عاشق من فلسطين
12/02/2005, 15:14
عودة وهيب
قبل الحديث عن قضية مصالحة البعث او اجتثاثه دعونا نلقي نظرة على السيرورة التأريخية لمفهوم المصالحة لنتعرف على تطور مضامينها تأريخيا.
مرت (المصالحة) بثلاث مراحل تأريخية لحد الآن هي :1- صيرورة الوجود العرضي 2- انبثاقف المفهوم 3- تكون الظاهرة
أولا:صيرورة الوجود (العرضي) للمصالحة
قياسا على النظريات التي رسمت لنا سيناريوهات تقريبية لكيفية قيام الإنسان بتحقيق اكتشافات مهمة مثل اكتشاف النار وتعلم طهي الطعام وتدجين الحيوانات وغيرها من الأكتشافات التي رافقت مسيرة الأنسان البدائي وتقدمت بها الى الأمام، نستطيع ان نرسم سيناريو تقريبي عن كيفية (اكتشاف) الإنسان لأسلوب المصالحة كبديل لأسلوب القتال الذي كان ولايزال اهم اسلوب يعالج به البشر صراعاتهم المختلفة. ويمكن التوقع هنا ان الانسان لم يتعرف على امكانية المصالحة مع الآخر الا بعد ان عجز عن سحق هذا ( الآخر) عن طريق القتال. ففي البدء كان القتال. تقاتل البشر(منذ هابيل وقابيل) فيما بينهم، وسحق احدهما الآخر، قتل احدهم الآخر، استعبد احدهم الآخر، وظل الآخر في ذلك الوقت يحمل حقوقا مواجهة لحقوق الآخرين بمقدار حجم قوته، فالحق كان(ولايزال، الى حد ما، مع الأسف) هو القوة، وملك اليمين يعني ماجلبته لك قوة يمينك(يدك) من حقوق، كما يقول العلامة علي الوردي. فأن توازنت القوة في كفي ميزان صراع الطرفين توازنت(تساوت) حقوق الطرفين ايضا.
ترى ماذا يحدث لو دخلت مجموعتان بشريتان، متساويتا القوة، في صراع مسلح؟ ماذا يحصل لو طال الصراع بينهما،لتوازن القوى، وحدث استنزاف كبير لقوى الطرفين الى درجة جعلتهم عاجزين(كليا او جزئيا) عن مواصلة القتال ؟ كيف يتصرف الطرفان المتصارعان اذا تيقنا من أن انزال الهزيمة بالطرف الأخر امر مستحيل او صعب ؟ من المنطقي ان نتوقع انهما سيفكران بالتوقف عن القتال والعودة الى اماكن سكناهم وهم يحملون معهم مايشبه الهدنة(وليست هدنة)،وهي في حقيقتها اقرار نفسي من كلا الطرفين بالعجز عن هزيمة الآخر. وعندما سيتكرر هذا العجز مرات ومرات (سيكتشف) المتحاربون حاجتهم الى توقف القتال بصورة (نهائية)، وحل مشاكلهم بصورة (سلمية) من خلال تنازل كل طرف للطرف الآخرعن شيء من اهدافه التي اراد ان ينالها بواسطة القوة.ويجب ان نلاحظ هنا ان مقدار التنازلات التي سيقدمها كل طرف ترتبط اساسا بدرجة عجزه عن القتال، فأذا تساوى عجزهما تساوى مقدار تنازلاتهما المتبادلة، وبعكسه فأن الطرف الأكثر عجزا سيقدم تنازلات اكثر، وفي كل الأحوال لايمكن ان يكون عجز احد الطرفين تاما،لأنه في هذه الحالة لايجد الطرف الآخر حاجة للصلح وسيواصل سعيه لأخذ كل مايريد من اللآخرعن طريق القوة.
وهكذا وبفعل هذا الاتفاق غير المكتوب اصبح هناك في لحظة ما (وجودا موضوعيا،عرضيا) لحالة يكون فيها الطرفان المتعاديان المتجاوران لايتقاتلان بسبب توازن القوى بينهما.ان هذا الوجود الموضوعي والعرضي لهذه الحالة هو (الصلح) في صيرورته الأولى.
فالصلح لابد ان يكون قد نشأ عن حاجة البشر، في لحظة ما، لوقف القتال بعد ان عجزوا عن مواصلته،او اصبحت مواصلته مكلفة جدا.ان الكثير من الأمثلة التأريخية القديمة والمعاصرة تدعم هذه الفكرة وتؤكد ان (اكتشاف) الأنسان للصلح كأسلوب سلمي لحل النزاعات جاء بسبب عجز الأنسان عن أستخدام او مواصلة استخدام الحل العنفي.
ثانيا: تكوّن (مفهوم) المصالحة
لقد تكررت وتكررت (بسبب الحاجة البشرية) الحالات التي يلجأ فيها الأفراد او المجموعات الى الحلول السلمية لنزاعاتهم بعد قتال او تهديد بقتال، ونشأت تدريجيا وظيفة اجتماعية يمارسها بعض الناس المرموقين اجتماعيا مهمتهم التوسط لحل النزاعات سلميا بين الأفراد او الجماعات التي ينشب، او يكاد ان ينشب، القتال بينهم. وتراكمت لدى المجاميع البشرية، شيئا فشيئا، خبر ومعارف محددة،استخلصت من حلول لنزاعات سابقة، وصار متعارفا التعامل بها(كقوانين او اعراف) في نطاق جغرافي معين لوضع حلول سلمية لنزاعات مشابهة. لقد حددت هذه التجارب المتكررة، والنتائج المترتبة عليها، مضامين معينة لعملية الصلح،مثل مضمون التوقف عن القتال، والأعتراف بحقوق معينة لكل طرف،وحل الخلافات بالتراضي،وهذه المضامين هي (جوهر) الأسلوب السلمي الذي اطلق عليه تسمية( الصلح) لأنه يصلح علاقة الأطراف المتباغضة.
أن هذه المضامين انتقلت الى أذهان الناس وصارت جزء من وعيهم، وشيئا فشيئا اصبحت كلمة (الصلح) لاتشير بالضرورة الى حالة صلح بعينها قائمة فعلا، وأنما اصبحت تثيرفي ذهن الأنسان معاني مجردة ومحددة (كمعاني السلام،الصداقة، التعايش السلمي،التعاون). وهذه المعاني التي في أذهاننا هي في الحقيقة (جوهر) حالة المصالحة(المنعكس) في ذهن الأنسان عن حالة الوجود الموضوعي للمصالحة و(المنفصلة) عنها في آن.
اي ان المصالحة تحولت من وجود (عرضي) الى مفهوم حسي (يحدد نفسه بنفسه - كما يقول هيجل عن المفهوم)،وقائم بذاته(اي منفصلا عن الوجود الموضوعي لأي حالة صلح بعينها).فالذي في اذهاننا هو مفهوم المصالحة وليس المصالحة بعينها.
غير ان هذا الانفصال بين الوجود الموضوعي للمصالحة وجوهرها المنعكس في ذهن الأنسان هو انفصال في الفكر فقط، اما على صعيد الواقع فأنهما مرتبطان ارتباطا جدليا ويطوّر احدهما الأخر،فتطور مفهوم الصلح واغنائه بمضامين جديدة من خلال الجهد الفكري للأنسان انتج حالات صلح متطورة عن مثيلاتها السابقات، كما ان حالات صلح جديدة متطورة اغنت مضامين مفهوم الصلح. فالعلاقة بين الوجود الموضوعي للصلح وجوهره المنعكس في ذهن الأنسان( المفهوم) هي علاقة جدلية تؤدي بأستمرار الى تطور الحالة الموضوعية للصلح وتطور مفهومها في آن. فمثلا ان الصلح في صيرورته الأولى كانت معانيه لاتتعدى ترتيبات تؤدي فقط الى توقف القتال، ثم تطور الصلح شيئا فشيئا فصار يعني الصداقة والتعاون وغيرها من المعاني التي تضاف بأستمرار لمضمون المصالحة،بل أنه في عصرنا الراهن صارت المصالحة تحمل مضامينا انسانية عميقة تتعدى فكرة احترام الرأي الآخر المخالف الى مساعدة الآخر على التعبير عن هذا الرأي،وهذا سيؤدي الى عقد صفقات مصالحة وطنية وعالمية راقية المضامين. كما ان حالة الصلح كانت مرتبطة اساسا وغالبا بتوازن القوى، فاصبحت الأن مرتبطة بمباديء حضارية وأنسانية تستند الى مبدأ نبذ العنف. كان الصلح استثناء والقتال هو القاعدة، اما الأن فاصبح الصلح هو القاعدة والقتال والبغضاء استثناء.
ثالثا: تكوّن ظاهرة المصالحة
بسبب انتصار مباديء الحرية والديمقراطية وحقوق الأنسان في انحاء الكرة الأرضية لم تعد المصالحة (مفهوما) يدعوا اليه بعض المصلحين فحسب، بل اصبحت (ظاهرة) منتشرة في أنحاء العالم، واسلوب حياة لاغنى للحياة العصرية عنه. لقد اصبحت مباديء المصالحة ركيزة مهمة للعلاقات بين الدول، وركيزة لاغنى غنها في العلاقات الداخلية للشعوب. كما ان المصالحة اصبحت (جوهرا) رئيسيا لمفاهيم اخرى مثل الديمقراطية والحرية.
لم تعد المصالحة مجرد التوقف عن قتال الآخر، بل اصبحت (ظاهرة) تشمل مفاهيم عديدة منها :
مفهوم الديمقراطية،مفهوم حقوق الأنسان،مفهوم الحريات العامة، مفهوم حق تقرير المصير..الخ
فلا مصالحة في عصرنا الراهن( عصر ظاهرة المصالحة) بدون الديمقراطية وتداول السلطة سلميا بواسطة صناديق الأقتراع، او بدون توفر الحريات العامة الأساسية كحرية التعبير والنشر والحريات السياسية، او بدون الأقرار بحقوق الأقليات الدينية او الأثنية الخ.
أن الحديث عن المصالحة الوطنية في العراق بدون الأقرار بهذه المباديء وغيرها التي تشكل في عصرنا الراهن عناصر (ظاهرة) المصالحة هو حديث عبثي لايقود الى المصالحة الوطنية الحقيقية. فكيف يتصالح طرفان وطنيان وأحدهما لايقر بحرية الآخرأو بحقوقه القومية او الأنسانية ؟
ان المصالحة الوطنية في العراق تستلزم اقرار كل الأطراف التي تشملها المصالحة بمباديء الديمقراطية والحريات العامة الأساسية وحقوق الأنسان وحقوق الأقليات الدينية والأثنية وغيرها من المباديء المتعلقة بحرية الأنسان وحياته وكرامته. وان اي طرف عراقي لايؤمن بهذه المباديء لايمكن مصالحته ابدا.
البعث والمصالحة الوطنية
رفع حزب البعث شعار المصالحة الوطنية طيلة فترة حكمه الممتدة لأكثر من خمسة وثلاثين عاما الا انه لم يتمكن من تحقيق حالة مصالحة وطنية حقيقية واحدة ولو ليوم واحد، والسبب في ذلك ان البعث لايؤمن بالمصالحة الوطنية الحقيقية،بل ويفهم المصالحة الوطنية على انها تحول الآخرين الى بعثيين او في احسن الأحوال تابعين لهيمنة البعث(الحزب القائد).البعث طلب من العراقيين والسوريين ان يتصالحوا معه وهو لايؤمن بحقوقهم الانسانية ولابحقوقهم السياسية وحجب عنهم كل انواع الحريات الأساسية. لم يسمح البعث العراقي والسوري بأي نشاط سياسي لأي حزب في البلدين، بل وطارد واعتقل وعذّب وقتل كل من مارس نشاط سياسي خارج هيمنة حزب البعث، ولم يسمح بصدور اي صحيفة حرّة غير مرتبطة بحزب السلطة، كما لم يسمح بأي نشاط نقابي مستقل عن السلطة، لقد منع البعث المواطنين العراقيين والسوريين من تنفس اي هواء غير هواء البعث الفاسد ومع هذا لم يكفوا عن الحديث عن المصالحة الوطنية. وأتهم البعث العراقي كل العراقيين الذين رفضوا الخنوع لتسلطه بالعمالة والخروج عن الصف الوطني.لقد شن البعث حين كان في السلطة حربا شعواء ضد الشعب العراقي، ونسى صدام شتيمته الشهيرة للرئيس البعثي السوري الأسد (الأب) حين قصف مدينة حماة: (ان الرئيس الذي يقصف شعبه بالمدفعية يستحق ان يضرب بال....) فقصف الشعب العراقي ليس فقط بالمدفعية الثقيلة والصواريخ فحسب بل وبالأسلحة الكيمياوية!!
أن البعث ومن الناحية النظرية لايؤمن بالديمقراطية الحقيقية ويدعي ان هذه الديمقراطية هي غربية ولاتصلح (للأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة) ويدعي (حاله حال البعث السوري) انه يؤمن (بالديمقراطية الشعبية)التي هي كما خبرناها تكريس لهيمنه البعث وتؤدي الى هيمنة (قائد ضرورة) يورث السلطة لأبنائه ثم لاحفادة.وحتى في داخل التنظيمات البعثية لايوجد شيء اسمه ديمقراطية اوحرية،فالمبدأ المركزي الداخلي للبعث هو (نفذ ثم ناقش)!!. كما اثبتت تجربتيّ البعث في العراق وسوريا ان البعثيين لايؤمنون بتمتع الشعب بحرياته الأساسية، ولايؤمنون بحقوق الانسان كما نصت عليها شرعة حقوق الأنسان الدولية، كما انهم لايؤمنون بصورة حقيقية بحقوق الأقليات الأثنية او الدينية. وهذا يعني ان المصالحة الوطنية غير ممكنة مع البعثيين طالما ظلوا متشبثين بمباديء البعث الشوفينية.
ورغم ان البعث العراقي قد طرد من السلطة وانكشفت اغلب جرائمه المروعة ضد ابناء العراق ألا انه لم يغيرمن نظرته للمصالحة الوطنية، ولايزال يواصل ما يسميه (القتال غير المرتد) ضد ابناء العراق لنفس التهم السابقة التي كان يلصقها بأبناء العراق وهي العمالة والخيانة. وحتى حين طرح البعض فكرة التصالح مع شراذم البعث الهارب، رفض البعث الفكرة وقال في بيان اصدره بالمناسبة (ان الوحدة الوطنية متحققة داخل المقاومة) اي داخل البعث، فالبعث لايزال يعتبر نفسه هو الممثل الوحيد للشعب العراقي وأن مجرد وجوده حتى ولو بصيغة شراذم(على حد تعبير وليد جنبلاط) يعني تحقق الوحدة الوطنية!! فكيف يمكن المصالحة مع حزب البعث وهذا الحزب يعلن صراحة وبلغة السيارات المفخخة والأغتيالات(وهي لغة لايجيد البعث غيرها) انه لايؤمن بأن العراقيين احرار بخياراتهم وليس لأي احد سلطانا عليهم الابقدر تخويلهم له عبر صناديق الأقتراع؟!.كيف نحاور ونصالح حزبا لم يعلن عن تخليه عن خرافة (الحزب القائد) وعن حلم العودة ثانية للتسلط على رقاب العراقيين ؟!. ان البعث وبدلا عن انتقاد تجربته في المقابر الجماعية والغازات الكيمياوية والأنفال وقمع انتفاضة اذار بوحشية، وقصر النهاية والرضوانية والأعتذار للعراقيين عن تبديد ثرواتهم وزهق ارواح ابنائهم وجلب القوات الأجنبية الى بلادهم، فأنه يهدد العراقيين بسذاجة (الحاج احمد عفلق) بالعودة للسلطة عن طريق (القتال غير المرتد) ويقول على لسان(المفكر- يالبؤس الفكر) صلاح المختار:(ان المسألة ليست هي هل يعود البعث للسلطة ام لايعود بل هي متى يعود)!!!
ففكر البعث يقوم على اساس الغاء الآخر، وقد مارس هذا الألغاء ولم يزل، وهذا الألغاء يتعارض مع مفهوم المصالحة حتى بمعناها البدائي، فكيف نصالح اذن من يطالب بوضع القيود في رقابنا؟!.
كيفية التعامل مع شراذم حزب البعث؟
حين نقول (شراذم) فأننا نعمد الى التمييز بين من واصلوا العمل في صفوف البعث وارتكبوا جرائم لاتغتفر بحق ابناء العراق باسم مايسمى (بالمقاومة) وهم فعلا شراذم،وبين من تركوا صفوف الحزب نهائيا، وهم عموما ممن لم يرتكبوا جرائم بحق ابناء الشعب اثناء وجودهم في صفوف البعث.
القسم الأول (شراذم البعث)علاجه الأجتثاث وبكل قسوة،لأن اي تراخ سيغريهم بأرتكاب جرائم اضافية ضد ابناء العراق.وليتذكر الجميع ان كل المرات التي تسلل فيها حزب البعث الى السلطة كان يستغل فيها تسامح وأنسانية الآخرين الذين عاملوا البعث بلغة (عفى الله عما سلف) فجازاهم بحمامات الدم.
ان البعثيين يستأسدون على كل من يرأف بهم، ولكن حين يواجهون حزما ولو بسيطا فأنهم سيستفئرون ويعلنون في الصحف انهم (سيتفرغون لرعاية بقراتهم) كما فعل احمد حسن البكر حين تعرض (لقرصة اذن) بسيطة في منتصف الستينات.
اما القسم الثاني (وهم الذين تخلوا عن حزب البعث، وهم الأغلبية) فيجب مساعدتهم على تجاوز (عقدة البعث) من خلال استيعابهم في منظمات المجتمع المدني واعادتهم الى وظائفهم المدنية مع التشديد على عدم منحهم فرصة النفاذ الى الأجهزة الأمنية.وفي كل الأحوال فان الأسس التي يقوم عليها قانون اجتثاث البعث هي اسس وطنية وانسانية عادلة وجيدة،والمطلوب وطنيا من الحكومة القادمة دعم وتفعيل هيئة اجتثاث البعث بما ينهي عملية الأجتثاث باسرع وقت، لنطوي والى الأبد صفحة البعث السوداء.
* نقلا عن جريدة "الرافدين" العراقية
قبل الحديث عن قضية مصالحة البعث او اجتثاثه دعونا نلقي نظرة على السيرورة التأريخية لمفهوم المصالحة لنتعرف على تطور مضامينها تأريخيا.
مرت (المصالحة) بثلاث مراحل تأريخية لحد الآن هي :1- صيرورة الوجود العرضي 2- انبثاقف المفهوم 3- تكون الظاهرة
أولا:صيرورة الوجود (العرضي) للمصالحة
قياسا على النظريات التي رسمت لنا سيناريوهات تقريبية لكيفية قيام الإنسان بتحقيق اكتشافات مهمة مثل اكتشاف النار وتعلم طهي الطعام وتدجين الحيوانات وغيرها من الأكتشافات التي رافقت مسيرة الأنسان البدائي وتقدمت بها الى الأمام، نستطيع ان نرسم سيناريو تقريبي عن كيفية (اكتشاف) الإنسان لأسلوب المصالحة كبديل لأسلوب القتال الذي كان ولايزال اهم اسلوب يعالج به البشر صراعاتهم المختلفة. ويمكن التوقع هنا ان الانسان لم يتعرف على امكانية المصالحة مع الآخر الا بعد ان عجز عن سحق هذا ( الآخر) عن طريق القتال. ففي البدء كان القتال. تقاتل البشر(منذ هابيل وقابيل) فيما بينهم، وسحق احدهما الآخر، قتل احدهم الآخر، استعبد احدهم الآخر، وظل الآخر في ذلك الوقت يحمل حقوقا مواجهة لحقوق الآخرين بمقدار حجم قوته، فالحق كان(ولايزال، الى حد ما، مع الأسف) هو القوة، وملك اليمين يعني ماجلبته لك قوة يمينك(يدك) من حقوق، كما يقول العلامة علي الوردي. فأن توازنت القوة في كفي ميزان صراع الطرفين توازنت(تساوت) حقوق الطرفين ايضا.
ترى ماذا يحدث لو دخلت مجموعتان بشريتان، متساويتا القوة، في صراع مسلح؟ ماذا يحصل لو طال الصراع بينهما،لتوازن القوى، وحدث استنزاف كبير لقوى الطرفين الى درجة جعلتهم عاجزين(كليا او جزئيا) عن مواصلة القتال ؟ كيف يتصرف الطرفان المتصارعان اذا تيقنا من أن انزال الهزيمة بالطرف الأخر امر مستحيل او صعب ؟ من المنطقي ان نتوقع انهما سيفكران بالتوقف عن القتال والعودة الى اماكن سكناهم وهم يحملون معهم مايشبه الهدنة(وليست هدنة)،وهي في حقيقتها اقرار نفسي من كلا الطرفين بالعجز عن هزيمة الآخر. وعندما سيتكرر هذا العجز مرات ومرات (سيكتشف) المتحاربون حاجتهم الى توقف القتال بصورة (نهائية)، وحل مشاكلهم بصورة (سلمية) من خلال تنازل كل طرف للطرف الآخرعن شيء من اهدافه التي اراد ان ينالها بواسطة القوة.ويجب ان نلاحظ هنا ان مقدار التنازلات التي سيقدمها كل طرف ترتبط اساسا بدرجة عجزه عن القتال، فأذا تساوى عجزهما تساوى مقدار تنازلاتهما المتبادلة، وبعكسه فأن الطرف الأكثر عجزا سيقدم تنازلات اكثر، وفي كل الأحوال لايمكن ان يكون عجز احد الطرفين تاما،لأنه في هذه الحالة لايجد الطرف الآخر حاجة للصلح وسيواصل سعيه لأخذ كل مايريد من اللآخرعن طريق القوة.
وهكذا وبفعل هذا الاتفاق غير المكتوب اصبح هناك في لحظة ما (وجودا موضوعيا،عرضيا) لحالة يكون فيها الطرفان المتعاديان المتجاوران لايتقاتلان بسبب توازن القوى بينهما.ان هذا الوجود الموضوعي والعرضي لهذه الحالة هو (الصلح) في صيرورته الأولى.
فالصلح لابد ان يكون قد نشأ عن حاجة البشر، في لحظة ما، لوقف القتال بعد ان عجزوا عن مواصلته،او اصبحت مواصلته مكلفة جدا.ان الكثير من الأمثلة التأريخية القديمة والمعاصرة تدعم هذه الفكرة وتؤكد ان (اكتشاف) الأنسان للصلح كأسلوب سلمي لحل النزاعات جاء بسبب عجز الأنسان عن أستخدام او مواصلة استخدام الحل العنفي.
ثانيا: تكوّن (مفهوم) المصالحة
لقد تكررت وتكررت (بسبب الحاجة البشرية) الحالات التي يلجأ فيها الأفراد او المجموعات الى الحلول السلمية لنزاعاتهم بعد قتال او تهديد بقتال، ونشأت تدريجيا وظيفة اجتماعية يمارسها بعض الناس المرموقين اجتماعيا مهمتهم التوسط لحل النزاعات سلميا بين الأفراد او الجماعات التي ينشب، او يكاد ان ينشب، القتال بينهم. وتراكمت لدى المجاميع البشرية، شيئا فشيئا، خبر ومعارف محددة،استخلصت من حلول لنزاعات سابقة، وصار متعارفا التعامل بها(كقوانين او اعراف) في نطاق جغرافي معين لوضع حلول سلمية لنزاعات مشابهة. لقد حددت هذه التجارب المتكررة، والنتائج المترتبة عليها، مضامين معينة لعملية الصلح،مثل مضمون التوقف عن القتال، والأعتراف بحقوق معينة لكل طرف،وحل الخلافات بالتراضي،وهذه المضامين هي (جوهر) الأسلوب السلمي الذي اطلق عليه تسمية( الصلح) لأنه يصلح علاقة الأطراف المتباغضة.
أن هذه المضامين انتقلت الى أذهان الناس وصارت جزء من وعيهم، وشيئا فشيئا اصبحت كلمة (الصلح) لاتشير بالضرورة الى حالة صلح بعينها قائمة فعلا، وأنما اصبحت تثيرفي ذهن الأنسان معاني مجردة ومحددة (كمعاني السلام،الصداقة، التعايش السلمي،التعاون). وهذه المعاني التي في أذهاننا هي في الحقيقة (جوهر) حالة المصالحة(المنعكس) في ذهن الأنسان عن حالة الوجود الموضوعي للمصالحة و(المنفصلة) عنها في آن.
اي ان المصالحة تحولت من وجود (عرضي) الى مفهوم حسي (يحدد نفسه بنفسه - كما يقول هيجل عن المفهوم)،وقائم بذاته(اي منفصلا عن الوجود الموضوعي لأي حالة صلح بعينها).فالذي في اذهاننا هو مفهوم المصالحة وليس المصالحة بعينها.
غير ان هذا الانفصال بين الوجود الموضوعي للمصالحة وجوهرها المنعكس في ذهن الأنسان هو انفصال في الفكر فقط، اما على صعيد الواقع فأنهما مرتبطان ارتباطا جدليا ويطوّر احدهما الأخر،فتطور مفهوم الصلح واغنائه بمضامين جديدة من خلال الجهد الفكري للأنسان انتج حالات صلح متطورة عن مثيلاتها السابقات، كما ان حالات صلح جديدة متطورة اغنت مضامين مفهوم الصلح. فالعلاقة بين الوجود الموضوعي للصلح وجوهره المنعكس في ذهن الأنسان( المفهوم) هي علاقة جدلية تؤدي بأستمرار الى تطور الحالة الموضوعية للصلح وتطور مفهومها في آن. فمثلا ان الصلح في صيرورته الأولى كانت معانيه لاتتعدى ترتيبات تؤدي فقط الى توقف القتال، ثم تطور الصلح شيئا فشيئا فصار يعني الصداقة والتعاون وغيرها من المعاني التي تضاف بأستمرار لمضمون المصالحة،بل أنه في عصرنا الراهن صارت المصالحة تحمل مضامينا انسانية عميقة تتعدى فكرة احترام الرأي الآخر المخالف الى مساعدة الآخر على التعبير عن هذا الرأي،وهذا سيؤدي الى عقد صفقات مصالحة وطنية وعالمية راقية المضامين. كما ان حالة الصلح كانت مرتبطة اساسا وغالبا بتوازن القوى، فاصبحت الأن مرتبطة بمباديء حضارية وأنسانية تستند الى مبدأ نبذ العنف. كان الصلح استثناء والقتال هو القاعدة، اما الأن فاصبح الصلح هو القاعدة والقتال والبغضاء استثناء.
ثالثا: تكوّن ظاهرة المصالحة
بسبب انتصار مباديء الحرية والديمقراطية وحقوق الأنسان في انحاء الكرة الأرضية لم تعد المصالحة (مفهوما) يدعوا اليه بعض المصلحين فحسب، بل اصبحت (ظاهرة) منتشرة في أنحاء العالم، واسلوب حياة لاغنى للحياة العصرية عنه. لقد اصبحت مباديء المصالحة ركيزة مهمة للعلاقات بين الدول، وركيزة لاغنى غنها في العلاقات الداخلية للشعوب. كما ان المصالحة اصبحت (جوهرا) رئيسيا لمفاهيم اخرى مثل الديمقراطية والحرية.
لم تعد المصالحة مجرد التوقف عن قتال الآخر، بل اصبحت (ظاهرة) تشمل مفاهيم عديدة منها :
مفهوم الديمقراطية،مفهوم حقوق الأنسان،مفهوم الحريات العامة، مفهوم حق تقرير المصير..الخ
فلا مصالحة في عصرنا الراهن( عصر ظاهرة المصالحة) بدون الديمقراطية وتداول السلطة سلميا بواسطة صناديق الأقتراع، او بدون توفر الحريات العامة الأساسية كحرية التعبير والنشر والحريات السياسية، او بدون الأقرار بحقوق الأقليات الدينية او الأثنية الخ.
أن الحديث عن المصالحة الوطنية في العراق بدون الأقرار بهذه المباديء وغيرها التي تشكل في عصرنا الراهن عناصر (ظاهرة) المصالحة هو حديث عبثي لايقود الى المصالحة الوطنية الحقيقية. فكيف يتصالح طرفان وطنيان وأحدهما لايقر بحرية الآخرأو بحقوقه القومية او الأنسانية ؟
ان المصالحة الوطنية في العراق تستلزم اقرار كل الأطراف التي تشملها المصالحة بمباديء الديمقراطية والحريات العامة الأساسية وحقوق الأنسان وحقوق الأقليات الدينية والأثنية وغيرها من المباديء المتعلقة بحرية الأنسان وحياته وكرامته. وان اي طرف عراقي لايؤمن بهذه المباديء لايمكن مصالحته ابدا.
البعث والمصالحة الوطنية
رفع حزب البعث شعار المصالحة الوطنية طيلة فترة حكمه الممتدة لأكثر من خمسة وثلاثين عاما الا انه لم يتمكن من تحقيق حالة مصالحة وطنية حقيقية واحدة ولو ليوم واحد، والسبب في ذلك ان البعث لايؤمن بالمصالحة الوطنية الحقيقية،بل ويفهم المصالحة الوطنية على انها تحول الآخرين الى بعثيين او في احسن الأحوال تابعين لهيمنة البعث(الحزب القائد).البعث طلب من العراقيين والسوريين ان يتصالحوا معه وهو لايؤمن بحقوقهم الانسانية ولابحقوقهم السياسية وحجب عنهم كل انواع الحريات الأساسية. لم يسمح البعث العراقي والسوري بأي نشاط سياسي لأي حزب في البلدين، بل وطارد واعتقل وعذّب وقتل كل من مارس نشاط سياسي خارج هيمنة حزب البعث، ولم يسمح بصدور اي صحيفة حرّة غير مرتبطة بحزب السلطة، كما لم يسمح بأي نشاط نقابي مستقل عن السلطة، لقد منع البعث المواطنين العراقيين والسوريين من تنفس اي هواء غير هواء البعث الفاسد ومع هذا لم يكفوا عن الحديث عن المصالحة الوطنية. وأتهم البعث العراقي كل العراقيين الذين رفضوا الخنوع لتسلطه بالعمالة والخروج عن الصف الوطني.لقد شن البعث حين كان في السلطة حربا شعواء ضد الشعب العراقي، ونسى صدام شتيمته الشهيرة للرئيس البعثي السوري الأسد (الأب) حين قصف مدينة حماة: (ان الرئيس الذي يقصف شعبه بالمدفعية يستحق ان يضرب بال....) فقصف الشعب العراقي ليس فقط بالمدفعية الثقيلة والصواريخ فحسب بل وبالأسلحة الكيمياوية!!
أن البعث ومن الناحية النظرية لايؤمن بالديمقراطية الحقيقية ويدعي ان هذه الديمقراطية هي غربية ولاتصلح (للأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة) ويدعي (حاله حال البعث السوري) انه يؤمن (بالديمقراطية الشعبية)التي هي كما خبرناها تكريس لهيمنه البعث وتؤدي الى هيمنة (قائد ضرورة) يورث السلطة لأبنائه ثم لاحفادة.وحتى في داخل التنظيمات البعثية لايوجد شيء اسمه ديمقراطية اوحرية،فالمبدأ المركزي الداخلي للبعث هو (نفذ ثم ناقش)!!. كما اثبتت تجربتيّ البعث في العراق وسوريا ان البعثيين لايؤمنون بتمتع الشعب بحرياته الأساسية، ولايؤمنون بحقوق الانسان كما نصت عليها شرعة حقوق الأنسان الدولية، كما انهم لايؤمنون بصورة حقيقية بحقوق الأقليات الأثنية او الدينية. وهذا يعني ان المصالحة الوطنية غير ممكنة مع البعثيين طالما ظلوا متشبثين بمباديء البعث الشوفينية.
ورغم ان البعث العراقي قد طرد من السلطة وانكشفت اغلب جرائمه المروعة ضد ابناء العراق ألا انه لم يغيرمن نظرته للمصالحة الوطنية، ولايزال يواصل ما يسميه (القتال غير المرتد) ضد ابناء العراق لنفس التهم السابقة التي كان يلصقها بأبناء العراق وهي العمالة والخيانة. وحتى حين طرح البعض فكرة التصالح مع شراذم البعث الهارب، رفض البعث الفكرة وقال في بيان اصدره بالمناسبة (ان الوحدة الوطنية متحققة داخل المقاومة) اي داخل البعث، فالبعث لايزال يعتبر نفسه هو الممثل الوحيد للشعب العراقي وأن مجرد وجوده حتى ولو بصيغة شراذم(على حد تعبير وليد جنبلاط) يعني تحقق الوحدة الوطنية!! فكيف يمكن المصالحة مع حزب البعث وهذا الحزب يعلن صراحة وبلغة السيارات المفخخة والأغتيالات(وهي لغة لايجيد البعث غيرها) انه لايؤمن بأن العراقيين احرار بخياراتهم وليس لأي احد سلطانا عليهم الابقدر تخويلهم له عبر صناديق الأقتراع؟!.كيف نحاور ونصالح حزبا لم يعلن عن تخليه عن خرافة (الحزب القائد) وعن حلم العودة ثانية للتسلط على رقاب العراقيين ؟!. ان البعث وبدلا عن انتقاد تجربته في المقابر الجماعية والغازات الكيمياوية والأنفال وقمع انتفاضة اذار بوحشية، وقصر النهاية والرضوانية والأعتذار للعراقيين عن تبديد ثرواتهم وزهق ارواح ابنائهم وجلب القوات الأجنبية الى بلادهم، فأنه يهدد العراقيين بسذاجة (الحاج احمد عفلق) بالعودة للسلطة عن طريق (القتال غير المرتد) ويقول على لسان(المفكر- يالبؤس الفكر) صلاح المختار:(ان المسألة ليست هي هل يعود البعث للسلطة ام لايعود بل هي متى يعود)!!!
ففكر البعث يقوم على اساس الغاء الآخر، وقد مارس هذا الألغاء ولم يزل، وهذا الألغاء يتعارض مع مفهوم المصالحة حتى بمعناها البدائي، فكيف نصالح اذن من يطالب بوضع القيود في رقابنا؟!.
كيفية التعامل مع شراذم حزب البعث؟
حين نقول (شراذم) فأننا نعمد الى التمييز بين من واصلوا العمل في صفوف البعث وارتكبوا جرائم لاتغتفر بحق ابناء العراق باسم مايسمى (بالمقاومة) وهم فعلا شراذم،وبين من تركوا صفوف الحزب نهائيا، وهم عموما ممن لم يرتكبوا جرائم بحق ابناء الشعب اثناء وجودهم في صفوف البعث.
القسم الأول (شراذم البعث)علاجه الأجتثاث وبكل قسوة،لأن اي تراخ سيغريهم بأرتكاب جرائم اضافية ضد ابناء العراق.وليتذكر الجميع ان كل المرات التي تسلل فيها حزب البعث الى السلطة كان يستغل فيها تسامح وأنسانية الآخرين الذين عاملوا البعث بلغة (عفى الله عما سلف) فجازاهم بحمامات الدم.
ان البعثيين يستأسدون على كل من يرأف بهم، ولكن حين يواجهون حزما ولو بسيطا فأنهم سيستفئرون ويعلنون في الصحف انهم (سيتفرغون لرعاية بقراتهم) كما فعل احمد حسن البكر حين تعرض (لقرصة اذن) بسيطة في منتصف الستينات.
اما القسم الثاني (وهم الذين تخلوا عن حزب البعث، وهم الأغلبية) فيجب مساعدتهم على تجاوز (عقدة البعث) من خلال استيعابهم في منظمات المجتمع المدني واعادتهم الى وظائفهم المدنية مع التشديد على عدم منحهم فرصة النفاذ الى الأجهزة الأمنية.وفي كل الأحوال فان الأسس التي يقوم عليها قانون اجتثاث البعث هي اسس وطنية وانسانية عادلة وجيدة،والمطلوب وطنيا من الحكومة القادمة دعم وتفعيل هيئة اجتثاث البعث بما ينهي عملية الأجتثاث باسرع وقت، لنطوي والى الأبد صفحة البعث السوداء.
* نقلا عن جريدة "الرافدين" العراقية