dot
31/05/2006, 16:12
"عن الألمانية"
يوم 10 سبتمبر:
حل الآن فصل الخريف ولن يعود الصيف، لن أراه أبداً، البحر ساكن وبلون الرماد ومطر ناعم حزين يتساقط.. صباح اليوم ودعت الصيف واستقبلت الخريف بحفاوة، إنه الخريف الأربعون من عمري وقد تكوّن والحق يقال ونما بإرادة صلبة ستوصلني إلى اليوم الذي أهمس بتأريخه لنفسي أحياناً ويغمرني شعور بالرهبة والخشوع..
يوم 12 سبتمبر:
قمت اليوم بنزهة مع صغيرتي "أسنسيون"، تمشينا قليلاً، وهي مرافقة جيدة، تظل صامتة وأحياناً فقط تفتح إلى الأعلى باتجاهي عينيها الكبيرتين المفعمتين بالحب، سرنا معاً على طريق الشاطئ باتجاه مرفأ "كرونس" لكننا عدنا في الوقت المناسب قبل أن نلتقي أكثر من شخص أو شخصين. وأفرحني من هنا منظر منزلي، وكم كنت موفقاً في اختيار موقع بنائه وهو يطل ببساطة ووقار من أعلى الهضبة التي بدت حشائشها كالحة مبتلة ودروبها رخوة ممعوطة، إلى البحر الباهت أمامها، وفي الطرف الخلفي تمر الساقية العذبة وراءها حقول مزروعة لا تثير اهتمامي الذي لا ينصب سوى على البحر.
يوم 15 سبتمبر:
هذا المنزل الوحيد فوق الهضبة المشرف على البحر والمغطى بسماء كالحة، يبدو كأسطورة كئيبة غامضة، تماماً كما أريده أن يكون في خريفي الأخير. لكني عندما قعدت بعد ظهر اليوم إلى نافذة غرفتي كان ثمة عربة أحضرت مؤونة الشتاء وساعد الكهل فرانس في إفراغها ونشأ ضجيج متعدد الأصوات، لا أستطيع أن أصف مدى انزعاجي منه، لقد ارتجفت لفرط الاستنكار وأصدرت أوامري بأن لا تجري عملية كهذه إلا في الصباح الباكر حينما أكون نائماً، وقال لي فرانس الكهل: "نحن بأمرك سيدي الكونت" لكنه رمقني من عينيه الملتهبتين بنظرات خوف وارتياب، وكيف كان سيقدر على فهمي؟ إنه لا يعرف المسألة كلها، وأنني لا أريد أن تغشى أيامي الأخيرة رتابة الحياة اليومية المملة كما أخشى أن يتصف الموت ببعض السوقية أو العامية.. يجب على المسألة أن تقع عليّ بطريقة غير معتادة بل ونادرة، في يوم عظيم مقطب الجبين ومملوء بالألغاز، إنه يوم الثاني عشر من أوكتوبر..
يوم 18 سبتمبر:
لم أخرج الأيام الماضية من المنزل، بل قضيت معظم الوقت على كرسي الاسترخاء ولم أستطع القراءة كثيراً لأن أعصابي صارت أثناءها تعذبني. وهكذا بقيت مسترخياً بسكون أنظر إلى خيوط المطر المتباطئة بعناد. وغالباً ما جاءت "أسنسيون" إليّ، ومرة أحضرت لي ورداً، هي بعض أعواد نحيلة مبتلة وجدتها على الشاطئ.. وعندما قبّلت الطفلة شاكراً أجهشتُ بالبكاء، لأنني كنت "مريضاً" برأيها، آه كم أصابني حبها السوداوي بألم لا يوصف..
يوم 21 سبتمبر:
قعدت طويلاً في غرفتي إلى النافذة وقعدت "أسنسيون" على ركبتي ونظرنا معاً إلى البحر الرمادي البعيد وقد خيم خلفنا على الغرفة الواسعة ببابها الأبيض ومفروشاتها ذات المساند الحادة، سكون عميق وبينما كنت أمسح ببطء شعر الطفلة الأسود الناعم المتدلي على كتفيها البضتين، رحت أعود بذاكرتي إلى حياتي المضطربة المشوشة، تذكرت شبابي الذي كان هادئاً وحصيناً، ترحالي عبر العالم كله، والفترة المضيئة القصيرة السعيدة في حياتي.. هل تذكر تلك المخلوقة الرائعة المتوهجة بالرقة تحت سماء لشبونة؟ لقد مرت الآن اثنتا عشرة سنة على اليوم الذي منحتك فيه هذه الطفلة وماتت وهي تلامس عنقك بذراعها النحيلة.
أخذت أسنسيون الصغيرة عيني أمها الداكنتين وقد أصبحتا الآن مرهقتين من التأمل، لكنها أخذت قبل كل شيء فمها الناعم الطري حتى اللانهاية رغم قساوة شكله في وجهها، إن أجمل ما فيه هو الصمت والابتسام المكبوت..
آه يا صغيرتي أسنسيون لو عرفت أنني مرغم على أن أغادرك. هل بكيت لأنني مريض؟ ولكن ما علاقة ذلك بالمسألة كلها؟ باليوم الثاني عشر من أوكتوبر؟
يوم 27 سبتمبر:
وصل الطبيب الكهل "غود هوس" من المدينة (كرون سهافن) بعربة سارت بمحاذاة الساقية، وتناول فطوره الثاني معي ومع أسنسيون، قال لي بعد أن التهم نصف فروج، من الضروري يا سيدي الكونت أن تمارس الكثير من الحركة في الهواء النقي، لا قراءة ولا تفكير ولا تأمل، لأنني أظنك تحولت إلى فيلسوف ها ها..".
قلصت كتفي وشكرته على ما بذل من جهد.. ولا سيما أنه زود صغيرتي أسنسيون أيضاً ببعض النصائح وهو يرمقها بابتسامة مفتعلة مرتبكة. وقد زاد لي عيار دواء البروم الذي أتناوله بخبث أستطيع الآن أن أنام فترة أطول من السابق..
يوم 30 سبتمبر:
آخر أيام سبتمبر، لم يبق الكثير من الوقت. الآن لم يبق وقت كثير.. إنها الساعة الثالثة بعد الظهر. وقد أنهيت للتو حساب الدقائق المتبقية حتى بداية اليوم الثاني عشر من أكتوبر، إنها /8460/ دقيقة. لم أستطع النوم هذه الليلة، فقد هبت ريح عاصفة إلى جانب صخب خرير البحر والأمطار..
استلقيت في سريري وتركت الوقت يمر جانبي.. هل أفكر أو أتأمل؟ لا. الدكتور "غود هوس" يعدني فيلسوفاً.. لكن رأسي ضعيف ولا أقوى على التفكير إلا بالموت.. بالموت..
يوم 2 أكتوبر:
أنا منفعل من أعماقي ويخالط حركاتي شعور بالانتصار، وأحياناً عندما أفكر بذلك وينظر إليّ الآخرون بخوف وتوجس أرى أنهم يعدّونني مخبولاً، وقد امتحنت نفسي بنفسي وبكثير من الشك، ولكن لا. لست مخبولاً.
قرأت اليوم قصة القيصر فريدريش الذي تنبأ له البعض بأنه سوف يموت في مكان مزدهر بالعمران وهكذا تجنب المدن المزدهرة والازدهار كله، لكنه حل يوماً رغم حذره في مكان مزدهر ومات.. فلماذا مات؟
إن التنبؤ بحد ذاته أمر عديم الأهمية لكنه يصبح مؤثراً بقدر ما يمارس عليك من سلطة إذا نجح في ممارستها برهن بالدليل على صحته.. وتحول إلى واقع كيف؟ أليس التنبؤ الذي نشأ ذاتياً في داخلي ونما قوياً هو أكبر أهمية وقيمة من تنبؤ ربما يأتي من خارجي؟ المعرفة الراسخة بموعد موت إنسان أكثر إثارة للشك من معرفة المكان؟ إنها علاقة أبدية بين الإنسان والموت. أنت تستطيع بإرادتك وباقتناعك امتصاص الموت من فضائه الكوني. تستطيع اجتذابه إليك فيأتيك في الساعة التي تعتقد أنها النهاية..
يوم 3 أكتوبر:
في أحيان كثيرة تمتد أفكاري وتتوسع كمياه عكرة تبدو بلا نهاية، لأنها مغطاة تماماً بالضباب، وعندها يلوح لي شيء يشبه العلاقة بين الأمور وأعتقد أنني أتعرف على عدمية المفاهيم، ما هو الانتحار؟ الموت طوعاً؟ ولكن لا أحد يموت رغماً عنه، إن التخلي عن الحياة والارتماء في حضن الموت حدث يجري، ودون استثناء، بسبب الضعف. وهذا الضعف هو دائماً نتيجة علة في الجسم أو في النفس أو في كليهما معاً، إذ لا يموت الإنسان قبل أن يوافق على موته ويرضى به. فهل أنا موافق وراض؟ يجب أن أكون كذلك، وأعتقد أنني سأصاب بالجنون إذا لم أمت يوم الثاني عشر من أكتوبر..
يوم 5 أكتوبر:
لا أتوقف عن التفكير به ولا يشغلني شيء آخر غيره، أتساءل فقط متى ومن أين جاءني العلم بهذا الموعد ولا أستطيع أن أجيب إلا بأنني عرفت وأنا ابن تسع عشرة سنة أو عشرين أن الموت سوف يأتيني في العام الأربعين من عمري، وأنني في يوم من الأيام ألححت بمعرفة اليوم الذي سيحدث فيه فعلمت بالموعد أيضاً.. وهاهو ذا يقترب ويقترب بحيث أعتقد أنني أحس بأنفاس الموت الباردة تلفحني.
يوم 7 أكتوبر:
ازدادت الريح قوة والبحر اندفاعاً كالغليان، وراح المطر يدبك على السطح. لم أنم طوال الليل، نزلت مرتدياً معطفي المطري وتمشيت على الشاطئ ثم قعدت فوق حجر كبير في الظلام وتحت وابل المطر مديراً ظهري للهضبة والمنزل المهيب الذي نامت فيه أسنسيون، ابنتي الصغيرة، والبحر أمامي يدحرج لفائف من الزبد العكر تصل حتى قدمي، قضيت الليل كله أجيل النظر هكذا وبدا لي أنني أرى الموت أو ما بعد الموت. هناك في الظلمة اللانهائية التي تفور بكآبة ترى هل سيبقى مني هاجس واحد على قيد الحياة فيسبح عالياً ويصغي أبداً إلى هذا الفوران العجيب؟
يوم 8 أكتوبر:
أريد أن أشكر الموت عندما يصل، إذ سيتحقق ما أنتظره منه قبل الأوان.. بقي ثلاثة أيام خريفية قصيرة وسيقضى الأمر، كم أتحرق شوقاً إلى اللحظة الأخيرة، آخر لحظة.. ألن تكون لحظة الفرحة والشعور بحلاوة لا توصف؟ لحظة اللذة القصوى؟.. ثلاثة أيام خريفية قصيرة ويدخل الموت إليّ هنا إلى غرفتي، ترى كيف سيتصرف؟ هل سيعاملني كما لو كنت دودة؟ هل سيمسك برقبتي ويخنقني؟ أم سوف يدخل يده مباشرة إلى دماغي؟ أتصوره على كل حال عظيماً وجميلاً وذا جلالة وهيبة.
يوم 9 أكتوبر:
قلت لاسنسيون، وكانت قاعدة على ركبتي: "ماذا لو تركتك قريباً بطريقة ما ورحلت؟ هل ستكونين حزينة جداً فأحنت برأسها الصغير إلى صدري وبكت بمرارة؟ أحسست برقبتي تتشنج لشدة الألم. أصابتني حمى وصار رأسي ساخناً جداً وأنا أرتجف لشدة البرد.
يوم 10 أكتوبر:
كان عندي، هذه الليلة، عندي هنا.. لم أره ولم أسمعه بل تكلمت معه مباشرة، قد يدعو ذلك للسخرية لكنه تصرف كما لو كان طبيب أسنان قال:
-"الأفضل أن نحلها على الفور".. أما أنا فرفضت ودافعت عن نفسي واستطعت أن أبعده عني بكلمات مقتضبة..
-"الأفضل أن نحلها على الفور؟" كيف كان وقع هذه الكلمات عليّ؟ دخلت فيّ عبر اللب ونخاع العظام ولكن بموضوعية ورتابة وعمومية، لم أعرف من قبل شعوراً بالخيبة أشد برودة وأكثر ازدراء.
يوم 11 أكتوبر:
هل أفهمها؟ صدقوني أنني أفهمها..
كنت قبل ساعة ونصف قاعداً في غرفتي فجاء فرانس الكهل ودخل إليّ وهو يرتجف ويتنهد بحسرة.
-"الآنسة الصغيرة" ثم صرخ فجأة: -"الطفلة.. تعال سيدي وأسرع" وأسرعت إليها.. لم أبك لكن رذاذاً شديد البرودة هزني.. كانت مستلقية في سريرها الصغير وقد أحاط شعرها الأسود بوجهها الشاحب المحزن ركعت أمامها على ركبتي ولم أفعل أي شيء ولم أفكر بأي شيء حتى وصل الدكتور غوتهوس قال وهو يخفض رأسه وكأنه لم يفاجأ بشيء:
-"إنها سكتة قلبية" وتصرف ذلك المنافق الأبله كما لو كان يتوقع ما حدث. أما أنا فهل فهمته؟ آه.. عندما بقيت معها وحدي وعلا خرير مياه البحر والمطر وصرير الريح في المدخنة، ضربت بقبضتي على الطاولة، فقد توضحت لي المسألة بجلاء في لحظة واحدة. لقد مكثت طيلة عشرين سنة استجر الموت إلي في هذا اليوم بالذات الذي سيبدأ بعد ساعة واحدة فقط. وثمة في داخلي، في أعماقي، شيء يعلم خفية بأنني لن أرحل عن هذه الطفلة وأتركها ولن أستطيع أن أموت في منتصف هذه الليلة كما كان يجب عليّ أن أفعل بل كان علي أن أطرد الموت فيعود إلى حيث جاء إذا هو جاء. لكنه أتى إلى الطفلة أولاً، وفعل ذلك إطاعة لي وتنفيذاً لنبوءتي واعتقادي.. فهل سببت بنفسي وصوله إليك يا صغيرتي..؟ هل قتلتك؟ آه.. ليست هذه سوى كلمات فظة غثة تقال عن أشياء عميقة غامضة وراقية.. الوداع.. الوداع.. ربما وجدت هناك في الخارج فكرة أو هاجساً منك.. لأن عقرب الساعة يدور مقترباً بسرعة والمصباح الذي يضيء وجهك الصغير الحلو سوف ينطفئ بعد قليل.. هاأنا ذا أمسك يدك الصغيرة الباردة وأنتظر.. إنه سيصل إليّ حالاً وسوف أطرق برأسي وأغلق عيني وأنا أسمعه يقول:
-"الأفضل أن نحلها على الفور..".
يوم 10 سبتمبر:
حل الآن فصل الخريف ولن يعود الصيف، لن أراه أبداً، البحر ساكن وبلون الرماد ومطر ناعم حزين يتساقط.. صباح اليوم ودعت الصيف واستقبلت الخريف بحفاوة، إنه الخريف الأربعون من عمري وقد تكوّن والحق يقال ونما بإرادة صلبة ستوصلني إلى اليوم الذي أهمس بتأريخه لنفسي أحياناً ويغمرني شعور بالرهبة والخشوع..
يوم 12 سبتمبر:
قمت اليوم بنزهة مع صغيرتي "أسنسيون"، تمشينا قليلاً، وهي مرافقة جيدة، تظل صامتة وأحياناً فقط تفتح إلى الأعلى باتجاهي عينيها الكبيرتين المفعمتين بالحب، سرنا معاً على طريق الشاطئ باتجاه مرفأ "كرونس" لكننا عدنا في الوقت المناسب قبل أن نلتقي أكثر من شخص أو شخصين. وأفرحني من هنا منظر منزلي، وكم كنت موفقاً في اختيار موقع بنائه وهو يطل ببساطة ووقار من أعلى الهضبة التي بدت حشائشها كالحة مبتلة ودروبها رخوة ممعوطة، إلى البحر الباهت أمامها، وفي الطرف الخلفي تمر الساقية العذبة وراءها حقول مزروعة لا تثير اهتمامي الذي لا ينصب سوى على البحر.
يوم 15 سبتمبر:
هذا المنزل الوحيد فوق الهضبة المشرف على البحر والمغطى بسماء كالحة، يبدو كأسطورة كئيبة غامضة، تماماً كما أريده أن يكون في خريفي الأخير. لكني عندما قعدت بعد ظهر اليوم إلى نافذة غرفتي كان ثمة عربة أحضرت مؤونة الشتاء وساعد الكهل فرانس في إفراغها ونشأ ضجيج متعدد الأصوات، لا أستطيع أن أصف مدى انزعاجي منه، لقد ارتجفت لفرط الاستنكار وأصدرت أوامري بأن لا تجري عملية كهذه إلا في الصباح الباكر حينما أكون نائماً، وقال لي فرانس الكهل: "نحن بأمرك سيدي الكونت" لكنه رمقني من عينيه الملتهبتين بنظرات خوف وارتياب، وكيف كان سيقدر على فهمي؟ إنه لا يعرف المسألة كلها، وأنني لا أريد أن تغشى أيامي الأخيرة رتابة الحياة اليومية المملة كما أخشى أن يتصف الموت ببعض السوقية أو العامية.. يجب على المسألة أن تقع عليّ بطريقة غير معتادة بل ونادرة، في يوم عظيم مقطب الجبين ومملوء بالألغاز، إنه يوم الثاني عشر من أوكتوبر..
يوم 18 سبتمبر:
لم أخرج الأيام الماضية من المنزل، بل قضيت معظم الوقت على كرسي الاسترخاء ولم أستطع القراءة كثيراً لأن أعصابي صارت أثناءها تعذبني. وهكذا بقيت مسترخياً بسكون أنظر إلى خيوط المطر المتباطئة بعناد. وغالباً ما جاءت "أسنسيون" إليّ، ومرة أحضرت لي ورداً، هي بعض أعواد نحيلة مبتلة وجدتها على الشاطئ.. وعندما قبّلت الطفلة شاكراً أجهشتُ بالبكاء، لأنني كنت "مريضاً" برأيها، آه كم أصابني حبها السوداوي بألم لا يوصف..
يوم 21 سبتمبر:
قعدت طويلاً في غرفتي إلى النافذة وقعدت "أسنسيون" على ركبتي ونظرنا معاً إلى البحر الرمادي البعيد وقد خيم خلفنا على الغرفة الواسعة ببابها الأبيض ومفروشاتها ذات المساند الحادة، سكون عميق وبينما كنت أمسح ببطء شعر الطفلة الأسود الناعم المتدلي على كتفيها البضتين، رحت أعود بذاكرتي إلى حياتي المضطربة المشوشة، تذكرت شبابي الذي كان هادئاً وحصيناً، ترحالي عبر العالم كله، والفترة المضيئة القصيرة السعيدة في حياتي.. هل تذكر تلك المخلوقة الرائعة المتوهجة بالرقة تحت سماء لشبونة؟ لقد مرت الآن اثنتا عشرة سنة على اليوم الذي منحتك فيه هذه الطفلة وماتت وهي تلامس عنقك بذراعها النحيلة.
أخذت أسنسيون الصغيرة عيني أمها الداكنتين وقد أصبحتا الآن مرهقتين من التأمل، لكنها أخذت قبل كل شيء فمها الناعم الطري حتى اللانهاية رغم قساوة شكله في وجهها، إن أجمل ما فيه هو الصمت والابتسام المكبوت..
آه يا صغيرتي أسنسيون لو عرفت أنني مرغم على أن أغادرك. هل بكيت لأنني مريض؟ ولكن ما علاقة ذلك بالمسألة كلها؟ باليوم الثاني عشر من أوكتوبر؟
يوم 27 سبتمبر:
وصل الطبيب الكهل "غود هوس" من المدينة (كرون سهافن) بعربة سارت بمحاذاة الساقية، وتناول فطوره الثاني معي ومع أسنسيون، قال لي بعد أن التهم نصف فروج، من الضروري يا سيدي الكونت أن تمارس الكثير من الحركة في الهواء النقي، لا قراءة ولا تفكير ولا تأمل، لأنني أظنك تحولت إلى فيلسوف ها ها..".
قلصت كتفي وشكرته على ما بذل من جهد.. ولا سيما أنه زود صغيرتي أسنسيون أيضاً ببعض النصائح وهو يرمقها بابتسامة مفتعلة مرتبكة. وقد زاد لي عيار دواء البروم الذي أتناوله بخبث أستطيع الآن أن أنام فترة أطول من السابق..
يوم 30 سبتمبر:
آخر أيام سبتمبر، لم يبق الكثير من الوقت. الآن لم يبق وقت كثير.. إنها الساعة الثالثة بعد الظهر. وقد أنهيت للتو حساب الدقائق المتبقية حتى بداية اليوم الثاني عشر من أكتوبر، إنها /8460/ دقيقة. لم أستطع النوم هذه الليلة، فقد هبت ريح عاصفة إلى جانب صخب خرير البحر والأمطار..
استلقيت في سريري وتركت الوقت يمر جانبي.. هل أفكر أو أتأمل؟ لا. الدكتور "غود هوس" يعدني فيلسوفاً.. لكن رأسي ضعيف ولا أقوى على التفكير إلا بالموت.. بالموت..
يوم 2 أكتوبر:
أنا منفعل من أعماقي ويخالط حركاتي شعور بالانتصار، وأحياناً عندما أفكر بذلك وينظر إليّ الآخرون بخوف وتوجس أرى أنهم يعدّونني مخبولاً، وقد امتحنت نفسي بنفسي وبكثير من الشك، ولكن لا. لست مخبولاً.
قرأت اليوم قصة القيصر فريدريش الذي تنبأ له البعض بأنه سوف يموت في مكان مزدهر بالعمران وهكذا تجنب المدن المزدهرة والازدهار كله، لكنه حل يوماً رغم حذره في مكان مزدهر ومات.. فلماذا مات؟
إن التنبؤ بحد ذاته أمر عديم الأهمية لكنه يصبح مؤثراً بقدر ما يمارس عليك من سلطة إذا نجح في ممارستها برهن بالدليل على صحته.. وتحول إلى واقع كيف؟ أليس التنبؤ الذي نشأ ذاتياً في داخلي ونما قوياً هو أكبر أهمية وقيمة من تنبؤ ربما يأتي من خارجي؟ المعرفة الراسخة بموعد موت إنسان أكثر إثارة للشك من معرفة المكان؟ إنها علاقة أبدية بين الإنسان والموت. أنت تستطيع بإرادتك وباقتناعك امتصاص الموت من فضائه الكوني. تستطيع اجتذابه إليك فيأتيك في الساعة التي تعتقد أنها النهاية..
يوم 3 أكتوبر:
في أحيان كثيرة تمتد أفكاري وتتوسع كمياه عكرة تبدو بلا نهاية، لأنها مغطاة تماماً بالضباب، وعندها يلوح لي شيء يشبه العلاقة بين الأمور وأعتقد أنني أتعرف على عدمية المفاهيم، ما هو الانتحار؟ الموت طوعاً؟ ولكن لا أحد يموت رغماً عنه، إن التخلي عن الحياة والارتماء في حضن الموت حدث يجري، ودون استثناء، بسبب الضعف. وهذا الضعف هو دائماً نتيجة علة في الجسم أو في النفس أو في كليهما معاً، إذ لا يموت الإنسان قبل أن يوافق على موته ويرضى به. فهل أنا موافق وراض؟ يجب أن أكون كذلك، وأعتقد أنني سأصاب بالجنون إذا لم أمت يوم الثاني عشر من أكتوبر..
يوم 5 أكتوبر:
لا أتوقف عن التفكير به ولا يشغلني شيء آخر غيره، أتساءل فقط متى ومن أين جاءني العلم بهذا الموعد ولا أستطيع أن أجيب إلا بأنني عرفت وأنا ابن تسع عشرة سنة أو عشرين أن الموت سوف يأتيني في العام الأربعين من عمري، وأنني في يوم من الأيام ألححت بمعرفة اليوم الذي سيحدث فيه فعلمت بالموعد أيضاً.. وهاهو ذا يقترب ويقترب بحيث أعتقد أنني أحس بأنفاس الموت الباردة تلفحني.
يوم 7 أكتوبر:
ازدادت الريح قوة والبحر اندفاعاً كالغليان، وراح المطر يدبك على السطح. لم أنم طوال الليل، نزلت مرتدياً معطفي المطري وتمشيت على الشاطئ ثم قعدت فوق حجر كبير في الظلام وتحت وابل المطر مديراً ظهري للهضبة والمنزل المهيب الذي نامت فيه أسنسيون، ابنتي الصغيرة، والبحر أمامي يدحرج لفائف من الزبد العكر تصل حتى قدمي، قضيت الليل كله أجيل النظر هكذا وبدا لي أنني أرى الموت أو ما بعد الموت. هناك في الظلمة اللانهائية التي تفور بكآبة ترى هل سيبقى مني هاجس واحد على قيد الحياة فيسبح عالياً ويصغي أبداً إلى هذا الفوران العجيب؟
يوم 8 أكتوبر:
أريد أن أشكر الموت عندما يصل، إذ سيتحقق ما أنتظره منه قبل الأوان.. بقي ثلاثة أيام خريفية قصيرة وسيقضى الأمر، كم أتحرق شوقاً إلى اللحظة الأخيرة، آخر لحظة.. ألن تكون لحظة الفرحة والشعور بحلاوة لا توصف؟ لحظة اللذة القصوى؟.. ثلاثة أيام خريفية قصيرة ويدخل الموت إليّ هنا إلى غرفتي، ترى كيف سيتصرف؟ هل سيعاملني كما لو كنت دودة؟ هل سيمسك برقبتي ويخنقني؟ أم سوف يدخل يده مباشرة إلى دماغي؟ أتصوره على كل حال عظيماً وجميلاً وذا جلالة وهيبة.
يوم 9 أكتوبر:
قلت لاسنسيون، وكانت قاعدة على ركبتي: "ماذا لو تركتك قريباً بطريقة ما ورحلت؟ هل ستكونين حزينة جداً فأحنت برأسها الصغير إلى صدري وبكت بمرارة؟ أحسست برقبتي تتشنج لشدة الألم. أصابتني حمى وصار رأسي ساخناً جداً وأنا أرتجف لشدة البرد.
يوم 10 أكتوبر:
كان عندي، هذه الليلة، عندي هنا.. لم أره ولم أسمعه بل تكلمت معه مباشرة، قد يدعو ذلك للسخرية لكنه تصرف كما لو كان طبيب أسنان قال:
-"الأفضل أن نحلها على الفور".. أما أنا فرفضت ودافعت عن نفسي واستطعت أن أبعده عني بكلمات مقتضبة..
-"الأفضل أن نحلها على الفور؟" كيف كان وقع هذه الكلمات عليّ؟ دخلت فيّ عبر اللب ونخاع العظام ولكن بموضوعية ورتابة وعمومية، لم أعرف من قبل شعوراً بالخيبة أشد برودة وأكثر ازدراء.
يوم 11 أكتوبر:
هل أفهمها؟ صدقوني أنني أفهمها..
كنت قبل ساعة ونصف قاعداً في غرفتي فجاء فرانس الكهل ودخل إليّ وهو يرتجف ويتنهد بحسرة.
-"الآنسة الصغيرة" ثم صرخ فجأة: -"الطفلة.. تعال سيدي وأسرع" وأسرعت إليها.. لم أبك لكن رذاذاً شديد البرودة هزني.. كانت مستلقية في سريرها الصغير وقد أحاط شعرها الأسود بوجهها الشاحب المحزن ركعت أمامها على ركبتي ولم أفعل أي شيء ولم أفكر بأي شيء حتى وصل الدكتور غوتهوس قال وهو يخفض رأسه وكأنه لم يفاجأ بشيء:
-"إنها سكتة قلبية" وتصرف ذلك المنافق الأبله كما لو كان يتوقع ما حدث. أما أنا فهل فهمته؟ آه.. عندما بقيت معها وحدي وعلا خرير مياه البحر والمطر وصرير الريح في المدخنة، ضربت بقبضتي على الطاولة، فقد توضحت لي المسألة بجلاء في لحظة واحدة. لقد مكثت طيلة عشرين سنة استجر الموت إلي في هذا اليوم بالذات الذي سيبدأ بعد ساعة واحدة فقط. وثمة في داخلي، في أعماقي، شيء يعلم خفية بأنني لن أرحل عن هذه الطفلة وأتركها ولن أستطيع أن أموت في منتصف هذه الليلة كما كان يجب عليّ أن أفعل بل كان علي أن أطرد الموت فيعود إلى حيث جاء إذا هو جاء. لكنه أتى إلى الطفلة أولاً، وفعل ذلك إطاعة لي وتنفيذاً لنبوءتي واعتقادي.. فهل سببت بنفسي وصوله إليك يا صغيرتي..؟ هل قتلتك؟ آه.. ليست هذه سوى كلمات فظة غثة تقال عن أشياء عميقة غامضة وراقية.. الوداع.. الوداع.. ربما وجدت هناك في الخارج فكرة أو هاجساً منك.. لأن عقرب الساعة يدور مقترباً بسرعة والمصباح الذي يضيء وجهك الصغير الحلو سوف ينطفئ بعد قليل.. هاأنا ذا أمسك يدك الصغيرة الباردة وأنتظر.. إنه سيصل إليّ حالاً وسوف أطرق برأسي وأغلق عيني وأنا أسمعه يقول:
-"الأفضل أن نحلها على الفور..".