-
دخول

عرض كامل الموضوع : من "الاشتراكية المنهارة" إلى "اليسار الديمقرا


عاشق من فلسطين
17/02/2005, 16:48
مقدمة وتوضيح
لأن موضوعَه في منتهى الأهمية وفي منتهى الحساسية؛ ولأنه حديث الساعة، سواء في داخل البلد و/أو في خارجها؛ ولأنه أصبح متداوَلاً جدًا في سورية، وفي أوساط المثقفين خاصةً – حيث توزِّعه العديد من مكتبات دمشق (من تحت المنضدة) لزبائنها؛ ولأنه مازال ممنوعًا رسميًّا (مع الأسف)، فلا تعرضُه واجهات مكتباتنا، رغم كونه أصبح واسع التداول وواسع الانتشار؛ ولأن صاحبه، الذي هو ابن البلد (من حمص) ومثقف كبير وأستاذ جامعي محترم يدرِّس حاليًّا في جامعة السوربون في باريس، هو أيضًا أحد أبرز الوجوه المعتدلة والجادة للمعارضة الديمقراطية السورية – لكلِّ ما سبق، ارتأيت، كديمقراطي مستقل من دمشق، المساهمة في كسر بعض جدار الصمت الرسمي المفروض حوله، والإدلاء بقراءتي المتواضعة لهذا الكتاب الهام: الاختيار الديموقراطي في سورية للدكتور برهان غليون، من إعداد وحوار السيد لؤي حسين. ولنبدأ بالحديث عما يمكن تسميته بعملية الانتقال...

من "الاشتراكية المنهارة" إلى "اليسار الديمقراطي"...
حيث لم يكن المحاوِر مخطئًا حين بدأ نقاشه مع د. غليون بالتساؤل حول "مصير الاشتراكية"؛ لأنه، "... لوقت قريب جدًّا، كانت الغالبية العظمى للأحزاب والمفكرين داخل تحالف السلطة ومعارضيه، ما عدا القوى الدينية، ترى في الحلِّ الاشتراكي أفق التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي السوري...". فكلاهما – وأقصد تحالف السلطة و/أو المعارضة "اليسارية" من التجمع الديموقراطي – وهذه خاصِّية سورية – له جذور واحدة، ألا وهي تلك الأحزاب والحركات التي كانت تدعو، في الخمسينات، إلى "الديمقراطية" و"الاشتراكية" وإلى "التضامن مع المعسكر الاشتراكي الجبَّار"، ناهيك آنذاك، أيضًا وخاصة، عن "الوحدة العربية".
حول هذا الموضوع يجيب د. غليون، فيعترف بحقيقة وجود حال أزمة إيديولوجية ناجمة عن شعور حقيقي بأن "... المفاهيم والنظريات التي كنَّا نستخدمها في السابق... لم تعد ناجعة..."، [1] مؤكدًا أن هذه ليست خاصية سورية بقدر ما هي أزمة عالمية. ففي "... عصر العولمة الذي تلغي فيه الرأسمالية المتعدية الجنسيات الحدود السياسية... لم يبقَ في هذا العالم الجديد الذي نشأ ونحن في غيبوبة عنه... أي قيمة للدفاع عن سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، أو تكليفها بالإشراف على التخطيط الاقتصادي بديلاً عن الاعتماد على علاقات السوق..." [2]؛ مما يفسِّر "... لماذا لم تُطرَح مسألة الخيار الاشتراكي في المناقشات الدائرة حول الإصلاح والسلطة في سورية...". [3] ولكن يبقى أنه – وهذا هو الأهم – لما كان التاريخ "... لن يقف ... عن الحركة إذا تعرَّضت الفكرة الاشتراكية لهزَّة، مهما كانت عنيفة، و[لما كان] لا ينبغي أن ننتظر حتى يتوصل الاشتراكيون، ونحن منهم، إلى رؤية نهائية واضحة حتى نبدأ مسيرة الإصلاح، ونتخلص من ركام الخراب الحاصل باسم الاشتراكية ذاتها..."، [4] ولما كنَّا "... لسنا بحاجة لحسم الخلاف الإيديولوجي من أجل محاربة الفقر والتهميش والبطالة... ولا نحتاج للحسم في أمر الاشتراكية أو الديمقراطية... حتى نسعى إلى حدٍّ أدنى من التطبيق السليم والنزيه للقانون والقضاء، وإلى التخلِّي عن منطق العسف والاستبداد..."، [5] فإن ما بوسعنا أن نفعله شيء كبير جدًّا لأنه يجسِّد "... إلى حدٍّ كبير برنامج إعادة بناء الدولة السورية على أساس الاعتراف المتساوي بالمواطنية...". [6]
لكن هذا الواقع لا ينفي، في نفس الوقت – حسب د. غليون – "... ضرورة مراجعة مفهوم الاشتراكية القديم ذاته..."، [7] الذي أدى، من حيث تطبيقاته، إلى نشوء "... أكبر دولة بربرية عرفها التاريخ، كما شهدت على ذلك تجارب معسكرات الاعتقال والغولاغ في الاتحاد السوفيتي السابق...". [8] فهذه "... الطبعة اللاإنسانية والمشوهة للاشتراكية تحتاج، في بلادنا وفي البلاد الأخرى على السواء، إلى النقد والرمي في سلَّة المهملات...". [9] لذلك، وللخروج من هذا المأزق، ولأن "... المجتمع السوري لم يعش في أية حقبة سابقة حالة من التفاوت الطبقي الفاضح والواضح والصارخ كما يعيشها اليوم..."، [10] يدعو د. غليون إلى مفهوم جديد–قديم للاشتراكية، يستند إلى مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وأقرب إلى تلك الديموقراطية الاجتماعية التي يسعون إليها في غرب أوروبا. فما نحتاجه بعد "... انهيار التجربة الشيوعية، التي كانت المسؤولة الرئيسية عن فساد مفهوم الاشتراكية واليسار، هو العودة القوية عند الفكر اليساري إلى جذوره الفكرية التاريخية..." [11] والتمسك بمبادئ أساسية تؤكد على أن ما يجب أن "... يشكل مبدءًا ومذهبًا في الفكر الاشتراكي الحديث [كمبدأ] الحرية و[مبدأ] دولة القانون والعدالة والكرامة الإنسانية...". [12] ولكن...
لما كان د. غليون لا يتكلَّم في المثاليات وحسب فإننا سرعان ما نراه يعود ليؤكد على أن عدم الوضوح الفكري الكافي في هذا المجال، سواء عند اليسار و/أو طبعًا عند السلطة، إنما سببه، بشكل رئيسي، الوضع الذي نعيش، حيث "... لا يزال النقاش في هذه الموضوعات والحديث عن المشاركة محرَّمين في بلدنا، ليس بين عموم الناس وفيما بينهم فحسب، ولكن أكثر من ذلك بين السلطة والفئة الحاكمة وبين المجتمع ذاته، بل داخل دوائر السلطة نفسها وبين مؤسَّساتها المختلفة المتعددة...". [13]
وهذه الحال تعيدنا إلى نقطة البداية، أي إلى واقع الأزمة التي نعيش، وحيث المشكلة الحقيقية "... لا تكمن في عدم تبلور الفكر الاشتراكي أو انعدام الوضوح في فكر المعارضة، اشتراكية كانت أم لا، ولكن في غياب الاعتراف بالشعب والمعارضة معًا وحقوقهما في الوجود والتعبير عن مصالحهما وأفكارهما؛ كما تكمن في غياب أي أطر وطنية للحوار العام يعكس احترام السلطة القائمة لإرادة الناس ورغباتهم... [مما يعني] احتقار السلطة والحزب الحاكمين للمجتمع، واعتبار جميع أفراده من القاصرين أخلاقيًّا أو عقليًّا أو سياسيًّا، وبالتالي معاملتهم على أساس قاعدة التفوق من جهة، والدولة العنصرية من جهة ثانية". [14] "... فنحن لا نزال نعيش داخل دول ومجتمعات لا تعترف بحقِّ الفرد في الوجود بشكل مستقل عن إرادة الدولة وأجهزتها ونقاباتها المعتمدة، ولا تسمح له بالتعبير عن رأيه ولا بممارسة حرياته، وتميِّز بشكل رسمي بين الفرد والفرد على أساس انتمائه السياسي أو العقائدي أو العشائري أو العائلي أو الريفي أو المديني أو الطبقي". [15]
وضرورة تغيير هذا الواقع الذي هو، كمحصلة، حاصل برنامج اليسار الديمقراطي، تجعلنا ننتقل انتقالاً منطقيًّا إلى جوهر الموضوع الذي هو...
الديمقراطية و... الديمقراطية السورية...
حيث يؤكد د. غليون على الضرورة الحالية لـ"وجود برنامج ديمقراطي [واسع] يضم الاشتراكيين وغير الاشتراكيين" [16]؛ ديمقراطية لا يجري طرحها في الفراغ ولا لذاتها، إنما لما يُنتظَر "... منها من آثار إيجابية في تحقيق جملة من الإصلاحات الهيكلية الأساسية والضرورية... من منظور دولي واجتماعي واقتصادي معين..." [17]؛ ديمقراطية ينظر إليها كنظام سياسي واجتماعي أثبت عالميًا أنه "... الوحيد الذي شهد انتشارًا وتطورًا كبيرًا من حيث التطبيق والنظرية معًا..." [18]؛ وأخيرًا، ديمقراطية لا يُعاد اختراعها، إنما تستند على تلك المبادئ والأسس التي تستند إليها كلُّ الديمقراطيات المطبقة في العالم، إلا وهي:
- مبدأ السيادة الشعبية وحكم الأغلبية السياسية المنتقاة على أساس الانتخاب الدوري والحر؛ و...
- سيادة القانون الذي يخضع له الجميع: المواطنون والمعارضة والسلطة؛ و...
- المساواة التي "... تعني قبل كلِّ شيء المساواة القانونية والأخلاقية بين الأفراد..." [19]؛ و...
- الحرِّيات الأساسية، وأهمها حرية الاعتقاد وحرية التعبير عن الرأي؛ و...
- تداول السلطة (الناجم بشكل طبيعي عن المبدأ الأول)؛ و...
- فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
مبادئ وأسس لا غبار عليها؛ إذ أضحت حلم كلَّ مواطن ومثقف شريف في بلدنا. ولكن، ربما، لهذا السبب، ومن هذا المنطلق بالذات، نرى من الواجب التوقف قليلاً أمام بعض ما يطرحه د. غليون من آراء وتقويمات تتعلق بالخصوصيات المحلِّية (السورية) لهذه الديمقراطية المنشودة. ونعود (في كتابه) قليلاً إلى الوراء، حيث يقول، فيما يتعلق بالإرث الديمقراطي في بلدنا، إنه: "... ليس لدينا في الواقع في هذا الميدان أي تراكم يذكر. وعلينا أن نبدأ تقريبًا من الصفر. فالتجربة التعددية الماضية التي عرفناها قبل الاستقلال، وبعده بقليل، والتي يحاول البعض اعتبارها مرجعًا، لم تكن إلا تجربة قصيرة وفقيرة ومضطربة لم تخلِّف تراثًا ديمقراطيًّا يُعتدُّ به، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية...". [20] ونجد أنفسنا أمام ما نعتقده خطأً فادحًا في التقويم، وذلك للسببين التاليين:
1. لأنه لمَّا كان من المستحيل العودة إلى نقطة الصفر لدى الحديث عن أيِّ نظام سياسي منشود و/أو مفترض فإن الواقع القائم، الناجم عن عقود من الدكتاتورية (إن اعتمدنا تقويم د. غليون)، لا يترك مجالاً لأيِّ أفق ديمقراطي سوى ذلك الممكن أن يُفرَض علينا من الخارج والذي قد ليس من بديل له، في المقابل، إلا... استمرار الديكتاتورية و/أو... التحول إلى الأصولية.
2. لأن "اليسار الديمقراطي المعارض" اليوم، الذي ينتمي إليه د. غليون والذي يشترك مع الحكم في أصوله (كما سبق وأشرنا)، مازال يرفض، حتى هذه الساعة (على ما يبدو)، الاعتراف بمسؤوليته في نسف وتحطيم تلك التجربة الديمقراطية التي تم الإجهاز عليها على يده في الخمسينات من القرن الماضي.
لذلك، ولأننا نريد الديمقراطية وننشدها فعلاً – وعن حقٍّ وحقيق! – فإننا نعتقد، ليس فقط بضرورة الحفاظ كبؤبؤ أعيننا على "ذكرى" هذه التجربة، مهما صغرت – وهي، في الحقيقة، تجربة غنية جدًّا وكبيرة جدًّا – إنما، أيضًا وخاصةً، التمعن بدراستها بصورة نقدية صادقة، ومن جانب الجميع للوصول إلى تلك المنشودة والمفترضة. لكن...
ربما بسبب ضعف "يسارنا الديمقراطي المعارض" الذي ينتمي إليه د. غليون، من جهة، وبالتالي، بسبب ضعف الدعم الشعبي للأفق الذي يدعو إليه من خلاله، من جهة أخرى، نراه، على ضوء ذلك الواقع الذي يعرفه كما يعرفه الجميع، يعود فيخفف من غلواء طروحاته، الصحيحة جدًّا من حيث المبدأ...
فالهدف اليوم، كما يقول، ليس "... تطبيق وصفات جاهزة، ولا اختراع ديمقراطية من العدم، ولا تقليد أيِّ بلد آخر..."، [21] إنما (ونحن هنا نتفق معه بشكل كامل) هو "... إيجاد شروط تكوين الإنسان وتربيته من حيث هو إنسان واع وصاحب قرار..." [22] – مما يستدعي، ربما، ضبط الشعارات وإعادة تحديد الأولويات التي قد تتحول من المطالبة بتطبيق الديمقراطية على الفور إلى المطالبة بـ"... تطبيق برنامج ديمقراطي..." [23] يحقق ذلك.
هذا الهدف الذي يعود فَُغيِّبه (مع الأسف) عن منظوره عندما يحدِّد مضمون برنامجه الديمقراطي بأنه "... ليس بناء الديمقراطية، بل وضع حدٍّ للنظام الشمولي، وتفكيك آليات عمل هذا النظام..."، [24] لأن ما هو مطلوب اليوم، من وجهة نظره، "... لا علاقة له بالديمقراطية كما نشأت في الغرب..."، ولأن "... دعوة الديمقراطية في سورية نشأت استجابة لحاجة أساسية هي التحرر من نير السلطة البيروقراطية الشالة والمجمِّدة..." [25]. أي أن القضية باختصار، إن كنَّا فهمناها جيدًا – ونحن نتمنى هنا أن نكون مخطئين في فهمنا – ليست قضية مبدأ بمقدار ما هي حاجة ذرائعية ملحة: حاجة صحيحة مئة بالمئة، ونتفق معه حولها أيضًا مئة بالمئة.
لكن نقطة ضعف "يسارنا الديمقراطي"، كسواه، تكمن، ربما، في هذه الذرائعية التي تجعله غير مقنع إلى حدٍّ ما – الأمر الذي لم يغب عن خافية السائل الذي قاد الحوار، فلم يقتنع كثيرًا، ربما، بتلك "الطروحات الديمقراطية"، فعاد مرة أخرى، لتكرار ذلك التساؤل الذي لم يُجَبْ عليه حتى الساعة والمتعلِّق بالعلاقة بين...
الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية
ويوضح د. غليون أنه "... إن [كانت] الرأسمالية خلقت بنيويًّا، أي في طبيعة بنيانها، شروط الإمكان [للديمقراطية، فإنها] ليست السبب في نشوء النظم الديمقراطية..."، [26] لأن الديمقراطية – من وجهة نظره – "... ثمرة استثمار الإمكانات التي خلقتها الحداثة بما تشمله من طفرات روحية وفكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية معًا..." [27] – هذه الإمكانات التي طُوِّرَتْ من بنيتها، فجعلت من هذه الديمقراطية شرطًا من شروط استمراريَّتها كنظام، وجعلت منها، في العديد من الأماكن، رأسمالية ديمقراطية. لكن هذا لا يعني أن "... الديمقراطية تُشتَقُّ مباشرة من الرأسمالية، وإن ارتبطت بها..."، [28] مؤكدًا على ضرورة عدم التعميم، حيث "... لم تغب الديمقراطية عن التجارب التي كانت تسمِّي نفسها الاشتراكيات الديمقراطية..." [29] – تلك التي ينبِّه فيها إلى أهمية دور الطبقات الوسطى التي لا يمكن للديمقراطية أن توجد من دونها، كما لا يمكن من دون ديمقراطية لهذه الطبقة أن تكون فاعلة. أما أعداء الديمقراطية من اليسار فهم بالنسبة له أولئك الماركسيين الذين خلطوا بين "منظومة الديمقراطية ومنظومة العدالة الاجتماعية"، [30] لأن "... غاية الديمقراطية هي منع احتكار السلطة أو التلاعب بها أو اغتصابها من قبل فئة محدودة أو طبقة، وسوء استعمالها. وهي ليست مؤهلة لوحدها لتحقيق العدالة في توزيع الثروة الاجتماعية...". [31] وهذه "... لا تضمن ... تحقيق العدالة الاقتصادية من تلقاء نفسها، ... ولكنها تساعد على تحقيق توزيع أكثر عدالة للسلطة السياسية." [32]
ويتمايز د. غليون في طروحاته هنا عن الليبرالية التي تشكل حاليًّا (من وجهة نظره) التهديد الرئيسي للديمقراطية بعد اندحار الفاشية وانحسار الشيوعية؛ كما يتمايز، في الوقت نفسه، عن اليسار المعادي للديمقراطية والمتأثر حتى الآن بالتجربة السوفييتية المنهارة – هذه التجربة التي "... لا تزال قوى اليسار عندنا تحمل بالإجمال..." [33] عقليتَها. هذه العقلية التي يجب تغييرها كي يتحول مجتمعنا إلى "... مجتمع حيٍّ وفاعل وواثق من نفسه ومؤمن بذاته وقدراته..." [34]؛ مما يجعله يحمِّل كلَّ المسؤولية لتلك القوى التي تعيق تطور هذا المجتمع. وينقلنا إلى الجزء الثالث من كتابه الذي يناقش...
مسؤولية السلطة ومسؤولية المعارضة وأصل الخراب الاجتماعي...
لأنه، إذا صحَّت مقولة هنري د. ثورو، القائلة بأن "خيرُ الحكومة ما حَكَمَ أقل" – وهي مقولة صحيحة جدًّا من وجهة نظرنا – فإن حكوماتنا (العقائدية)، التي استمرت طويلاً جدًّا جدًّا، رغم كل ما تدَّعيه من أخلاقيات وقيم، قد تكون هي أصلُ الخراب الذي نعيشه اليوم في كلِّ الميادين والمسؤولةُ الأولى والمباشرة عنه...
لأن المعارضة، يسارية كانت أو يمينية أو سواها، التي لا تستمدُّ شرعيَّتها المفترضة إلا مما تفترضه تفوقها الأخلاقي على النخبة الحاكمة، قد لا تكون بالحقيقة متفوقة أخلاقيًّا على هذه الأخيرة إلا بحكم الواقع الذي يجعلها لا تمتلك (الآن) الكثير من الاختيارات: "... لممارسة القهر والقمع والمراقبة على الضمير وإلغاء الحريات؛ (حيث) لا تملك وسائل إعلام ممولة من قبل المجتمع ولا سجونًا ولا قوانين طوارئ ولا قوات أمن..."، [35] كما يلحظ محقًّا د. غليون.
فإن ما نعيشه اليوم هو حال خراب، أصاب، في بلدنا، أول ما أصاب ذلك الذي نصطلح جميعنا على تسميته بـ...
المجتمع المدني...
هذا المجتمع الذي تدهورت به الأحوال، وانحطت فيه القيم، والذي يعاني ما يعاني في بنيانه من مشاكل عصبوية وطائفية وعشائرية – هذه المشاكل التي لا تُحَلُّ إلا عندما تتحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات حرة وديمقراطية تقوم على أساس المواطَنة – هذه المواطَنة التي يفترض لها د. غليون في أحد أجمل فصول كتابه خمسة شروط أساسية هي:
- الحرية لأن "... الفرد، الذي ليس حرًّا في تفكيره واعتقاداته السياسية والدينية أو الفلسفية، وفي سلوكه واختياراته طريقة حياته وحكمه وعمله وعلاقاته الاجتماعية، ليس مواطنًا بل تابع لغيره وخاضع له." [36]
- المساواة القانونية: "... فالذي يميِّز المواطن عن القن والمحسوب والزبون والعبد، وكلَّ أشكال التبعية الشخصية الأخرى السابقة على الدولة الحديثة، هو وجود قانون واحد ينطبق على الجميع في الحقوق والواجبات، وإذن في الجزاءات والعقوبات أمام القانون." [37]
- السيادة: "... أي [حق] المشاركة في القرارات العامة، وفي مقدمتها قرارات اختيار الحكام وتنصيبهم وعزلهم..." [38].
- العدالة التي "... تعني الحدَّ الأدنى من التكافل الاجتماعي..." [39].
- الثقافة المدنية الـ"قائمة على الاحترام المتبادل وتقدير الإنسان والفرد من حيث هو فرد وإنسان بصرف النظر عن أيِّ اعتبار آخر. وهو أصل دعوة حقوق الإنسان..." [40]. وهي أيضًا، وفي نفس الوقت، مصدر شرعية الدولة – أية دولة – بما فيها دولتنا.
لذلك، ولأن "... إخضاع الفرد للدولة وتسخيره لخدمتها واحتكار المواطنية من قبل الفئات السائدة... تتضارب مع التنشئة المدنية وحق المواطنية..." [41]؛ ولأن "... استكمال الدولة الوطنية الدستورية لا يتحقق دون وجود..." [42] هذا المجتمع؛ ولأن المجتمع المدني "... لا يوجد من دون دولة ديمقراطية، كما لا توجد دولة ديمقراطية من دون مجتمع مدني" [43]؛ ولأن الديمقراطية "... لا توجد من دون جمعيات وتنظيمات وأحزاب أهلية... كما لا يتحقق وجود جمعيات وتنظيمات وأحزاب أهلية من دون ديمقراطية..." [44]– فإننا في حاجة إليها اليوم أكثر من أي يوم مضى – هذه التي "... لسنا بحاجة لنعيد إنتاج التاريخ [من أجل اختراعها]. فأي بلد اليوم يحترم مبادئ الديمقراطية... يخلق شروط تحول الإنسان فيه إلى مواطن..." [45].
ويتوسع د. غليون في تعريفه لمفهوم الدولة الديمقراطية من خلال التأكيد على علاقتها بـ...
العلمانية...
فيعرِّف هذه الأخيرة بأنها "حياد الدولة الديني"، "... بمعنى ألا يكون للدولة دور ديني وألا تدعم السلطة السياسية جماعة دينية ضد أخرى...". وتصبح العلمانية من هذا المنظور "... جزء من الرؤية الديمقراطية المواطنية بقدر ما [تصبح] شرطًا للمساواة بين الأفراد أمام القانون وفي المجتمع" [46] وضرورة لازمة عنها. فـ"... وظيفة الدولة ليست هداية المجتمع ولا تكوين أفكاره وعقائده الدينية... [ولا أيضًا] أن تفرض مذهبًا سياسيًّا أو فلسفيًّا ما على المجتمع..."، [47] الأمر الذي يفترض، أول ما يفترض، العقلانية كشرط أساسي، لا بدَّ منه، إن أردنا تحقيق الحداثة – هذه العقلانية التي يميِّزها عن العلمانية التي "... تنحو إليها، على الرغم منها، جميع المجتمعات في اللحظة التي تدخل فيها تاريخ الحداثة..." [48].
ونتوقف قليلاً هنا أيضًا، لأننا، وإن كنا نتفق تمامًا مع د. غليون على وجود أزمة هي، إلى حدٍّ كبير في حالنا، أزمة حداثة، فإننا لا نتفق معه تمامًا من حيث المقاربة في تناول هذه الحال من الأزمة المستعصية التي يحاول (على طريقتنا السورية) الدوران حولها عوضًا من التعرض لها مباشرةً ومناقشتها صراحةً كواقع قائم على الأرض ويتحمل مسؤوليتَه الجميع: واقع قائم يقول إنه بسبب هذه العقود الطويلة من حكم الدولة المغوَّلة وتسلُّطها على المجتمع – التي يؤكد عليها دكتورنا – من جهة، وهذا التخلف المستحكم في عقلية معظم فصائل المعارضة (اليسارية والدينية) التي لا تختلف عقليَّتها كثيرًا عن عقلية السلطة – والتي لا يتعرض لها دكتورنا هنا – من جهة أخرى، أصبحنا نعيش واقعًا اجتماعيًّا من أهم "ميزاته" (ربما) رفض هذه العلمانية التي يدعو إليها (ونتمناها من كلِّ قلوبنا). ونتذكر جيدًا، في حينه، كيف لم يستطع حافظ الأسد، في أوائل السبعينات، فرض دستور لا يتضمن دينًا للدولة ولا لرئيسها (كدستور 1949 مثلاً)، فاضطر، بحكم ضغط الشارع الإسلامي، إلى تعديل هذا الدستور وإضافة ذلك البند اللاديمقراطي واللاعقلاني الذي يوجِب أن يكون الإسلام دينًا لرئيس الدولة. وواقع الحال يقول اليوم، إننا بتنا على وشك أن نواجه مباشرة مثل هذا الواقع الذي قد يفرض "ديمقراطيًّا"، انطلاقًا من مستوى الوعي السائد في بلادنا (الذي تخلَّف كثيرًا عن ذاك الذي كان سائدًا عشية الاستقلال) – "يفرض" الشريعة الإسلامية كدين للدولة، مُلغيًا، بالتالي، على الأرض، وبقرار "ديمقراطي" من "الأكثرية"، وجود أية "أقلية" لا تشاركه هذا التوجه. فما العمل؟
الديمقراطية والأصولية الإسلامية والمسألة الطائفية
ونصل هنا إلى بيت القصيد: ذلك الواقع الحي الذي لا بدَّ لكلِّ ديمقراطي مخلص وداعية حداثة من أن يواجهه بكلِّ صدق وبكلِّ شجاعة. ونعترف هنا أن هذه الشجاعة ما كانت لتنقص د. غليون في مقاربته، رغم ما يشوبها من نواقص.
فهو محقٌ جدًّا، أولاً، حين يؤكد، كمنطلق وكمبدأ، أن "... أن التحوُّط من الفاشية المحتملة لا يكون بتخليد الديكتاتورية..." [49]؛ وهو محق جدًّا وفي منتهى الواقعية، لا بل في منتهى الشجاعة أيضًا، حين يعترف بأن "... خطر نشوء ديكتاتورية إسلاموية... قائم بالفعل اليوم؛ لكن ليس في ذلك أية حتمية تاريخية أو سياسية، وإنما بسبب تقصير القوى الديمقراطية وانعدام ثقتها بنفسها واستقالتها السياسية وعدم سعيها إلى أن تكون هي نفسها البديل..." [50] لأنه "... ليس هناك أي ضمانة، عندما نرمي بقوتنا في الميدان، أن نكون الرابحين المؤكدين، لا في مواجهة الأصوليين المتطرفين ولا في مواجهة السلطة الديكتاتورية..." [51]. ولكن، يبقى، بالنسبة له، أن الديمقراطية تستحق مثل هذه المحاولة التي هي في نفس الوقت... مخاطرة...
مخاطرة تعود، ربما، إلى خاصية وضعنا الحالي القائم على وجود "أقلية" في موقع السلطة مقابل "أكثرية" خارجها – أولاً؛ ويعود أيضًا لواقع أن "... النخب السورية المنبثقة من جماعات مذهبية وجهوية وسياسية وعقائدية مختلفة ومتنوعة..." لا تبدو قادرة حاليًّا "... على الارتفاع إلى مستوى النخبة الوطنية الواحدة والمسؤولة التي ترفض أن تستخدم وسائل التعبئة والتحريض المعادية لمبادئ الديمقراطية والإنسانية والوطنية..."؛ إنما هي "... لا تزال ميالة إلى أن تتصرف كنخب ممثِّلة لطوائف ومناطق وطبقات – طوائف مدينية وريفية واجتماعية وعشائرية وعائلية..." [52]...
لكلِّ هذه الأسباب؛ ولأن المغامرة، بحكم مخاطرها التي يعرفها الجميع، تبقى غير مستحبة؛ ولأن الديمقراطية يُفترَض أن تقوم على أسس دستورية عميقة وثابتة؛ ولأن من المفترض أن يتم الانتقال إليها بشكل سلمي ومختار؛ يقترح د. غليون، كإنسان وطني فعلاً ومسؤول فعلاً، فكرة "الانتقال التدريجي إلى نظام [ديمقراطي] جديد" [53] بشكل يتاح فيه للشعب بناء "... قوى جديدة ضرورية لضمان المستقبل وليست بالضرورة بديلة لما هو قائم..." [54]؛ مما يمكن أن يشكِّل أساسًا واقعيًّا لحوار واسع وقاعدة لميثاق سياسي وطني.
العقد الوطني و... المصالحة الوطنية...
وهذا الميثاق السياسي المنشود هو ذلك العقد الذي يفترض أن يتضمن مجموع "... المبادئ والغايات والقيم التي توجِّه سلوكنا وتفكيرنا..." [55]؛ هو ذلك القاسم المشترك الذي يجب أن تتفق عليه جميع النخب الوطنية، ذلك الذي من شأنه أن يُخرجنا من حال الإذعان التي تتحكم بنا، من جهة، ويضمن عدم تكرارها بأيِّ شكل من الأشكال، من جهة أخرى؛ ذلك الذي "... يحظى بالحدِّ الأدنى من القبول والرضى، إن لم نقل الحماس، [و] لا يحتاج بقاؤه إلى الاستخدام الدائم والشامل للقوة والقهر..." [56].
وتوقيع هذا الميثاق، يفترض، بالضرورة، ما يسميه د. غليون بـ"المصالحة الوطنية" – تلك التي تعني "... الخروج من مناخ الحرب الاجتماعية الدائرة داخل المجتمع منذ عقود، و... الاعتراف الجامع بين كلِّ الأطراف... [و] بالحقوق المتساوية للجميع... [و] المشاركة على قدم المساواة في تقرير مصير البلاد..." [57]؛ تلك التي تجعل من سورية وطنًا لجميع السوريين بالتساوي، والقائمة على "... الاعتراف بالحقوق الفردية والجماعية المتساوية لجميع السوريين بصرف النظر عن عقائدهم السياسية وأفكارهم وولاءاتهم الشخصية ونواياهم وما تحوكه ضمائرهم..." [58]؛ تلك التي تعيد "... بناء الثقة بين أبناء المجتمع السوري وبين الحكم والمعارضة والحكومة والشعب والدولة والمجتمع..." [59].
وهكذا نصل إلى نهاية هذا الكتاب، حيث يختتم د. غليون حواره بفصل يتحدث فيه، بشكل مختصر، عن العلاقة بين...
الديمقراطية والقضايا الوطنية...
الذي لم يشفِ غليلنا كثيرًا.
حيث يعتقد د. غليون – فيما يتعلق بقانون الطوارئ – بإمكانية وجود "... مراحل تكون فيها صراعاتنا الداخلية غير مبرَّرة مقابل صراعاتنا الخارجية ضد الصهيونية والعدو الخارجي، ويكون فيه من الضروري أن يقبل الأفراد بتضحيات استثنائية في سبيل المعركة الوطنية..." [60]، شريطة وجود حالة تعبئة وطنية وليس – كما نعيشه منذ عقود – حالة استقالة جماعية!
من أجل هذا، يفترض دكتورنا تحقق عدة شروط:
1. المواطنة؛
2. ثقة الشعب بحكامه؛
3. حدٍّ أدنى من العدالة في اقتسام التضحيات؛
4. شعور الرأي العام "... أن هناك فعلاً إنجازات في حلِّ المسألة الوطنية..." [61]؛
5. أن تكون هذه التضحيات منطقية، مقترحًا رفع حالة الطوارئ حسب الظروف و"... من فترة لأخرى..." [62] (!).
هنا، نلاحظ – وضمن إطار ما يدعوه د. غليون بـ"الخاصية السورية" – التقاء الخطاب السياسي المتعلق بهذه القضايا الوطنية بين ما يمثله من معارضة وبين الحكومة. وفي هذا الصدد تتجنب هذه المعارضة (كالحكومة) التوسع والتفصيل في هذه القضايا، مكتفيةً بخطاب "خشبي" جامع وفضفاض، مشيرين إلى أننا كنَّا نتوقع – انطلاقًا مما دَعا إليه د. غليون من "... ضرورة الانتقال من التفكير المجرد الفضفاض إلى التفكير السياسي العقلاني..." [63]. فلو أنه، كأحد أبرز ممثلي المعارضة الديمقراطية، تجاوز هذه اللغة "الخشبية" وحدثنا، مثلاً وليس حصرًا، بشكل أكثر تفصيلاً، عن منظوره الخاص المتعلق بالتسوية مع إسرائيل و/أو كيفية الخروج من هذا المأزق الذي نعيشه منذ عقود، المتعلق بعلاقتنا الشاذة مع الغرب، عمومًا، ومع الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصًا.

عاشق من فلسطين
17/02/2005, 16:50
د.برهان غليون
ولد في حمص عام 1945.

تلقى تعليمه في حمص ودمشق وتخرج في باريس حاملاً الدكتوراه.

عضو جمعية البحوث والدراسات.

مؤلفاته:
1-التطور اللامتكافئ- دراسة.

2-المسألة الطائفية ومشكلية الأقليات- دراسة- بيروت 1978.

3-بيان من أجل الديمقراطية -بيروت- ط2-