عاشق من فلسطين
22/02/2005, 14:25
النضال اللاعنفي:
القصة اليومية للفلسطيني العادي
لوسي نسيبة*
اللاعنف هو أصل النضال الفلسطيني: الصمود، والقدرة على التكيُّف، وحماية الكرامة الإنسانية من الإذلال المتواصل للاحتلال الإسرائيلي ووحشيته. والفلسطيني "العادي" منغمس في نضال لاعنفي من أجل حريته. فاللاعنف يمثل القاعدة الأساسية للنضال الوطني الفلسطيني؛ وحجمه يفوق بكثير حجم الأعمال العنيفة التي تحتل العناوين الرئيسية في وسائط الإعلام. وحيث إن الحياة اليومية للفلسطيني تتعرَّض لمزيد من التنغيص، في كافة مناحيها، فهناك اهتمام متزايد بالبحث عما يمكن له أن يعيد لهذه الحياة تفاصيلها وملامحها الطبيعية، كاللجوء إلى النضال اللاعنفي، لعلَّه أن يكون الأسلوب الأفضل لتحقيق ذلك.
وسواء احتل بصيصُ الأمل الذي وفَّرتْه "خريطة الطريق" مكانًا في النضال الفلسطيني أو لم يفعل، فإن هناك ضرورة لتمتين النضال الفلسطيني اللاعنفي ولإعادة الاعتبار إليه. فالعنف فقط في مصلحة أولئك الذين يسعون إلى السيطرة والهيمنة بزرع الخوف في الآخرين. وإذا سُمِحَ للوضع في الشرق الأوسط بأن يتعرَّض للانهيار، فليس هناك ما يضمن عدم جرِّه بقية العالم إلى دوامة العنف والرعب. فباستطاعة المجتمع المدني، على المستويين المحلِّي والدولي، إذا ما أراد، كسر دائرة العنف في هذا العالم المتداخل والهشِّ – بل يجب عليه ذلك.
لقد آن الأوان لأن يدرك العالم أهمية النضال اللاعنفي ومركزيَّته بالنسبة للفلسطينيين، وأن يفعل ويتكلَّم بصوت عالٍ، دعمًا وتضامنًا مع الذين يشاركون في هذا النضال كافة.
والنضال اللاعنفي يعني تمسُّك المرء بحقوقه، والإصرار عليها، دون اللجوء إلى العنف. وهو غالبًا ما يتضمن العمل على سحب مصادر الدعم عن السلطة غير المشروعة أو تقليصها، ويحتاج إلى شجاعة الناس العاديين وإنسانيتهم وإصرارهم على العيش بكرامة واحترام. ولا يعني النضال اللاعنفي استسلامًا، وليس بالضرورة تنازلاً، لكنه وسيلة لتحقيق العدالة والتغيير، دون لجوء إلى العنف. ويُنظَر إلى اللاعنف كوسيلة للتمكين empowerment: فهو ينمو وينتشر بإطلاق ما هو كامن في الناس، ويساهم في تطوير استراتيجية لحلول ديموقراطية للمشاكل والمظالم على المدى الطويل. ويقف على الجانب النقيض العنفُ الذي، حتى إذا انتصر مستخدمُه على المدى القصير بسبب لجوئه إلى القوة الصرف، فإنه، في النهاية، لا يسلب القوة والسلطة من الذين يظلمهم ويضطهدهم و"ينتصر عليهم" وحسب، وإنما حتى من هؤلاء الذين يستخدمونه، لأنه يسلبهم – وهذا ما لا مهرب منه – إنسانيتَهم.
ومن الدارج أن يرتبط اللاعنف بأحداث وأسماء محددة، مثل غاندي ومارتن لوثر كنغ وغيرهما، وأن يُنظَر إليه كنشاط محدَّد: مسيرة أو إضراب أو، في أفضل الأحوال، كحدث يؤثر على مشاعر الطغاة، ويؤدي إلى تغيير مسار الصراع وتحويله. فهذا النمط من النضال اللاعنفي النَّشِط يشكِّل جزءًا مهمًّا منه؛ وقد استخدمه الفلسطينيون في نضالهم الوطني منذ الاحتجاجات المبكرة ضد الهجرة اليهودية الصهيونية في العشرينات من القرن الماضي، وأيضًا، بشكل خاص، في الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. فالانتفاضة الشعبية الفلسطينية في الثمانينات تمحورتْ حول رفض التعاون مع سلطة الاحتلال، كرفض دفع الضرائب؛ وكانت المعارك تدور حول الأوقات التي تفتح فيها المتاجرُ أبوابها أو تغلقها (كان الإسرائيليون يختمون أقفال المتاجر التي لا تمتثل لأوامر سلطة الاحتلال، ويعتقلون أصحابها)، وحول ممارسة الحق في تشكيل لجان لتدريس الأطفال عندما يُمنَع الطلاب من الذهاب إلى مدارسهم. وقد تولدت قوة شعبية هائلة بسبب وحدة المجتمع المدني الفلسطيني في ذلك الوقت: وحدة بين فصائل المقاومة الفلسطينية، وبين الفئات العُمْرية والأجيال، وبين الشرائح الاجتماعية، وبين المناطق الجغرافية. وساهم الجميع في النضال من أجل إبعاد الاحتلال الإسرائيلي عن ظهورهم وعن حياتهم اليومية. وساعد الاستخدام الواعي للنضال اللاعنفي في تكريس الوحدة الوطنية وبناء الثقة بين أبناء الشعب الفلسطيني، لأن الفلسطينيين شعروا بقوة رفضِهم للتعاون مع منظومة الاحتلال، وشعروا، بالتالي، بحريتهم وبتحررهم منه. وساهم التزامُهم بتنفيذ التعليمات، الصادرة عن قيادة ميدانية سرية (هي القيادة الموحَّدة للانتفاضة)، وليس عن سلطة عليا، في تعزيز إيمانهم بطاقتهم الكامنة وفي تمكينهم. كذلك أثمرت هذه الوحدة عن إعلان استقلال الدولة الفلسطينية من طرف واحد في تشرين الثاني 1988 – وكان هذا الإعلان بداية لنضال لاعنفي.
لقد كان هناك إصرار من الفلسطينيين على عدم السماح للاحتلال الإسرائيلي بتحطيمهم أو بتدمير هويتهم الوطنية؛ إذ امتلكوا التصميم على انتزاع حريتهم. ويُعتبَر هذا الإصرار شكلاً من أشكال النضال اللاعنفي الذي استمر طوال سنوات الاحتلال، فلم يقلَّ عن غيره من الأشكال تأثيرًا وأهمية. وهو قد يكون له تأثير استراتيجي وانتشار أوسع من أنشطة اللاعنف المخطَّط لها. فالاهتمام بتوفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية واحترامها، سواء من خلال بنية حكومية أو من دونها، هو، في حدِّ ذاته، شكل من أشكال النضال اللاعنفي النشط.
وقد خَبِرْنا هذا الشكل من النضال، مثلاً، عندما امتلأتْ شوارع نابلس بأطفال تلقوا تدريبًا على تحدي منع التجول الطويل والمثير للضجر، أو عندما تحدى سكان رام الله منع التجول بشكل عفوي بقيامهم بزيارة الأصدقاء والأقارب، أو بالإعلان عن وجودهم بقرع أواني الطبخ. وتبقى الأعمال اليومية لمواصلة الحياة مثالاً آخر على النضال الفلسطيني اللاعنفي النَّشِط، حتى لو لم يدرك ذلك الذين قاموا بها.
ومن الأمثلة على هذا النوع من النضال اللاعنفي، مجموعات النساء اللواتي يتحمَّلن عناء الذهاب إلى القرى البعيدة للقاء نساء لم يتمكنَّ من مغادرتها، والتحدث إليهن والإنصات إلى معاناتهن، وإيجاد وسائل لمساعدتهن ومساعدة أطفالهن. وهناك مثال آخر قدَّمه سائقو سيارات الأجرة المشتركة "الفورد" (الطريقة الوحيدة المتبقية للكثيرين للتنقل من مكان إلى آخر) الذين يصرون على اكتشاف طرق للتنقل من مكان إلى آخر للتغلب على الخنادق التي حفرها الجيش الإسرائيلي في الشوارع لتعطيل الحركة أو لإغلاق الشوارع. وهناك المدرِّسون الذين أصروا على إيجاد طرق للوصول إلى العمل ومساعدة الأطفال بصبر وبمحبة، حتى بعد ليلة مليئة بأسباب الخوف والرعب. فإلى جانب إصرار الشعب الفلسطيني على مواصلة حياته اليومية، يبادر الكثيرون من أبناء الشعب الفلسطيني إلى تبنِّي أنشطة مميَّزة، مثل المخيمات الصيفية وغيرها من الأنشطة المخصَّصة للأطفال، كالأوبرا الفلسطينية أو حلبات ركوب الخيل في أريحا.
هذه الأعمال تدحض الصورة النمطية القاسية والمجحفة التي تصف جميع الفلسطينيين، دون استثناء، بأنهم إرهابيون! والأهم من ذلك، أن هذه الأعمال تمنح الأمل بقيام دولة فلسطينية ديموقراطية في المستقبل، تتكلَّل بالنجاح بسبب النضال اللاعنفي النشط والمتواصل لمواطنيها.
*** *** ***
القصة اليومية للفلسطيني العادي
لوسي نسيبة*
اللاعنف هو أصل النضال الفلسطيني: الصمود، والقدرة على التكيُّف، وحماية الكرامة الإنسانية من الإذلال المتواصل للاحتلال الإسرائيلي ووحشيته. والفلسطيني "العادي" منغمس في نضال لاعنفي من أجل حريته. فاللاعنف يمثل القاعدة الأساسية للنضال الوطني الفلسطيني؛ وحجمه يفوق بكثير حجم الأعمال العنيفة التي تحتل العناوين الرئيسية في وسائط الإعلام. وحيث إن الحياة اليومية للفلسطيني تتعرَّض لمزيد من التنغيص، في كافة مناحيها، فهناك اهتمام متزايد بالبحث عما يمكن له أن يعيد لهذه الحياة تفاصيلها وملامحها الطبيعية، كاللجوء إلى النضال اللاعنفي، لعلَّه أن يكون الأسلوب الأفضل لتحقيق ذلك.
وسواء احتل بصيصُ الأمل الذي وفَّرتْه "خريطة الطريق" مكانًا في النضال الفلسطيني أو لم يفعل، فإن هناك ضرورة لتمتين النضال الفلسطيني اللاعنفي ولإعادة الاعتبار إليه. فالعنف فقط في مصلحة أولئك الذين يسعون إلى السيطرة والهيمنة بزرع الخوف في الآخرين. وإذا سُمِحَ للوضع في الشرق الأوسط بأن يتعرَّض للانهيار، فليس هناك ما يضمن عدم جرِّه بقية العالم إلى دوامة العنف والرعب. فباستطاعة المجتمع المدني، على المستويين المحلِّي والدولي، إذا ما أراد، كسر دائرة العنف في هذا العالم المتداخل والهشِّ – بل يجب عليه ذلك.
لقد آن الأوان لأن يدرك العالم أهمية النضال اللاعنفي ومركزيَّته بالنسبة للفلسطينيين، وأن يفعل ويتكلَّم بصوت عالٍ، دعمًا وتضامنًا مع الذين يشاركون في هذا النضال كافة.
والنضال اللاعنفي يعني تمسُّك المرء بحقوقه، والإصرار عليها، دون اللجوء إلى العنف. وهو غالبًا ما يتضمن العمل على سحب مصادر الدعم عن السلطة غير المشروعة أو تقليصها، ويحتاج إلى شجاعة الناس العاديين وإنسانيتهم وإصرارهم على العيش بكرامة واحترام. ولا يعني النضال اللاعنفي استسلامًا، وليس بالضرورة تنازلاً، لكنه وسيلة لتحقيق العدالة والتغيير، دون لجوء إلى العنف. ويُنظَر إلى اللاعنف كوسيلة للتمكين empowerment: فهو ينمو وينتشر بإطلاق ما هو كامن في الناس، ويساهم في تطوير استراتيجية لحلول ديموقراطية للمشاكل والمظالم على المدى الطويل. ويقف على الجانب النقيض العنفُ الذي، حتى إذا انتصر مستخدمُه على المدى القصير بسبب لجوئه إلى القوة الصرف، فإنه، في النهاية، لا يسلب القوة والسلطة من الذين يظلمهم ويضطهدهم و"ينتصر عليهم" وحسب، وإنما حتى من هؤلاء الذين يستخدمونه، لأنه يسلبهم – وهذا ما لا مهرب منه – إنسانيتَهم.
ومن الدارج أن يرتبط اللاعنف بأحداث وأسماء محددة، مثل غاندي ومارتن لوثر كنغ وغيرهما، وأن يُنظَر إليه كنشاط محدَّد: مسيرة أو إضراب أو، في أفضل الأحوال، كحدث يؤثر على مشاعر الطغاة، ويؤدي إلى تغيير مسار الصراع وتحويله. فهذا النمط من النضال اللاعنفي النَّشِط يشكِّل جزءًا مهمًّا منه؛ وقد استخدمه الفلسطينيون في نضالهم الوطني منذ الاحتجاجات المبكرة ضد الهجرة اليهودية الصهيونية في العشرينات من القرن الماضي، وأيضًا، بشكل خاص، في الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. فالانتفاضة الشعبية الفلسطينية في الثمانينات تمحورتْ حول رفض التعاون مع سلطة الاحتلال، كرفض دفع الضرائب؛ وكانت المعارك تدور حول الأوقات التي تفتح فيها المتاجرُ أبوابها أو تغلقها (كان الإسرائيليون يختمون أقفال المتاجر التي لا تمتثل لأوامر سلطة الاحتلال، ويعتقلون أصحابها)، وحول ممارسة الحق في تشكيل لجان لتدريس الأطفال عندما يُمنَع الطلاب من الذهاب إلى مدارسهم. وقد تولدت قوة شعبية هائلة بسبب وحدة المجتمع المدني الفلسطيني في ذلك الوقت: وحدة بين فصائل المقاومة الفلسطينية، وبين الفئات العُمْرية والأجيال، وبين الشرائح الاجتماعية، وبين المناطق الجغرافية. وساهم الجميع في النضال من أجل إبعاد الاحتلال الإسرائيلي عن ظهورهم وعن حياتهم اليومية. وساعد الاستخدام الواعي للنضال اللاعنفي في تكريس الوحدة الوطنية وبناء الثقة بين أبناء الشعب الفلسطيني، لأن الفلسطينيين شعروا بقوة رفضِهم للتعاون مع منظومة الاحتلال، وشعروا، بالتالي، بحريتهم وبتحررهم منه. وساهم التزامُهم بتنفيذ التعليمات، الصادرة عن قيادة ميدانية سرية (هي القيادة الموحَّدة للانتفاضة)، وليس عن سلطة عليا، في تعزيز إيمانهم بطاقتهم الكامنة وفي تمكينهم. كذلك أثمرت هذه الوحدة عن إعلان استقلال الدولة الفلسطينية من طرف واحد في تشرين الثاني 1988 – وكان هذا الإعلان بداية لنضال لاعنفي.
لقد كان هناك إصرار من الفلسطينيين على عدم السماح للاحتلال الإسرائيلي بتحطيمهم أو بتدمير هويتهم الوطنية؛ إذ امتلكوا التصميم على انتزاع حريتهم. ويُعتبَر هذا الإصرار شكلاً من أشكال النضال اللاعنفي الذي استمر طوال سنوات الاحتلال، فلم يقلَّ عن غيره من الأشكال تأثيرًا وأهمية. وهو قد يكون له تأثير استراتيجي وانتشار أوسع من أنشطة اللاعنف المخطَّط لها. فالاهتمام بتوفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية واحترامها، سواء من خلال بنية حكومية أو من دونها، هو، في حدِّ ذاته، شكل من أشكال النضال اللاعنفي النشط.
وقد خَبِرْنا هذا الشكل من النضال، مثلاً، عندما امتلأتْ شوارع نابلس بأطفال تلقوا تدريبًا على تحدي منع التجول الطويل والمثير للضجر، أو عندما تحدى سكان رام الله منع التجول بشكل عفوي بقيامهم بزيارة الأصدقاء والأقارب، أو بالإعلان عن وجودهم بقرع أواني الطبخ. وتبقى الأعمال اليومية لمواصلة الحياة مثالاً آخر على النضال الفلسطيني اللاعنفي النَّشِط، حتى لو لم يدرك ذلك الذين قاموا بها.
ومن الأمثلة على هذا النوع من النضال اللاعنفي، مجموعات النساء اللواتي يتحمَّلن عناء الذهاب إلى القرى البعيدة للقاء نساء لم يتمكنَّ من مغادرتها، والتحدث إليهن والإنصات إلى معاناتهن، وإيجاد وسائل لمساعدتهن ومساعدة أطفالهن. وهناك مثال آخر قدَّمه سائقو سيارات الأجرة المشتركة "الفورد" (الطريقة الوحيدة المتبقية للكثيرين للتنقل من مكان إلى آخر) الذين يصرون على اكتشاف طرق للتنقل من مكان إلى آخر للتغلب على الخنادق التي حفرها الجيش الإسرائيلي في الشوارع لتعطيل الحركة أو لإغلاق الشوارع. وهناك المدرِّسون الذين أصروا على إيجاد طرق للوصول إلى العمل ومساعدة الأطفال بصبر وبمحبة، حتى بعد ليلة مليئة بأسباب الخوف والرعب. فإلى جانب إصرار الشعب الفلسطيني على مواصلة حياته اليومية، يبادر الكثيرون من أبناء الشعب الفلسطيني إلى تبنِّي أنشطة مميَّزة، مثل المخيمات الصيفية وغيرها من الأنشطة المخصَّصة للأطفال، كالأوبرا الفلسطينية أو حلبات ركوب الخيل في أريحا.
هذه الأعمال تدحض الصورة النمطية القاسية والمجحفة التي تصف جميع الفلسطينيين، دون استثناء، بأنهم إرهابيون! والأهم من ذلك، أن هذه الأعمال تمنح الأمل بقيام دولة فلسطينية ديموقراطية في المستقبل، تتكلَّل بالنجاح بسبب النضال اللاعنفي النشط والمتواصل لمواطنيها.
*** *** ***