yass
19/02/2005, 15:42
بقلم: أنس فاعور *
لا نكاد نستمع إلى إذاعة أو فضائية تابعة أو محسوبة على هذا النظام أو ذاك، أو نكتب "استقرار سياسي" في محركات البحث على شبكة الإنترنت، إلا ونجد ونرى آيات الاستقرار السياسي في ديار العربان، رغم انتشار الأمية والفقر والبطالة والتخلف. وأذكر عندما كنت في جامعة دمشق منذ سنوات، قالت لنا بثينة شعبان التي تشغل الآن وزيرة المغتربين في النظام السوري؛ في إحدى اللقاءات: إن سورية أفضل من إيطاليا، لأن سورية مستقرة سياسياً، في حين إيطاليا في ذلك الوقت كادت تبقى بلا حكومة، حتى شُكلت حكومة الخبراء لإدارة البلاد. ولكن ذهل الجميع من محاضرتها كما يذهل القراء من مقالاتها، فكيف تكون إيطاليا، البلد السادس في العالم ذو 1.1 تريليليون دولار كناتج قومي، ومعدل أعمار سكان 42 سنة ومتوسط دخل فرد 25 ألف دولار أسوأ من سورية ذات الـ 17 مليار دولار ناتج قومي ومعدل أعمار 20 سنة ومتوسط دخل فرد 950 دولار، وفوق كل ذلك يكون نظام شمولي أفضل من نظام ديمقراطي.
ومشكلة الأنظمة الشمولية وأجهزة إعلامها ومن والاها من جلاوزة القلم ووطاويط المعرفة؛ أنهم يأتونك بأشباه حقائق وأنصاف مفاهيم ليستروا عورات هذه الأنظمة ويبرروا جرائمها وعدم شرعيتها، فنرى الخلط بين الاستقرار السياسي والديمقراطية، والتطور والأمن والتنمية في مختبرات الأجهزة القمعية الرهيبة. وفي محاولة لاستغباء العقول بترهات تافهة توضع الدول العربية، كسورية، في مواقع متقدمة في التطور العالمي من حيث الاستقرار، ولعلنا نجد اليوم من يقول لك إن صدام حسين بنى استقراراً في العراق قل نظيره يحن إليه العراقيون حتى الآن .. فكيف يكون الاستقرار السياسي؟ وما هي حقيقة الاستقرار السياسي الذي تبنيه الأنظمة الشمولية؟
نحن نعلم أن الديمقراطية هي مشاركة الشعب في الحكم والسلطة باختيار ممثليه في مؤسسات هذه السلطة لإيصال صوته ومتطلباته إليها، ونعرف ما لذلك من أهمية لحضور تأثير الشعب في صنع القرار. ولكن هذا التأثير يحتاج إلى حالة من الأمن والاستقرار تجعل المواطن واثقاً من نفسه، مطمئناً عندما يلتزم بحقه السياسي وإبداء رأيه. وعلى ذلك يكون هذا المجلس أو تلك المؤسسة الديمقراطية تجسيداً للمشاركة الشعبية. فالاستقرار إذن هو استقرار سياسي اجتماعي، يضمن للجميع التأثير السياسي والمشاركة الديمقراطية. ولكن الاستقرار السياسي كثيراً ما يكون خادعاً، ولا يعبر عن أي مشاركة شعبية، والأمثلة التاريخية توضح ذلك:
- في ألمانيا النازية كان الاستقرار السياسي سيد اللعبة، حيث كان كل الألمان يؤيدون الأفكار النازية التي تقوم على أفضلية العرق الآري وضرورة سيادته على الغير، بينما نجد الديمقراطية ضعيفة إن لم تكن معدومة.
- في الأنظمة الشمولية التي بناها حزب "البعث" بشقيه: السوري والعراقي، نجد حالة من الاستقرار السياسي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، كما يقول المثل الشعبي: "رن الإبرة ترن"، فالكل مؤمن ببعث الأمة العربية وألوهية الأب القائد المناضل المجاهد. وكما كان يقول حافظ الأسد: "أنتم كلكم بعثيون"، أو كما كان يقول صدام حسين: "العراقي الجيد هو البعثي الجيد".
- وفي تشيكوسلوفاكيا السابقة وضح فاسلاف هافل في رسالة وجهها إلى رئيسه السابق غوستاف هوساك هذا الاستقرار المزعوم، عندما خاطبه متسائلاً: لماذا يسلك الناس كما تسلكون؟ لماذا يعملون كل ما من شأنه أن يوحي إجمالاً بهذا الشعور الغالب بأن مجتمعنا متحد تماماً ويؤيد حكومته تأييداً تاماً؟ ثم يعود فيخاطبه قائلاً: إن الجواب واضح لكل مراقب نزيه، ذلك لما يعتريهم من خوف.
فمتى يتحقق الاستقرار السياسي؟ في الحقيقة إن للاستقرار السياسي مقومات أساسية لا بد من تحقيقها حتى نتمكن من الحديث عن استقرار سياسي حقيقي، فكيف شوهت النظم الشمولية هذه المقومات؟
أولاً: مجموعة المثل العليا التي تكون العقد الاجتماعي، فالتقاء الأفراد ضمن مجموعات .. والمجموعات لتكون مجتمعاً، لا بد أن يستند إلى مجموعة من المثل المشتركة العقلية أو النقلية، تشكل شبكة تربط بنيان المجتمع بعضه ببعض، وتربطه بالمجتمعات البشرية الأخرى. وهنا أسست النظم الشمولية قيماً سياسية واجتماعية غريبة أو مستوردة بلبوس وطني، مثل تفوق العرق الآري وبعث الأمة العربية ونبوغ الرفيق القائد وديمقراطية اللجان الشعبية .. إلخ، وفرضتها على المجتمع.
ثانياً: الانتقال من هذه القيم والقواسم المشتركة نحو بناء سلطة القانون والمؤسسات كضمانة أساسية لتحقيق العدالة والمساواة والحد ما أمكن من التجاوزات. وبمقدار ما تستند هذه السلطة إلى المثل والقواسم المشتركة لتكوين الأمة، وبمقدار ما يتم تلافي التجاوزات عن هذا القانون وهذه المؤسسات نحو تحقيق درجة أعلى من العدالة، بمقدار ما تقترب هذه السلطة من المشروعية السياسية والاجتماعية .. وبمقدار ما ابتعدت عنه فقدت مشروعيتها واحترامها ودرجة قبولها شعبياً. والواضح أن الأنظمة الشمولية استعاضت عن دولة القانون والمؤسسات بالسلطة الأمنية وتجيير القانون لمصلحة النخب السلطوية وإشاعة أجواء التخويف والترهيب عبر وسائل التعذيب الرهيبة والاعتقالات الاعتباطية والمجازر والمقابر الجماعية، واعتقدت بأن مشروعيتها يمكن أن تتحقق من الاعتراف الدولي الذي نادراً ما تدخل لرفع الظلم عن الشعوب المقهورة، بل على العكس، كانت الأطراف الدولية وخاصة الغربية تبتز الأنظمة الشمولية مقابل تنازلات عن الحقوق الوطنية، مستغلة غياب تأثير الشعوب صاحبة هذه الحقوق.
ثالثاً: ضرورة وجود آلية تضمن سير الحياة الاجتماعية والسياسية القائمة على الحركة في ظل القانون والمؤسسات. والحركة أصلاً عبارة عن تفاعل وتناقض وتنازع، ولولا ذلك لما كان هناك شيء اسمه مجتمع أو حضارة، وهذا يتطلب وجود ديمقراطية حقيقية قائمة على التداول السلمي للسلطة، وهذا التنازع والتفاعل والتداول هو أساس تطبيق العدل. وهنا لا بد من القول إن العدل صيرورة اجتماعية لا يمكن تطبيقه بالمطلق، ولكنه بفعل الحركة الاجتماعية السياسية يقترب من درجة مرضية للأغلبية الساحقة، وهذا يتطلب وجود أحزاب معارضة عشية كل استحقاق، ووجود صحافة حرة، وحضور مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات اللاحكومية، لتشكل جبهة واسعة مطلبية تسهل الوصول إلى أكبر قسط ممكن من العدالة. ولكن، وفي المقابل، وكما قال مونتيسكيو: عندما لا تشم رائحة لمعارضة فلا وجود لديمقراطية. وفي الحقيقة هذه مقولة توضح سياسة الأنظمة الشمولية، فهي حجبت التفاعل والتنازع بانتصار قوة وحيدة بفعل القوة الغاشمة، ودفعتها غطرسة القوة إلى دمج السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيدها، وإخضاع وتزييف وتجيير مؤسسات الصحافة والمجتمع المدني. وما حصل لهذه المؤسسات في سورية في مطلع الثمانينات خير دليل على ذلك، وبذلك توقفت الحركة وخرجت سورية من التاريخ البشري، وأصبحت تدعى "جمهورية الخوف" أو "مملكة الخوف" بسبب شللها التام، وكأنها مقبرة لا حياة فيها.
رابعاً: المنفعة المشتركة والمصلحة العامة، فالإنسان مهما قدمت له إن لم تقدم له عملاً ودخلاً ومستوى معيشة كريمة؛ لا تكون قد أعطيته أي شيء، وسيبقى ساخطاً على النظام العام. والحقيقة أن ما يربط المجتمعات بعضها ببعض هو تبادل المصالح الاقتصادية، وتتعزز العلاقات التضامنية بتعدد ضروب المصالح النفعية المتبادلة، وكلما ازدادت الحاجة بين أفراد المجتمع لتبادل المصالح فيما بينهم لتحقيق المنفعة المتبادلة؛ ازداد الحرص على تعزيز أواصر تلك العلاقة، ما يؤسس لحالة التضامن والاستقرار الاجتماعي انطلاقاً من المصلحة الذاتية المرتبطة بشبكة المصالح العامة وما تحققه من تبادل المنفعة. أما في النظم التوتاليتارية (الشمولية) فقد اختصرت المصلحة قسرياً في مصالح النخب السلطوية، فنشأت طبقة طفيلية سادت المجتمع ذو العلاقات المشوهة، مكونة من البيروقراطية الرأسمالية والرأسمالية البيروقراطية، فتراجع الأداء الاقتصادي، وتراجع معه الحس بالمسؤولية بسبب انتشار الشعور بالتهميش، فنتج عن ذلك في سورية استشراء الفساد في جميع مفاصل المجتمع، إضافة إلى فقدان الإنسان لأي شعور بآدميته. ومن ناحية أخرى، تزايدت الهجرة أو التهجير - إن جاز التعبير - سواء على مستوى الأيدي العاملة أو الأدمغة أو رؤوس الأموال، فوصل عدد المغتربين أو المغربين إلى أكثر من ستة ملايين والأموال الوطنية في الخارج إلى ما بين 75 و125 مليار دولار.
وفوق كل ذلك، تصل الأحوال العامة في النظم التوتاليتارية الشمولية إلى درجة غريبة لا تقنع حتى الأطفال، في ظل ألوهية الرفيق القائد، فرغم المآسي والانتكاسات الاجتماعية والاقتصادية يبقى هو البطل الملهم .. إلخ. ومن هزلية هذا الواقع، ولنفهمه جيداً، نذكر أن السوريين وخاصة في الثمانينات والتسعينات بدأوا يتداولون فيما بينهم نوادر مضحكة مبكية عما آلت أمورهم إليه في ظل النظام الشمولي الجاثم على صدورهم منذ عقود، وإحدى هذه النوادر تقول إنه يحكى أن مؤتمراً لإدارات الأرصاد الجوية والتنبؤات المناخية عقدته يوماً الأمم المتحدة، حضرته سورية بوفد كبير العدد، وكل أعضائه من الأجهزة الأمنية: ممثل عن كل فرع، و خبير وحيد (أو شبه خبير أو خبيير)، وأعطيت الكلمة للوفد السوري فبدأ الخبير أو شبه الخبير أو الخبيير بالكلمة قائلاً: تعاني سورية من جفاف منذ سنوات ترافقت مع نقص الهطولات المطرية. عندها بدأ باقي أعضاء الوفد: أحم أحم احم. فاستدرك الخبير أو الخبيير أو شبه الخبير بالقول: ولكن بعد الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها السيد الرئيس الرفيق المناضل باني سورية الحديثة .. (إلى آخر ذلك من الصفات من الصفات التسع وتسعون) نجحت الثورة في زيادة نسب الهطول المطري بما يتناسب مع المصالح القومية العليا للأمة العربية، وأعادت للغيوم وجهها البعثي الأصيل، وتم استبعاد الغيوم الانعزالية التي تهدد مستقبل الأمة ونضالها الدائب من أجل إقامة المجتمع العربي الاشتراكي الموحد.
__________
* كاتب سوري - باريس
-----------------------------------------------------------------------------------
أخبار الشرق ـ ////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
لا نكاد نستمع إلى إذاعة أو فضائية تابعة أو محسوبة على هذا النظام أو ذاك، أو نكتب "استقرار سياسي" في محركات البحث على شبكة الإنترنت، إلا ونجد ونرى آيات الاستقرار السياسي في ديار العربان، رغم انتشار الأمية والفقر والبطالة والتخلف. وأذكر عندما كنت في جامعة دمشق منذ سنوات، قالت لنا بثينة شعبان التي تشغل الآن وزيرة المغتربين في النظام السوري؛ في إحدى اللقاءات: إن سورية أفضل من إيطاليا، لأن سورية مستقرة سياسياً، في حين إيطاليا في ذلك الوقت كادت تبقى بلا حكومة، حتى شُكلت حكومة الخبراء لإدارة البلاد. ولكن ذهل الجميع من محاضرتها كما يذهل القراء من مقالاتها، فكيف تكون إيطاليا، البلد السادس في العالم ذو 1.1 تريليليون دولار كناتج قومي، ومعدل أعمار سكان 42 سنة ومتوسط دخل فرد 25 ألف دولار أسوأ من سورية ذات الـ 17 مليار دولار ناتج قومي ومعدل أعمار 20 سنة ومتوسط دخل فرد 950 دولار، وفوق كل ذلك يكون نظام شمولي أفضل من نظام ديمقراطي.
ومشكلة الأنظمة الشمولية وأجهزة إعلامها ومن والاها من جلاوزة القلم ووطاويط المعرفة؛ أنهم يأتونك بأشباه حقائق وأنصاف مفاهيم ليستروا عورات هذه الأنظمة ويبرروا جرائمها وعدم شرعيتها، فنرى الخلط بين الاستقرار السياسي والديمقراطية، والتطور والأمن والتنمية في مختبرات الأجهزة القمعية الرهيبة. وفي محاولة لاستغباء العقول بترهات تافهة توضع الدول العربية، كسورية، في مواقع متقدمة في التطور العالمي من حيث الاستقرار، ولعلنا نجد اليوم من يقول لك إن صدام حسين بنى استقراراً في العراق قل نظيره يحن إليه العراقيون حتى الآن .. فكيف يكون الاستقرار السياسي؟ وما هي حقيقة الاستقرار السياسي الذي تبنيه الأنظمة الشمولية؟
نحن نعلم أن الديمقراطية هي مشاركة الشعب في الحكم والسلطة باختيار ممثليه في مؤسسات هذه السلطة لإيصال صوته ومتطلباته إليها، ونعرف ما لذلك من أهمية لحضور تأثير الشعب في صنع القرار. ولكن هذا التأثير يحتاج إلى حالة من الأمن والاستقرار تجعل المواطن واثقاً من نفسه، مطمئناً عندما يلتزم بحقه السياسي وإبداء رأيه. وعلى ذلك يكون هذا المجلس أو تلك المؤسسة الديمقراطية تجسيداً للمشاركة الشعبية. فالاستقرار إذن هو استقرار سياسي اجتماعي، يضمن للجميع التأثير السياسي والمشاركة الديمقراطية. ولكن الاستقرار السياسي كثيراً ما يكون خادعاً، ولا يعبر عن أي مشاركة شعبية، والأمثلة التاريخية توضح ذلك:
- في ألمانيا النازية كان الاستقرار السياسي سيد اللعبة، حيث كان كل الألمان يؤيدون الأفكار النازية التي تقوم على أفضلية العرق الآري وضرورة سيادته على الغير، بينما نجد الديمقراطية ضعيفة إن لم تكن معدومة.
- في الأنظمة الشمولية التي بناها حزب "البعث" بشقيه: السوري والعراقي، نجد حالة من الاستقرار السياسي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، كما يقول المثل الشعبي: "رن الإبرة ترن"، فالكل مؤمن ببعث الأمة العربية وألوهية الأب القائد المناضل المجاهد. وكما كان يقول حافظ الأسد: "أنتم كلكم بعثيون"، أو كما كان يقول صدام حسين: "العراقي الجيد هو البعثي الجيد".
- وفي تشيكوسلوفاكيا السابقة وضح فاسلاف هافل في رسالة وجهها إلى رئيسه السابق غوستاف هوساك هذا الاستقرار المزعوم، عندما خاطبه متسائلاً: لماذا يسلك الناس كما تسلكون؟ لماذا يعملون كل ما من شأنه أن يوحي إجمالاً بهذا الشعور الغالب بأن مجتمعنا متحد تماماً ويؤيد حكومته تأييداً تاماً؟ ثم يعود فيخاطبه قائلاً: إن الجواب واضح لكل مراقب نزيه، ذلك لما يعتريهم من خوف.
فمتى يتحقق الاستقرار السياسي؟ في الحقيقة إن للاستقرار السياسي مقومات أساسية لا بد من تحقيقها حتى نتمكن من الحديث عن استقرار سياسي حقيقي، فكيف شوهت النظم الشمولية هذه المقومات؟
أولاً: مجموعة المثل العليا التي تكون العقد الاجتماعي، فالتقاء الأفراد ضمن مجموعات .. والمجموعات لتكون مجتمعاً، لا بد أن يستند إلى مجموعة من المثل المشتركة العقلية أو النقلية، تشكل شبكة تربط بنيان المجتمع بعضه ببعض، وتربطه بالمجتمعات البشرية الأخرى. وهنا أسست النظم الشمولية قيماً سياسية واجتماعية غريبة أو مستوردة بلبوس وطني، مثل تفوق العرق الآري وبعث الأمة العربية ونبوغ الرفيق القائد وديمقراطية اللجان الشعبية .. إلخ، وفرضتها على المجتمع.
ثانياً: الانتقال من هذه القيم والقواسم المشتركة نحو بناء سلطة القانون والمؤسسات كضمانة أساسية لتحقيق العدالة والمساواة والحد ما أمكن من التجاوزات. وبمقدار ما تستند هذه السلطة إلى المثل والقواسم المشتركة لتكوين الأمة، وبمقدار ما يتم تلافي التجاوزات عن هذا القانون وهذه المؤسسات نحو تحقيق درجة أعلى من العدالة، بمقدار ما تقترب هذه السلطة من المشروعية السياسية والاجتماعية .. وبمقدار ما ابتعدت عنه فقدت مشروعيتها واحترامها ودرجة قبولها شعبياً. والواضح أن الأنظمة الشمولية استعاضت عن دولة القانون والمؤسسات بالسلطة الأمنية وتجيير القانون لمصلحة النخب السلطوية وإشاعة أجواء التخويف والترهيب عبر وسائل التعذيب الرهيبة والاعتقالات الاعتباطية والمجازر والمقابر الجماعية، واعتقدت بأن مشروعيتها يمكن أن تتحقق من الاعتراف الدولي الذي نادراً ما تدخل لرفع الظلم عن الشعوب المقهورة، بل على العكس، كانت الأطراف الدولية وخاصة الغربية تبتز الأنظمة الشمولية مقابل تنازلات عن الحقوق الوطنية، مستغلة غياب تأثير الشعوب صاحبة هذه الحقوق.
ثالثاً: ضرورة وجود آلية تضمن سير الحياة الاجتماعية والسياسية القائمة على الحركة في ظل القانون والمؤسسات. والحركة أصلاً عبارة عن تفاعل وتناقض وتنازع، ولولا ذلك لما كان هناك شيء اسمه مجتمع أو حضارة، وهذا يتطلب وجود ديمقراطية حقيقية قائمة على التداول السلمي للسلطة، وهذا التنازع والتفاعل والتداول هو أساس تطبيق العدل. وهنا لا بد من القول إن العدل صيرورة اجتماعية لا يمكن تطبيقه بالمطلق، ولكنه بفعل الحركة الاجتماعية السياسية يقترب من درجة مرضية للأغلبية الساحقة، وهذا يتطلب وجود أحزاب معارضة عشية كل استحقاق، ووجود صحافة حرة، وحضور مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات اللاحكومية، لتشكل جبهة واسعة مطلبية تسهل الوصول إلى أكبر قسط ممكن من العدالة. ولكن، وفي المقابل، وكما قال مونتيسكيو: عندما لا تشم رائحة لمعارضة فلا وجود لديمقراطية. وفي الحقيقة هذه مقولة توضح سياسة الأنظمة الشمولية، فهي حجبت التفاعل والتنازع بانتصار قوة وحيدة بفعل القوة الغاشمة، ودفعتها غطرسة القوة إلى دمج السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بيدها، وإخضاع وتزييف وتجيير مؤسسات الصحافة والمجتمع المدني. وما حصل لهذه المؤسسات في سورية في مطلع الثمانينات خير دليل على ذلك، وبذلك توقفت الحركة وخرجت سورية من التاريخ البشري، وأصبحت تدعى "جمهورية الخوف" أو "مملكة الخوف" بسبب شللها التام، وكأنها مقبرة لا حياة فيها.
رابعاً: المنفعة المشتركة والمصلحة العامة، فالإنسان مهما قدمت له إن لم تقدم له عملاً ودخلاً ومستوى معيشة كريمة؛ لا تكون قد أعطيته أي شيء، وسيبقى ساخطاً على النظام العام. والحقيقة أن ما يربط المجتمعات بعضها ببعض هو تبادل المصالح الاقتصادية، وتتعزز العلاقات التضامنية بتعدد ضروب المصالح النفعية المتبادلة، وكلما ازدادت الحاجة بين أفراد المجتمع لتبادل المصالح فيما بينهم لتحقيق المنفعة المتبادلة؛ ازداد الحرص على تعزيز أواصر تلك العلاقة، ما يؤسس لحالة التضامن والاستقرار الاجتماعي انطلاقاً من المصلحة الذاتية المرتبطة بشبكة المصالح العامة وما تحققه من تبادل المنفعة. أما في النظم التوتاليتارية (الشمولية) فقد اختصرت المصلحة قسرياً في مصالح النخب السلطوية، فنشأت طبقة طفيلية سادت المجتمع ذو العلاقات المشوهة، مكونة من البيروقراطية الرأسمالية والرأسمالية البيروقراطية، فتراجع الأداء الاقتصادي، وتراجع معه الحس بالمسؤولية بسبب انتشار الشعور بالتهميش، فنتج عن ذلك في سورية استشراء الفساد في جميع مفاصل المجتمع، إضافة إلى فقدان الإنسان لأي شعور بآدميته. ومن ناحية أخرى، تزايدت الهجرة أو التهجير - إن جاز التعبير - سواء على مستوى الأيدي العاملة أو الأدمغة أو رؤوس الأموال، فوصل عدد المغتربين أو المغربين إلى أكثر من ستة ملايين والأموال الوطنية في الخارج إلى ما بين 75 و125 مليار دولار.
وفوق كل ذلك، تصل الأحوال العامة في النظم التوتاليتارية الشمولية إلى درجة غريبة لا تقنع حتى الأطفال، في ظل ألوهية الرفيق القائد، فرغم المآسي والانتكاسات الاجتماعية والاقتصادية يبقى هو البطل الملهم .. إلخ. ومن هزلية هذا الواقع، ولنفهمه جيداً، نذكر أن السوريين وخاصة في الثمانينات والتسعينات بدأوا يتداولون فيما بينهم نوادر مضحكة مبكية عما آلت أمورهم إليه في ظل النظام الشمولي الجاثم على صدورهم منذ عقود، وإحدى هذه النوادر تقول إنه يحكى أن مؤتمراً لإدارات الأرصاد الجوية والتنبؤات المناخية عقدته يوماً الأمم المتحدة، حضرته سورية بوفد كبير العدد، وكل أعضائه من الأجهزة الأمنية: ممثل عن كل فرع، و خبير وحيد (أو شبه خبير أو خبيير)، وأعطيت الكلمة للوفد السوري فبدأ الخبير أو شبه الخبير أو الخبيير بالكلمة قائلاً: تعاني سورية من جفاف منذ سنوات ترافقت مع نقص الهطولات المطرية. عندها بدأ باقي أعضاء الوفد: أحم أحم احم. فاستدرك الخبير أو الخبيير أو شبه الخبير بالقول: ولكن بعد الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها السيد الرئيس الرفيق المناضل باني سورية الحديثة .. (إلى آخر ذلك من الصفات من الصفات التسع وتسعون) نجحت الثورة في زيادة نسب الهطول المطري بما يتناسب مع المصالح القومية العليا للأمة العربية، وأعادت للغيوم وجهها البعثي الأصيل، وتم استبعاد الغيوم الانعزالية التي تهدد مستقبل الأمة ونضالها الدائب من أجل إقامة المجتمع العربي الاشتراكي الموحد.
__________
* كاتب سوري - باريس
-----------------------------------------------------------------------------------
أخبار الشرق ـ ////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////