Fares
27/03/2004, 01:58
لماذا أبكي زوال شعبي
من خطبة (سياتل) زعيم هنود (دواميش)، وتعرف بخطبة الهندي الأحمر.. ألقاها في شعبه سنة 1854 في حفل استسلام تاريخي لإبرام المعاهدة التي أُجبر فيها على تسليم بلاده...
" زعيم واشنطن الكبير يقول لي، في رسالته، أنه يريد أن يشتري بلادنا. ويقول لي إنه صديقي، وأنه يكنّ لي مودة عميقة..
" ما ألطف زعيم واشنطن الكبير لاسيما انه في غنى عني وعن صداقتي!!
" لكننا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير، فنحن نعرف أننا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجيئنا الرجل الابيض مدججاً بسلاحه وينتزعها.
" كيف نستطيع أن نبيع ونشتري السماء ودفء الأرض؟؟
" ما اغرب هذه الأفكار!
" كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها؟
" كل شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي. كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الأحراج، كل حشرة تمتص ما تمتص أو تطن، كله مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة..
" النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الإنسان الأحمر.
" موتى الإنسان الأبيض ينسون مهدهم عندما يمشون بين النجوم. أما موتانا فأبداً لا ينسون الأرض الطيبة لأنها أم الإنسان الأحمر. نحن منها وهي منا..
" الأزهار العاطرة أخواتنا. الغزال والحصان والنسر العظيم كلهم إخوتنا. القمم الصخرية، ندى المروج، ودفء جسد الحصان، كلها من هذه الأسرة الواحدة.
" وإذن، فحين يقول زعيم واشنطن الكبير إنه يريد أن يشتري بلادنا، إنما يسألنا ما لا يطاق.
" زعيم واشنطن الكبير، يقول في رسالته إنه يريد أن يشتري بلادنا، وأنه سيهبنا مطرحاً يلمنا نعيش فيه سعداء، وإنه سيكون أباً لنا، وأننا سنكون أبناء له... لذا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير حول شراء بلادنا، علماً أنه عرض لا يطاق، لأن أرضنا مقدسة.
" هذه المياه التي تشع وهي تجري في السواقي والأنهار ليست مياهاً. إنها دماء أجدادنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أنها مقدسة. وقل لأبنائك أنها مقدسة. كل طيف يتراءى في صفاء مياه البحيرات ينبئك عن ذكريات شعبنا وتاريخه. وما تهمس به المياه هو صوت جدي. هذه الأنهار إخوتنا. إنها تطفئ ظمأنا، وتحمل مراكبنا، وتطعم أطفالنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر وعلّم أبناءك أنّ هذه الأنهار أخوتنا، وعليك أن تحبها كما تحب من ولدته أمك..
" ينهزم الإنسان الأحمر أمام زحف الإنسان الأبيض مثلما ينقشع ضباب الجبال أمام شمس الصباح. لكننا نرى رماد آباءنا مقدساً، وقبورهم بقيعاً مقدساً. وهكذا نرى الهضاب والأشجار، ونعتبر هذه البلاد قسمتنا، ونعرف أن الرجل الأبيض لا يفهمنا. تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة، لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى. إنه لا يرى الأرض أختاً له بل عدواً يقهره ثم يمضي. ها هو يهجر قبر أبيه ولا يعبأ، ويتركه وراء ظهره ولا يعبأ. إنه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ. هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية. وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلا سلعة تسرق أو تباع كالأغنام والخرز. إنّ جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها إلا صحراء..
" لا يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحل ويرحل شبراً من أرض دون ضجيج. لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع، أو لسماع طنين أجنحة الحشرات. ولكن، لربما أنني متوحش، لا أفهم.. إن الضوضاء تصم الأذنين. وماذا يتبقى للحياة حين يعجز الإنسان عن سماع صرخة طائر السبد، أو يصغي في أعماق الليل لنقاش الضفادع حول البركة.. لكن لربما أنني إنسان أحمر، لا أفهم...
" الهنود يفضلون صوت الريح العذب وهي ترمح فوق بركة المياه، ورائحة الريح المعشقة بمطر الظهيرة أو المعطرة برائحة الصنوبر..
" الهواء عند الإنسان الأحمر ثمين، فكل ما على الأرض يتنفس منه. الحيوانات والأشجار والبشر كلهم يتنفسون من نفس واحد. أما الإنسان الأبيض فيبدو أنه لا يعرف أنه يتنفس، وكأنه رجل مات منذ أيام. كل ما فيه بليد حتى النتانة. ولكن إذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أن الهواء ثمين عندنا، وأن روح الهواء تتغلغل في كل من يتنفس منه. إن الريح التي وهبت جدنا الأكبر أول شهيق هي التي استردت منه زفيره الأخير. إن على هذه الريح أن تمنح أبناءنا روح الحياة، فإذا بعناك بلادنا فاجعلها حراماً، وقدسها كأنها مقام يحج إليه الرجل الأبيض ويتذوق فيه الريح المحلاة بأزهار المروج.
" وإذن، فسننظر في عرض شرائك بلادنا، وسيكون لنا شرط واحد إذا قبلنا بيعها: أن يعامل الرجل الأبيض حيوانات الأرض كما يعامل أخوته.
" لربما أنني متوحش ولا أفهم، لكنني شاهدت ألف جاموس منتن في البراري قتلها الرجل الأبيض من قطار عابر. لعلي متوحش ولا أفهم كيف أنّ هذا الحصان الحديدي المدخن أعظم في عينيه من الجاموس الذي لا نقتله إلا لكي نبقى على قيد الحياة.
" ما الإنسان بدون هذه الحيوانات؟ إذا انقرضت فسوف يموت من توحش روحه. ما يصيب الحيوانات سرعان ما يصيب البشر، فكل الأشياء متمارجة.
" لا بد أن تعلم أبناءك أن أديم الأرض تحت أقدامهم من رفات أجدادنا. بذلك يحترمون الأرض. علمهم ما علمنا أولادنا أن هذه الأرض أمنا، وأن المكروه الذي يصيبها سوف يصيب أبناء الأرض. إذا بصق إنسان على الأرض فإنما يبصق على نفسه.
" هذا ما نعلم. أن الأرض لا تعود على الإنسان، بل هو الإنسان يعود إلى الأرض. هذا ما نعلم: كل الأشياء متمارجة كما الدم الذي يوحد العائلة. كل الأشياء متمارجة. ما يصيب الأرض سوف يصيب أبناء الأرض. الإنسان لا ينسج عنكبوت الحياة بل هو خيط في هذا النسيج. وما يفعله للنسيج يفعله بنفسه.
" لكننا سننظر في عرضك أن نذهب إلى المطرح المخصص لشعبي لنعيش وحدنا بسلام. لم يعد يهم أين نمضي بقية حياتنا. إنها أيام معدودة، بضع ساعات إضافية، بعض شتاءات.. ثم لن يكون هناك أطفال من هذه الشعوب العظيمة التي عاشت يوماً على هذه الأرض، وها هي ذي شراذم ضئيلة تتسكع في أعماق الأدغال. لن يكون هناك أطفال يبكون على قبور بشر كانوا ذات يوم مثلكم أقوياء طافحين بالآمال. ولكن لماذا أبكي زوال شعبي؟ إنّ القبائل لا يصنعها إلا الرجال. أما الرجال فيجيئون ويرحلون مثل أمواج البحر.
" حتى أنت أيها الرجل الأبيض الذي تمشي مع برك وتحاكيه صديقاً لصديق لن تنجو من هذا المصير. ولعلنا في النهاية أخوة. وسوف نرى..
" أعلم شيئاً واحداً قد يكتشفه الرجل الأبيض يوماً. أعلم أن إلهي وإلهه واحد. إنكم تعتقدون أنّكم تملكون هذا الإله مثلما أنكم تريدون أن تملكوا أرضنا. إنه إله الإنسان، وقد وسعت رحمته الإنسان الأحمر والأبيض. إنّ هذه الأرض غالية عنده. وإنّ إيذاء الأرض لا بد أن يثير غضب خالقها. لسوف تمضي أنت أيضاً أيها الإنسان الأبيض. وربما ستمضي قبل غيرك. هيا أمعن في تلويث فراشك ولسوف تختنق يوماً في قمامتك.
" ولكنك، ولحكمة لا يعرفها إلا الإله الذي جاء بك إلى هذه البلاد، أعطاك سلطاناً على الأرض وعلى الإنسان الأحمر. إنّ هذا المصير ما يزال لغزاً عندنا.
" أين الأيكة؟ ولّت... أين النسر؟ اختفى..
" ما معنى أن تقول وداعاً للصيد وللحصان الرشيق؟؟
" إنها نهاية الحياة وبداية مغالبة الموت.
" وإذن، سننظر في عرضك أن تشتري بلادنا. فلئن رضينا فلكي نامن على أنفسنا في ما وعدتنا به من مطرح نعيش فيه. هناك ربما سوف نعيش آخر أيامنا. وحينما يزول آخر إنسان احمر فوق الأرض، ولا يبقى منه إلا ظلال سحابة تعبر البراري.. ستظل هذه الشطآن والغابات مسكونة بروح شعبي.
" وإذن، إذا بعناك أرضنا فأحببها كما يحب الوليد خفقان قلب أمه.
" وإذن، إذا بعناك أرضنا فأحببها كما أحببناها، واستوص بها خيراً كما استوصينا. واحتفظ من أرضنا بصورة لها مثلما كانت يوم أخذتها.
" وبكل ما أعطيت من سلطان، وكل ما فيك من عقل وقلب: استوص بأرضنا وصنها.
" أحببها كما يحبنا الله جميعاً.
" إنني أعلم أنّ إلهنا وإلهكم واحد، وأنّ هذه الأرض غالية عليه. وأعلم أنّ الرجل الأبيض أيضاً لن يفلت من يد المصير. وفي النهاية، لعلنا إخوان. وسوف نرى... ".
من خطبة (سياتل) زعيم هنود (دواميش)، وتعرف بخطبة الهندي الأحمر.. ألقاها في شعبه سنة 1854 في حفل استسلام تاريخي لإبرام المعاهدة التي أُجبر فيها على تسليم بلاده...
" زعيم واشنطن الكبير يقول لي، في رسالته، أنه يريد أن يشتري بلادنا. ويقول لي إنه صديقي، وأنه يكنّ لي مودة عميقة..
" ما ألطف زعيم واشنطن الكبير لاسيما انه في غنى عني وعن صداقتي!!
" لكننا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير، فنحن نعرف أننا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجيئنا الرجل الابيض مدججاً بسلاحه وينتزعها.
" كيف نستطيع أن نبيع ونشتري السماء ودفء الأرض؟؟
" ما اغرب هذه الأفكار!
" كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها؟
" كل شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي. كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الأحراج، كل حشرة تمتص ما تمتص أو تطن، كله مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة..
" النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الإنسان الأحمر.
" موتى الإنسان الأبيض ينسون مهدهم عندما يمشون بين النجوم. أما موتانا فأبداً لا ينسون الأرض الطيبة لأنها أم الإنسان الأحمر. نحن منها وهي منا..
" الأزهار العاطرة أخواتنا. الغزال والحصان والنسر العظيم كلهم إخوتنا. القمم الصخرية، ندى المروج، ودفء جسد الحصان، كلها من هذه الأسرة الواحدة.
" وإذن، فحين يقول زعيم واشنطن الكبير إنه يريد أن يشتري بلادنا، إنما يسألنا ما لا يطاق.
" زعيم واشنطن الكبير، يقول في رسالته إنه يريد أن يشتري بلادنا، وأنه سيهبنا مطرحاً يلمنا نعيش فيه سعداء، وإنه سيكون أباً لنا، وأننا سنكون أبناء له... لذا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير حول شراء بلادنا، علماً أنه عرض لا يطاق، لأن أرضنا مقدسة.
" هذه المياه التي تشع وهي تجري في السواقي والأنهار ليست مياهاً. إنها دماء أجدادنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أنها مقدسة. وقل لأبنائك أنها مقدسة. كل طيف يتراءى في صفاء مياه البحيرات ينبئك عن ذكريات شعبنا وتاريخه. وما تهمس به المياه هو صوت جدي. هذه الأنهار إخوتنا. إنها تطفئ ظمأنا، وتحمل مراكبنا، وتطعم أطفالنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر وعلّم أبناءك أنّ هذه الأنهار أخوتنا، وعليك أن تحبها كما تحب من ولدته أمك..
" ينهزم الإنسان الأحمر أمام زحف الإنسان الأبيض مثلما ينقشع ضباب الجبال أمام شمس الصباح. لكننا نرى رماد آباءنا مقدساً، وقبورهم بقيعاً مقدساً. وهكذا نرى الهضاب والأشجار، ونعتبر هذه البلاد قسمتنا، ونعرف أن الرجل الأبيض لا يفهمنا. تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة، لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى. إنه لا يرى الأرض أختاً له بل عدواً يقهره ثم يمضي. ها هو يهجر قبر أبيه ولا يعبأ، ويتركه وراء ظهره ولا يعبأ. إنه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ. هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية. وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلا سلعة تسرق أو تباع كالأغنام والخرز. إنّ جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها إلا صحراء..
" لا يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحل ويرحل شبراً من أرض دون ضجيج. لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع، أو لسماع طنين أجنحة الحشرات. ولكن، لربما أنني متوحش، لا أفهم.. إن الضوضاء تصم الأذنين. وماذا يتبقى للحياة حين يعجز الإنسان عن سماع صرخة طائر السبد، أو يصغي في أعماق الليل لنقاش الضفادع حول البركة.. لكن لربما أنني إنسان أحمر، لا أفهم...
" الهنود يفضلون صوت الريح العذب وهي ترمح فوق بركة المياه، ورائحة الريح المعشقة بمطر الظهيرة أو المعطرة برائحة الصنوبر..
" الهواء عند الإنسان الأحمر ثمين، فكل ما على الأرض يتنفس منه. الحيوانات والأشجار والبشر كلهم يتنفسون من نفس واحد. أما الإنسان الأبيض فيبدو أنه لا يعرف أنه يتنفس، وكأنه رجل مات منذ أيام. كل ما فيه بليد حتى النتانة. ولكن إذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أن الهواء ثمين عندنا، وأن روح الهواء تتغلغل في كل من يتنفس منه. إن الريح التي وهبت جدنا الأكبر أول شهيق هي التي استردت منه زفيره الأخير. إن على هذه الريح أن تمنح أبناءنا روح الحياة، فإذا بعناك بلادنا فاجعلها حراماً، وقدسها كأنها مقام يحج إليه الرجل الأبيض ويتذوق فيه الريح المحلاة بأزهار المروج.
" وإذن، فسننظر في عرض شرائك بلادنا، وسيكون لنا شرط واحد إذا قبلنا بيعها: أن يعامل الرجل الأبيض حيوانات الأرض كما يعامل أخوته.
" لربما أنني متوحش ولا أفهم، لكنني شاهدت ألف جاموس منتن في البراري قتلها الرجل الأبيض من قطار عابر. لعلي متوحش ولا أفهم كيف أنّ هذا الحصان الحديدي المدخن أعظم في عينيه من الجاموس الذي لا نقتله إلا لكي نبقى على قيد الحياة.
" ما الإنسان بدون هذه الحيوانات؟ إذا انقرضت فسوف يموت من توحش روحه. ما يصيب الحيوانات سرعان ما يصيب البشر، فكل الأشياء متمارجة.
" لا بد أن تعلم أبناءك أن أديم الأرض تحت أقدامهم من رفات أجدادنا. بذلك يحترمون الأرض. علمهم ما علمنا أولادنا أن هذه الأرض أمنا، وأن المكروه الذي يصيبها سوف يصيب أبناء الأرض. إذا بصق إنسان على الأرض فإنما يبصق على نفسه.
" هذا ما نعلم. أن الأرض لا تعود على الإنسان، بل هو الإنسان يعود إلى الأرض. هذا ما نعلم: كل الأشياء متمارجة كما الدم الذي يوحد العائلة. كل الأشياء متمارجة. ما يصيب الأرض سوف يصيب أبناء الأرض. الإنسان لا ينسج عنكبوت الحياة بل هو خيط في هذا النسيج. وما يفعله للنسيج يفعله بنفسه.
" لكننا سننظر في عرضك أن نذهب إلى المطرح المخصص لشعبي لنعيش وحدنا بسلام. لم يعد يهم أين نمضي بقية حياتنا. إنها أيام معدودة، بضع ساعات إضافية، بعض شتاءات.. ثم لن يكون هناك أطفال من هذه الشعوب العظيمة التي عاشت يوماً على هذه الأرض، وها هي ذي شراذم ضئيلة تتسكع في أعماق الأدغال. لن يكون هناك أطفال يبكون على قبور بشر كانوا ذات يوم مثلكم أقوياء طافحين بالآمال. ولكن لماذا أبكي زوال شعبي؟ إنّ القبائل لا يصنعها إلا الرجال. أما الرجال فيجيئون ويرحلون مثل أمواج البحر.
" حتى أنت أيها الرجل الأبيض الذي تمشي مع برك وتحاكيه صديقاً لصديق لن تنجو من هذا المصير. ولعلنا في النهاية أخوة. وسوف نرى..
" أعلم شيئاً واحداً قد يكتشفه الرجل الأبيض يوماً. أعلم أن إلهي وإلهه واحد. إنكم تعتقدون أنّكم تملكون هذا الإله مثلما أنكم تريدون أن تملكوا أرضنا. إنه إله الإنسان، وقد وسعت رحمته الإنسان الأحمر والأبيض. إنّ هذه الأرض غالية عنده. وإنّ إيذاء الأرض لا بد أن يثير غضب خالقها. لسوف تمضي أنت أيضاً أيها الإنسان الأبيض. وربما ستمضي قبل غيرك. هيا أمعن في تلويث فراشك ولسوف تختنق يوماً في قمامتك.
" ولكنك، ولحكمة لا يعرفها إلا الإله الذي جاء بك إلى هذه البلاد، أعطاك سلطاناً على الأرض وعلى الإنسان الأحمر. إنّ هذا المصير ما يزال لغزاً عندنا.
" أين الأيكة؟ ولّت... أين النسر؟ اختفى..
" ما معنى أن تقول وداعاً للصيد وللحصان الرشيق؟؟
" إنها نهاية الحياة وبداية مغالبة الموت.
" وإذن، سننظر في عرضك أن تشتري بلادنا. فلئن رضينا فلكي نامن على أنفسنا في ما وعدتنا به من مطرح نعيش فيه. هناك ربما سوف نعيش آخر أيامنا. وحينما يزول آخر إنسان احمر فوق الأرض، ولا يبقى منه إلا ظلال سحابة تعبر البراري.. ستظل هذه الشطآن والغابات مسكونة بروح شعبي.
" وإذن، إذا بعناك أرضنا فأحببها كما يحب الوليد خفقان قلب أمه.
" وإذن، إذا بعناك أرضنا فأحببها كما أحببناها، واستوص بها خيراً كما استوصينا. واحتفظ من أرضنا بصورة لها مثلما كانت يوم أخذتها.
" وبكل ما أعطيت من سلطان، وكل ما فيك من عقل وقلب: استوص بأرضنا وصنها.
" أحببها كما يحبنا الله جميعاً.
" إنني أعلم أنّ إلهنا وإلهكم واحد، وأنّ هذه الأرض غالية عليه. وأعلم أنّ الرجل الأبيض أيضاً لن يفلت من يد المصير. وفي النهاية، لعلنا إخوان. وسوف نرى... ".