-
دخول

عرض كامل الموضوع : القرآن نص تاريخي وثقافي (نصر حامد أبو زيد )


عاشق من فلسطين
23/02/2005, 15:50
القرآن نص تاريخي وثقافي
مقابلة مع نصر حامد أبو زيد


هذه المقابلة الدمشقية مع د. نصر حامد أبو زيد حملتُها بين أوراقي شهوراً عدة، وكنت أتمني أن تُنشَر في مصر التي يحملها أبو زيد في قلبه، رغم المنفى. أما الجولة الصغيرة في أحياء دمشق القديمة، وصولاً إلى مقبرة باب الصغير، حيث يرقد جثمان الشاعر نزار قباني، فآهٍ لو أنها كانت ممكنة في شوارع مدينة القاهرة! لكن مصر النهضة والثقافة والمؤسَّسة الجامعية باتت اليوم تضيق ليس فقط بفكر نصر حامد أبو زيد، بل بوجوده الجسدي على أرضها، وحتى بكتبه التي سُحِبَت من المكتبة العامة في الجامعة.

قد يقول قائل إن الفكر الحرَّ والنقدي محكوم عليه أن يبقى أقلَّوياً، لكن المصيبة الكبرى أن عناصر التخلف والتقليد الأعمى واللاعقلانية صارت اليوم ثقافة تلفزيونية جامعة يروِّج لها في أوساط الملايين أشخاصٌ من أمثال الداعية عمرو خالد، ومن قبله الشيخ محمد متولي الشعراوي؛ هذا في الوقت الذي تُغلَق فيه أبواب المؤسَّسات الأكاديمية العربية، وعلى رأسها الجامعة المصرية، في وجه آخر ممثلي تيار النهضة العربية الذي بدأ بالشيخ محمد عبده وطه حسين، ويجب أن لا ينتهي مع نصر حامد أبو زيد. لكن هذا الأخير لم يُحرَم فقط من بلده وأهله ومنصبه الأكاديمي، لكنه حُرِمَ أيضاً من طلابه ومُنِعَ، زوراً وبهتاناً، من أن يزرع في عقول الأجيال الجديدة الفكر النقدي العقلاني الذي أخذه عمَّن سبقوه وطوَّره، والذي بدونه لا قيامة للعرب وللمسلمين من سباتهم الطويل.

محنة نصر حامد أبو زيد هي محنة الثقافة العربية في عصرنا الراهن؛ وكرامة أستاذ الجامعة الجريحة هي كرامة البحث العلمي واستقلاليَّته المستباحة على مذبح الإيديولوجيا القروسطوية بمكوِّنيها الرئيسين: السلطة السياسية المستبدة، والسلطة الدينية المتحجِّرة. ورهان نصر حامد أبو زيد هو رهان المستقبل، والإسلام المنفتح، والتسامح الديني، والحرية المستعادة.

يبقى رجاءٌ أخير عند قراءة هذه المقابلة: أن لا يستلَّ جندُ الظلمات والتكفير سيوفهم من أغمادها ويصرخون مجدداً: "وإسلاماه!" ولعلهم يقبلون – ولو لمرة! – أن يفتحوا عقولهم للتأمل والنقاش. فالقلم ينادي القلم، والفكر ينادي الفكر. وأين للسيوف الصدئة أن تنال من هذا الفكر المتألق!

محمد علي الأتاسي
***

يعتبر الكثيرون أن الشيخ أمين الخولي هو رائد التجديد في الدراسات القرآنية، وأنه أول من حاول تطبيق المنهج الأدبي في مقاربة القرآن. ما طبيعة علاقتك بفكر أمين الخولي؟ وهل تعرفت إليه شخصياً؟

لم أعرف الشيخ أمين الخولي شخصياً، لكنه كان أول من نشر لي في مجلة الأدب مقالة حول أزمة الأغنية المصرية، وكنت يومها لا أزال يافعاً. من هنا نشأت العلاقة الروحية مع هذا الأستاذ الكبير. بعد دخولي الجامعة وموت الخولي قرأت كتبه، وكذلك أبحاث محمد أحمد خلف الله؛ وكنت، تالياً، واعياً أزمة الدراسات الإسلامية في قسم اللغة العربية، وواعياً مشكلة الجامعة المصرية. أحد الأساتذة الذين درَّسوا لي وأثَّروا فيَّ تأثيراً عظيماً في الجامعة كان شكري عياد؛ وهو تلميذ أمين الخولي، وكان قد حصل على درجة الماجستير برسالة عن يوم الحساب في القرآن تحت إشراف الخولي، ولكنه اضطر إلى تغيير تخصُّصه من الدراسات الإسلامية إلى الدراسات النقدية عندما أُلغِيَت رسالة أخرى تحت إشراف الشيخ أمين الخولي، هي رسالة الدكتوراه لمحمد أحمد خلف الله.

هذا الخط في الدراسات القرآنية بدأ مع الشيخ محمد عبده الذي تكلَّم على التمثيل في القرآن، واعتبر أن القصص القرآني تمثيلات، بما فيها قصة آدم وخروجه من الجنة. والتمثيل هنا مفهوم بلاغي. الشيخ محمد عبده، وان استخدم لغة تقليدية، فقد وضع الأساس لهذه التوجُّه. وجاء بعده طه حسين ودفع المنهج إلى الأمام، في كتبه كلها طبعاً، لكن في الأخص كتاب في الشعر الجاهلي، عندما أشار إلى أن القصة القرآنية عن إبراهيم وإسماعيل ليس من الضرورة اعتبارها واقعة تاريخية. وواصَلَ بعده أمين الخولي عندما اعتبر أن أدبية القرآن هي السمة الأساسية التي تسبق أي سمة أخرى، وأن التحليل الأدبي وفن القول يسبقان أي تحليل فلسفي أو فقهي. هذا المنهج طبَّقتْه عائشة عبد الرحمن في التفسير البياني، ومحمد أحمد خلف الله في رسالته الفن القصصي في القرآن، وشكري عياد في رسالة الماجستير. وأنا أعتبر نفسي تواصُلاً مع هذا الخط، في سياق تطور النظرية الأدبية وعلم النصوص. عندما كتبت مفهوم النص كان الشيخ أمين الخولي مرجعية بالنسبة إليَّ في ما يسمى أدبية القرآن.

ما هو في رأيك سبب فشل هذا المنهج في تثبيت أقدامه داخل الجامعة وتحقيق نوع من استمرار المؤسَّسات؟ هل السبب سياسي من خارج الجامعة؟ أم أن هناك أزمة داخل هذا الفكر نفسه؟

هناك أسباب معقدة. ويجب أن نبقى على بصيرة إلى أن أي اقتراب من القرآن هو في الضرورة مخاطرة. وهذا قائم منذ القرن الثالث الهجري، العصر الذي اضطلعت فيه السلطة السياسية بدور أساسي في حسم الجدل الفكري الذي نشأ حول فكرة خلق القرآن. فالخليفة المأمون تدخَّل في البداية، وحاول فرض فكرة "خلق القرآن" بقوة الدولة، واضطهد من لا يؤمنون بهذه العقيدة؛ ثم جاء المتوكل وقام بعكس ذلك واضطهد المعتزلة. ومنذ صدور الوثيقة المتوكِّلية في ذلك الزمن حول العقائد الصحيحة لأهل السنَّة، التي تتضمن أن القرآن أزلي قديم، تجمدت المشكلة وأوقِفَت الأسئلة لصالح مؤسَّسة لاهوتية هي، إلى حد كبير، أشعرية–حنبلية. وبقي الأمر على هذه الحال إلى عصر النهضة ومشروع محمد عبده الإصلاحي الذي حاول أن يقترب من هذا السؤال. لكن يبدو أن بعض المخاوف جعلتْه يتراجع.

لكن بعد الشيخ محمد عبده جاء طه حسين والشيخ أمين الخولي وغيرهما كثيرون. لكنهم تراجعوا عن هذا الطريق ولم يطرحوا الأسئلة حتى نهاياتها. ما هي الأسباب في رأيك؟

يجب أن لا ننظر هنا إلى كلمة "تراجُع" في معناها السلبي، وأن لا ننظر إلى الفكر باعتباره يدور في فراغه الخاص، بمعزل عن حركة المجتمع.

أسباب عدة يمكن إيرادها في هذا السياق: أولها، أن الجامعة الأهلية، كمؤسَّسة مدنية، نشأت ضعيفة. فمشروع النهضة ومشروع تحديث المجتمع قاما على بنية مزدوجة: هناك تحديث، لكن ليس هناك حداثة. لقد تم استيراد مؤسَّسات، مثل الأوبرا والسكك الحديدية والجامعة والبرلمان، لكن الممارسات استمرت وفق المنطق القديم. المجتمع المدني، ومنه الجامعة، بقي مجاوراً للمجتمع التقليدي، ولم يتم تطوير المؤسَّسات التقليدية التي بقيت ممتنعة عن الحداثة، التي جاءت في سياق إشكالي جَعَلَها ملتبسة، كونها حداثة غربية. وهذا واضح في إشكاليات مشروع الإصلاح الديني، كونه ولد مشروعاً ملتبساً يريد أن يحدِّث الإسلام حتى يتقبل الحداثة الغربية. وكأن التراث هنا خادم للحداثة وفق عناصر منتقاة من التراث.

في أعقاب حرب 1967 اختلفت الصيغة، وانقلبت المعادلة بين المتن والفرع؛ ولم تعد الحداثة مرجع تأويل التراث، بل صار التراث هو مرجع تأويل الحداثة، وأصبح التراث هو المتن الذي يؤوَّل عليه.

إذاً مشروع محمد عبده، وبعده مشروع طه حسين، كان يحمل من داخله أزمة، هي أزمة ناتجة من أزمة النهضة نفسها ووقوعها في التباس الأنا والآخر. طه حسين، عندما حذف العبارات الملتهبة من كتابه في الشعر الجاهلي، لم يتنازل عن منهج الشك الديكارتي وخط البرهان الذي اتبعه، لكنه بقي مسكوناً بهاجس دفاعي في ظل هجوم استشراقي. والمجال الذي يمكن أن نقيس فيه هذا التوتر، نجده في ترجمة الموسوعة الإسلامية في الثلاثينات من القرن المنصرم (أمين الخولي كان أحد المشرفين على هذا المشروع). فالمنهجية الصارمة والدقيقة للمستشرقين حظيت بالاحترام والتقدير عند علماء ذلك الزمن، إلا إذا اقترب الأمر من قداسة القرآن ومن شخصية النبي محمد؛ إذ إن الأمر كان يُفهَم آنذاك على أنه عداء للإسلام ونبيِّه – هذا مع العلم أن المستشرق كان ينطلق من إطار مرجعي ناقد لكتابه المقدس ولشخصية المسيح وفق منهج النقد التاريخي.

فإذا اقترب الأمر من النص القرآني تولِّد نقاطُ الاحتقان حساسيةً تتبع من تماهي القرآن مع الذات والأنا. ومشكلة الهوية هنا، في ارتباطها الميكانيكي بالدين، لا يمكن فهمها بمعزل عن الالتباس الحداثي وقضية الاستعمار.

فلنبتعد قليلاً عن مشكلة الهوية في علاقتها بالنص القرآني، من أجل إعادة صياغة بعض الأسئلة التي يطرحها المستشرقون والتي لا تزال بعيدة عن النقاش والنقد لدى المختصين بالدراسات القرآنية داخل إطار الفكر العربي والإسلامي. كمثال: لماذا لم يأمر الرسول، خلال كل فترة الوحي وحتى مماته، بجمع آيات القرآن وحفظها داخل كتاب، بل تم ذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان؟ كيف تحوَّل القرآن من نص شفاهي تحفظه الألباب إلى نص موثَّق ومكتوب؟ ولماذا؟ وماذا يمكن القول عن حال اللغة العربية في ذلك الزمن وخلوِّها من التنقيط؟ وماذا عن منزلتها كلغة بشرية، لم تتوقف عن التطور والتبدل، وعلاقة ذلك بقدسية النص القرآني باعتباره كلام الله المنزَّل بلسان عربي؟ ما رأيك: ألا يجب على المفكرين الإسلاميين أن يخوضوا في هذه القضايا؟ أم يجب تركها حكراً على المستشرقين؟

بالتأكيد تجب عودة الباحثين العرب إلى هذه القضايا، وتغطية تاريخ القرآن، وكيف تحوَّل من نص شفاهي إلى نص موثَّق ومكتوب، وليس فقط في عصر الخليفة عثمان، حيث لم يكن النص مقروءاً بسهولة، لكونه كان خالياً من التنقيط ومن علامات الحركات، وصولاً إلى النسخة التي هي اليوم في أيدينا، بنقطها وعلامات الحركات. لكن هذا كله لا يزال يدخل في إطار اللامفكَّر فيه. وأنا كنت واعياً لهذا تماماً عندما كتبت مفهوم النص؛ لكنني استبعدتُه مؤقتاً، لأنني كنت مشغولاً ببلورة مفهوم للنص وبالقيام من داخل علوم القرآن التقليدية بمحاولة قراءة حديثة لهذه العلوم. وقد ظهر لي مفهوم التاريخ، بمعنى أن القرآن نص تاريخي وثقافي. وهذا ولَّد لدى بعضهم أزمة لا تزال مستمرة. إذ فُهِمَ من "التاريخي" أنه زماني؛ ومن "الثقافي" فُهِمَ أن المقدس قد تَأنْسَن. ومع ذلك، هناك في كتاب مفهوم النص إشارات واضحة لاحتمالات دراسة أوسع في المستقبل. فهذه الأسئلة عن تاريخية النص ولغته وتوثيقه أقوم اليوم بدراستها من خلال منهج النقد التاريخي، بدون إحساس بالخوف أو بالخطر، لكن بمحاذير لا يمكن أن نقلل من شأنها.

لقد انفتح أمامي أفقٌ يفكِّك الأسْطَرَة التي ربطت ربطاً عضوياً تاماً بين لغة القرآن ورسالة القرآن، متوهِّمة أن لغة القرآن هي نفسها مقدسة ومنزلة.

نصل إلى نقطة أساسية، أشرتَ إليها في إحدى مقالاتك الأخيرة، من خلال إيراد رأي جلال الدين السيوطي بأن القرآن أوحي إلى سيدنا محمد بالمعنى فقط، وأنه هو الذي وضع صياغته باللغة العربية. هذا الرأي يفتح على آفاق واسعة ويُحيلنا على فكرة جوهرية تقول إن القرآن مكتوب بلغة بشرية. وهذه اللغة تتطور قبل القرآن وبعده، وهي بمثابة كائن حيٍّ يتبدل بالاحتكاك مع الواقع من خلال تبدل دلالات الألفاظ ومعانيها واستخداماتها. لكن رغم ذلك، تبدو اللغة العربية اليوم لبعضهم وكأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تتمنَّع في قواعدها النحوية على التغيير؛ فكأنها شيء مقدس!

هذا وهم وغير صحيح! فالتركيب العربي اختلف وتبدلت بنيتُه، وإن كان النحو المعياري قد بقي على حاله.

أنا متفق معك تماماً! ويكفي أن نقارن لغة الصحافة والأدب اليوم بلغة النصوص القديمة لندرك الحجم الهائل للتبدل والتطور الذي عاشته، وتعيشه، اللغة العربية. وهذا خير دليل على كون اللغة كائناً حياً ومتغيراً. ولكنْ لنعد إلى السؤال الأساسي: فأنت، من خلال السيوطي، وضعت يدك على جوهر المشكلة. ومع ذلك، لديَّ إحساس بأنك لا تزال متردداً في الذهاب بالأسئلة إلى منتهاها. وهذا ما نلاحظه أيضاً عند مفكر آخر هو محمد أركون. وكأننا نطرق الأبواب، ولكننا لا نعبرها إلى صلب الأسئلة الحارقة التي، بدونها، لا مجال للخروج من النفق!

لا أستطيع أن أنكر الذي تقوله. التردُّد موجود في داخلي؛ لكنه لا ينبع من خوف على شخصي، بل يأتي من كونك تعمل في إطار أنموذج paradigm ثقافي تحاول اختراقه. ومهمة اختراق النظام المعرفي السائد والمستقر تتطلب أن تؤسِّس لنظام معرفي جديد. هذه المهمة لا يقوم بها شخص بمفرده، بل تتأسَّس من خلال التراكم. ونحن، حتى هذه اللحظة، نعمل على النظام المعرفي الذي أسَّسه الشافعي في القرن الثالث الهجري. هذا النظام المعرفي قائم على أن النص مقدس لأنه لغة ورسالة ليسا من صنع البشر. ومحاولة اختراق هذا النظام معناها أن تبيِّن أنه إذا كانت الرسالة إلهية فإن اللغة ليست إلهية، بل هي بشرية. وهذا ليس شأن القرآن وحده، بل شأن الكتب المقدسة كلها. أما الوحي فهو مفهوم مرتبط تماماً بنظام من التواصل غير اللغوي؛ وتالياً، فوحي القرآن للنبي محمد لم يكن عبر النظام اللغوي. وعليه، فإن صياغة الرسالة إنسانية. الآن، من أجل تأسيس فهم كهذا لا يكفي أن نتناول لغة القرآن، ولكن يجب العودة إلى تأسيس القواعد اللاهوتية التي تسمح بذلك.

لكن تأسيس قواعد لاهوتية كهذه، هل يدخل في إطار دور الباحث، أم هو منوط برجال الدين؟ ولماذا لا يزال منهج النقد التاريخي عاجزاً عن الدخول بأسئلته إلى داخل الفكر الديني؛ إذ نراه أحياناً أسير محرَّمات هذا الفكر؟

بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال، فإن تأسيس قواعد لاهوتية جديدة هو بالتأكيد من مهام الباحث. نحن نخرج هنا من دائرة الإصلاح الديني وندخل في دائرة النقد التاريخي. وهذا الفرق حصل منذ 1967. أما في ما يخص الشق الثاني من السؤال، فالصورة تبدو كذلك؛ لكنها صورة خاطئة. وسأعطيك نموذجين لفكر ديني تقليدي يعمل وفق آلياته الخاصة، لكنه متأثر بالتحدِّي الذي يطرحه منهج النقد التاريخي، وإنْ لم يعترف بذلك. المثال الأول هو فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي في خصوص علاقة الرجل بالمرأة، وما يرتبط بحياة المسلم في أوروبا. فالقرضاوي، وإن كان لا يسلِّم بفكرة التاريخ لكونها خارج إطار وعيه، متأثر بالتحدي الذي تطرحه هذه الفكرة، وهي فاعلة، رغماً عنه، في نطاق الفتاوى التي يصدرها من خلال المجلس الأوروبي للفتاوى. وهذا ما دفعه إلى القول بأنه يجوز للمرأة غير المسلمة التي تحوَّلت إلى الإسلام أن تبقي زواجها من غير المسلم. وإذا كان القرضاوي لم يبنِ اجتهاده على قاعدة ثورية في اللاهوت، أو على قاعدة الحرية، بل على قاعدة الدعوة، ومن أجل تحبيب الناس بالإسلام، فإن داخل قاعدة الدعوة التي يعلنها، وداخل هذه الفتوى، توجد كل إجراءات النقد التاريخي.

والمثال الثاني هو رد شيخ الأزهر الطنطاوي على مرشد "الإخوان المسلمين" مصطفى مشهور حول موضوع الأقباط والجزية. فالشيخ الطنطاوي قال إن الجزية كانت ممارسة تاريخية. وإذا أنتَ جلستَ مع الشيخ الطنطاوي وسألته: "ممارسة تاريخية إزاي؟ ده قرآن!"، بمعنى أن تسأله: "هل تقول بأن هذا النص القرآني أصبح غير صالح؟" فأنت تكشف له هنا أن مفهوم القرآن، كنص تاريخي، تسلَّل إلى لاوعيه. إن العلاقة التي تبدو ساكنة بين الخطاب الديني ومنهج النقد التاريخي في أفق الخطاب العام، مردُّها إلى أن هذا الخطاب في يده مؤسَّسات، وفي يده سلطة، وهو متماهٍ مع السلطة؟ مع ذلك، فالأسئلة التي تقول أنتَ بامتناعه عليها هي نافذة إليه. وعلينا هنا أن نرى قدرة الهامش على اختراق المركز وإحداث حِراك فيه. بعد 11 أيلول، أصبحت هناك حمَّى اسمها "تجديد الخطاب الديني". طبعاً داخل هذه الحمَّى، قد يكون هناك خطاب سِجالي أو دفاعي أو اعتذاري. لكن على الأقل هناك تسليم بأن الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود.

إذا كان الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود فلماذا تردَّد الباحث الذي أشرت إليه قبل قليل؟

السؤال الذي يطرحه بعضهم عليَّ باستمرار، في هذه اللحظة، هو: إن الناس تموت باسم الأسطورة؛ وعدوك يوظف أسطورته، في شكل أو في آخر. فكأنك تريد أن تفكك لنا أسطورتنا من أجل أن يهزمنا الآخر بأسطورته. ويقولون: إننا الآن في خطر لا يحتمل ترف الاشتغال على النص والتأويل.



طبعاً جوابي أن هذا ليس بالترف، وأن الفشل الذي نحن فيه عائد، في جزء منه، إلى تجمُّد وعينا. وإذا كنا نريد أن نحارب بأسطورتنا، فأسطورتنا قائمة على أسطورة العدو، وهي، تالياً، أضعف لأنها قائمة على أسسه. فهو يحاربك بالأسطورة إيديولوجياً، لكنه يحاربك بالعلم والعقل والوعي فعلياً.

إذاً أنا متفق معك أن طرح الأسئلة يجب ألا يتوقف، ويجب أن نذهب بالأسئلة إلى منتهاها. وإذا كنت أنا أحد المتردِّدين – وهذا ما لا أنكره – فلأني لست بالمدَّعي. ففي النهاية، أنت تعمل في مناخ ثقافي لا تسلِّم به كلية، لكنك لا تستطيع أن تتجاهل أنك تريد أن تنتج خطاباً يجد قبولاً، وينفذ، وإن كان لا يجد إعجاباً. وهذا ما يسمِّيه محمد أركون بـ"الترضيات الضمنية"، أي أن تنتج نقداً لفكر أنت تنتمي إليه بالضرورة؛ بمعنى أنك تنتج نقدك من داخله، وأنت محكوم بقواعد إنتاج المعرفة فيه، حتى لو كنتَ رافضاً القواعد. إذاً نحن هنا في مأزق! وما أسهل الذي يكتبه صادق جلال العظم، على أهميته، لأنه يأتي من الخارج، أي من خارج دائرة الإيمان.

نحن نتكلم هنا عن مجتمع وثقافة ومؤسَّسات؛ وأنت تطلب من المفكِّر أن يخترق المؤسَّسات بكتاب أو بمحاضرة أو ببرنامج تلفزيوني يتكلم فيه خمس دقائق، يُحذَف منها نصف الذي قاله! ومع ذلك، فهو يقوم بهذا عملياً، ولكن بإمكانات هي أقل بكثير من إمكانات هذه المؤسَّسات. فلنقل إن أي كتاب لا يمكنه أن يُحدِث اختراقاً إذا لم يتحول إلى ثقافة عامة عن طريق وسائط نقل المعرفة، من مستواها إلى مستوى وعي الناس. وهذا غير متحقق لنا، بسبب غياب الديموقراطية، وغياب الحرية، وغياب مؤسَّسات وسيطة، حاملة وناقلة للمعرفة، وبسبب سيطرة السلطة، في أشكالها المختلفة، على وسائل الإعلام. طبعاً أنا هنا لا أضع معوِّقات لنفسي، ولكن أكشف لك حدود تأثير ما أكتبه.

أعود لقولك بتاريخية النص القرآني، وبأنها لا تعني زمنيَّته، ولا تعني إنكاراً لألوهيته، بل تعني أن القرآن نزل في التاريخ، وهو يتفاعل معه تفاعلاً حراً، وسيستمر عمله في التاريخ، وأنه يحمل ملامح القرن السابع الميلادي، ويدل على ممارسات العرب في ذلك القرن، وعلى موقعهم في العالم القديم، ويعكس لنا حالة التاريخ قبل نزوله ولحظة هذا النزول. قولك هذا يدعو إلى التأسيس عليه، ويفتح أفقاً واسعاً للنقاش، ويُسقِط الكثير من الحواجز أمام العقل. فكيف لك بعد ذلك أن تطلب منا التروِّي في طرح الأسئلة؟

إذا اتفقنا على أننا نشتغل من داخل دائرة الإيمان فإننا نخوض في مسلَّمات راسخة، يحتاج تحريكها إلى التحلِّي بالصبر، والى وقت طويل، وإلى عدد كبير من الباحثين. تاريخية النص – القرآن مثلاً – تعني أيضاً أن هناك أجزاء منه سقطت بحكم التاريخ، وصارت شاهداً تاريخياً؛ أي أنها تحولت من مجال الدلالة الحية المباشرة إلى مجال الشاهد التاريخي. مثال ذلك تحوُّل آيات الرق والأحكام المتعلقة بها إلى آيات للعبرة بعد زوال نظام الرق من حياتنا. هذه الخطوة لا يكفي أن تقولها وتمضي. إنها هنا عملية خلق للوعي، وعليك أن تعمِّق هذا الوعي في استمرار بأمثلة وشواهد، وأن تكرر في استمرار ما كتبتَه. إذاً تاريخية النص، وانتماؤه إلى الثقافة، وانفتاحه على التأويل في ثقافات مختلفة، هذه القضية كسبت أرضاً، ولكنها لم تصر مستقرة داخل الوعي العام. طبعاً أنا لا أقول إن عليَّ الانتظار. فأنا أتحرك! ولكني الآن أتحرك وحدي بعدما حُرِمْت تلامذتي وموقعي داخل الجامعة المصرية.

في السياق نفسه، أنت من الذين يشددون على أن القرآن هو مجموعة من النصوص التي رُتِّبت ليس وفقاً لترتيب نزولها الزمني، ولكن وفقاً لتراتيب أخرى لم تُكتشَف بعد، وأن التساؤل: لماذا لم يُرتَّب القرآن بحسب تسلسل نزول آياته هو أمر مشروع في البحث العلمي لأنه لا يشكك في الحكمة الإلهية ولا في قدسية النص.

الحقيقة التاريخية الأكيدة هي أن ترتيب القرآن الحالي ليس هو ترتيب النزول، وأن ترتيب القراءة الحالي أحدَثَ تغييباً للسياق؛ وتالياً، فإن أي مقاربة منهجية لتفسير القرآن عليها أن تستعيد هذا السياق. في تحليل القرآن، هناك مقاربتان: التعاقُب diachronicity، والتزامُن synchronicity؛ وجمع الاثنتين مهم جداً في أي مقاربة. فلو حلَّلتُ القرآن فقط وفق ترتيب النزول سأكون متعاملاً مع القرآن على أنه كتاب في التاريخ وحسب، وهو ليس كذلك. أما إذا رضيت فقط بترتيب القراءة، أكون قبلتُ بإهمال الجانب التاريخي في التعامل مع القرآن. في عبارة أخرى، إذا كنا نقول إن القرآن تاريخي (بشري) وإلهي، فإن بنيته نفسها توضح هذه الازدواجية، وينعكس فيها هذان البعدان. فترتيبه المجزأ والمنجَّم يعكس أنه جزء من التاريخ، وأن هناك تطوراً داخلياً؛ أما إعادة ترتيبه وفق قواعد مغيَّبة عن التاريخ، لم نكتشفها بعد، فتؤكد فكرة أنه رسالة مقدسة.

إجراء أي مقارنة بين بنية القرآن التاريخية وبنيته اللاتاريخية يحتاج إلى دراسات واسعة ومعمَّقة وإلى فريق عمل جماعي يشترك فيه عدد كبير من الباحثين. هناك 114 سورة، بينها المكي والمدني، عمل عليها في السابق المستشرقون. لكن لا بدَّ من العمل على الآيات، والرجوع إلى المادة التاريخية، والعمل على نقد المرويَّات الخاصة بأسباب النزول؛ ولا بدَّ من الاشتغال على البنية الداخلية للآيات، لأن الكشف لا يكون من خلال الوثائق الخارجية وحدها، ولكن من خلال البنية الداخلية كذلك.

وإذا كان طرح الأسئلة الجوهرية يمكن أن يتم بواسطة أفراد فإن إنتاج المعرفة في حاجة إلى بنية علمية مؤسَّساتية. ويجب عدم تناسي أن النقد التاريخي للكتاب المقدس تحقق بثورة من داخل مؤسَّسة الكنيسة؛ أما مؤسَّساتنا الإسلامية فلا تزال تنتج ملايين الكتب عن الإعجاز العلمي للقرآن والسنة النبوية! ثم، هل عندنا فعلاً في العالم العربي والإسلامي دراسات إسلامية في المعنى العلمي للكلمة؟ لا. ليس هناك مؤسَّسة واحدة تدرس القرآن في اعتباره موضوع دراسة، بل في اعتباره موضوع إيمان ووعظ. الأزهر، كمؤسُّسة، لا يدخل في نطاق مهمته أن يدرس القرآن تاريخياً ويحلِّله؛ مهمته أن يعلِّم القرآن ويفسِّره. لذا يجب علينا ألا نطلب من مفكرين فرادى أن يقوموا بالمعجزات.

عوداً على أسباب النزول، نجد أن القرآن لم ينزل نصاً واحداً، بل نزل على الرسول خلال ما يزيد على العشرين سنة. وإذا كنت أنت تذهب إلى أن كل نص من القرآن يتعلق بواقعة وبسؤال نشأ من الواقع، فإن ما يزيد على 80 في المئة من الآيات لا توجد فيها أسباب نزول. فكيف يمكن الوصول إذن إلى هذه الوقائع التاريخية المرتبطة بسياق نزول الآيات؟

دعنا في البداية نخرج من إطار المصطلحات الملتبسة. علينا التفريق بين أسباب النزول، كمصطلح مستقر في المعنى الفقهي الوارد في المرويَّات التراثية، وما يمكن أن أسمِّيه السياق التاريخي للوحي. هذا السياق لا يمكنه أن يتجاهل مفهوم أسباب النزول في المعنى الفقهي؛ لكنه يتعامل معه تعاملاً نقدياً، لأن بعض هذه الأسباب متناقض، وبعضها الآخر يأتي تبريراً لمعنى معيَّن يريد المفسِّر أن يفرضه. كما يجب عدم الاكتفاء بأسباب النزول، لأنها كما ذكرتَ قليلة.

مثلاً عندما تبدأ سورة البقرة بالآية: "ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه"، فهذا جواب عن سؤال لا نجده في الآيات التي تتبعها مباشرة، بل نجده في ما بعد حين يتكلم عن سؤال اليهود للنبي محمد أن يأتي بكتاب كألواح موسى. إذاً فكرة الكتاب موجودة في النص القرآني، ولها سياق نزول، لكن يصعب ربطه بالآية في افتتاح السورة، لأن السؤال موجود في آية أخرى وُضِعت في مكان آخر، وتالياً، عملت تغييباً لسياق الآية الأولى.

نقطة أخرى هي ضرورة التعامل مع النص القرآني ليس فقط من خلال أسباب النزول، ولكن من خلال سياقه التاريخي في معناه الأشمل، ومن خلال شخصية النبي محمد وعلاقته بالمجتمع والثقافة. وهذه كلها لا تزال في إطار المحرمات.

كيف تفهم اليوم علاقتنا بالسنَّة النبوية، وميل البعض إلى تقديسها واعتبارها جزءاً من الوحي؟

أظن أن هذا الكلام تم تحليله في أسبابه التاريخية في شكل كاف. فمنذ اللحظة التي اعتُبِر فيها القرآن غير كافٍ وحده، تم تدشين السنَّة، ليس كنص ثانٍ أو كنص شارح، بل كنص يتمتع بالقيمة المعرفية نفسها التي يتمتع بها القرآن؛ حتى إن بعضهم يذهب إلى حدِّ القول بأن القرآن أكثر حاجة إلى السنَّة من حاجة السنَّة إلى القرآن! أعتقد أن هناك جانباً مشروعاً في هذا، وجانباً تمت المبالغة فيه. فلو أنت اقتلعت السنَّة من تاريخ الفكر الإسلامي لما بقي هناك شيء!

مع ذلك، لا يعتبر أهل السنَّة أن الأحاديث النبوية هي وحي، لأنها ليست كلام الله.

لا، هذا غير صحيح! فهي تُعتبَر بمثابة الوحي الذي صاغه النبي محمد؛ أي أنها كلام الله بلغة محمد. فالإمام الشافعي يعتبر أن السنَّة هي الحكمة المذكورة في القرآن. والفرق بين القرآن والسنَّة، المتجسدة أصلاً في الحديث، أن السنَّة هي كلام الله الموحى إلى محمد، لكنها ليست لغة الله، بل لغة محمد. أي أن الفرق لدى الشافعي هو أن القرآن متعبد في قراءته لأن اللغة من عند الله؛ أما السنَّة فهي قرآن لا يتعبد في قراءته لأن الصياغة هي صياغة محمد. والسؤال هنا: هل كان القرآن، قبل ظهور هذا التمييز، كلام الله ولغته في الوقت نفسه، أم لا؟ لذلك فإن طرح السؤال عن لغة القرآن مرتبط بطرح السؤال عن السنَّة، ومتى تكوَّنت المفاهيم الأساسية داخلها؛ وهذا في رأي سابق على الشافعي، الذي صاغها بشكلها النهائي.

إذاً الباحث في تعامله مع نصوص السنَّة هو أيضاً أمام مشكلة قداسة، كحاله مع القرآن؟

طبعاً! فالمشكلتان مرتبطتان الواحدة بالأخرى، كونهما وحياً. وهذا يتطلب منا أن نستعيد أيضاً مفهوم الوحي، وهل الوحي، وفق المفهوم الديني، أُغلِق بقوله تعالى: "خاتم النبيِّين" [الأحزاب 40]؟ ولماذا يؤمن المتصوفة بغير ذلك، ويقولون إن الختم هو ختم وحي التشريع، وليس وحي الفهم؟ حتى إن ابن العربي، في تناوله حديث الرسول "لا نبي بعدي"، يقول: "ليس أشد على أهل الله من هذا الحديث." لكنهم ذهبوا إلى أن لا نبي يشرِّع من بعد النبي محمد. الحال مشابهة لذلك عند الشيعة الذي يعتبرون أن توارث العلم عند الأئمة معناه استمرار انكشاف معنى الوحي في التاريخ.



مفهوم الوحي له مكانه أيضاً داخل الفلسفة الإسلامية؛ وهو قائم على مفهوم الخيال الذي يشترك فيه النبي مع الفيلسوف. فالفيلسوف يتصل مع العقل الفعال أو العقل الأول مثلما يتصل النبي مع الوحي. والفرق بين النبي والفيلسوف ليس في الوحي، ولكن في تعبيرات الوحي، أي اللغة التي تعبِّر عنه من خلالها. حي بن يقظان وصل إلى كل المعرفة التي وصل إليها الوحي الذي آمن به سلامان، لكن اللغة التي يعبِّر فيها عن الحقيقة مختلفة. وهذا يحيلنا على ابن رشد. كل هذا يبين لنا أن المسلمين كانوا مشغولين بالأسئلة نفسها، وحاولوا أن يجدوا حلولاً لها.

في عودتنا إلى جذور المشكلة لا نتبنى هذه الحلول، ولكن نتعامل مع المشكلة في سياقها التاريخي، ونربط هذه المفاهيم بتاريخها الثقافي، المقموع والمهمَّش. ونحن اليوم، عندما نجد حلولاً، لا نكون بدورنا خارج إطار الثقافة.

لكنك في بعض كتاباتك تستدعي المعتزلة بحثاً عن مشروعية تاريخية، وتتبنى أحياناً الحلول التي يطرحونها، كفكرة أن ألوهية القرآن لا تعني أزليته، لأنه لا يمكن أن يقال إن القرآن أزلي بجانب الله، قديم مثل الله. فهذه الفكرة معتزلية بامتياز.

لا. هنا يجب أن تقرأ أعمالي في شكل تاريخي. ففي كتابي الأول كان هذا صحيحاً؛ لكني لا أعتقد ذلك الآن. أنا اليوم أستشهد بهم فقط على قرائن ومواقف تاريخية، أكثر مما أستشهد بهم بحثاً عن مشروعية لفكرة أريد أن أطرحها. أما فكرة أزلية القرآن فأنا لا أتبناها في صيغتها الدينية، وغالباً ما أستخدمها في السياق السِجالي، كما في كتاب التفكير في زمن التكفير، لأن الذي يحاججك يضرب بقوة التراث، وأنت في ردِّك تحاول أن تبيِّن تناقضه، كونه يرتكز على تراث واحد. لذلك لا أعتقد أن العودة إلى خلق القرآن وقِدَم القرآن في الإطار المعرفي للمعتزلة يمكن أن يحل لنا أي مشكلة، لأننا اليوم داخلون في قضية لغة القرآن نفسها التي لم يتطرق إليها المعتزلة أبداً.



في إطار موضوع اللغة ومدلولاتها، هناك بعض النظريات البراغماتية في الفلسفة الأنغلوساكسونية، وفي مقدمتها الأبحاث المتأخرة لفِتكنشتاين. وأنت تحاول أن تبرهن أن الكلمات والتراكيب اللغوية لا تجد معناها الأول والحقيقي داخل بنية النص نفسه، ولكن في إطار الاستخدامات العملية التي يصنعها بها البشر داخل سيرورة واقعهم الاجتماعي.

اللغة، في مجال تداولها، هي بمثابة عملة متداولة. لكن النص يتم تداوله أيضاً كدالٍّ وكعلامة؛ ومجالات تداوُله تختلف، وهذا يعدِّد المعاني فيه. وإذا كان أصحاب نظرية النص الخام يتصورون أنهم يستطيعون العودة إلى النص في مجال تداوُله الأصلي، فإن هذا مستحيل لأن اللغة، كعملة تداول، لا تصاب بالتلف كالأوراق المالية! وتالياً فهي تقوم بتحولات في المعنى وتتجدد. مثال: في التداول الأوَّلي للنص القرآني لم يكن هناك تناقض بين "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" [الإخلاص 4] وبين "يد الله فوق أيديهم" [الفتح 10]. أي لم يكن هناك تناقض داخل الأنموذج الثقافي لدى الجيل الأول بين إله منزَّه تماماً، "ليس كمثله شيء" [الشورى 11]، وبين إله له عين ويد، يحب ويكره ويبغض. عندما تغيَّر هذا الأنموذج، لأسباب كثيرة جداً، وتغيَّر معه مجال التداول (العلاقة مع غير العرب، وترجمة الفلسفة، والاحتكاك مع الفكر اللاهوتي المسيحي، إلخ) انكشف التناقض. الفكرة هنا أنك يجب أن تكون مسلحاً بنظرية في اللغة، وبنظرية في النص، وبنظرية في علم العلامات، لأن النص يتحول، ككتلة، إلى علامات. مثلاً: كلمة "السماء" داخل العبارة القرآنية "السموات والأرض"، في تداولها الأصلي، تعني أي شيء علا؛ أما كلمة "السماء"، في تداولها اللاحق، فباتت تحيل على عالم غني بالملائكة والجن والعرش إلخ؛ أي تحولت المفردة اللغوية، من خلال مجال التداول، إلى مفردة علاماتية.

إذاً النصوص الدينية هي في عملية تداول مستمرة؛ وهي قادرة على إعادة إنتاج معناها، ليس في معنى التكرار، ولكن في معنى التجدد والتطور. والأكيد أنها لا تقوم بذلك بنفسها، ولكن من خلال ما يصنعه المؤمنون بها من خلال التداول.

استخدامك لمصطلح "الأنموذج" paradigm يحيلني على علاقتك الأكاديمية ببعض النظريات الغربية، وببعض المفكرين الغربيين. فنادراً ما نراك تستشهد بهم، أو تدخل في حوار مع بعض أطروحاتهم، رغم الانطباع المتولد لديَّ بحضورهم الخفي في أعمالك.

إذا كنت أستفيد في أبحاثي من بعض النظريات، في نصوصها الأصلية أو في ترجماتها، فأنا في الحقيقة حريص أن أتمثل هذه المفاهيم الغربية في سياق الثقافة العربية. وأنا أكتبها باللغة العربية، فلا يشعر القارئ بالرطانة التي تحيل على لغة أكاديمية عالية. وما أسهل أن أقوم باستشهادات من فوكو ودرِّيدا، مثلاً؛ لكن هذا يصبح قصاً ولصقاً!

لكن مصطلح paradigm الذي استخدمتَه يحيل على أبحاث توماس كون T. S. Kuhn عن القطائع العلمية داخل فضاء الفكر الغربي [راجع كتاب كون بنية الثورات العلمية]؛ وأنت تسحبه من سياقه إلى سياق آخر. والسؤال هنا: هل أنت تستخدمه بمعنى القطيعة العلمية لدى كون؟ ولماذا لا تحيل قارئ كتبك على مراجعك النظرية؟

لا، ليس في الضرورة أن أكون استخدمت paradigm في المعنى نفسه، ولكن في معنى التغايُر في الأسس المعرفية على الأقل. أي أن paradigm، بالنسبة إليَّ، هو الانتقالة الأساسية في مجال الثقافة والمعرفة. ولا يهمني كثيراً بعد ذلك مسائل تاريخ استخدام المفهوم النظري داخل الثقافة الغربية. أنا لا أشتغل بتاريخ الفكر الغربي، أو بتاريخ الفلسفة، فأدخل في نقاش حول المفاهيم والأطروحات. وإذا استخدمت بعض هذه المفاهيم فأنا لا أستخدمها قبل أن تصبح واضحة.

أما في موضوع المرجع، فأنا في الحقيقة لا أملك مرجعاً محدداً، لأنها قراءة تحولت إلى جزء مني. والقارئ الواعي بالمصطلح يعرف مراجعه، وخصوصاً أنني لا أستخدم أي مصطلح وهو لا يزال في حال التباس داخل مجال اللغة العربية. وأنت هنا تُلزِمُني، في شكل أو في آخر، أن أنخرط في هذه القضايا النظرية. محمد أركون مشغول بهذه القضايا؛ ويجب أن أقول لك أني مدين له كثيراً في موضوع المنهج. لكن انشغال أركون بهذا الموضوع لا يسمح له بالاشتغال كثيراً بما وراء ذلك. أنت يمكن أن تبذل عمرك كله في الكلام عن الوصفة والمقادير. أنا أحب أن أدخل المطبخ وأجرِّب!

هذا يحيلنا على وجودك منذ سنوات خارج العالم العربي، كأستاذ زائر في جامعة ليدن، يدرِّس طلابه باللغة الإنكليزية. رغم ذلك، معظم كتاباتك لا تزال تصدر باللغة العربية، وتندرج في فضاء مسائل الثقافة العربية – وكأنك، روحاً وفكراً، لم تغادر قط العالم العربي!

لا أرغب أن أُبعَد عن المجال الثقافي العربي؛ وخوفي الرهيب هو أن أبقى في الغربة فأنتمي إلى المجال الثقافي الغربي. عمري كله أمضيته في القضايا الساخنة داخل الثقافة العربية؛ وأنا حريص جداً أن تبقى معظم كتاباتي باللغة العربية، وأن لا أكتب إلا القليل باللغة الإنكليزية. فرغم أني على اطلاع على القضايا الساخنة في الفضاء الفكري الغربي، لكني لست طرفاً فيها، ولست جزءاً من حلِّ مسائلها.

غالباً ما تستغل بعض الأوساط الثقافية والإعلامية في الغرب قضية التعاطف مع المثقفين المسلمين المضطهدين في بلادهم، بسبب آرائهم النقدية من الفكر الديني، كغطاء من أجل شنِّ حملات عنصرية ضد الإسلام كدين. ألم تتوجَّس حال وصولك إلى أوروبا من أن تُستخدَم قضيتُك في هذا الاتجاه؟

هذه نقطة مهمة جداً. لكن دعني أقول إن السياق الذي سافرت فيه إلى هولندا خلق عندي تخوفاً شديداً من أن يحتفي بي الغرب باعتباري ناقداً للإسلام كدين. هناك إغراء حقيقي بالنسبة إلى أي إنسان مضطهَد ومظلوم تحت خيمة الحماية أن يستطيب حكاية الاضطهاد والظلم هذه. وأنا كنت واعياً، وحذراً جداً، حيال هذه النقطة، إلى درجة أنني رحت أبدأ محاضراتي هناك وأنهيها بطقوس الخطاب الإسلامي، الأمر الذي لم أكن أفعله في العالم الإسلامي! وهذا ليس تظاهراً، بل عائد إلى أني كنت متخوفاً حقيقة في البداية أن يحتفي بي الناس ويقدِّروني لأنهم يرون أني أنقض الإسلام من خارجه؛ في حين كنت حريصاً أن أؤكد لهم أني ناقد للفكر الإسلامي من داخل الإسلام، وأني مسلم، وأن القضية ليست قضية دينية، ولكنها قضية سياسية في الجوهر.

ثمة جانب آخر يتعلق ببعض الباحثين. فبمجرد أن يكون الواحد منهم في الغرب يصبح لديه ميل إلى أن تعترف به المؤسَّسات الأكاديمية الغربية وتحتفي به وكأنه واحد منها. فتراه لا هو ينتمي تماماً إلى المجال الثقافي الغربي، ولا هو قادر على المحافظة على انتمائه إلى مجاله الثقافي الأصلي (إذا استثنينا طبعاً إدوارد سعيد). أما بالنسبة إليَّ، فأنا هنا "أستاذ زائر"؛ وهي صفة تجعلك جزءاً من المؤسَّسة الأكاديمية، ولكنك، في الوقت نفسه، تنتمي إلى فضائك الثقافي الخاص. وإذا كنت أنا نفسي ضد فكرة أن أعيش بإحساس الضحية فإن سعادتي كانت كبيرة لأن الجسم الأكاديمي في جامعة ليدن لم يتعامل معي كأستاذ ينشد الحماية، بل كأستاذ زائر له شرفه الخاص، كمفكر وكإنسان، ولا يرضى أن يتاجر بقضيته.

في كتابك الأخير دوائر الخوف في خطاب المرأة نلاحظ تداخل الهمِّ الذاتي مع الهم الجماعي. ترى هل أثَّرت الأزمة التي أصابت زوجتك ابتهال يونس وأصابتك في مسارك الفكري؟

الهمُّ الذاتي كان دائماً موجوداً في أبحاثي؛ لكنه في هذا الكتاب أصبح مفصَحاً عنه في شكل أوضح، وخصوصاً أنه كتاب عن المرأة. الأزمة التي تعرَّضنا لها، زوجتي وأنا، لا تزال تسمَّى قضية نصر حامد أبو زيد. حتى القوى الثقافية والوطنية، التي تعتبر نفسها تقدمية في مصر، تناولت القضية على أنها قضية رجل تعرَّض للاضطهاد؛ مع أنها، في الأساس والجوهر، ظلم فادح ارتُكِبَ في حقِّ امرأة. نحن هنا أمام شرف امرأة امتُهِنَ. وهي لم تؤلف أي كتاب عن الإسلام؛ ومع ذلك لا تزال القضية تُطرَح في الخطاب العام على أنها قضية نصر حامد أبو زيد وحده. وهذا دليل على أننا نعيش داخل ثقافة ذكورية. السؤال هو: لماذا لم ينفُذوا في حربهم ضد أبحاثي إلا عبر الحلقة الضعيفة التي هي قانون الأحوال الشخصية والطلاق؟ ولنفترض، جزافاً، أن ذلك المدعو نصر حامد أبو زيد يجب أن يعاقَب لأنه، حسب ما يقولون، اقترف مُنكَر الردَّة. طيب، فليعاقَب! لكنهم، كما قالت ابتهال، يتعاملون مع المرأة على أنها دمية الرجل! وأفضل عقاب له هو حرمانه دميته، مستغلين وجود جناح ضعيف في المجتمع والمؤسَّسات والقوانين. رغم ذلك كله، لا أريد أن أتعامل مع هذه القضية على أنها قضية شخصية. فأنا لو عشتها على هذا الشكل، وعشت آلامها فردياً، لكنت انتهيت من زمان.

بالتوازي مع قضية الطلاق والتفريق، هناك قضيتك كأستاذ جامعي ومكانتك داخل الجامعة. فكأن معركتك الأساسية هي أيضاً دور الجامعة المصرية ومكانة الأستاذ الجامعي وحريته داخل هذه المؤسَّسة المدنية؟

[صارخاً] طبعاً! هذه قضيتنا كلنا. وقد كتبت في مقدمة التفكير في زمن التكفير عن دور الجامعة، وعن الأسباب التاريخية التي أدت بهذه المؤسَّسة، المفترَض أنها مدنية وعلمانية، إلى أن تصبح ضعيفة وهشة، وأن تستسلم، منذ بدايتها، أمام أي هجوم تشنه عليها المؤسَّسة التقليدية.

وعلى الرغم من عدم وجود عائق قانوني يحول دون عودتي إلى مصر، فأنا لم أعد حتى الآن، وقلت في شكل صريح أني لن أعود ثانية إلى مصر إلا كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه في الجامعة المصرية. لكن الواضح أن الجامعة وصلت إلى درك باتت لا تتحمل فيه حتى هذا الطلب لأستاذ لا يزال مسجلاً كعضو في طاقمها التدريسي. وفي المناسبة، حتى جامعة دمشق لا تتحمل ذلك. فقد حاول د. صادق جلال العظم أن يدعوني كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير، أو حتى للمشاركة في أسبوعها الثقافي، وفشل في ذلك!

يقول بعضهم إنه لو كان لبيروت دورها الثقافي والجامعي الذي اضطلعت به في مرحلة الستينات لاستضافت الدكتور نصر حامد أبو زيد في جامعاتها، بدل أن يذهب إلى هولندا. ما رأيك بهذا الكلام؟ وهل أنت مستعد للعودة إلى العالم العربي إذا عرض عليك التدريس في إحدى جامعاته؟

أنا في انتظار دعوة من الجامعة المصرية أولاً؛ ولكن أيضاً من أي جامعة عربية. ولو عُرِضَ عليَّ منصب أستاذ في أي جامعة عربية فسأترك هولندا في اليوم الثاني، لأني سأكون مع ناسي وأهلي. لكن إذا تحقق هذا فمعناه أن الجامعة مختلفة والمكان مختلف، لأنهم لن يدعوني لأصمت، ولكن لأعبِّر بحرية عن خطابي وتفكيري.

هل تعتقد أن هناك أملاً في أن تربح معركتك داخل الجامعة المصرية؟

يعني إيه "أربحها"؟! أنا اليوم داخل على الستين؛ وسأحال قريباً على التقاعد، بحسب قوانين الجامعة المصرية. يعني خلاص مافيش معركة، وعلى الأجيال الجديدة أن تخوض معركتها. الجامعة المصرية خُرِّبَت بفعل عوامل الفساد المنتشرة في المجتمع ككل – والفساد يسند بعضه بعضاً. أنا لا أتوقع أن تقوم قائمة للجامعة المصرية في المستقبل القريب، ولا حتى للجامعات العربية؛ فالوضع ليس أحسن حالاً هنا في دمشق. والمفارقة أنني هنا في سوريا؛ بمعنى أن المجتمع قبل بي. وحتى السلطة السياسية ليست ضدي؛ والدليل أنها سمحت بقدومي. بما يعني أن الجامعة أكثر تخلفاً من السلطة السياسية المستبدة، والاثنان أكثر تخلفاً من المجتمع! هذه ظاهرة خطيرة. فالمفروض أن تكون الجامعة هي رأس رمح التقدم في أي مجتمع؛ الأمر صار عندنا مختلفاً. في السابق لم يُكفَّر طه حسين داخل الجامعة. أنا كُفِّرت في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة!



كُفِّرتُ في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة!

هذا يقودنا إلى سؤال عن الواقع الثقافي المتردِّي في مصر. فأين نحن اليوم من ذلك البلد الذي شهد ولادة فكر النهضة وحَضَنَ كبار كتابها؟

دعنا من الكلام بمنطق الحنين! الواقع أن إنهاك مصر لم يكن فقط لأسباب اقتصادية أو عسكرية؛ إنما حصل استنزاف للعقول خلال الحقبة النفطية نتيجة التحالف المصري–السعودي–الأمريكي والهيمنة السعودية على المؤسَّسات الدينية؛ فتحولت المؤسَّسة الدينية في مصر إلى مؤسَّسة وهابية بعدما كانت أشعرية. حدثت هجرة للمصريين بأعداد كبيرة جداً إلى دول النفط؛ فعادوا بعقول تم غسلها بمنطق إيماني مختلط بالثراء. وإذا كان مفهوم النفط نفسه، كبنية اقتصادية، معناه أن تتحقق الثروة من دون عمل؛ أي أن الثروة موجودة تحت الأرض، ولا يحتاج استخراجها سوى إلى الحفر، فإن هذا ساهم في ترسيخ بنية معرفية تعتقد أن المعرفة موجودة في الماضي، وهي لا تحتاج إلى إعمال العقل للوصول إليها، بل تحتاج فقط إلى نبش الماضي بحثاً عن حلول للحاضر. سيطرةُ هذه البنية المعرفية المنبثقة من ثقافة البترول جعلت العمل والتفكير بلا قيمة. حركة المدِّ التي كانت تخرج من مراكز الحضارة إلى مراكز البداوة انقلبت، بفعل البترول وأزمات الحروب، وأصبحت البداوة وقيمها وفقهها تزحف على الحضارة. وهذا، في رأيي، ساهم في التفكك الثقافي الذي نشهده اليوم، ليس في مصر وحدها، بل في الكثير من البلدان العربية، كسوريا مثلاً.

من يتحدث معك يشعر أن لديك قلقاً أن لا تعود إلى مصر.

آ... طبعاً! ليس القلق بل الحزن. كنت أتصور أنني تجاوزت هذا الموضوع؛ لكني صرت أفكر فيه كثيراً. هو ليس الحنين إلى مصر، أو القاهرة، أو حتى إلى الجامعة، ولكن رغبتي أن أزور قريتي وألتقي إخوتي الذين لم تُتَح لي الفرصة حتى لوداعهم. عايز أروح أسلِّم عليهم وأمشي. لكن لن تكون هناك زيارة للقاهرة في برنامج الرحلة. أروح القاهرة أعمل إيه؟ لو كانت الجامعة دعتني، كنت نزلت القاهرة برايتي كأستاذ جامعة. الوطن انحصر في مكان الميلاد؛ أما الوطن الواسع فلا أحد يستطيع أن يحرمني منه! غير أنني بتُّ أحمله داخلي.

في الحفلة الغنائية التي قدَّمها الفنان محمد منير في دمشق، ضمن مهرجان دار المدى الثقافي، كنتَ جالساً في الصف الأول، ولاحظ الجميع أن دموعك انهمرت فجأة. ما السبب؟

أريد أن أقول لك شيئاً، لكن لا أعرف كيف أقوله! أنا شخص عاطفي، ولا أخجل من ذلك. عندما شاهدت فيلم المصير، وسمعت لأول مرة أغنية "علِّي صوتك بالغُنى"، وجدتُها طريفة وضحكت. لكن عندما غنَّاها محمد منير هنا في دمشق ولحظة قال: "لسَّه الأغاني ممكنة"، انتفضت ولم أعد أستطيع أن أتحكم بدموعي، ورحت أسأل نفسي: أفعلاً هي ممكنة؟

مرة دعتني جمعية أهلية اسمها "فضاءات ثقافية" إلى مدينة طنجة في المغرب. وفي ليلة الوداع أقيم عشاء، وراح بعض الأصدقاء يغنِّي للشيخ إمام، فانهمرت دموعي، فتوقفوا عن الغناء وأخذوا يعتذرون، متخيِّلين أنهم جرحوني. فقلت لهم: لماذا تتصورون أنه الألم؟ استمروا في غنائكم، ودعوني في دموعي؛ هي بمثابة غسيل لي!

ما سبب إصرارك على زيارة قبر الشاعر نزار قباني في مقبرة باب الصغير بدمشق؟

إن موت شاعر كبير كنزار قباني في إنكلترا، بعيداً عن وطنه، وعودته في نعش ليدفن فيه، وما حدث في لندن، عندما رفض بعض المتطرفين إدخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع، كان له أثر في نفسي؛ فحدث نوع من التماهي، تخيلت فيه أن الأمر نفسه يحدث مع زوجتي إن هي قررت أخذ جثماني إلى مصر. طبعاً، هناك أيضاً الألم لفقدان شاعر كبير أغنى وعينا بشعره الإنساني العميق جداً والبسيط جداً. شاعر عظيم عاش في الغربة؛ وعندما مات، باتت السلطة مهتمة بالجثمان، وعرضت طائرة عسكرية من أجل نقله إلى وطنه! هذه الحادثة أيضاً مسَّت ألماً في داخلي.



أمام ضريح الشاعر نزار قباني

زرتُ أيضاً قبر ابن العربي وقبر صلاح الدين في دمشق، ولم أستطع أن أتوقف عن مقارنة تواضع قبر صلاح الدين بأبَّهة الأضرحة لبعض القادة العرب. لا أنكر أني، في الآونة الأخيرة، رحت أتأمل في مسألة الموت ومعنى القبر وقيمته. وكما قلت سابقاً، تمنيت على زوجتي أن تدفنني حيث أموت، ولا تتجشم عناء نقل جثماني إلى مصر. الأرض كلها أرض الله، ولا أريد لزوجتي، إلى جانب الحزن الذي ستعيشه، أن يقول أحدهم كلمة أو يكتب مقالاً يجرحها ويزيد عناءها. وحتى إذا عدتُ إلى مصر ميتاً، واحتُفِي بجثماني، فما معنى ذلك، إذا كنت سأموت وحيداً وبعيداً عن وطني؟!

هل أنت مجروح من وطنك؟

نعم، بمعنى الغضب، ولا أخجل من ذلك. فمن حقي أن أكون غضبان. أعتقد أن غضبي أحياناً يحميني؛ وهو لم يقل منذ لحظة مغادرتي قبل سبع سنوات. أحب مصر إلى درجة أني لا أريدها أن تكون مقبرة لي. مصر وطن حُرِمْت العيش داخله؛ فلماذا أُدفَن فيه؟! إذا كان وطنك لا يريدك حياً، يجب أن تحرمَه منك ميتاً.

أنا أميِّز بين مصر الناس ومصر المؤسَّسات. لكن، مع ذلك، هي علاقة غريبة جداً. أحياناً أفكر بمصر وكأنها أمي؛ لكنها أمي التي رفضتني ونبذتني. هذا آلمني جداً إلى درجة أني – وكنت لم أغادر مصر بعد – قلت لها: يا مصر أنا عاوز أفتح للضوء كوة وأنتِ مش عايزة. فبخاطرك يا مصر!



بخاطرك يا مصر!

أنا بعيد عن المكان، وليس عن الناس. أحمل حبي للمصريين وغضبي من مصر... الجامعة... الجامعة جرحي.

أجرى اللقاء محمد علي الأتاسي

***

ملحق
نصر حامد أبو زيد تمنى لو بقي في صومعته
يحاول اختراق الانسداد التاريخي
سؤال الديموقراطية ليس دينياً لنجد جوابه في الإسلام


كوليت بهنا



على هامش زيارته إلى مدينة حلب السورية للمشاركة في الندوة الدولية حول عبد الرحمن الكواكبي، أحد رواد الفكر النهضوي التنويري في القرن العشرين، نظم المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق للمفكر العربي د. نصر حامد أبو زيد لقاءً خاصاً جمعه مع بعض المثقفين السوريين، أشاد فيه بداية بندوة الكواكبي وجهود المعهد الفرنسي في هذا الإطار، معتبراً أنها تمثل "نقطة بارزة في تاريخ الأنشطة الأكاديمية"، و"ربما كان يمكن أن تمثل بداية ثورة فكرية، لو كنا نعيش في مناخ ديموقراطي حقيقي". واعتبر أبو زيد أن مشاركته في هذه الندوة تمثل نقطة تحوُّل بالنسبة للسنوات الماضية في حياته لأنها، كما أوضح، أول ملتقى أكاديمي عربي أوروبي يُعقَد في بلد عربي ويكون مساهماً فيه.

لقاء غني بأفكاره، أثيرت فيه العديد من الاستفسارات والقضايا الحيوية... نلخص هنا أهم ما جاء فيه من أفكار وأسئلة، انطلقت من تيارات فكرية مختلفة اجتمعت معاً من أجل الحوار.

في ردِّه على سؤال حول الإسلام والديموقراطية، وهل يمكن أن تتأسس الديموقراطية مع الثقافة الإسلامية، أوضح أبو زيد أنه قد آن الأوان لاختراق الخطأ الكامن في مثل هذه الأسئلة. فليس سؤال الديموقراطية والحرية سؤالاً دينياً حتى نبحث عن إجابة له في الإسلام. هناك معوِّقات للديموقراطية، اجتماعية وسياسية؛ وهذه المعوقات تعتمد أساساً على بنية ديكتاتورية، بل وبنية طائفية للأنظمة السياسية: "هناك مشكلات في الثقافة، هناك مشكلات في الوعي إزاء الديموقراطية والحرية، ولا نستطيع أن نضع المسؤولية في عنق فريق. وأنا ضد أن نعتبر أن الإسلاميين هم وحدهم المضادُّون للديموقراطية. أيضاً هناك فريق واسع من غير الإسلاميين، إذا وصلوا إلى الحكم، سيكون أول بند لديهم هو إلغاء الديموقراطية. ويجب أن نكون أمناء جداً في هذه المسألة."

وتابع مؤكداً أن علينا مناقشة الديموقراطية بعيداً عن مشكلة الدين، لأنه "حين تثار مشكلة الدين يمكن أن تثار مشكلة الحرية، وهل الإسلام ضد الحرية؟... ولا أظن أن هناك من يقول إن الإسلام ضد الحرية. ربما يقول إن الإسلام يضمن الحرية، لكن بشروط". في هذه الحالة علينا أن نناقش الشروط؛ وهنا ندخل في مناقشات حول الدين وحول الثقافة، وهل هذه الشروط تنتمي إلى مجال الدين، أم تنتمي إلى مجال الثقافة، أم تنتمي إلى مجال الفكر، إلخ.

تأميم الأفكار
أبو زيد أكد أن هناك تجارب تحققت في بعض البلدان العربية نمت في ظل النمو القومي والوطني، مستشهداً بتجربة وطنه الأم مصر الذي بدأت فيه المؤسَّسة الديموقراطية مبكرة، ووصلت إلى ذروتها مع أول دستور مصري سنة 1923، ثم أخفقت لأسباب، حتى قيام الثورة التي، على الرغم من كل نواياها الحسنة، "أمَّمت كل شيء؛ ومن ضمن هذا التأميم كان تأميم الأفكار". وهنا بالضبط تبدأ مشكلة أن "النوايا الحسنة لا تصنع تقدماً"، وإنما مشاركة الشعوب هي التي تصنع هذا التقدم. وأضاف أن الحوار حول الديموقراطية وأسباب الفشل في تحقيقها يعني مشروعاً يتطلبه "النقاش العام"، مشدداً على أن هذا النقاش العام هو "المقدمة الأولى"، والخروج من نفق البحث عن إجابات في الدين وحده.

في ردِّه حول إن كان المجتمع العربي، بغالبيته المسلمة، وتجربته التاريخية، وآفاقه المستقبلية، جاهزاً ومهيأ بكوامنه للانتقال نحو أنساق حضارية تتجاوز الوضع السائد، أكد أبو زيد التنوع في المجتمعات العربية (أقباط مصر، ونصارى الشام ولبنان)، مضيفاً أن المسلمين لا يمثلون ثقافة أو طبقة واحدة، إنما ثقافات وطبقات. والشكل الوحيد لإدارة مجتمع صحيح هو، كما يسميه، "تنظيم اختلاف وليس إلغاء اختلاف"، عبر أداة الديموقراطية الوحيدة القادرة على تنظيم هذا الاختلاف. ولكي تحكم مجتمعاً بالشريعة لا بدَّ من تحويل هذه الشريعة إلى قوانين مشتقة منها، يرتضيها المجتمع، وتوضع في صيغ قانونية يمكن التعامل معها وفقاً لمحاكم مدنية يقوم عليها قضاة يستطيعون التعامل مع هذه القوانين. بعضهم يفهم الديموقراطية أنها خروج عن الشريعة، وخروج عن قيم وقواعد الإسلام. لكن تجربة إيران الحديثة تؤكد إمكانية أن يكون هناك مجتمع ديموقراطي ومجتمع محكوم بقوانين وقواعد الشريعة. مما يؤكد أنه لا تناقض أساسياً بين الإسلام كدين، والإسلام كثقافة، وبين الديموقراطية. التناقض هو بين الديموقراطية وثقافات كثيرة جداً جداً تُطرَح في المجتمعات العربية باسم الدين، أو باعتبار أنها دين.

في معرض ردِّه على إحدى مداخلات الحضور التي شددت على أن القضية ليست قضية نصوص (العقائد) وليست فيها، إنما هي قضية إصلاح المؤسسة الدينية الرائجة، أكد أبو زيد مجدداً وحدة الخطابين السياسي والديني، باعتبارهما، في النهاية، خطاباً واحداً. فعلى مستوى بنية الخطاب هو نفس الخطاب: الاستئثار بالسلطة! والمعركة الحقيقية هي الحرب ضد الديكتاتورية الدينية والديكتاتورية السياسية، والعمل على فك هذا الزواج الكاثوليكي بين السلطة والسياسة على جميع المستويات والأصعدة، ليس عبر فكرة رائدة لمفكر ما أو كتاب أو غيره فحسب، إنما عبر هذه مجتمعة؛ عبر السعي إلى النقاش العام مجدداً واختراق الصمت بمحاولة طرح هذا النقاش العام، وتربية الاستماع إلى الرأي الآخر، مع أهمية الوعي بالذات في علاقتها مع الآخر وقبوله على كل المستويات، وضرورة أن ينظر كل منا، كمجتمع وكأفراد، إلى نفسه في المرآة، ويبتدئ أولاً مع نفسه، لأننا "ديكتاتوريون بالميلاد"... إن تغير الحكومات لا يعني أن المجتمع يتغير بتغيرها. المؤسَّسات تصنعها الحكومات. وقد آن الأوان للمجتمع أن يصنع المؤسَّسات؛ وهذا يتوقف على قوة المجتمع المدني. لكن كل هذا لا يعني التوقف عن مناقشة المعوقات الثقافية التي تبدو ذات ملامح دينية أيضاً. ويتوقف هذا الأمر على النجاح في الفصل بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني، أي إعادة الدين إلى نطاق سلطته الحقيقية، وعلاقة الفرد بربِّه، وعلاقة الفرد بالمجتمع، أو الدين كقيمة دينية، لا كقيمة سياسية. وهذا هو الشرط الجوهري. كذلك أن يتحرر العقل من سلطة النصوص الدينية، لأن سلطة النصوص الدينية هي سلطة "معطاة" للنصوص الدينية؛ أي أن النص لا يمارس سلطته بذاته، وإنما يمارس سلطته من خلال المؤسَّسات التي تقيم من النص سلطة. وحين يقال "التحرر من سلطة النصوص" لا يُقصَد التحرر من الدين، وإنما التحرر من سلطة النصوص التي صنعتها مؤسَّسات وأفكار وعقائد. وهذا الكلام، للأسف، لا يدرَّس في جامعاتنا ولا يمكن تدريسه. عندنا الكفر عقاب. وعلينا أن نقاوم، وأن ندفع بالنقاش كي لا يكون "التكفير" نهاية للحوار، لا بداية له.

يدرك أبو زيد أهمية نقد الديموقراطية وإدراك بعض جوانب القصور في التجربة الديموقراطية، لأن الديموقراطية هي التي أتت مثلاً بهتلر، وهي التي أتت أيضاً بشارون. ولا أحد يقول إن الديموقراطية هي الحل السحري الذي سيحل كل مشكلاتنا. مهمة المفكرين السياسيين هي أن يناقشوا هذه القضايا؛ لكن ستظل مناقشتها، في غيابها في مجتمعاتنا، مناقشة لما يحدث خارج مجتمعاتنا؛ أو بمعنى أوضح، أن نكف عن مناقشة الديموقراطية تجريدياً. إن العالم والإنسانية لم يصلا إلى حل آخر بعد، "ونحن نريد أن ندخل في مشاركة، في عملية البحث عن بديل من خلال المتاح، أياً كان شكل المتاح". وليس من الضروري أن تكون ديموقراطيتنا نسخة من هذه الديموقراطية أو تلك. "لتُبذَر البذور أولاً، وبعد ذلك نفكِّر في كيف يكون البناء."

الدين والسياسة
حول التلازم الذي يحدث اليوم بين الدين والسياسة في السياسة الأميركية، ودخول الخطاب الديني المتزمت لسياسة رأس النظام الأمريكي، أجاب أبو زيد بأن مسألة الدين في أمريكا أعقد منها في أوروبا. فالفصل بين الدين والسياسة هناك حدث على مستوى البنية الفوقية؛ لكن على مستوى البنية المجتمعية لم يحدث هذا الفصل، ولا يجوز الوهم أنه تم تماماً الفصل بين الدين والسياسة في المجتمعات الغربية عموماً – الفصل بمعنى أن السياسة معزولة عن الدين الذي يظل له حضور في القرار السياسي. ولا يعني هذا أن الدين هو المتحكِّم؛ لكن هناك مصالح وتضارباً لهذه المصالح بين القوى المختلفة داخل المجتمع. وداخل المجتمع الأميركي هناك مقاومة لهذا الخطاب، وهناك اعتراضات واحتجاجات ضد السياسة الأمريكية تأتي من داخل أمريكا ومن خارجها، لأن الديموقراطية تسمح بهذا النوع من الاعتراض العلني على هذه السياسات؛ ويؤخذ، بالتالي، بهذه الاعتراضات العلنية بشكل أو بآخر. ونحن ليس علينا أن ننظر إلى الغرب على اعتبار أنه المثال والنموذج. فأوروبا التي ادَّعت العلمانية هي التي ساعدت في قيام دول على أساس ديني، منها دولة إسرائيل، وقيام دولة إسلامية في باكستان. إذن، الأمر ليس فقط "معايير مزدوجة"، وإنما التباس في تصورنا للعلمانية، وفي تصورنا أنه حدث في ذلك الجزء من العالم، وأنه قد قذف بالدين إلى خلفيات المجتمع.

وأخيراً، وحول تحوُّله – أي نصر حامد أبو زيد بذاته – من إشكالية ثقافية نصية في البحث في تاريخ النص وفهم النص، لينتهي إلى إشكالية محض سياسية، لا نقول إنه دافَع بقدر ما أوضح لسائله الحريص (بشيء من الغُصَّة التي حاول مداراتها عن العيون) بأنه كان يتمنى لو ظل مشغولاً في عزلته في الصومعة، متابعاً الحفر في مسألة النص والتاريخية والخطاب، ومؤملاً أيضاً، ليس فقط تأليف مجموعة من الكتب، إنما المساهمة في إنجاز مدرسة، ومواصلة التراث العربي الحديث في محاولة اختراق "الانسداد التاريخي في الفكر الإسلامي". لكن "الزلزال"، كما وصفه، حدث، وأُبعِدَ عن "صومعته". وليس المقصود بصومعته بلده مصر، أو جامعته، أو حتى بيئته، إنما "تلاميذه" – وهم الذين يفتقدهم، ويشعر هذا المفكر المعلِّم بأنها الخسارة الحقيقية التي مُنِيَ بها، مشبهاً تلاميذه بـ"الجنينة الصغيرة" التي كان يسقيها ويرعاها: "فالريح جاءت، وأنا فلاح ابن فلاح، وأكره جداً الريح حين تأتي وتنتزع الغرسة التي زرعتها... هذه هي الخسارة الحقيقية التي لا يمكن لأحد أن يعوضها... لكني وجدت مكاناً آخر، وجدت زراعة هناك تأتي من عناصر أخرى... وهذا يطرح عليك أسئلة عن علاقة المثقف بالسلطة... وتستعيد هنا علاقة المثقف بالسلطة في أزمة أنت ترى فيها أن الثقافة تفقد دورها... لأنه إذا كانت الشعوب سلَّمت شأنها للحكام الوطنيين، فقد سلَّم المثقفون شأنهم الآن للسلطة... يعني استطاعت السلطة، أو السلطات، أن تدجِّن المثقفين، بدرجات أو بأخرى، وأصبحوا، بشكل أو بآخر، جزءاً من جهاز السلطة. وأنا – حماية لنفسي من هذا الخطر، لأن كل كتاب هو مشكلة شخصية ومشكلة عامة – أعود إلى تاريخ المثقفين التنويريين، وأرى كيف كانت علاقتهم بالسلطة... وهذا مهم جداً جداً... إذاً ليس هذا انتقالاً من الفكري إلى السياسي، لأنني ما زلت في إطار الفكري؛ وفي كتابي مفهوم النص، وهو من الكتب الأولى والمعتدلة، ستجدني في قلب السياسي أيضاً. وفي قلب السياسي تفسير قضية الجبر والاختيار، بوصفها كانت قضية سياسية في ذلك المجتمع. فالفصل بين السياسي والفكري صعب؛ وفي النقاش السياسي الذي يدور الآن في مجتمعاتنا صعب جداً أن يستمر... وربما لأنني اغتربت، وربما كنوع من تعويض الاغتراب، أن تعيش القضايا الحية وتشارك في النقاش فيها." "الدرس الذي وعيتُه هنا أن أمامك خيارين كمثقف وتعمل في مجال الفكر: إما أن تنتج الفكر وتقول: "يا سلطة أبوس إيدك، اعملي هذا المشروع"... وهذا هو الذي حصل طوال الوقت باستثناء طه حسين؛ وإما أن تقول: "لا، أنا سوف ألجأ للناس ولن ألجأ للسلطة." أنا سأزرع أفكاري في الناس، بوسائل غير الكتاب، لأن الكتاب أحد الوسائل، لكنه ليس الوسيلة النهائية. وهنا وجدت اختياري. ولا أتردد عندما يكون هناك حوار أن أكون مع الناس، ولا أفكر في الوقت ولا في التعب، ليس لأنني أعتبر نفسي داعية، لكن لأنني أعتقد أن الحوار يزوِّدني ويبلورني ويبلور لي أسئلة؛ الحوار يمنحني التغذية الممتدة. أنت تطرح أفكارك في الناس، والناس تتجاوب معك أو لا تتجاوب؛ فيحدث هذا الجدل الخصب الذي يجعل الفكر ليس نظرية معلَّقة في الفراغ، أو مشروعاً نبوياً رسولياً. أعتبر أن نقدي لتاريخ علاقة المثقف بالسلطة، أو قراءتي لتاريخ علاقة المثقف بالسلطة بطريقة نقدية، أفادني، لأنني لا أستطيع أن أغيِّر التاريخ، لكنني أستطيع، على الأقل، أن أحمي نفسي من أن أكون جزءاً من هذا التاريخ. أفادني في أن أبحث عن حماية، ومن أين أجد هذه الحماية – وأعتقد أنني وجدت هذه الحماية. وهذا ليس نقلة في تصوري؛ وأنا محتاج أن أرجع إلى الصومعة. لكن بين الحين والآخر، يحتاج الراهب إلى أن يخرج لكي يشم الهواء النقي."

وختم نصر حامد أبو زيد حواره بالتأكيد على أن الدين قوة اجتماعية، بوصفه قوى من القوى الثقافية الفاعلة في المجتمع وفي الحِراك الاجتماعي. ويظل السؤال الذي تم التوصل إليه، ألا وهو أن الدين لا يصنع البشر، وإنما البشر هم الذين يصنعون الدين. فكيف يستعيد البشر قدرتهم على صناعة الدين؟

سؤال يرتبط بالحريات مرة أخرى؛ ويعني حرية الفكر وحرية الحوار وحرية التعبير. والديموقراطية، هنا أيضاً، هي وسيلة لتحقيق هذه الحرية، وليست مجرد وسيلة سياسية.