واحد_سوري
15/04/2006, 22:45
جدارُ الصَّمت
قصة ، من : لبابة أبو صالح
.....
يرقِّع ضوء القنديل الأصفر ثغور الحائط .. و يتركها مستندة إليه وحيدة و الصقيع !!
الأشياء حولها مبعثرة .. أكوام ماضٍ .. لم يتحول إلى ماضٍ بعد .. إنه تاريخها .. فأين تخبئه و تحت أي شجرة تدفنه ..
و إن فعلت .. هل ستعثر عليه بعدها .. أم ستفقد نفسها إن أضاعته ؟!
..
الضوء يرتِّب حقيبتها معها .. و يلتمع على قمصان الحرير النسائية التي ما تزال جديدة في أكياسها ..
تمد ذراعها خلفها ، و تسحب قارورة العطر التي قدمها لها والدها ليلة ألبسها رجل ما خاتمًا في يدها اليمنى ..
نعم إنه رجل ما .. لأنه ليس أباها .. و هي لا تعرف رجلا إلا أباها ..
ليلتها دلفت إلى الغرفة ، و برقت دمعتها ، و لكنها، وفي لمعة جنون استرجعتها ، و بقيت الليل كله محدِّقة في عتمة السقف وانكسار صوت الليل البارد !!
طرقات والدِها على باب الحجرة تفزِع سكون تذكرها .. فيهتز الضوء بالتفاتتها !!
- أ لم تنتهي بعد ؟!
- أهلا , لا , ليس بعد ..
* * *
يومان ..و تعتزل سرير حياة طويلة... ستتركه ليتوسده الغبار ، و يُخلِّصه من رائحتها ، ليغدو مهجورًا برائحة الماضي ، و تمر عليه كلما زارتهم . رائحتها معها ، و ماضيها معه ،و كل شيء في الغرفة يرغب في معانقتها ..
هي تشعر بهذا ..
تقترب بجسدها لتلتصق بسطوح الخزانة .. الجدار .. المكتب .. و كرسيها الخشبي ..
و كل شيء حتى نافِذة حجرتها ... وكانت لحظتها باردة !!
* * *
- " حين أكبر , سأتزوج شخصًا و يعيش هنا في منزلنا ؟! " ..
تضحك والدتها :
" كيف يا عزيزتي .. أنت من ستعيش في منزله .. لا هو ..؟! "
تزداد الأم ضحِكًا ، حين تقفز طفلتها ، و تقطِّب ، و تتكتَّف ، و تعترض ، و تصمت ، و تثرثر في آن معا :
" بل سيأتي إلى منزلنا !!! "
حقًّا أتى إلى منزلهم .. حين صارت فتية جميلة . أتى ليأخذها له ...
* * *
يعود والدها بطرقات خفيفة على باب الحجرة ..
ويعود الضوء للاهتزاز مجدداً مع صوتها :
- تفضل !!
على حِرف السرير يجلس ..و الأشياء ما تزال حولها مبعثرة منتشرة !!
بصوت دافئ رخيم ، يقول لها :
- متى ستنتهين ؟!
بُحَّة صوتها القديمة تعود بغياب أقسى في حنجرتها :
- قل متى ستبدئين ؟!
- هل ستأخذين كل شيء معك ؟!
- يا ليت !!
- كلَّ شيء !!!
نظرت إليه و الضوء الأصفر يعبئ عينيه ليمتزج لون العسل بلون الحزن ..
" نعم إنه الحزن .. لماذا يخفيه عنها ؟! " .
يلمح في عينيها ملوحة تطردها و تذيبها في عمق ذاتها ..
بودها لو تلثم كفَّه الكبيرة وتتنشق دفء رائحتها .. بل لا تتنشق ، ولاتعشق إلا هذه الرائحة ..
بوده لو تستند على كتفه .. و يحتضنها كطفلة ..
تفترق نظراتهما ..
و تلملم بعض العلب الصغيرة لتوزعها في جوف الحقيبة !!
يرتبك حزنه في داخله .. يتصارع مع فرحه بفتاته الفاتنة .. أجمل فتاة يراها في حياته ..
يردع إحساسًا بالشوك في حنجرته ..
يزيح يده إلى الوراء قليلا .. فيهُزَّ سلك الضوء .. و تُظلم الحجرة ....
* * *
لون العتمة فتَّق القدرة على إسقاط تلك الملوحة ..
ذرفت و ذرف دمعتين بنكهة ( العجُّور * ) المر !!
قامت من مكانها ..
أمسك بنهاية سلك القنديل ووصله بالكهرباء ، فعاد النور للغرفة ،
لكن ثمة ندًى على وجنتيها ..
و ثمة حزنًا تشربته لحيته الشهباء ، لينمو الشيب في صوت الصمت من جديد ..
..
* * *
- هل أساعدكِ في شيء ؟!
- لا ..شكرًا ..
ينظر إلى لون المرآة و زوايا الغرفة ، و يأخذ نفسًا بعمق الليل ، و لا ينطق : بأنه سيشتاقها !!
برقت السماء لتلوِّن الكون بلون أزرق يبعج الظلمة ..
تلت الزرقةُ طقوسَ مطر شتوي يطرطق بقطراته على النافِذة مع صمتهما . يلعب بالأجواء فيُحَمِّلَها رائحة حزن آخر . يخالط أنفاسهما ، فيفضح حالات شجونٍ مماثلة تعيث بالأعماق ...
- لقد كبرتِ بصدق , و ها أنت ستتزوجين ؟!
ابتسمت و هي منهمكة بلملمة بعض الخيطان العالقة بسجادة الغرفة .تنهدت و نهضت لترميها في سلة المهملات :
- الحمد لله ..
- أتمنى لكِ السعادة من كل قلبي يا ابنتي !! - حفظكَ الله لي !!
قصة ، من : لبابة أبو صالح
.....
يرقِّع ضوء القنديل الأصفر ثغور الحائط .. و يتركها مستندة إليه وحيدة و الصقيع !!
الأشياء حولها مبعثرة .. أكوام ماضٍ .. لم يتحول إلى ماضٍ بعد .. إنه تاريخها .. فأين تخبئه و تحت أي شجرة تدفنه ..
و إن فعلت .. هل ستعثر عليه بعدها .. أم ستفقد نفسها إن أضاعته ؟!
..
الضوء يرتِّب حقيبتها معها .. و يلتمع على قمصان الحرير النسائية التي ما تزال جديدة في أكياسها ..
تمد ذراعها خلفها ، و تسحب قارورة العطر التي قدمها لها والدها ليلة ألبسها رجل ما خاتمًا في يدها اليمنى ..
نعم إنه رجل ما .. لأنه ليس أباها .. و هي لا تعرف رجلا إلا أباها ..
ليلتها دلفت إلى الغرفة ، و برقت دمعتها ، و لكنها، وفي لمعة جنون استرجعتها ، و بقيت الليل كله محدِّقة في عتمة السقف وانكسار صوت الليل البارد !!
طرقات والدِها على باب الحجرة تفزِع سكون تذكرها .. فيهتز الضوء بالتفاتتها !!
- أ لم تنتهي بعد ؟!
- أهلا , لا , ليس بعد ..
* * *
يومان ..و تعتزل سرير حياة طويلة... ستتركه ليتوسده الغبار ، و يُخلِّصه من رائحتها ، ليغدو مهجورًا برائحة الماضي ، و تمر عليه كلما زارتهم . رائحتها معها ، و ماضيها معه ،و كل شيء في الغرفة يرغب في معانقتها ..
هي تشعر بهذا ..
تقترب بجسدها لتلتصق بسطوح الخزانة .. الجدار .. المكتب .. و كرسيها الخشبي ..
و كل شيء حتى نافِذة حجرتها ... وكانت لحظتها باردة !!
* * *
- " حين أكبر , سأتزوج شخصًا و يعيش هنا في منزلنا ؟! " ..
تضحك والدتها :
" كيف يا عزيزتي .. أنت من ستعيش في منزله .. لا هو ..؟! "
تزداد الأم ضحِكًا ، حين تقفز طفلتها ، و تقطِّب ، و تتكتَّف ، و تعترض ، و تصمت ، و تثرثر في آن معا :
" بل سيأتي إلى منزلنا !!! "
حقًّا أتى إلى منزلهم .. حين صارت فتية جميلة . أتى ليأخذها له ...
* * *
يعود والدها بطرقات خفيفة على باب الحجرة ..
ويعود الضوء للاهتزاز مجدداً مع صوتها :
- تفضل !!
على حِرف السرير يجلس ..و الأشياء ما تزال حولها مبعثرة منتشرة !!
بصوت دافئ رخيم ، يقول لها :
- متى ستنتهين ؟!
بُحَّة صوتها القديمة تعود بغياب أقسى في حنجرتها :
- قل متى ستبدئين ؟!
- هل ستأخذين كل شيء معك ؟!
- يا ليت !!
- كلَّ شيء !!!
نظرت إليه و الضوء الأصفر يعبئ عينيه ليمتزج لون العسل بلون الحزن ..
" نعم إنه الحزن .. لماذا يخفيه عنها ؟! " .
يلمح في عينيها ملوحة تطردها و تذيبها في عمق ذاتها ..
بودها لو تلثم كفَّه الكبيرة وتتنشق دفء رائحتها .. بل لا تتنشق ، ولاتعشق إلا هذه الرائحة ..
بوده لو تستند على كتفه .. و يحتضنها كطفلة ..
تفترق نظراتهما ..
و تلملم بعض العلب الصغيرة لتوزعها في جوف الحقيبة !!
يرتبك حزنه في داخله .. يتصارع مع فرحه بفتاته الفاتنة .. أجمل فتاة يراها في حياته ..
يردع إحساسًا بالشوك في حنجرته ..
يزيح يده إلى الوراء قليلا .. فيهُزَّ سلك الضوء .. و تُظلم الحجرة ....
* * *
لون العتمة فتَّق القدرة على إسقاط تلك الملوحة ..
ذرفت و ذرف دمعتين بنكهة ( العجُّور * ) المر !!
قامت من مكانها ..
أمسك بنهاية سلك القنديل ووصله بالكهرباء ، فعاد النور للغرفة ،
لكن ثمة ندًى على وجنتيها ..
و ثمة حزنًا تشربته لحيته الشهباء ، لينمو الشيب في صوت الصمت من جديد ..
..
* * *
- هل أساعدكِ في شيء ؟!
- لا ..شكرًا ..
ينظر إلى لون المرآة و زوايا الغرفة ، و يأخذ نفسًا بعمق الليل ، و لا ينطق : بأنه سيشتاقها !!
برقت السماء لتلوِّن الكون بلون أزرق يبعج الظلمة ..
تلت الزرقةُ طقوسَ مطر شتوي يطرطق بقطراته على النافِذة مع صمتهما . يلعب بالأجواء فيُحَمِّلَها رائحة حزن آخر . يخالط أنفاسهما ، فيفضح حالات شجونٍ مماثلة تعيث بالأعماق ...
- لقد كبرتِ بصدق , و ها أنت ستتزوجين ؟!
ابتسمت و هي منهمكة بلملمة بعض الخيطان العالقة بسجادة الغرفة .تنهدت و نهضت لترميها في سلة المهملات :
- الحمد لله ..
- أتمنى لكِ السعادة من كل قلبي يا ابنتي !! - حفظكَ الله لي !!