dot
31/05/2006, 16:23
سافر ( بيلي ويفر ) من ( لندن ) في قطار العصر البطيء ، و استبدل القطار في ( سويندون ) ، و حين وصل إلى ( باث ) كانت التاسعة مساءً ، و القمر يلتمع في سماء مرصعة بالنجوم .. لكن الهواء كان بارداً، والريح كانت كنصل ثلجي يمزق خديه ..
- ’’ معذرة .. لكن هل هناك فندق رخيص بالقرب من هنا ؟ ‘‘
أشار الحمّال في اتجاه ما، وقال :
- ’’ جرب ( بيل آند دراجون ) فلربما يقبلونك. إنه على بعد ربع ميل. ‘‘
شكره ( بيلي ) وحمل حقيبته ماشياً الربع ميل إلى ( بيل آند دراجون ) ، ولم يكن قد زار ( باث ) من قبل ، ولم يكن يعرف أحداً هناك ، لكن مستر ( جرين سليت ) في ( لندن ) أخبره أنها رائعة.
قال له :
- ’’ إبحث عن مسكن، ثم اتصل بمدير الفرع فور استقرارك. ‘‘
كان ( بيلي ) في السابعة عشرة من عمره ، يرتدي معطفاً أخضر وقبعة جديدة ، وكان يمشي في الطريق مسرعاً ؛ تلك الخطوة التي تميز كل رجال الأعمال الناجحين ؛ هكذا كان كل رجال المكتب الرئيسي يمشون .
لم تكن هناك متاجر في الشارع .. فقط بعض المنازل الشامخة المقامة على أعمدة، وقد تساقط طلاء أكثرها .
وفي نافذة طابق سفلي ، رأى في ضوء مصباح الشارع لافتة خلف الزجاج تقول: ( فراش وإفطار ).
وتحت اللافتة رأى مزهرية جميلة ، وعلى جانبي النافذة ستائر خضراء تشبه القطيفة. دنا أكثر واختلس النظر الى داخل الغرفة ، كانت نار مشتعلة في مدفأة ، وعلى السجادة أمام النار كان كلب من نوع ( داشهوند ) نائماً في سلام .
وعلى ضوء النار رأى الغرفة ملأى بأثاث جميل مريح، ثمة بيانو صغير وأريكة ومقاعد وثيرة ، وببغاء في قفص. قال لنفسه :
- ’’ هذا منزل محترم يمكن أن أقيم فيه ، ولسوف يريحني أكثر من ( بيل آند دراجون ). ‘‘
إن للفندق مزية هي وجود عدد كبير من الناس يتحدث إليه ، لكنه كان يهاب ( البنسيونات ) .. إن الإسم نفسه مرعب يذكرك برائحة حساء الكرنب ، وصاحبات النزل المتلصصات ، ورائحة الرنجة في غرفة المعيشة. حقاً يجب أن يرى ( بيل آند دراجون ) قبل أن يقرر ..
هنا حدث شيء غريب ! لقد راحت عبارة ( فراش وإفطار ) تتردد في ذهنه وأمام عينيه مراراً ، وراحت كل كلمة كأنها عين كبيرة تتلصص عليه من وراء الزجاج وتمسك به وتناديه !
لم يدر متى مشى إلى الباب الأمامي ، وقرع الجرس . سمع الرنين ثم فُتح الباب بسرعة .. بسرعة إلى حدّ أنه لم يجد الوقت ليرفع إصبعه عن الجرس !
من الطبيعي أن تمر دقيقة بين رنين الجرس وفتح الباب ؛ لكن هذه المرأة كانت مثل عفريت العلبة ؛ ضغط الجرس فوثبت في وجهه .
كانت في الخامسة و الأربعين ، و ابتسمت مرحّبة إذ رأته ، وقالت في مودة :
- ’’ هلم. ‘‘
خطا للداخل ، فوجد نفسه يتأمل المنزل . قال لها متماسكاً :
- ’’ رأيت اللافتة في النافذة .. ‘‘
- ’’ أعرف .. ‘‘
- ’’ و كنت أبحث عن غرفة .. ‘‘
- ’’ كل شيء معدّ .. ‘‘
كانت عيناها زرقاوين في وجه أحمر مستدير. قال لها :
- ’’ لقد استوقفتني العبارة بينما .. ‘‘
ثم استدرك فقال :
- ’’ كم تطلبين ؟ ‘‘
- ’’ خمسة و نصف في الليلة ، مع الإفطار. ‘‘
كان هذا رخيصاً جداً ، وأقل مما تمنى ، لكنها قالت :
- ’’ لو كان هذا كثيراً فلربما أمنحك تخفيضاً ، هل تريد بيضة في الإفطار ؟ إن البيض غالٍ حالياً ، و لو تنازلت عنه لكان الأجر أرخص .. ‘‘
- ’’ إن السعر مناسب كما هو. ‘‘
كانت لطيفة جداً ، كأنها أم أفضل أصدقائك في المدرسة تسألك البقاء مع إبنها ليلة عيد الميلاد.
نزع قبعته وبدأ يخلع معطفه ، وتأمل المدخل .. لا قبعات ولامظلات و لا عصي. قالت له وهي تقوده :
- ’’ كما ترى ليست متعة الضيوف في داري من حقي دوماً. ‘‘
كانت – كما قال لنفسه – على شيء من الخبال ، لكن من يهتم بهذا مقابل خمسة و نصف في الليلة ؟
قال لها في أدب :
- ’’ المفترض أن يكون هذا المكان الرحب مزدحماً. ‘‘
- ’’ إنه كذلك يا عزيزي ، لكني إنتقائية نوعاً هاهنا ، كل شيء معدّ ليلاً ونهاراً ، بإنتظار قدوم شاب مهذب مثلك. فقط الشخص المناسب هو الذي يبيت هنا. ‘‘
و أضافت بإبتسامة باهتة :
- ’’ مثلك. ‘‘
عند الطابق الأول قالت له :
- ’’ هذا الطابق ملكي ، أنا أعيش هنا. ‘‘
وتسلقت الدرجات إلى الطابق الثاني :
- ’’ وهذا ملكك .. و هذه حجرتك .. ‘‘
واقتادته إلى غرفة نوم صغيرة لكنها مريحة ، وقالت له :
- ’’ ضوء الشمس يدخل من هذه النافذة صباحاً ليملأ الغرفة .. يا مستر ( ويلسون ). ‘‘
- ’’ ( ويفر ) .. اسمي ( ويفر ). ‘‘
- ’’ ليكن يا مستر ( ويفر ). قد دسست زجاجة من الماء الساخن تحت الملاءات. من الممتع دوماً أن تجد زجاجة من ماء ساخن في فراش غريب ملاءاته نظيفة .. ألا ترى هذا؟ يمكنك أن تشعل المدفأة متى رأيت ذلك. ‘‘
ولاحظ أن الغطاء مطوي على جانب ، كأنما يدعو المرء كي يدخل فيه. قالت وهي تنظر لوجهه نظرة جدية :
- ’’ يسرّني أنك جئت .. لقد بدأت أقلق .‘‘
وضع حقيبته على مقعد ، وراح يفتحها ، فقالت له :
- ’’ وماذا عن العشاء يا عزيزي؟ هل تناولته ؟ ‘‘
- ’’ أعتقد أني سأنام باكراً. عليّ أن أصحو مبكراً ؛ لأتصل بمدير الفرع.‘‘
- ’’ ليكن. سأتركك الآن لتفرغ حقائبك ، لكن أرجو قبل أن تنام أن تتكرم بالحضور لغرفة الجلوس كي توّقع السجل. كلّ شخص هنا يفعل هذا ؛ إنه القانون ، ولا نريد أن نخرقه في هذا الطور المبكر من تعارفنا. ‘‘
و لوحت بيدها وغادرت الغرفة .
كان الآن يدرك تماماً أن هذه المرأة غير متزنة ، لكن هذا لم يقلقه ؛ إنها كريمة خدوم ودود . بالتأكيد هي فقدت إبنها في الحرب أو شيئاً كهذا ، و لم تقهر الصدمة بعد. بعد دقائق – وبعد غسل يديه – نزل إلى غرفة المعيشة. لم يكن هناك أحد لكن النار كانت مستعرة، والكلب الـ ( داشهوند ) مازال نائماً ، و الغرفة في منتهى الدفء. قال لنفسه :
- ’’ إني لرجل محظوظ. ‘‘
وجد سجل الضيوف على البيانو ، فأخذه ودوّن به اسمه و عنوانه ، و لم يكن هناك سوى اسمين قبله ، أحدهما هو ( كريستوفر مولهولاند ) من ( كارديف ) ، و الآخر ( جريجوري تمبل ) من ( بريستول ).
غريب ! إن اسم ( كريستوفر مولهولاند ) يقرع جرساً ما في ذاكرته .. أين قرأ هذا الإسم الغريب من قبل ؟ أكان زميلاً في المدرسة ؟ أكان صديقاً لأبيه أم تقدّم لأخته ؟ .. وبدأ يفكر في الإسم الآخر .
- ’’ شابان ظريفان . ‘‘
جاء الصوت من خلفه ، فاستدار ليرى صاحبة المنزل تدخل حاملة صينية فضية في يدها، قال لها:
- ’’ معذرة .. لكن هذه الأسماء تبدو مألوفة.‘‘
- ’’أحقاً؟ كم أن هذا مثير !‘‘
- ’’ أنا متأكد أنني سمعتها من قبل ، ربما كان ذلك في الصحف. لم يكونوا من المشاهير ، ليسوا لاعبي كرة قدم أو شيء كهذا .. ‘‘
وضعت الصينية ، وقالت :
- ’’ مشاهير؟.. لا .. لا .. لكنهم كانوا شديدي اللطف و الوسامة .. أؤكد لك هذا. كان هذان الشابان طويلي القامة ، وسيمين ، مثلك. ‘‘
أشار إلى السجل ، وقال لها :
- ’’ انظري ! إن آخر تاريخ هو منذ عامين. ‘‘
- ’’ أهو كذلك ؟ .. يا عزيزي ! ‘‘ وهزّت رأسها ’’ لم أفكر في هذا ، كم يمر الزمن سريعاً ! .. أليس كذلك يا مستر ( ويلكنز ) ؟ ‘‘
- ’’ ( ويفر ) .. ( ويفر ) ‘‘
- ’’ آه .. بالفعل ! ‘‘
وجلست على الأريكة ، وأضافت :
- ’’ كم أن هذا سخيف مني ، أعتذر. إن الكلام يدخل من أذن ليخرج من أخرى.‘‘
قال لها :
- ’’ ألا تفهمين كم أن هذا مذهل ؟ أتذكر هذين الإسمين بشكل منفصل ، لكنهما مرتبطان في ذاكرتي بشكل ما ؛ كأنهما اشتهرا بنفس الشيء. هل تفهمين ما أريده ؟ مثل ( تشرتشل ) و ( روزفلت ). ‘‘
قالت :
- ’’ كم أن هذا مسلّ ! و الآن تعال جواري لأقدم لك قدح شاي ، وبسكويتة زنجبيل قبل أن تنام. ‘‘
وقف جوار البيانو يرمقها وهي تعدّ الأقداح و الأطباق. كانت لها يدان سريعتا الحركة وأنامل حمراء. قال لها :
- ’’ لقد قرأت هذين الإسمين في الصحف ، أنا واثق من هذا ، و لسوف أتذكر بعد ثانية. ‘‘
لاشيء يضايق أكثر من الذكرى التي تقبع هنالك خارج أسوار ذاكرتك ؛ لكنه لم يقبل الإستسلام ، وقال لها :
- ’’ لحظة ، انتظري لحظة .. ألم يكن تلميذا في مدرسة ريفية .. ذلك الـ ( مولهولاند ) ، ثم فجأة .. ‘‘
- ’’ هل لك في سكّر ؟ ‘‘
- ’’ كان تلميذا في ( إيتون ) ثم فجأة .. ‘‘
- ’’ خطأ .. لم يكن تلميذاً حين جاء لي ، كان طالباً في ( كمبردج ). هلمّ ، إن الشاي جاهز . ‘‘
و ابتسمت له تدعوه للجلوس، فاتجه ليجلس جوارها . و لنصف دقيقة راحا يرشفان الشاي دون كلمة ، لكن ( بيلي ) كان يعرف أنها تنظر له ؛ كانت عيناها على وجهه ترمقانه من فوق القدح، و من حين لآخر يشم رائحة عطرية معينة تفوح منها ، ربما كرائحة الجلد الجديد أو رائحة ردهات مستشفى.
قالت :
- ’’ مستر ( مولهولاند ) كان يحب الشاي ، لم أر من يحب الشاي مثله. ‘‘
قال لها :
- ’’ أخاله رحل منذ زمن طويل. ‘‘
رفعت حاجبيها ، و هتفت :
- ’’ لكنه لم يرحل يا عزيزي ! إنه هنا ، في الطابق الثالث ، كلاهما .‘‘
وضغطت على ركبته ، و تساءلت :
- ’’ كم عمرك يا عزيزي ؟ ‘‘
- ’’ سبعة عشر عاماً.‘‘
- ’’ هذا هو العمر المناسب. كان ( مولهولاند ) في مثل سنّك ، لكن أسنانه لم تكن بيضاء كأسنانك. أما مستر ( تمبل ) فكان في الثامنة و العشرين، لكني ما كنت لأخمن هذا ما لم يخبرني ؛ لم تكن ثمة لطخة واحدة في جلده ! ‘‘
- ’’ ماذا ؟! ‘‘
- ’’ كان جلده كجلد طفل. ‘‘
ساد الصمت ، التقط القدح فوضعه في الطبق ثم ظلّ يتأمل الغرفة و يعضّ شفته. قالت له :
- ’’ هذا الببغاء .. هل تعرف ؟ أنا من قام بتصبيره هكذا. ‘‘
- ’’ لقد خدعني تماماً حين رأيته من النافذة ، حسبته حيّاً. ‘‘
- ’’ للأسف ، لم يعد. ‘‘
- ’’ إن التصبير متقن بحق ؛ ولايبدو لي ميّتاً على الإطلاق. ‘‘
قالت في فخر :
- ’’ هل قابلت ( باسيل ) الصغير ؟ ‘‘
و أشارت إلى الكلب الـ ( داشهوند ) الراقد أمام النار ، و هنا تذكر ( بيلي ) أن الحيوان ظلّ راقداً طيلة الوقت. مدّ يده ولمس ظهره فوجده صلباً بارداً. أزاح الشعر فوجد أن جلده رمادي أسود جاف.
- ’’ رباه ! عمل رائع ! ‘‘
واستدار باحترام شديد إلى المرأة، فقالت :
- ’’ أنا أحنّط و أصبّر كل حيواناتي حين تموت. هل لك في مزيد من الشاي ؟ ‘‘
- ’’ لا .. شكراً. ‘‘
فالحقيقة أن الشاي كان له مذاق اللوز المرّ ، و لم يحبّه كثيراً.
- ’’ هل وقّعت في السجل ؟ ‘‘
- ’’ نعم. ‘‘
- ’’ حسن ؛ لأنه فيما بعد قد أنسى اسمك ؛ عندها سأعود للسجل و أتذكره. مازلت أفعل هذا مع مستر ( مولهولاند ) و مستر .. مستر .. ‘‘
قال لها :
- ’’ ( تمبل ) .. مستر ( تمبل ). معذرة على السؤال ؛ لكن ألم يات ضيوف آخرون هنا طيلة السنوات الثلاث الماضية ؟ ‘‘
رفعت قدحها و أمالت رأسها لليسار ، و نظرت له من طرف عينها ، و برقة ابتسمت و قالت :
- ’’ نعم يا عزيزي ، فقط أنت. ‘‘
:hart: ترجمة : د.أحمد خالد توفيق.:hart:
- ’’ معذرة .. لكن هل هناك فندق رخيص بالقرب من هنا ؟ ‘‘
أشار الحمّال في اتجاه ما، وقال :
- ’’ جرب ( بيل آند دراجون ) فلربما يقبلونك. إنه على بعد ربع ميل. ‘‘
شكره ( بيلي ) وحمل حقيبته ماشياً الربع ميل إلى ( بيل آند دراجون ) ، ولم يكن قد زار ( باث ) من قبل ، ولم يكن يعرف أحداً هناك ، لكن مستر ( جرين سليت ) في ( لندن ) أخبره أنها رائعة.
قال له :
- ’’ إبحث عن مسكن، ثم اتصل بمدير الفرع فور استقرارك. ‘‘
كان ( بيلي ) في السابعة عشرة من عمره ، يرتدي معطفاً أخضر وقبعة جديدة ، وكان يمشي في الطريق مسرعاً ؛ تلك الخطوة التي تميز كل رجال الأعمال الناجحين ؛ هكذا كان كل رجال المكتب الرئيسي يمشون .
لم تكن هناك متاجر في الشارع .. فقط بعض المنازل الشامخة المقامة على أعمدة، وقد تساقط طلاء أكثرها .
وفي نافذة طابق سفلي ، رأى في ضوء مصباح الشارع لافتة خلف الزجاج تقول: ( فراش وإفطار ).
وتحت اللافتة رأى مزهرية جميلة ، وعلى جانبي النافذة ستائر خضراء تشبه القطيفة. دنا أكثر واختلس النظر الى داخل الغرفة ، كانت نار مشتعلة في مدفأة ، وعلى السجادة أمام النار كان كلب من نوع ( داشهوند ) نائماً في سلام .
وعلى ضوء النار رأى الغرفة ملأى بأثاث جميل مريح، ثمة بيانو صغير وأريكة ومقاعد وثيرة ، وببغاء في قفص. قال لنفسه :
- ’’ هذا منزل محترم يمكن أن أقيم فيه ، ولسوف يريحني أكثر من ( بيل آند دراجون ). ‘‘
إن للفندق مزية هي وجود عدد كبير من الناس يتحدث إليه ، لكنه كان يهاب ( البنسيونات ) .. إن الإسم نفسه مرعب يذكرك برائحة حساء الكرنب ، وصاحبات النزل المتلصصات ، ورائحة الرنجة في غرفة المعيشة. حقاً يجب أن يرى ( بيل آند دراجون ) قبل أن يقرر ..
هنا حدث شيء غريب ! لقد راحت عبارة ( فراش وإفطار ) تتردد في ذهنه وأمام عينيه مراراً ، وراحت كل كلمة كأنها عين كبيرة تتلصص عليه من وراء الزجاج وتمسك به وتناديه !
لم يدر متى مشى إلى الباب الأمامي ، وقرع الجرس . سمع الرنين ثم فُتح الباب بسرعة .. بسرعة إلى حدّ أنه لم يجد الوقت ليرفع إصبعه عن الجرس !
من الطبيعي أن تمر دقيقة بين رنين الجرس وفتح الباب ؛ لكن هذه المرأة كانت مثل عفريت العلبة ؛ ضغط الجرس فوثبت في وجهه .
كانت في الخامسة و الأربعين ، و ابتسمت مرحّبة إذ رأته ، وقالت في مودة :
- ’’ هلم. ‘‘
خطا للداخل ، فوجد نفسه يتأمل المنزل . قال لها متماسكاً :
- ’’ رأيت اللافتة في النافذة .. ‘‘
- ’’ أعرف .. ‘‘
- ’’ و كنت أبحث عن غرفة .. ‘‘
- ’’ كل شيء معدّ .. ‘‘
كانت عيناها زرقاوين في وجه أحمر مستدير. قال لها :
- ’’ لقد استوقفتني العبارة بينما .. ‘‘
ثم استدرك فقال :
- ’’ كم تطلبين ؟ ‘‘
- ’’ خمسة و نصف في الليلة ، مع الإفطار. ‘‘
كان هذا رخيصاً جداً ، وأقل مما تمنى ، لكنها قالت :
- ’’ لو كان هذا كثيراً فلربما أمنحك تخفيضاً ، هل تريد بيضة في الإفطار ؟ إن البيض غالٍ حالياً ، و لو تنازلت عنه لكان الأجر أرخص .. ‘‘
- ’’ إن السعر مناسب كما هو. ‘‘
كانت لطيفة جداً ، كأنها أم أفضل أصدقائك في المدرسة تسألك البقاء مع إبنها ليلة عيد الميلاد.
نزع قبعته وبدأ يخلع معطفه ، وتأمل المدخل .. لا قبعات ولامظلات و لا عصي. قالت له وهي تقوده :
- ’’ كما ترى ليست متعة الضيوف في داري من حقي دوماً. ‘‘
كانت – كما قال لنفسه – على شيء من الخبال ، لكن من يهتم بهذا مقابل خمسة و نصف في الليلة ؟
قال لها في أدب :
- ’’ المفترض أن يكون هذا المكان الرحب مزدحماً. ‘‘
- ’’ إنه كذلك يا عزيزي ، لكني إنتقائية نوعاً هاهنا ، كل شيء معدّ ليلاً ونهاراً ، بإنتظار قدوم شاب مهذب مثلك. فقط الشخص المناسب هو الذي يبيت هنا. ‘‘
و أضافت بإبتسامة باهتة :
- ’’ مثلك. ‘‘
عند الطابق الأول قالت له :
- ’’ هذا الطابق ملكي ، أنا أعيش هنا. ‘‘
وتسلقت الدرجات إلى الطابق الثاني :
- ’’ وهذا ملكك .. و هذه حجرتك .. ‘‘
واقتادته إلى غرفة نوم صغيرة لكنها مريحة ، وقالت له :
- ’’ ضوء الشمس يدخل من هذه النافذة صباحاً ليملأ الغرفة .. يا مستر ( ويلسون ). ‘‘
- ’’ ( ويفر ) .. اسمي ( ويفر ). ‘‘
- ’’ ليكن يا مستر ( ويفر ). قد دسست زجاجة من الماء الساخن تحت الملاءات. من الممتع دوماً أن تجد زجاجة من ماء ساخن في فراش غريب ملاءاته نظيفة .. ألا ترى هذا؟ يمكنك أن تشعل المدفأة متى رأيت ذلك. ‘‘
ولاحظ أن الغطاء مطوي على جانب ، كأنما يدعو المرء كي يدخل فيه. قالت وهي تنظر لوجهه نظرة جدية :
- ’’ يسرّني أنك جئت .. لقد بدأت أقلق .‘‘
وضع حقيبته على مقعد ، وراح يفتحها ، فقالت له :
- ’’ وماذا عن العشاء يا عزيزي؟ هل تناولته ؟ ‘‘
- ’’ أعتقد أني سأنام باكراً. عليّ أن أصحو مبكراً ؛ لأتصل بمدير الفرع.‘‘
- ’’ ليكن. سأتركك الآن لتفرغ حقائبك ، لكن أرجو قبل أن تنام أن تتكرم بالحضور لغرفة الجلوس كي توّقع السجل. كلّ شخص هنا يفعل هذا ؛ إنه القانون ، ولا نريد أن نخرقه في هذا الطور المبكر من تعارفنا. ‘‘
و لوحت بيدها وغادرت الغرفة .
كان الآن يدرك تماماً أن هذه المرأة غير متزنة ، لكن هذا لم يقلقه ؛ إنها كريمة خدوم ودود . بالتأكيد هي فقدت إبنها في الحرب أو شيئاً كهذا ، و لم تقهر الصدمة بعد. بعد دقائق – وبعد غسل يديه – نزل إلى غرفة المعيشة. لم يكن هناك أحد لكن النار كانت مستعرة، والكلب الـ ( داشهوند ) مازال نائماً ، و الغرفة في منتهى الدفء. قال لنفسه :
- ’’ إني لرجل محظوظ. ‘‘
وجد سجل الضيوف على البيانو ، فأخذه ودوّن به اسمه و عنوانه ، و لم يكن هناك سوى اسمين قبله ، أحدهما هو ( كريستوفر مولهولاند ) من ( كارديف ) ، و الآخر ( جريجوري تمبل ) من ( بريستول ).
غريب ! إن اسم ( كريستوفر مولهولاند ) يقرع جرساً ما في ذاكرته .. أين قرأ هذا الإسم الغريب من قبل ؟ أكان زميلاً في المدرسة ؟ أكان صديقاً لأبيه أم تقدّم لأخته ؟ .. وبدأ يفكر في الإسم الآخر .
- ’’ شابان ظريفان . ‘‘
جاء الصوت من خلفه ، فاستدار ليرى صاحبة المنزل تدخل حاملة صينية فضية في يدها، قال لها:
- ’’ معذرة .. لكن هذه الأسماء تبدو مألوفة.‘‘
- ’’أحقاً؟ كم أن هذا مثير !‘‘
- ’’ أنا متأكد أنني سمعتها من قبل ، ربما كان ذلك في الصحف. لم يكونوا من المشاهير ، ليسوا لاعبي كرة قدم أو شيء كهذا .. ‘‘
وضعت الصينية ، وقالت :
- ’’ مشاهير؟.. لا .. لا .. لكنهم كانوا شديدي اللطف و الوسامة .. أؤكد لك هذا. كان هذان الشابان طويلي القامة ، وسيمين ، مثلك. ‘‘
أشار إلى السجل ، وقال لها :
- ’’ انظري ! إن آخر تاريخ هو منذ عامين. ‘‘
- ’’ أهو كذلك ؟ .. يا عزيزي ! ‘‘ وهزّت رأسها ’’ لم أفكر في هذا ، كم يمر الزمن سريعاً ! .. أليس كذلك يا مستر ( ويلكنز ) ؟ ‘‘
- ’’ ( ويفر ) .. ( ويفر ) ‘‘
- ’’ آه .. بالفعل ! ‘‘
وجلست على الأريكة ، وأضافت :
- ’’ كم أن هذا سخيف مني ، أعتذر. إن الكلام يدخل من أذن ليخرج من أخرى.‘‘
قال لها :
- ’’ ألا تفهمين كم أن هذا مذهل ؟ أتذكر هذين الإسمين بشكل منفصل ، لكنهما مرتبطان في ذاكرتي بشكل ما ؛ كأنهما اشتهرا بنفس الشيء. هل تفهمين ما أريده ؟ مثل ( تشرتشل ) و ( روزفلت ). ‘‘
قالت :
- ’’ كم أن هذا مسلّ ! و الآن تعال جواري لأقدم لك قدح شاي ، وبسكويتة زنجبيل قبل أن تنام. ‘‘
وقف جوار البيانو يرمقها وهي تعدّ الأقداح و الأطباق. كانت لها يدان سريعتا الحركة وأنامل حمراء. قال لها :
- ’’ لقد قرأت هذين الإسمين في الصحف ، أنا واثق من هذا ، و لسوف أتذكر بعد ثانية. ‘‘
لاشيء يضايق أكثر من الذكرى التي تقبع هنالك خارج أسوار ذاكرتك ؛ لكنه لم يقبل الإستسلام ، وقال لها :
- ’’ لحظة ، انتظري لحظة .. ألم يكن تلميذا في مدرسة ريفية .. ذلك الـ ( مولهولاند ) ، ثم فجأة .. ‘‘
- ’’ هل لك في سكّر ؟ ‘‘
- ’’ كان تلميذا في ( إيتون ) ثم فجأة .. ‘‘
- ’’ خطأ .. لم يكن تلميذاً حين جاء لي ، كان طالباً في ( كمبردج ). هلمّ ، إن الشاي جاهز . ‘‘
و ابتسمت له تدعوه للجلوس، فاتجه ليجلس جوارها . و لنصف دقيقة راحا يرشفان الشاي دون كلمة ، لكن ( بيلي ) كان يعرف أنها تنظر له ؛ كانت عيناها على وجهه ترمقانه من فوق القدح، و من حين لآخر يشم رائحة عطرية معينة تفوح منها ، ربما كرائحة الجلد الجديد أو رائحة ردهات مستشفى.
قالت :
- ’’ مستر ( مولهولاند ) كان يحب الشاي ، لم أر من يحب الشاي مثله. ‘‘
قال لها :
- ’’ أخاله رحل منذ زمن طويل. ‘‘
رفعت حاجبيها ، و هتفت :
- ’’ لكنه لم يرحل يا عزيزي ! إنه هنا ، في الطابق الثالث ، كلاهما .‘‘
وضغطت على ركبته ، و تساءلت :
- ’’ كم عمرك يا عزيزي ؟ ‘‘
- ’’ سبعة عشر عاماً.‘‘
- ’’ هذا هو العمر المناسب. كان ( مولهولاند ) في مثل سنّك ، لكن أسنانه لم تكن بيضاء كأسنانك. أما مستر ( تمبل ) فكان في الثامنة و العشرين، لكني ما كنت لأخمن هذا ما لم يخبرني ؛ لم تكن ثمة لطخة واحدة في جلده ! ‘‘
- ’’ ماذا ؟! ‘‘
- ’’ كان جلده كجلد طفل. ‘‘
ساد الصمت ، التقط القدح فوضعه في الطبق ثم ظلّ يتأمل الغرفة و يعضّ شفته. قالت له :
- ’’ هذا الببغاء .. هل تعرف ؟ أنا من قام بتصبيره هكذا. ‘‘
- ’’ لقد خدعني تماماً حين رأيته من النافذة ، حسبته حيّاً. ‘‘
- ’’ للأسف ، لم يعد. ‘‘
- ’’ إن التصبير متقن بحق ؛ ولايبدو لي ميّتاً على الإطلاق. ‘‘
قالت في فخر :
- ’’ هل قابلت ( باسيل ) الصغير ؟ ‘‘
و أشارت إلى الكلب الـ ( داشهوند ) الراقد أمام النار ، و هنا تذكر ( بيلي ) أن الحيوان ظلّ راقداً طيلة الوقت. مدّ يده ولمس ظهره فوجده صلباً بارداً. أزاح الشعر فوجد أن جلده رمادي أسود جاف.
- ’’ رباه ! عمل رائع ! ‘‘
واستدار باحترام شديد إلى المرأة، فقالت :
- ’’ أنا أحنّط و أصبّر كل حيواناتي حين تموت. هل لك في مزيد من الشاي ؟ ‘‘
- ’’ لا .. شكراً. ‘‘
فالحقيقة أن الشاي كان له مذاق اللوز المرّ ، و لم يحبّه كثيراً.
- ’’ هل وقّعت في السجل ؟ ‘‘
- ’’ نعم. ‘‘
- ’’ حسن ؛ لأنه فيما بعد قد أنسى اسمك ؛ عندها سأعود للسجل و أتذكره. مازلت أفعل هذا مع مستر ( مولهولاند ) و مستر .. مستر .. ‘‘
قال لها :
- ’’ ( تمبل ) .. مستر ( تمبل ). معذرة على السؤال ؛ لكن ألم يات ضيوف آخرون هنا طيلة السنوات الثلاث الماضية ؟ ‘‘
رفعت قدحها و أمالت رأسها لليسار ، و نظرت له من طرف عينها ، و برقة ابتسمت و قالت :
- ’’ نعم يا عزيزي ، فقط أنت. ‘‘
:hart: ترجمة : د.أحمد خالد توفيق.:hart: