dot
31/05/2006, 16:28
كان أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (ربما تأخر هذا الاسم الطويل قرنا كي يقترن بشخص ابن رشد ، فقد سمي هذا بن رايست ، بن ريز ، وحتى الآن كان يدعى بن رساد وفيليوس روسادس) يكتب الفصل الحادي عشر من كتابه (تهافت التهافت) الذي يعارض فيه الصوفي الفارسي الغزالي مؤلف كتاب (تهافت الفلاسفة).
كان بن رشد يكتب بثقة من اليمين إلى الشمال ، وبرغم كتابته بأسلوب القياس المنطقي ، وربطه بين فصول عريضه ، مانع نفسه أن يشعر شعورا فريدا بلطافة وهدوء المنزل الذي كان يظله. في ساعة القيلولة بعينها ، كانت تبح حمامات لطيفات ، كان يسمع خرير نافورة ماء من داخل فناء لا يرى ، شيء ما في جسد بن رشد ، الذي ينتمي لأولئك الذين أتوا من الصحراء العربية ، كان يشكر تدفق الماء. في المناطق المنخفضة كانت توجد الحدائق والبساتين ، في الأرض الأكثر انحدارا كان يتدفق نهر الوادي الكبير ، فيما وراء ذلك كانت ترى مدينة قرطبة الحبيبة تتلألأ مضيئة كما لو كانت بغداد أو القاهرة ، وتبدو وكأنها آلة موسيقية تطرب لها الآذان مع كونها معقدة الصنع. يحوط ذلك كله (طبقا لإحساس ابن رشد) ممتدا على الأفق بقية الأراضي الإسبانية التي تظهر بها بساطة الأشياء مع أن كل واحدة منها تبدو بشكل متناسق.. دائما. كان القلم يجري فوق الورقة ، تربط البراهين فيما بينها جلية واضحة ، بيد أنه برزت طفرة قلق عكرت صفو ابن رشد ، يجدر بنا أن نقول إن "التهافت" ما سبب له أى مشكلة ، غير أن مشكلته الآن كانت من نوع لغوى ، له علاقة بعمل خالد كان على بن رشد أن يعلق عليه أمام الناس ، فقد كان عليه أن يعلق على ما كتبه أرسطوطاليس ، ذلك الإغريقي نبع كل فلسفة والذي من على الخلائق به ، كي يعلم البشرية شتى أنواع المعرفة. إن تفسير كتبه يعد كتفسير العلماء لكتاب مقدس ، ولذا ما كان يبتغيه ابن رشد لم يكن بالشيء اليسير.
إن التاريخ لن يذكر أشياء أكثر جمالا وإثارة للأشجان ، كتكريس طبيب عربي لتحليل أفكار رجل يفصل بينهما أربعة عشر قرنا ، جدير بالذكر أن تقول إن ما زاد النص الذي بين يدي ابن رشد تعقيدا هو أنه - غير متقن للسريانية والإغريقية - كان يعمل في ترجمة نقلت عن ترجمة.
عندما حل المساء ، ولريبته في كلمتين ، توقف ابن رشد عند بداية الجزء المخصص للشعر. هاتان الكلمتان كانتا: المأساة والملهاة. منذ عدة أعوام كان قد سبق له أن وجدهما في الكتاب الثالث لعلم الجمال ، بيد أن أحدا في ميدان الإسلام ما كان قد وفق في شرحهما.
ما أفاده شيئا تصفحه للإسكندر الفردوسي وإصراره على التقليب في طبعات النسطوري ، وحنين بن إسحاق وأبو بشار متى. إن هاتين الكلمتين المبهمتين كانتا قد تبرعتما في النص الخاص بالشعر وكان مستحيلا حذفهما وعليه فقد ترك ابن رشد القلم. عادة ما يقال - بلا تمحيص كثير - إن الشيء الذي نبحث عنه دائما ما يكون أقرب جدا منا. أطبق ابن رشد
مخطوط التهافت ، توجه إلى خزانة الكتب حيث كانت قد اصطف فيها مخطوطات كتبها خطاطون فارسيون ، كان بها الكثير من الجلدات لكتاب "المحكم" للأعمى بن سيده ، قد كان شيئا مضحكا مجرد تخيل أنه ما كان قد نظر فيه ، ولذا فقد أوحت له لذة الفراغ أن يقلب صفحاته. فيما بعد ، وراء التسلية العلمية تلك ، جذب انتباهه نوع من النغم. نظر من الشرفة المسيجة ، رأى أسفلها ، وفي الفناء الضيق المترب ، بعض صبية يلعبون شبه عارين. أحدهم مترجلا اعتلى كتفي زميله وكان يؤدي بشكل ملحوظ دور المؤذن مغلقا عينيه تماما ومرددا بصوت منغم: لا إله إلا الله. صاحبه ذلك الذي كان يسنده في سكون كان يمثل المئذنة ، كان هناك صبي آخر يرى راكعا.. ساجدا يقوم بدور المصلين. استغرق اللعب قليلا ، كلهم كان يود أداء دور المؤذن ولا أحد كان يرغب في أن يقوم بدور المصلين أو أن يمثل المئذنة ، سمعهم ابن رشد يتشاجرون مرددين كلمات تبتعد كل البعد عن الذوق ، يحق لنا أن نصفها بأنها الإسبانية التي استحدثها المسلمون في شبه الجزيرة.
فتح كتاب "العين" للخليل ، وجال على خاطره في زهو بأن في قرطبة بأسرها (بل في كل الأندلس) لا توجد هناك نسخة أخرى من هذا الكتاب تعلو التي بين يديه إذ كان قد أرسل له بها من "طنجة" الأمير يعقوب المنصور ، ذكر اسم ميناء طنجة جعله يتذكر أن الرحالة وأبا القاسم الأشعري ، الذي كان قد عاد من المغرب ، سيتناول معه طعام العشاء هذه الليلة في منزل مقرئ القرآن "فرج". كان أبو القاسم يردد أنه قد وصل في ترحاله حتى مملكة إمبراطورية السين (في الصين) غير أن أعداءه تدفعهم كراهيته كانوا يقسمون أنه أبدا ما وطئت قدماه الصين ، وأنه في معابد هذا البلد كان قد كفر بالله. أيا كان الأمر ، هذا الاجتماع كان لا بد أن يستغرق عدة ساعات ، ومرة أخرى تناول ابن رشد مخطوط التهافت مسرعا وواصل عمله حتى ساعة الشفق.
دار الحوار في بيت فرج حول فضائل الحاكم التي لا مقارنة لها بفضائل أخيه الأمير بعد ذلك ، وفي الحديقة ، تحدثوا عن الزهور. أبو القاسم ، الذي ما كان قد نظر لتلك الزهور ، قال انه لا توجد ورود على شاكلة تلك التي تزين كروم الأندلس. ما اقتنع فرج بهذا الرأي ، فقد لاحظ أن العالم ابن قتيبة يصف أنواعا غاية في الجمال تدعى الزهور الخالدة ، تظهر في حدائق هنوستان بنواراتها الحمراء اللون كاللحم وبها خط يقرأ: "لا إله إلا الله ، محمد رسول الله" وأضاف أنه من المؤكد أن أبا القاسم ربما يعرف تلك الزهور. رنا إليه أبو القاسم بحذر ، فإن هو أجاب بنعم فسيحكم الجميع عليه بأنه يعد من الدجالين المهرة - وهم محقون في ذلك - وإن أقر بالنفي فسيقولون عنه إنه غير مؤمن ، وعليه فقد اختار أن يتمتم بأن عند الله مفاتح الغيب ، وأنه لا يوجد على ظهر الأرض رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. هذه الكلمات توجد في إحدى أوائل سور القرآن. الحق أن ما قاله وقع من الحاضرين موقعا فريدا ، وترددت على شفاههم تلك الكلمات في أدب جم ، مفتخرا بانتصاره الجدلي. كان أبوالقاسم على وشك أن يقول إن الله أحسن كل شيء خلقه وأنه لا تدركه الأبصار ، غير أن ابن رشد أكد - مؤيدا رأيه بالبراهين القطعية - أنه ما زالت هناك مشكلة قائمة: "ربما ما يكلفني كثيرا أن أوافق على وجود خطأ ما فيما قاله العلامة ابن قتيبة أو ما حرره النساخ ، ولكن أعترف أنه جد عسير أن أقتنع بأن الأرض تأتي بزهور بها شهادة الإيمان."
"نعم. آيات رائعة.. جلية." قال أبو القاسم. واصل ابن رشد حديثه قائلا: "أحد الرحالة ذكر أن الشاعر عبدالملك كان يحكي عن شجرة ثمارها عصافير خضراء ، ربما صدقته بلا كثير من العجب بيد أنني لا أصدق أن هناك زهورا كتبت فيها حروف - ثم أضاف - يبدو أن لون العصافير قد يسهل علينا فهم الشيء العجيب الذي نحن إزاءه ، أضف إلى ذلك الورود والعصافير تنتمي إلى دنيا الطبيعة غير أن الكتابة تعد فنا"
أنكر أحد الضيوف بشدة أن تكون الكتابة فنا ، ذلك أن أصل القرآن - أم الكتاب - سابق على الخلق ومحفوظ في السماء. تحدث شخص آخر عن الجاحظ (البصرة) الذي قال إن القرآن مادة ، من الممكن أن تاخذ صورة إنسان أو حيوان ، رأي - فيما يبدو - يتفق مع أولئك الذين يريدون في القرآن وجهين.
تحدث فرج عن الحقيقة الحقة ، قال: "القرآن هو إحدى صفات الله كالرحمة ، كتب في كتاب ، يقرأ باللسان ، يذكر بالقلب ، أما اللغة والإشارات والكتابة فإنها تعد من أعمال البشر ، والقرآن قطعي.. خالد."
كان في مقدور ابن رشد ، الذي كان قد علق على "الجمهورية" ، أن يقول إن أم الكتاب شيء كالمثل الأفلاطوني ، غير أنه أدرك أن المسائل الفقهية موضوع لا دخل لأبي القاسم فيه. نفر من الحاضرين ، الذين حذروا ابن رشد من فعل ما كان يريد ، ألحوا على أبى القاسم أن يقص عليهم إحدى روائعه ، - الأمس واليوم ودوما كانت الدنيا مليئة بالعجائب استطاع من يهوى المخاطرة كذلك من لا يهواها أن يجول فيها ، من أولئك البشر الذين أذعنوا لكل شيء. كانت ذاكرة أبى القاسم تعد مرآة لجبن وثيق العرى بشخصه ، - فما عساه أن يروي؟ بل إنهم يطلبون منه الروائع ، وحكايا من هذا القبيل يصعب توصيلها للآخرين إن قمر بنغالة لا يشبه قمر اليمين ومع ذلك يوصف بنفس الكلمات.
تردد أبوالقاسم ، ثم تكلم بورع: "من يسح في مدن ومناخات شتى ، ير بأم عينه أشياء جمة ، يحق لها أن تقص. ما سأرويه لكم كنت قد أسمعته - مرة واحدة - لملك الأتراك ، وكان قد حدث في "سن كالان" (كانتون) حيث يوجد نهر ماء الحياة يصب في البحر".
سأل فرج عما إذا كانت هذه المدينة تبعد كثيرا عن السد الذي أقامه اسكندر ذو القرنين (اليخاندرو بيكورنى دى ما ثيدونيا) لصد يأجوج ومأجوج.
أجاب أبوالقاسم في تكبر صدر عنه دون إرادته: "تفصل بينهما صحاري ، تستغرق القافلة اربعين يوما كى ترى أبراج المدينة ويقولون أربعين يوما مثيلتها كي تصل لها في سن كالان لا أعلم عن أحد رآها أو رأى أحدا قد رآها" "ولبرهة دار في خلد ابن رشد خوف من اللامتناهي الفظيع ، من الفضاء ذاته ، من المادة بعينها ، رنا إلى الحديقة المتناهية رأى نفسه وقد صار مسنا ، لا فائدة ترجى منه وكأن وجوده ليس شيئا حقيقيا".
واصل أبوالقاسم حديثه قائلا: "ذات مساء اقتادني تجار مسلمون يعيشون في سن كالان ، إلى منزل قد بني من أخشاب مدهونة ويقطنه الكثير من البشر ، ليس في الإمكان وصف هذا المنزل ، فقد كان يتكون من غرفة واحدة ، يصطف بها عدد من الخزانات والشرفات بعضها فوق بعض. فيما بين الفجوات كان هناك أناس يأكلون ويشربون بينما آخرون كانوا قد افترشوا أرض الغرفة ، كذلك ياكلون ويشربون.
ويفعل مثل هؤلاء وأولئك من هم في الشرفة ، غير ان هؤلاء بالإضافة إلى ما كانوا يفعلونه ، كانوا يدقون على الطبل ويعزفون على العود ، فيما عدا خمسة عشر أو عشرين فردا (ذوي أقنعة بلون قرمزي) كانوا يصلون يرتلون ويتحاورون ، يرون كأنهم سجناء بيد أن ما كان هناك سجن ، كأنهم يمتطون صهوة جواد ومع ذلك لا أحد استطاع أن يرى الحصان ، كأنهم في معركة يحاربون بيد أن السيوف كانت من عصي ، كأنهم يعانون في ساعة الاحتضار ثم بعد ذلك كله وقفوا على أقدامهم".
قال فرج: "تلك هي أفعال من مسهم الجنون ، يتجاوزون حد العقلاء."
كان بن رشد يكتب بثقة من اليمين إلى الشمال ، وبرغم كتابته بأسلوب القياس المنطقي ، وربطه بين فصول عريضه ، مانع نفسه أن يشعر شعورا فريدا بلطافة وهدوء المنزل الذي كان يظله. في ساعة القيلولة بعينها ، كانت تبح حمامات لطيفات ، كان يسمع خرير نافورة ماء من داخل فناء لا يرى ، شيء ما في جسد بن رشد ، الذي ينتمي لأولئك الذين أتوا من الصحراء العربية ، كان يشكر تدفق الماء. في المناطق المنخفضة كانت توجد الحدائق والبساتين ، في الأرض الأكثر انحدارا كان يتدفق نهر الوادي الكبير ، فيما وراء ذلك كانت ترى مدينة قرطبة الحبيبة تتلألأ مضيئة كما لو كانت بغداد أو القاهرة ، وتبدو وكأنها آلة موسيقية تطرب لها الآذان مع كونها معقدة الصنع. يحوط ذلك كله (طبقا لإحساس ابن رشد) ممتدا على الأفق بقية الأراضي الإسبانية التي تظهر بها بساطة الأشياء مع أن كل واحدة منها تبدو بشكل متناسق.. دائما. كان القلم يجري فوق الورقة ، تربط البراهين فيما بينها جلية واضحة ، بيد أنه برزت طفرة قلق عكرت صفو ابن رشد ، يجدر بنا أن نقول إن "التهافت" ما سبب له أى مشكلة ، غير أن مشكلته الآن كانت من نوع لغوى ، له علاقة بعمل خالد كان على بن رشد أن يعلق عليه أمام الناس ، فقد كان عليه أن يعلق على ما كتبه أرسطوطاليس ، ذلك الإغريقي نبع كل فلسفة والذي من على الخلائق به ، كي يعلم البشرية شتى أنواع المعرفة. إن تفسير كتبه يعد كتفسير العلماء لكتاب مقدس ، ولذا ما كان يبتغيه ابن رشد لم يكن بالشيء اليسير.
إن التاريخ لن يذكر أشياء أكثر جمالا وإثارة للأشجان ، كتكريس طبيب عربي لتحليل أفكار رجل يفصل بينهما أربعة عشر قرنا ، جدير بالذكر أن تقول إن ما زاد النص الذي بين يدي ابن رشد تعقيدا هو أنه - غير متقن للسريانية والإغريقية - كان يعمل في ترجمة نقلت عن ترجمة.
عندما حل المساء ، ولريبته في كلمتين ، توقف ابن رشد عند بداية الجزء المخصص للشعر. هاتان الكلمتان كانتا: المأساة والملهاة. منذ عدة أعوام كان قد سبق له أن وجدهما في الكتاب الثالث لعلم الجمال ، بيد أن أحدا في ميدان الإسلام ما كان قد وفق في شرحهما.
ما أفاده شيئا تصفحه للإسكندر الفردوسي وإصراره على التقليب في طبعات النسطوري ، وحنين بن إسحاق وأبو بشار متى. إن هاتين الكلمتين المبهمتين كانتا قد تبرعتما في النص الخاص بالشعر وكان مستحيلا حذفهما وعليه فقد ترك ابن رشد القلم. عادة ما يقال - بلا تمحيص كثير - إن الشيء الذي نبحث عنه دائما ما يكون أقرب جدا منا. أطبق ابن رشد
مخطوط التهافت ، توجه إلى خزانة الكتب حيث كانت قد اصطف فيها مخطوطات كتبها خطاطون فارسيون ، كان بها الكثير من الجلدات لكتاب "المحكم" للأعمى بن سيده ، قد كان شيئا مضحكا مجرد تخيل أنه ما كان قد نظر فيه ، ولذا فقد أوحت له لذة الفراغ أن يقلب صفحاته. فيما بعد ، وراء التسلية العلمية تلك ، جذب انتباهه نوع من النغم. نظر من الشرفة المسيجة ، رأى أسفلها ، وفي الفناء الضيق المترب ، بعض صبية يلعبون شبه عارين. أحدهم مترجلا اعتلى كتفي زميله وكان يؤدي بشكل ملحوظ دور المؤذن مغلقا عينيه تماما ومرددا بصوت منغم: لا إله إلا الله. صاحبه ذلك الذي كان يسنده في سكون كان يمثل المئذنة ، كان هناك صبي آخر يرى راكعا.. ساجدا يقوم بدور المصلين. استغرق اللعب قليلا ، كلهم كان يود أداء دور المؤذن ولا أحد كان يرغب في أن يقوم بدور المصلين أو أن يمثل المئذنة ، سمعهم ابن رشد يتشاجرون مرددين كلمات تبتعد كل البعد عن الذوق ، يحق لنا أن نصفها بأنها الإسبانية التي استحدثها المسلمون في شبه الجزيرة.
فتح كتاب "العين" للخليل ، وجال على خاطره في زهو بأن في قرطبة بأسرها (بل في كل الأندلس) لا توجد هناك نسخة أخرى من هذا الكتاب تعلو التي بين يديه إذ كان قد أرسل له بها من "طنجة" الأمير يعقوب المنصور ، ذكر اسم ميناء طنجة جعله يتذكر أن الرحالة وأبا القاسم الأشعري ، الذي كان قد عاد من المغرب ، سيتناول معه طعام العشاء هذه الليلة في منزل مقرئ القرآن "فرج". كان أبو القاسم يردد أنه قد وصل في ترحاله حتى مملكة إمبراطورية السين (في الصين) غير أن أعداءه تدفعهم كراهيته كانوا يقسمون أنه أبدا ما وطئت قدماه الصين ، وأنه في معابد هذا البلد كان قد كفر بالله. أيا كان الأمر ، هذا الاجتماع كان لا بد أن يستغرق عدة ساعات ، ومرة أخرى تناول ابن رشد مخطوط التهافت مسرعا وواصل عمله حتى ساعة الشفق.
دار الحوار في بيت فرج حول فضائل الحاكم التي لا مقارنة لها بفضائل أخيه الأمير بعد ذلك ، وفي الحديقة ، تحدثوا عن الزهور. أبو القاسم ، الذي ما كان قد نظر لتلك الزهور ، قال انه لا توجد ورود على شاكلة تلك التي تزين كروم الأندلس. ما اقتنع فرج بهذا الرأي ، فقد لاحظ أن العالم ابن قتيبة يصف أنواعا غاية في الجمال تدعى الزهور الخالدة ، تظهر في حدائق هنوستان بنواراتها الحمراء اللون كاللحم وبها خط يقرأ: "لا إله إلا الله ، محمد رسول الله" وأضاف أنه من المؤكد أن أبا القاسم ربما يعرف تلك الزهور. رنا إليه أبو القاسم بحذر ، فإن هو أجاب بنعم فسيحكم الجميع عليه بأنه يعد من الدجالين المهرة - وهم محقون في ذلك - وإن أقر بالنفي فسيقولون عنه إنه غير مؤمن ، وعليه فقد اختار أن يتمتم بأن عند الله مفاتح الغيب ، وأنه لا يوجد على ظهر الأرض رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. هذه الكلمات توجد في إحدى أوائل سور القرآن. الحق أن ما قاله وقع من الحاضرين موقعا فريدا ، وترددت على شفاههم تلك الكلمات في أدب جم ، مفتخرا بانتصاره الجدلي. كان أبوالقاسم على وشك أن يقول إن الله أحسن كل شيء خلقه وأنه لا تدركه الأبصار ، غير أن ابن رشد أكد - مؤيدا رأيه بالبراهين القطعية - أنه ما زالت هناك مشكلة قائمة: "ربما ما يكلفني كثيرا أن أوافق على وجود خطأ ما فيما قاله العلامة ابن قتيبة أو ما حرره النساخ ، ولكن أعترف أنه جد عسير أن أقتنع بأن الأرض تأتي بزهور بها شهادة الإيمان."
"نعم. آيات رائعة.. جلية." قال أبو القاسم. واصل ابن رشد حديثه قائلا: "أحد الرحالة ذكر أن الشاعر عبدالملك كان يحكي عن شجرة ثمارها عصافير خضراء ، ربما صدقته بلا كثير من العجب بيد أنني لا أصدق أن هناك زهورا كتبت فيها حروف - ثم أضاف - يبدو أن لون العصافير قد يسهل علينا فهم الشيء العجيب الذي نحن إزاءه ، أضف إلى ذلك الورود والعصافير تنتمي إلى دنيا الطبيعة غير أن الكتابة تعد فنا"
أنكر أحد الضيوف بشدة أن تكون الكتابة فنا ، ذلك أن أصل القرآن - أم الكتاب - سابق على الخلق ومحفوظ في السماء. تحدث شخص آخر عن الجاحظ (البصرة) الذي قال إن القرآن مادة ، من الممكن أن تاخذ صورة إنسان أو حيوان ، رأي - فيما يبدو - يتفق مع أولئك الذين يريدون في القرآن وجهين.
تحدث فرج عن الحقيقة الحقة ، قال: "القرآن هو إحدى صفات الله كالرحمة ، كتب في كتاب ، يقرأ باللسان ، يذكر بالقلب ، أما اللغة والإشارات والكتابة فإنها تعد من أعمال البشر ، والقرآن قطعي.. خالد."
كان في مقدور ابن رشد ، الذي كان قد علق على "الجمهورية" ، أن يقول إن أم الكتاب شيء كالمثل الأفلاطوني ، غير أنه أدرك أن المسائل الفقهية موضوع لا دخل لأبي القاسم فيه. نفر من الحاضرين ، الذين حذروا ابن رشد من فعل ما كان يريد ، ألحوا على أبى القاسم أن يقص عليهم إحدى روائعه ، - الأمس واليوم ودوما كانت الدنيا مليئة بالعجائب استطاع من يهوى المخاطرة كذلك من لا يهواها أن يجول فيها ، من أولئك البشر الذين أذعنوا لكل شيء. كانت ذاكرة أبى القاسم تعد مرآة لجبن وثيق العرى بشخصه ، - فما عساه أن يروي؟ بل إنهم يطلبون منه الروائع ، وحكايا من هذا القبيل يصعب توصيلها للآخرين إن قمر بنغالة لا يشبه قمر اليمين ومع ذلك يوصف بنفس الكلمات.
تردد أبوالقاسم ، ثم تكلم بورع: "من يسح في مدن ومناخات شتى ، ير بأم عينه أشياء جمة ، يحق لها أن تقص. ما سأرويه لكم كنت قد أسمعته - مرة واحدة - لملك الأتراك ، وكان قد حدث في "سن كالان" (كانتون) حيث يوجد نهر ماء الحياة يصب في البحر".
سأل فرج عما إذا كانت هذه المدينة تبعد كثيرا عن السد الذي أقامه اسكندر ذو القرنين (اليخاندرو بيكورنى دى ما ثيدونيا) لصد يأجوج ومأجوج.
أجاب أبوالقاسم في تكبر صدر عنه دون إرادته: "تفصل بينهما صحاري ، تستغرق القافلة اربعين يوما كى ترى أبراج المدينة ويقولون أربعين يوما مثيلتها كي تصل لها في سن كالان لا أعلم عن أحد رآها أو رأى أحدا قد رآها" "ولبرهة دار في خلد ابن رشد خوف من اللامتناهي الفظيع ، من الفضاء ذاته ، من المادة بعينها ، رنا إلى الحديقة المتناهية رأى نفسه وقد صار مسنا ، لا فائدة ترجى منه وكأن وجوده ليس شيئا حقيقيا".
واصل أبوالقاسم حديثه قائلا: "ذات مساء اقتادني تجار مسلمون يعيشون في سن كالان ، إلى منزل قد بني من أخشاب مدهونة ويقطنه الكثير من البشر ، ليس في الإمكان وصف هذا المنزل ، فقد كان يتكون من غرفة واحدة ، يصطف بها عدد من الخزانات والشرفات بعضها فوق بعض. فيما بين الفجوات كان هناك أناس يأكلون ويشربون بينما آخرون كانوا قد افترشوا أرض الغرفة ، كذلك ياكلون ويشربون.
ويفعل مثل هؤلاء وأولئك من هم في الشرفة ، غير ان هؤلاء بالإضافة إلى ما كانوا يفعلونه ، كانوا يدقون على الطبل ويعزفون على العود ، فيما عدا خمسة عشر أو عشرين فردا (ذوي أقنعة بلون قرمزي) كانوا يصلون يرتلون ويتحاورون ، يرون كأنهم سجناء بيد أن ما كان هناك سجن ، كأنهم يمتطون صهوة جواد ومع ذلك لا أحد استطاع أن يرى الحصان ، كأنهم في معركة يحاربون بيد أن السيوف كانت من عصي ، كأنهم يعانون في ساعة الاحتضار ثم بعد ذلك كله وقفوا على أقدامهم".
قال فرج: "تلك هي أفعال من مسهم الجنون ، يتجاوزون حد العقلاء."