-
دخول

عرض كامل الموضوع : الحوار المبتور عن المرأة والدين والسياسة:د. نوال السعدواي


حسون
20/03/2005, 14:13
تلقيتُ دعوة لاجراء حوار في إحدى القنوات التلفزيونية. قال لي مسؤول البرنامج: "ستدير الحوار معك امرأة غاية في الذكاء, قرأتْ كل كتبك, وأعدتْ نفسها لحوار شجاع جداً وصريح جداً, وسيذاع الحوار كاملاً من دون حذف أو رقابة من أي نوع".

ولأن الإنسان عندي بريء حتى تثبت إدانته, ولأنني لم أتخلص من البراءة الطفولية على رغم تجاوزي السبعين من العمر, صدقت كلام الرجل.

ذهبت في الموعد المحدد فلم أجد أحداً, ثم بدأ عمال النظافة يظهرون, من بعدهم العاملون في الدرجات الادنى, ثم العاملون الأعلى قليلاً, حتى ظهر مسؤول البرنامج والمخرج.

أخيراً جداً ظهرت السيدة المذيعة التي ستدير الحوار معي. لم تعتذر عن التأخير (فهذه عادة الحكام والنجوم) تتحرك مثل الاميرة أو السيدة الأولى, توزع الابتسامات على جمهور العاملين والعاملات, تحرك رأسها بشعرها الاصفر المصبوغ هنا وهناك, "تبربش" برموشها الصناعية الغزيرة مثل عروس المولد, يختفي وجهها الحقيقي تحت حجاب كثيف من المساحيق والألوان وظلال الجفون وخطوط الحواجب والعيون, أحمر الشفاه يتجاوز حدود الشفتين ليزيد حجمهما ضعفاً, الحلق الضخم يتدلى من اذنيها, الثوب اللامع الضاغط على صدرها يكشف عن بداية الشق العميق بين النهدين.

قلت لنفسي, أحياناً لا يتعارض ذكاء المرأة أو الرجل مع الشكل الخارجي الذي ينم عن الغباء, وبقيت في مقعدي أتحلى بالهدوء والصبر الجميل.

كان الاستديو معداً كي يكون مقعد المذيعة هو مركز الكون, ومن سواها في الاطراف, بمن فيهم الضيفة محور الحوار, التي نعتوها بالاستاذة الدكتورة المفكرة العظيمة... الخ, ثم تسليط الاضواء على وجه المذيعة حتى يبدو مضيئاً متألقاً من كل الزوايا, وكذلك ابراز المفاتن واخفاء عيوب الأنف والفكين.

بدأت المذيعة تسألني بجرأة منقطعة النظير, وشهقة انثوية ناعمة: يا ترى أنت مستعدة لحوار شجاع جداً وصريح جداً؟

إلا أن هذه الجرأة المفتعلة سرعان ما تساقطت أثناء الحوار, مع تساقط حبات العرق على وجهها, أدركت أنها في مأزق, ربما لعجزها عن مواصلة الحوار, أو لأن العرق أغرق وجهها, وذابت المساحيق والألوان الحمر والبيض والظلال الزرق على الجفون, والكحل ايضاً ساح بلون أسود باهت على الألوان الأخرى.

وأشار المخرج بيده لإيقاف التصوير, أخذنا استراحة بضع دقائق حتى أعادت المذيعة الى الماكياج ما افسده الحوار.

بعد أسبوع او أكثر عُرض البرنامج على الشاشة, بعد أن امتدت يد الرقيب بالمقص, باترة كلّ الاجزاء التي تحدثت فيها عن التناقضات في حياتنا, خصوصاً في ما يتعلق بالمرأة والدين والسياسة. وأهم ما بُتر من الحوار هو الجزء الخاص بالمذيعة نفسها, كانت تؤكد لي أن حجاب المرأة فرضٌ في القرآن, وأحد أركان الإسلام مثل الصلاة والصوم والحج. أدهشتني حماستها لتحجيب النساء على رغم أنها غير محجبة, وسألتها لماذا لا ترتدين إذاً الحجاب؟

تلعثمت لحظة وترددت, مسحت حبات العرق بسرعة وخفة بمنديل كلينكس, عثرت على الجواب اخيراً, فتنفست الصعداء, كغريق يطل برأسه من تحت الماء وقالت: الله سبحانه وتعالى لم يُرد لي بعد أن أتحجب, حين يريد الله لي أن أتحجب سأتحجب على الفور, الإنسان مُسير وخاضع لإرادة الله!.

وقلت لها: بهذا المنطق يا سيدتي يمكن إعفاؤك من مسؤولية أعمالك كلها, بل يمكن إعفاء أي إنسان من مسؤوليته. مثلاً يمكن إعفاء جورج بوش وآرييل شارون من جرائم القتل في العراق وفلسطين, بدعوى أن الله أراد لهما أن يقتلا الشعبين العراقي والفلسطيني. وحين يريد الله لهما أن يكفا عن القتل فسيكفان. وأيضاً يمكن إعفاء أي حاكم عربي من مسؤوليته, بدعوى أن إرادة الله تحكم كل شيء, فالله يريد لنا الهزيمة, ويريد لنا التخلف والفقر والجهل وكل ما نعيشه من مشاكل, ومنها البطالة والهجرة الى بلاد أخرى... كل ذلك لأن الانسان مُسيّر وليست له إرادة! مع أن الإسلام في جوهره يؤكد على مسؤولية الإنسان, إذ أن كل إنسان مسؤول عن أعماله, ومعنى ذلك أن الإنسان له حرية اختيار ما يفعل, وبالتالي مسؤول عما يفعله. وتزيد المسؤولية بازدياد السلطة, فالحاكم أكثر مسؤولية من المحكوم, والقوي أكثر مسؤولية من الضعيف, والسيد اكثر مسؤولية من العبد, لكن هذا المبدأ الأخلاقي والسياسي المهم اندثر تحت عهود الاستبداد السياسي والديني, فانفصلت السلطة عن المسؤولية, وظهر شيء اسمه "الحصانة" لأصحاب السلطة والقوة من الحكام وأعضاء المجالس العليا (البرلمان - مجلس الشورى... الخ). وبهذه الحصانة يتم اعفاء ذوي النفوذ من مسؤولياتهم فلا تمكن محاسبتهم على أخطائهم, ويمكن محاسبة الضعفاء فقط وعقابهم وإن كانوا أبرياء. هذا هو جوهر الفكر العبودي السائد الذي يُعاقب الضحية ويُطلق سراح الجاني (لأنه الأقوى).

لم يُقدم جورج بوش وآرييل شارون للمحاكمة كمجرمي حرب, على رغم الدماء التي تغرق ايديهما, ولم يقدم أي حاكم عربي للمحاكمة كشريك للاستعمار القديم أو الجديد, وكشريك في الحرب العسكرية او الاقتصادية التي تسبب الموت والجوع للملايين في بلادنا.

بتر الرقيب كل هذا الجزء من كلامي, فظهرت المذيعة بعد أن اصلحت الماكياج في أبهى صورة, تلوك ما سبق ان قالته عن أن الحجاب فرض وواجب في الاسلام, ثم استعانت برجل دين (أو امراة دين) لتؤكد كلامها, وانتهى الحوار بآيات من القرآن الكريم, وصوت المذيعة يتردد عالياً وكأنها أم كلثوم, وأصبح وجهي خلف الكاميرا في الظل, بلون أسود يكاد يشبه وجه ابليس.

وسألت الأصدقاء والصديقات الذين شاهدوا البرنامج معي بعد عرضه, أليس من الأفضل أن نرفض المشاركة في هذه البرامج الزائفة؟

وقالوا جميعاً, لا! لا بد من المشاركة, لأن الحقيقة على رغم الزيف تظهر, وتكفي عبارة واحدة صادقة لكشف مئات بل آلاف العبارات الزائفة. ومهما بتر الرقيب من اجزاء فإن الجزء الذي ظهر يكفي, فنقطة الضوء الواحدة كافية في السماء المظلمة السوداء.

***

كنت في نيويورك حين شاهدت على الشاشة الحوار الذي دار بين جورج بوش وجون كيري خلال تشرين الاول (اكتوبر) الماضي. رأيت الاثنين يتباريان حول أيهما اكثر ايماناً بالله والمسيح والانجيل, أيهما اكثر قدرة على استعمارنا وقتلنا من أجل اميركا, "فليبارك الله اميركا, الله مع اميركا في كل خطوة, الله يريد لأميركا أن تنتصر ولهذا تنتصر".

بعد انتصار جورج بوش على خصمه في الانتخابات أعلن أن الله معه في حربه على الإرهاب الإسلامي. فالله يحارب معه ضد أعدائه, والنصر من عند الله (وليس بسبب الترسانة العسكرية النووية التي تملكها اميركا وإسرائيل).

هذه هي الفلسفة السياسية الجديدة للاستبداد الدولي والمحلي التي أصبحت سائدة في اجهزة الإعلام, تحت اسم الدين والإيمان. تنتقل جراثيم هذه الفلسفة بسرعة الالكترونيات من الشمال الى الجنوب ومن الغرب الى الشرق, تحت اسم العودة الى المسيحية او اليهودية او الإسلام, وتنخدع الشعوب بهذا الإعلام الموجه ومن ضمنها الشعب الأميركي, وقد نجح جورج بوش في الانتخابات من طريق الإعلام الموجه الخادع, إلا أنه نجح بنسبة 51 في المئة فقط, وليس بنسبة 98 في المئة (أو أكثر) كما يحدث في بلادنا.

إن الخداع الإعلامي في بلادنا اكثر سطوة, وأشد تأثيراً, لأن وسائل الاستبداد والحبس والقمع في بلادنا أشد ضراوة, ولأن معظم الشعوب العربية (رجالاً ونساء, ومتعلمين وغير متعلمين) لا تزال تعاني من الثالوث المزمن: الفقر, الجهل, المرض. ولا تزال المحظورات مفروضة على العقل العربي, خصوصاً في ما يتعلق بالثالوث المحرم: المرأة والدين والسياسة.





الحياة 2004/11/18

SABE
20/03/2005, 14:23
شكراًُ على المقال المنقول ...
أنا بتعجبني فلسفة لنوال السعداوي .. مع إنو يلي عنجد بيحضر مقابلات معها بيحس ببعض الأوقات إنو مجنونة , أو فيها تخلف أو شي من هاد القبيل .. بس الله الوكيل كتابتها شغلة ... (( مع بعض التحيز و التعصب للمرأة ضد الرجل ))
ومرة تاني شكراً أخ حسون ..