهذه المسيرة. إنها مسيرة السيطرة الفكرية التاريخية؛ وهي عبارة عن زرع إرث وتاريخ وثقافة تلغي القديم تعبويًّا وتقنيًّا، لتحلَّ محلَّه تاريخ تلك القوةُ الخفية وثقافتُها. والدليل على ذلك هي الصرخة التي انطلقت من أعماق أدباء ومثقفي وفناني الولايات المتحدة في سلسلة الأدبيات والسينمائيات الحديثة.
4
إنها حكاية حدثتْ ذات يوم هناك، حيث الوطن الذي استبدل أهلُه بالحرية الأمانَ. إنه وطن الاسترقاق بأسلوبه الناعم؛ وطن تصدير الفكر في علب الصفيح!
***
قصة المهد والمطر
1
وتنمو الحكاية بيننا مثل بذرة بكر، لقطرة بكر، على ضفاف جبل متأهِّب لشرب الحكاية ونصيبه من المطر.
كلما انهمر المطر كبرت الحكاية، ودفئت الحكاية. احتضنت السحائب بعضها بعضًا برقًا، رعدًا وماءً، وخيالات مهر.
"في مدينة الحكايات هذه، علَّمونا أن البردَ بردُ القلب، والدفءَ دفءُ القلب. وبصفاء القلوب تصفى السماء والدنيا."
2
أن يلتصق ثلاثتُنا في مقعد الدرس – ذلك يعني تَوَهَان النبض، وتوحُّد المشاعر، وبداية الحكاية.
يحكي لي صديقي، بعد ثلاثين عامًا من بدء الطفولة، عن حكاية نسجناها سوية، وعرفتْها المدينة، وقالوا إنها حكاية الولي الصالح الذي مرَّ يومًا من هنا ثم اختفى. (وإلى الآن لم يعرفوا أننا أولياء هذه المدينة الصالحون!) وهل نحن أبناء صالحون حقًّا؟!
3
في هذه المدينة–الحكاية، عندما عدنا إليها من مقاعد الدرس، علَّمناهم بأن الوطن هو القلب، وهو حكاية العمر. فأوَّاه، أيها الوطن، يا مهد الحكاية والبذرة والقطرة البكر، ويا حكاية المهد عندما كنَّا صغارًا بكرًا، قبل أن نتعلَّم سرد الحكاية بقليل...
4
"في مدينة الأحلام هذه"، قالوا لنا، "ليس هنالك جُزُر تحطُّون عليها للراحة، مثلما مدن البحار تلك. فعليكم أن تصنعوا لأنفسكم جزائر تحطُّون عليها!"
فأول جزيرة صنعتها لنفسي هي "جزيرة الأحلام". علَّمتْني جزيرتي، عندما التصقتُ بها في لحظة الدرس، بأننا "الواحدون" – واحدون بغور الخيال، بغور الزهور المبعثرة على شفاه المدائن. واحدون نحن، مَن يسامرون الحلم ويرسمون تفاصيل هذا الحلم... نلاعبه، نراقصه، نهادنه. لا نعاند كي لا يعاندنا الحلم. حتى إن صحونا يكون في الصباح الباكر. لا يقولون لنا إن أردتم تفسير الحلم... فالحلم عكس الحلم.
*** *** ***
§ صحفي وقاص من ليبيا؛ عضو اتحاد الصحفيين العرب؛ عضو رابطة الأدباء والكتَّاب، ليبيا؛ الأمين المساعد لرابطة الصحفيين، الجبل الأخضر، ليبيا؛ رئيس تحرير صحيفة عمر المختار الصادرة عن جامعة عمر المختار؛ مُعِدُّ ومقدِّم برامج إذاعة "صوت أفريقيا"؛ مُعِدُّ ومقدِّم برامج إذاعة "الجبل الأخضر"؛ مدير تحرير مجلة المدن العربية الصادرة عن شبكة المدن؛ المشرف على "مدينة القصة" بمنتدى المدن، والمشرف على "نهر القصة" بمنتدى أنهار.