-
دخول

عرض كامل الموضوع : قصة قصيرة: أحضان القلق...أيمن خالد دراوشة


dot
31/05/2006, 16:44
دسَّ عبد الباسط رِجْليهِ في نعلهِ ، ظلَّ بُرْهةً مُتَّكئاً على فِراشِهِ ، ثُمَّ خرجَ إلى صحْنِ الدَّارِ ، ولسَعَهُ برْدُ الفجر القارص ، فأوجف منه حين رفع رأْساً مثقلاً ، تطلَّعَ إلى النُّجوم التي بدأَتْ تذوي ، ثُمَّ استقرَّ بصرهُ على الأفق المظلم ، وقد تزاحمتْ فيه الغيوم السَّوداء كأنَّها ترزح على صدرهِ ، منذرةً بيومٍ كئيبٍ ماطرٍ ، كان منذ أيَّامٍ مهموماً ..
أليسَ غريباً أن يجدَ الإنسان نفسه أسيراً لفكرةٍ تحتلُّ تفكيره ، بحيثُ تغدو محور الكون كله ؟!..
لم يعدْ يعرف ما هو الصَّواب ؟ إنَّها المرَّة الأولى التي يغرق فيها في دوَّامةٍ ما لها قرارٌ ، وهكذا صار تائهاً في صحراء القلق ، محتاراً لا يهتدي إلى برِّ الأمان ، والآن يحسُّ بالاضطراب يغزو روحه كهذهِ الغيوم المتلاحمة في سماء السَّراب ، وقد غدا الظَّنُّ كثعابينَ تنهشُ قلبه الضَّال ..
وأخرجه من استغراقه المضْنِي صوت خَشْخَشَةٍ ، فتقدَّمَ خُطوةً ، وأصغى منصتاً ، ولم يجبْه إلاَّ صمتٌ يفزعُ روحه الوثابة ، وأجفل على هدير الرَّعد بعد أن ابيضَّتِ الدُّنيا حوله لثانيةٍ ببرقٍ خاطفٍ ..
تبا لحسَّانَ ! إنَّهُ هو الذي زرع في كيانه بذور الشَّكِّ بآرائِه العجيبة ، وهو يتظاهر- كعادته- أنَّه قد أحاط بكل شيءٍ ، ولا سيَّما أحوال النَّاس ..
" المرأة لا أمان لها يا عبدو .. " هذا هو قوله المأثور الذي لا يملُّ من تكراره على أسماعه ، ولم يكن ليهتمَّ لأنَّه يعلم إسراف حسَّان في معتقداته الشَّاذَّة ، لولا أنَّ الأمر أصبح يتعلَّق ب ( رُؤَى ) ، هذه الفتاة النَّاعمة كالحرير ، البيضاء كالحليب ، الهشَّة كالنَّسيم ، الخجول كعبَّادِ الشَّمسِ ليلاً ، إنَّه يعرفها منذ كانت طفلةً غريرةً ، أطهرَ من البياض نفسه ، وهي التي كانت أمام عينيه طيلة الوقت ، فهي ابنة جارته " أم بدر " ..
لمع البرق ثانية لينبِّهَهُ من بحيرة أفكاره القاتمة ، وترقَّب صوت الرَّعد لكنَّه آثر – على ما يبدو – ألاَّ يهدُرَ ، وعاد إلى ذكرياته الجميلة ..
كبرت " رؤى " وصارتْ أجمل فتاةٍ في الحيِّ ، وانبهر بها ، وبات دون أن يدري يلاحقها ، لم يكن يضمر لها أيَّ سوءٍ ، ولم يخفَ عليها ذاك ، بل كانت كثيراً ما تبادله النَّظرة بابتسامةٍ عذبةٍ ، وتلاقيا مراراً على طريق عودتها من المدرسة ، فكان يرافقها بحكم الجيرة ، وكم تبادلا الأحاديث البريئة عن كلِّ شيءٍ ، إلاَّ أنَّه لم يجرؤْ يوماً أن يفاتحها بإعجابه ، وإن كانت جوارحه جميعها تفصح لها ما عجز لسانه عـــن البوح به ، وكانت تتلقى ذلك برضًى ..
وأخيراً قرَّر أن يجهر لها بمكنونات قلبه ، ورأى آنذاك أن يستشير صديق طفولته حسَّان ، غير أنَّ هذا الأخير انبرى يسخر منه ويوهمه أنَّ إحساسه كاذب ، بل زعم له أنَّ ما أظهرته له " رؤى " إنَّما كان مودَّة الجيرة وحسب ..
" يا أحمق إنَّها تتلاعب بك ، بل هي تحبُّ فتىً آخر .." وهزَّ حسَّان رأسه مؤكِّداً له قوله ..
وجنَّ جنونه ، ورغم أنَّ حسَّان لم يقدِّم له دليلا على ذلك ، إلاَّ أنَّه نجح في زعزعة يقينه بصدق شعوره ، وألحَّ عليه الخيال الواهم فاعتقد بسراب ما تبديه " رؤى " له ، ومنذ أيَّامٍ وهو على حالته المتعبة ، وقد كفَّ عن مقابلتها التي كانت بصيص الأمل في حياةٍ زاهيةٍ ، وأمس فقط رأته " رؤى " وهي عائدةٌ من مدرستها ، فتظاهر بأنَّه لم يرها ، وإن كان قد لمح في عينيها تساؤلاتٍ ودهشةً ، وقد مضى الليل بطوله ولم يذقْ للنوم طعماً كما حدث له في الليالي السَّابقة ..
وتناهى إلى سمعه صوتٌ ما من خلف الدار ، فتنبَّهت حواسُّه ، واستجمع شتات نفسه وسار ببطءٍ ، وفي سواد العتمة التي لوَّنها الفجر بلون ٍ رماديٍّ ، قفزتْ قطة شاردةٌ كشرود أفكاره ، وتنفَّس بعمق ٍ وحين همَّ أن يعود تبيَّن خيالا متَّشحاً بالسَّواد ، وتسارعتْ دقات قلبه لمَّا سمع صوتاً لطيفاً كالبلبل الصَّدَّاح يألفه ، " عبد الباسط.. عبد الباسط.." وانجلت كالبدر ليلة تمامه ، ووقف يصارع أوهامه ، سحقاً لك يا حسَّان كيف نجحتَ في زلزلة إيماني بطهرها وبراءتها وصدقها ؟!..
ونفض من ذهنه المريض الأفكار البوهيميَّة السَّاذجة ، ودفنها في مرتع السَّراب ، وهرع إليها ليلقاها
وليعيد لقلبه نبضه الصَّافي ...:shock: :shock: :hart: :shock: :shock: