-
عرض كامل الموضوع : قصص لزينب صادق
مقهورة
بكت أمي يوم ولادتي .. دموعها نزلت على وجهي لسعتني , قالت أمي إنني نظرت إليها و انفرجت شفتاي عن ابتسامة و تعجبت من ابتسامة طفلة يوم مولدها ! وكانت تحكي عن هذه المعجزة لكل من يأتي لتهنئتها على البنت ثم يصدم .
قال أمي إنني كنت طفلة غير مزعجة , قليلة البكاء , كثيرة الابتسام , نادرة الأمراض , وتلك المميزات جعلت إخوتي الثلاثة الكبار يحبونني و يلاعبونني . كانت أمي حريصة على أن ألعب بلعب البنات و لا ألعب بلعب الصبيان أو ألعب معهم . كانت تخاف أن أقلدهم في خشونتهم .
كانت حريصة أن تجعل مني أنثى في تصرفاتي و حديثي و علمتني طهي الطعام و أنا في التاسعة من عمري . في ذلك الزمان كان معروفاً أن البنت الجميلة هي التي تتزوج , أما الخالية من الجمال فكانت تحاكي الشبان في تصرفاتهم و حياتهم و تهتم بالمذاكرة لتصل إلى أعلى درجات العلم و تعمل و نادراً ما تتزوج ! فألحقتني بالدراسة في مدرسة لبنات الأسر الراقية في ذلك الزمان . يتعلمن بجانب العلوم و الآداب الأعمال المنزلية و الطهي و الحياكة . وكانت الدراسة بمصاريف مرتفعة حسب اقتصاد ذلك الزمان . وكانت أمي تخاف من سخرية البنات مني , و الحقيقة أنا لم أجد أنني لست جميلة , وكانت ابتسامتي تضيء وجهي , و تحبب البنات فيّ , وكذلك مرحي و خفة دمي . كانت أمي لا تعترف بجمال البنت إلا في وجهها .ربما لم تلاحظ أن الله وهبني الجمال في بدني . هذا الجمال لاحظته زميلاتي في الدراسة , و الشبان في الطريق ولولا خوف شبان الحي الذي نسكنه من إخوتي الكبار لكانوا غازلوني علناً .. لقد تجرأ أحدهم يوماً ووضع في يدي ورقة بها أبيات من الشعر يتغزل فيّ , كنا وقتها أثناء الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956 . و كنت ممتلئة بالحماس للدفاع عن بلدي و انضممت لمسيرة من بنات و أبناء مدارس الحي لنعرض استعدادنا للدفاع عن أرض الوطن , أثناء مسيرتنا وجدت ورقة شعر الغزل في يدي . لم يبتعد العاشق الولهان عن جو الحرب فكتب ضمن غزله ..
"و خصرها صاروخ .. يعلوه مدفعان .. " يومها تشاجرت مع أمي لأني سرت في مظاهرة مثل الشبان .. و زاد خوفها ألا أتزوج و قد وصلت إلى عمر السادسة عشرة , استمعت إلى نصائح النساء من القريبات و أخذتني إلى حي شعبي في بيت قديم لتعرضني على شيخة معروفة ببركاتها في تزويج البنات , هكذا فهمت و أنا جالسة في ذلك الجو الكئيب . قالت الشيخة بعد أن نظرت إليّ إنه يلزمني "عمل" يجعل الشبان يتنافسون على الزواج مني .. و ذلك العمل سيكلف بعض المال و بعض الوقت .. لأنها ستصنعه من العضو التناسلي لكلبة في فترة طلب العشار . ظنت أمي أنني لم أفهم مع أنها وضعتني في مجال دراسي و بنات يفهمن في أمور الحب و الجنس أكثر من الذي في كتب الدراسة ! ربما لأول مرة أغضب من أمي و بكيت عندما عدنا إلى البيت و سألتها : هل أنا في نظرك كلبة تريدين من الكلاب أن يحوموا حولي لأختار كلباً أتزوجه ..؟؟ شهقت أمي من المفاجأة و صفعتني لأول مرة في حياتي ..
وحذرتني أن أحكي عن هذه الزيارة أو هذا ال " عمل " لأي أحد .. ثم صالحتني و أقنعتني أن أضع ذلك الشيء لأجل خاطرها . و بكت من خوفها ألا أتزوج و أصبح عانساً كبيرة يهرب مني الرجال لقبحي .. و تهرب النساء تشاؤماً مني , و لا أجد سنداً لي في الحياة بعدها .. كنت واثقة من نفسي فلم تخفني تحذيراتها .. و لم يكن ذلك الشيء سبباً في زواجي .. أقنعت أمي أنني أعلقه في ملابسي الداخلية و كنت أضعه في درج دولابي .
لقد كنت في العمر الذي يلتفت فيه الشبان للشابات طلباً للزواج , و تقدم لي أكثر من شاب من عائلتنا ومن الجيران و من أصدقاء إخوتي .. و كانت سعادة أمي أنني أنا التي كنت أتدلل و أرفض و أنتقي , كنت فاهمة نفسي , ماذا أريد و من أريد , كان بدني الفائر بالأنوثة هو الذي يوجهني , هو الذي كان يجذب الشباب لطلبي للزواج , و ليس كما ظنت أمي أن إقبالهم علي من "سحر عضو الكلبة " واخترت زوجي بصيحة شعرت بها من بدني , و فهمت فيما بعد أنه مولود تحت برج من أكثر الأبراج الفلكية حباً للجنس .
في ذلك الوقت كان عمري سبعة عشر عاماً , و في السنة النهائية من مدرسة البنات و قالت حكومة الثورة إنه من الممكن أن نعمل معادلة بسيطة ونلتحق بالجامعة , و كان غير مسموح بالدراسة الجامعية من تلك المدرسة , قلت رغبتي في الالتحاق بالجامعة , و اعترض خطيبي , و كان مرشحاً لبعثة دراسية في الخارج , وكان لا بد أن أسافر معه , وافقت بصيحة من بدني .. و فرحت لفكرة السفر للخارج , من التي كانت تحلم في ذلك الوقت بالسفر إلى الخارج ..؟ كان حلماً مستحيلاً ..
أتممت دراستي المعادلة للشهادة الثانوية العامة و تزوجنا .. سافرنا إلى الإسكندرية و قضينا شهر عسل جميلاً جداً في شقة أسرته هناك . بعد ذلك عشنا معهم إلى أن أتى موعد سفرنا .
على الرغم من أن لديه شقيقتين و شقيقين إلا أنه كان الآمر الناهي في البيت . طلب من أمه أن تعلمني طهي الطعام الذي يفضله و تدربني على العادات التي يحبها و تحفظني مطالبه . في بيت أسرته كنت أعمل بمساعدة الأختين و الأم . أما في الخارج فكنت أقوم بالعمل المنزلي وحدي . كنت خادمة طوال اليوم في البيت ليعيش كما كان في بلدنا تماماً . و خادمة في الفراش في الليل . كان خروجنا من المنزل نادراً .. للنزهة أو الفرجة على البلد .
عندما حملت بابنتي الأولى هناك , أصر على أن أضع في بلدنا خوفاً أن يكون المولود ذكراً و تكتب شهادة ميلاده هناك , و يطلب في جيشهم عندما يكبر , خاف أن يحارب وطنه مع أبناء ذلك الوطن , كنا في وقت اضطرابات سياسية , بعد ولادة البنت عدت إليه , و قرر أن يأخذ حذره حتى لا أحمل مرة أخرى و نحن في الخارج لنوفر مصاريفنا .
همست لأمي بشكواي , فخبطت على صدرها و قالت : أتشكين من شيء تتمناه كل النساء ؟ و أنت هل كنت تحلمين برجل يطلبك كل ليلة ..؟
حذرتني من الشكوى ومن التذمر أو التمرد ومن التفكير , مجرد التفكير في ترك الزوج ! لم أكره ما شكوت منه لأمي , لكني كنت أكره أنه أصبح شيئاً فشيئاً روتينياً مثل الأشياء الروتينية التي يجب أن نقوم بها كل يوم , مثل تناول الطعام و الدخول إلى الحمام .
أحياناً أكون متعبة أو .. غير راغبة لكنه كان يخضعني لرغبته , و الغريب أنني في أوقات الامتناع الشهري أو أثناء شهور الحمل الخطرة كنت أشتاق له .. أليس بدني هو الذي اختاره ..؟
في أول زواجي كان خضوعي للزوج إجبارياً , كنت صغيرة , ومع مرور السنين وجدت أن خضوعي له اختياري . وجدت أنني مقهورة باختياري ! ربما بدون أن أدري علمت بناتي الثلاث عدم الخضوع و مقاومة القهر .. أي قهر يقع عليهن .. أخذن مني جمال البدن و أخذن من أبيهن جمال الوجه و تدربن على الذكاء بالقراءة و العلم , و اخترن أزواجهن بتفكير عقولهن , و نبضات قلوبهن لم يخترن بصيحات من أجسادهن .. فهل علمتهن هذا أيضاً دون أن أدري ..؟؟
عندما حدثني زوجي عن هذه الحبوب الجديدة المنشطة للرجال , قلت له أننا كبرنا الآن و لسنا في حاجة إلى نشاط الشباب و قد استمتعنا بحياتنا .
سألني بجديّة يعني أني لست متضايقة لأنه يطلبني كل أسبوعين أو كل شهر ؟!!! كدت أبكي .. و كدت أضحك . و كدت أقول له حقيقة مشاعري منذ السنة الثانية لزواجنا .. و لكنني ابتسمت و ربت على ظهره و قلت له إنه أحسن الرجال .
مكبوتة
الحياة كما ينبغي أن تكون .. إعلان .. يستفزني كلما رأيته , يضحكني , يهزني , يذكرني بعبارة مشابهة .. الحب كما يجب أن يكون .. أو .. كما كان ينبغي أن يكون !
صورته منورة في الصفحة قبل الأخيرة في الجريدة يطلبون قراءة الفاتحة ..!! لعنة الله عليه .. أطلت أختي برأسها في الجريدة , قالت : سامحيه ... أسامحه ..؟؟
إذا كانت الإساءة محدودة .. إذا كانت لشيء بسيط .. لقد أساء لحياتي كلها .. الغضب منه انتهى من نفسي من زمن بعيد , لكن حياتي غاضبة عليه . يا أختي أنت كنت طفلة , بينما أنا كنت في عمر الصبا عندما أحببته , أنت كنت في بداية عمر الشباب . متفتحة الآمال التي تنتظرك بينما أنا كنت في بداية نضج الشباب عندما صدمت آمالي بصخرة اليأس فحطمتها . اضطربت حياتي , تلطم قلبي و فقدت الثقة في نفسي .. أسامحه ..؟ لم أعش حياتي كما ينبغي أن تكون , و فهمت الحب كما يجب أن يكون بعد أن ضاعت كل الفرص من عمري ..!!
***
في عمر الصبا تعرفت على أخته في المدرسة الابتدائية . دعتني لألعب معها في حديقة بيتهم . فيلا تحوطها حديقة كبيرة في شارع قريب من بيتنا . لا أنسى أول مرة شاهدته . شاب في بداية عمر الشباب . الشقاوة تضيء عينيه العسليتين , تبرقان مثل عيني قطة , قدمتني له أخته . سألني أين نسكن . ماذا يعمل أبي و هل لي أخوة و أخوات ؟! لك أتضايق من أسئلته كما تضايقت أخته . كان شديد الشبه بأحد نجوم هوليوود في الأربعينيات , كنت معجبة بذلك النجم بعد أن شاهدته في فلم رومانسي مع أسرتي في سينما صيفية . بأحلام عمر الصبا تخيلت نفسي بطلة الفلم الرومانسي و هو بطل أحلامي . كانت تلك المقابلة و أنا في الثانية عشرة من عمري وهو في الثامنة عشرة من عمره , و أحببته , فهل كان يمكن لشاب في مثل شقاوته و شكله أن يحب بنتاً نحيفة شعرها مشدود خلف رأسها في ضفيرة , و ثمرتان دقيقتان لم تنضجا على صدرها ؟! كان لا يمكن . كنت أسمع من أخي الذي يكبرني عن منافسة أولاد حينا مع أولاد الحي المجاور في لعبة كرة القدم و شقاوتهم في تسلق أشجار الثمار الناضجة في حدائق بيوت الحي , ووطنيتهم في معاكسة جنود الاحتلال الإنجليزي , و مغامراتهم العاطفية مع بنات الأسر اليونانية . عندما سألته عن شقيق صديقتي قال أنه يشاركهم ألعابهم و هو المفضل عند البنات اليونانيات . أصبح في رأسي الحلم الذي أتمنى تحقيقه . كانت تشجعني ابتسامته التي يستقبلني بها عند زيارتي لأخته , و حكاياته الظريفة التي كان يحكيها لنا .. كانت الفيللا التي يسكناها ملكاً لجديهما الذي كان يعيش معهم . عندما توفي الجد قرر أبناؤه السبعة بيع البيت و الحديقة فليس معقولاً أن يستفيد بها واحد فقط منهم . اختار والديهما سكناً بعيداً , وكنت و أخته في السنة النهائية للدراسة الابتدائية . بكينا لفراقنا و بكيت أكثر لفراقه هو .. اتفقت معها على أن تظل صداقتنا بالمراسلة إلى أن يشاء القدر و نلتقي ..! كان الحي الذي اختاره والدها في شمال العاصمة بينما حينا في جنوبها .لكننا شعرنا في ذلك الوقت و تبعاً لحياة ومواصلات ذلك الزمن أن أميالاً كثيرة تفصلنا !! ظلت الخطابات بيننا متبادلة طوال دراستنا في المرحلة الثانوية , و تبادلنا أربع زيارات , لكني لم التق به حتى بالصدفة طوال تلك السنوات . في آخر زيارة سألتها عنه فقالت أن والدها اشترى له سيارة يسرح بها مع بنات خليعات ..! و مع ذلك بقي في رأسي الحلم الذي تمنيت تحقيقه . و أخيراً قابلته و أنا أقدم أوراقي لألتحق بالجامعة , كان مع أخته , و هي تقدم أوراقها . كنت قد تغيرت . امتلأ بدني و طالت قامتي و نضجت الثمرتان على صدري و قصصت شعري نظر إليّ بدهشة .. معقول البنت الصغيرة كبرت هكذا ..!!؟ دعانا يومها لتناول المرطبات في جزيرة الشاي بحديقة الحيوانات . كانت كلماته مرحبة بي , و نظراته معجبة بي , و آه من فرحتي إنه شعر بوجودي ..!
بدأت حكاية حبنا في ذلك اليوم من أواخر سنوات الخمسينيات في هذا القرن العشرين أقول حبنا بمعنى أنه بادلني الحب الذي كنت أكنه له من سنين . التحقت بكلية التجارة التي تخرج هو منها و التحقت أخته بكلية العلوم , كان هو يعمل في شركة حكومية .. كانت مقابلاتنا أولاً في صحبة أخته , قم أصبحت وحدنا . و أعطاني أرقام تليفونات عمله حتى لا أطلبه في بيت أهله ! شهدت مناطق العشاق في ذلك الوقت صحبتنا , شهدت سيارته الصغيرة تشابك أيدينا و نعومة قبلاتنا و سمعت مقاعد و مناضد كازينوهات النيل النائية حلو أحاديثنا , و سخاء آمالنا .." و أنا يا حبيبي يا نيل نلنا أمانينا .. مطرح ما يسري الهوا .. ترسي مراسينا .." هكذا غنت لنا أم كلثوم . طلب مني أن يكون الحب الذي بيننا سراً لا أحكيه لأحد مهما كان قريباً مني . البنت في عمر تفتح الشباب تزيد فرحتها بنبض الحب في قلبها عندما تحكيه تشعر بثقة في نفسها تقدرها . حرمني من ذلك الشعور . و اعتقدت أن الحب لا بد أن يكون سراً وقلقا ًو خوفاً ...
كانت أخته تشعر بما يدور بيننا , وكانت تلمح لي بحكايات عن مغامراته العاطفية وأن والديها يريدانه أن يتزوج , و لن يجد أحسن مني . وكانت حمرة الكبت تجيب عني . صادقت زملائي في حدود الدراسة و الحفلات الثقافية التي كنا نقيمها و الرحلات المرحة التي كنا نقوم بها , و كل من كان يتقرب إليّ بكلمة أبعده عني و أقول له أنه مثل أخي !! كنت مشغولة بقلبي و أفكاري بحبيب القلب بينما كان لا ينشغل بي وحدي ..!!
بعد ثلاث سنوات من تخرجي و عملي سألته ماذا يمنع زواجنا ..!؟ قال أنه غير مقتنع بعمله و لا بد أن يتركه فهو يريد أن يكون سيداً لعمله و ليس مرؤوساً لأحد و إنه لا يريد الزواج وهو في حالة عدم استقرار . لم أعرف كيف أناقشه , و الحقيقة لم أجرؤ أن أناقشه فهل تجرأت يوماً وطلبت منه أن يقابلني ..!؟ كان هو الذي يحدد الموعد . ترك عمله . تباعدت لقاءاتنا بحجة أنه يكون عملاً خاصاً . لم تنقطع صلتي بصديقتي أخته بعد زواجها , لكنها بعد أن كانت تحكي عنه فأصبحت تتحاشى الحديث عنه . إلى أن طلبتني يوماً لأزورها .
احتضنتني و بكت , و هي تخبرني بزواجه من ابنة رجل أعمال سيشاركه في عمله . و لما سألته و ماذا عني .؟؟ قال أنه يحبني مثلما يحبها يعني أنا مثل أخته ..!! يعني أنا " خاويت" كل الشبان الذين تقربوا إليّ من أجله . و هو كان "يخاويني" دون أن أدري .. وافقت على خطوبتي من أول شاب تقدم لي . حاولت أن أتقبل حياتي . لم أستطع .. تركته . ثلاث مرات أدخل في مشروع خطوبة و أهرب . أربع مرات أحاول أن أحب و أفشل . اهتممت بعملي , وثقوا بقدراتي و إخلاصي , ووصلت إلى أعلى المناصب و هو أصبح من رجال الأعمال المرموقين الذين تظهر صورهم في الصحف , و يكتب عنهم في أخبار النميمة المعروفة بأخبار المجتمع .
أعيش في شقة وحدي بعد رحيل الوالدين و تفرق الأخوة و الأخوات بالزواج و تأتي أختي الصغيرة تؤنسني عندما يسافر زوجها . تعودت على الحياة وحدي , لكني لست منعزلة عن الناس بإرادتي أو بإرادتهم ..! فأنا لست صحبة كئيبة أو شريرة كما هو شائع عن الآنسات الكبيرات المعروفات بالعوانس . و أنا أقترب من الستين قابلت أحد زملائي القدامى في الجامعة في مثل عمري و أرمل .. جمعتنا حكايات عمرنا الشاب , و أعترف بأنه كان معجباً بي لكني كنت أصده . عرّفني بابنته المتزوجة و ابنه .
الذي يشاهدنا ونحن جالسان في مكان عام يظن أننا زوجان حبيبان ينعمان بحياتهما بعد أن أديا واجبهما نحو أبنائهم . عندما قلت له هذه الملاحظة .. سألني لماذا حقيقة لا نتزوج ..!؟ قلت إن شاء الله بعد خروجنا على المعاش نبدأ حياة جديدة .. و ضحكنا .
***
عاودت النظر إلى صورته في الجريدة اختاروا صورة له و هو في نضج الشباب , لا تليق بأنه والد فلان و فلان و فلانة .. و جد أيضاً .. لكنها تليق بي تذكرني بسنين شبابنا .. و حبنا .. سالت دموعي صامتة .. وقرأت له الفاتحة ..
موهومة
جلست بجوار زوجي صامتة , في شرفة الفيلا الكبيرة . حزينة و محبطة . كانت فرحتي عظيمة بفكرة أنني أجمع أسرتي لمدة عشرة أيام , أبنيّ و زوجتيهما , ابنتي و زوجها , و أحفادي الخمسة في فيلا أجرناها أنا و زوجي في قرية صغيرة على الساحل الشمالي . لم نجتمع بالكامل هكذا , حتى الأجازات الأسبوعية و الأعياد كان توحيد مواعيدهم نادراً في زياراتنا و قضاء اليوم معنا , سنوات طويلة نجتهد و نتعب أنا و زوجي في عملنا لنربي أبنائنا أحسن تربية , و نقتصد لتزويجهم , و عندما خرجنا على المعاش قررنا أن نخصص جزءاً من مكافئة نهاية خدمتنا للصيف , نؤجر شقة واسعة أو فيللا لنجتمع كلنا , قرننا أن نقضي الصيف في أماكن مختلفة من بلادنا . كنت أريد أن أعيد ذكريات الماضي عندما كانت أمي تجمعنا أنا و أخوتي و أخواتي و أسرنا . منذ رحلت أمي لم تعد أسرنا تجتمع . كنت أريد أن أعيد لأبنائي ذكريات طفولتهم و صباهم , و أعوضهم عن سنين كثيرة لم نستطع أن نصحبهم إلى مصايف , لكنهم خذلوني !!
سألت زوجي : هل كان يتذمر عندما كانت أمي تجمعنا في الصيف في شقتها في الإسكندرية , و لأخلاقه العالية لم يبد أي تذمر ؟ قال أن متع التسلية في ذلك الوقت كانت قليلة , و كانت الحكايات و المناقشات التي تجمع الشباب ثرية , بجانب أننا لم نكن نملك ما يفيض من مرتباتنا لنذهب وحدنا إلى مصيف . قال إن ولدينا يعملان بأجور مجزية و ابنتنا متزوجة من شاب يعتبر ثرياً بأسرته . كنا في عمرهم لا نملك ما يملكونه الآن , و على أي حال فقد مكثوا معنا عدة أيام , فرحنا بوجودهم , و كل منهم أراد أن يمضي بقية إجازته بالطريقة التي يفضلها فلماذا أحزن هكذا ..!؟
قلت أن الأولاد _أحفادنا_ يمكن يكون لهم عذرهم في التذمر , فلا توجد رياضة يمارسونها , و حتى البحر هنا خطر و بعيد , و هم أرادو السباحة في البحر و ليس في حمامات السباحة , لكن البنات المفروض أنهن غير الأولاد , فلماذا تذمرن من هذا المكان الهادئ , و قلن أنه مكان كئيب ..!
كنا و نحن بنات في عمرهن نفرح بالقليل , نفرح باجتماعاتنا مع بنات و أولاد عائلة أمي في بيت جدي في الإسكندرية , كنا نفرح بمجرد السير على الكورنيش نفرح بوجودنا في أحضان الأهل . قال إن الزمن الآن غير زمان , و الحياة غير حياة , و الناس غير الناس .. و ما كان يسعدنا و نحن صبايا لا يسعد الصبايا الآن , و سألني أن أغير ملابسي لنخرج و نسير في القرية فنحن لم نكتشفها في الأيام الخمسة السابقة لانشغالنا بالعمل على راحة أبنائنا و أحفادنا , و اليوم أصبحنا وحدنا بعد أن اعتذرت ابنتنا عن تكملة المدة معنا , كما اعتذر ولدانا من قبل , لننعم نحن بنزهتنا , فلا يصح أن نمضي بقية هذه الأيام في نكد بسبب ما فعله أولادنا .. معك حق .
دخلت الفيللا .. ربما لأول مرة منذ خمسة أيام ألاحظ أركانها و أثاثها . وجدت ركناً به قواقع بحرية و مركب خشبية صغيرة . أخذت قوقعة كبيرة , ووضعتها على أذني كما كنت أفعل مع القواقع التي كانت في بيت جدي . سمعت من خلال القوقعة صوت أمواج البحر . شعرت بوحدة و هزيمة . سمعت صوت أمي تنادي عليّ تسألني أن أضحك . سمعت ضحكتها الناعمة وسط أمواج البحر . سمعتها تقول أنني أيضاً كنت أخالف رأيها و مزاجها . سمعتها تنصحني أن أتقبل أولادي كما هم . ألا أحزن .. إنهم مختلفون .. سمعت زوجي ينادي عليّ .. وضعت القوقعة مكانها .. سألني : هل سمعت صوت البحر ؟
سرنا وقت الغروب نكتشف القرية الساحلية الصغيرة , فيلات و شقق في مبان غير مرتفعة بسكانها , و أخرى خالية مغلقة . أو لم يكتمل بناؤها . وجدنا مقهى صغيراً . جلسنا رحب بنا صاحب المقهى .. سكان جدد ..!؟ سألنا .. قال زوجي : إننا مؤجرون و لسنا مالكين , قال الرجل إن هذه القرى الساحلية كان المفروض أن تكون معظم مبانيها فنادق بدرجات مختلفة و مساكن للإيجارات المعقولة لتكون كلها عامرة في الصيف , و حتى لا تكون مثل الخرائب الخالية معظم شهور العام . وافقت زوجي ..وجدنا حديثاً يملأ الفراغ بيننا , عن هذه القرى التي لم تكتمل الخدمات الحياتية في معظمها كما قال لنا صاحب المقهى .. عن الإعلانات المهولة التي تملأ الجرائد مع مطلع كل صيف منذ سنين قريبة عن هذه الأماكن و إغراءات الشراء .. كلها للشراء !!
قمنا لنواصل سيرنا . سألني زوجي ماذا قال ابننا الأكبر قبل أن يسافر مع أسرته ..؟
" قال إنه لا يتحمل الحياة مع كل هذه الأجساد في بيت واحد و أن زوجته جاءت لتتفسح لا لتساعد في الطبخ لقبيلة .." ضحك زوجي و قال : " أتذكر حماتي عندما كانت تجمعنا في شقتها في المعمورة أكثر من عشرين شخصاً .." زادت ضحكاته .
" و كانت تقول الصيف يحب اللمة .. و كانت الأسرّة غير كافية فتقول حصيرة الصيف واسعة .." تعالت ضحكاته .. " " و كنا نصدها و ننام على الأرض مسرورين .." ضحكت .
زادت ضحكاته : " كانت حماتي ت}جر شقة المعمورة طول العام بمبلغ يقل عن ربع المبلغ الذي دفعناه إيجاراً لمدة عشرة أيام هنا . و كانت دائماً تذكر ذلك المبلغ لنا لحرصها على سعادتنا في الصيف . ضحكت .. سألني ماذا قالت ابنتنا في اعتذارها ..!؟
"إنها لابد أن تقضي بقية إجازتها و زوجها مع أسرته في منتزه الإسكندرية كما تفعل كل عام .. كما أن زوجها يمل من لعبة الطاولة التي تجبره على مشاركتك فيها .." ضحك .. قال : " أتذكر حماي عندما كان يلاعبنا الطاولة أنا و أخوتك و أزواج أخوتك بالدور و نتركه يغلبنا ليفرح و يشتري لنا آيس كريم .. تذكرين جلستنا المسائية في الحديقة التابعة لتلك الشقة الأرضية " .. تعالت ضحكاته .. " أتذكر عندما انتهزت أختك فرصة انشغال والدك في لعب الطاولة معنا و خلو حجرته و أخذت زوجها ليمارسا الحب تحت سريره .. كانت معذورة , في النهار الحجرات مفتوحة و في الليل متكدسين فيها .. و أراد والدك أن يحضر شيئاً من الحجرة فوجد سريره يتحرك . صرخ حرامي .. كانت فضيحة .." تعالت ضحكاتنا .. " إلى الآن لا أدري كيف فعلاها تحت الفراش ..؟! "
" اعتبرتها أختي فضيحة مع أنها كانت مع زوجها !! و أرادت أن تترك المصيف من شدة خجلها , و العالم الآن يتحدث في الأمور الجنسية كما يلوك اللبان , و البنت التي عملت فضيحة حقيقية لرئيس أميركا وقفت أمام العالم تحكي ببجاحة ووقاحة تفاصيل علاقتها الجنسية معه .. يا خبر أسود .. !" تعالت ضحكاتنا . سألني ماذا قال ابننا الثاني قبل أن يسحب أسرته لقرية ساحلية أخرى ..!؟
" قال أنه يضطر كل مساء أن يصحب ابنتيه و زوجته إلى هذه القرية التي تبعد عن قريتنا بعشرين كيلو متر و الطريق في المساء خطر , لأن أعز أصدقائهم هناك , كما يوجد بالقرية تسالي كثيرة فأجر شقة صغيرة هناك لمدة أسبوع بمبلغ من المال لا يقل كثيراً عن المبلغ الكبير الذي دفعناه في الفيلا الكبيرة هنا .." ضحك و قال : " تذكرين عندما تشاجر والدك معنا لأننا اشترينا أربعة كيلوغرامات عنب بجنيه , قال أن البائع ضحك علينا و أننا "نبعزق" نقودنا .." تعالت ضحكاتنا .
و تشعب بنا الحديث الضاحك عن مفارقات الحياة .. ماذا كان !؟ و ماذا الآن ..!؟ و تعالت ضحكاتنا إلى أن وصلنا إلى الفيلا .. جرت الدماء في عروقنا من السير من الضحك . جلسنا في شرفة الدور الأرضي .. واه يا أمي .. واه يا أبي .. و تنهيدة من الأعماق و نحن نقول كانت أيام جميلة ..
تساءلت : لماذا الأيام الجميلة تكون دائماً في الماضي ..!؟ قال : " ربما لأننا لا نشعر بها إلا بعد مرورها .. يعني لا نشعر بها و نحن نعيشها .. و لأننا الآن كبرنا فلابد أن ندرك اليوم الجميل الذي نعيشه و نفرح به .."
" من زمن لم نضحك معاً من أعماقنا .. على الرغم من كل شيء .. الأولاد .. و النقود الكثيرة التي دفعناها فهذا مساء جميل في حياتنا .."
مكافحة
خلفية حياتي ليست حالة خاصة, فكنت مثل آلاف الشباب الذين يتولون مسؤولية أسرهم في سن مبكرة , عندما يتوفى الأب فيتولى الابن الأكبر أو البنت الكبرى هذه المسؤولية. كنت البنت الكبرى لثلاث بنات وولد صغير , وأم لا تعمل . توليت مسئولية هذه الأسرة و أنا في عمر السادسة عشرة . أخذني خالي إلى صديق له صاحب مصنع صغير للأدوات المنزلية لأعمل أي شيء . المهم أن يعطيني عشرة جنيهات في الشهر مع معاش أبي الضئيل يمكننا أن نعيش ونتعلم , كانت الجنيهات العشر لها سحر كبير في ذلك الزمن ! كنت أعمل أي عمل يطلب مني حتى و إن كان عمل شاي أو قهوة . و كنت في المرحلة الثانوية في الدراسة .ولما وجد صاحب المصنع أنني متفوقة كان يسمح لي بالعمل بعد اليوم الدراسي إكراماً لصديقه .
أنا لا أتباهى بكفاحي و أقول فعلت , و عملت , و درست , و لم أعمل كتاباً مثل " هتلر " عن كفاحي ..! و كيف تحملت مسؤولية إعاشة أسرة و تعليم أخواتي و أخي , و لم أترك دراستي فالتحقت بمعهد تجاري بعد شهادة التوجيهية أو الثانوية , و لتفوقي استطعت تكملة تعليمي في كلية التجارة .. بمجرد التحاقي بالمعهد التجاري أسند إلي صاحب المصنع وظيفة إدارية و زاد مرتبي خمسة جنيهات !
تربيت في هذا المصنع و كبرت معه , استولت عليه الحكومة في أول رئاسة للثورة , و أعيد لأصحابه في ثاني رئاسة . لم أتركه , بل كن أعمل بجهد أكثر أثناء غياب أصحابه , كما لو كنت أقوم بالعمل نيابة عنهم حتى لا يخسر المصنع أو يغلق كما حدث لمصانع صغيرة كثيرة . حفظت جميلهم عليّ , لذلك قدروا جميلي عليهم عندما عادوا ,فقد كان صاحب المصنع قد ألحق بالعمل معه شركاء من أبنائه و من أزواج بناته , و لم يعش طويلاً بعد عودة المصنع لهم .
أنا لا أتباهى بكفاحي لكن الأوسمة كثيرة على صدري , فكلما أنهت أخت من أخواتي دراستها العالية أو المتوسطة أشعر بذلك الوسام على صدري . و كلما زوجت واحدة منهن أجد هذا الوسام على صدري , وتنبهت إلى عدم تدليل أخي الصغير كما تفعل معظم الأسر التي تدلل الولد الوحيد بين البنات فيفسد .
تزوجت في سن متأخرة بعد الثلاثين , و أنجبت ولداً واحداً في السنة الأولى للزواج . تزوجت عن إعجاب متبادل مع موظف في شركة حكومية . تقدم لي عن طريق الأقارب و عجلنا بالزواج بناء على طلب أمي التي كانت مريضة وتريد أن تطمئن عليّ . لم نفهم بعضنا تماماً , ولم يحتمل كل منا شخصية و طباع الآخر . استحالت الحياة بيننا فانفصلنا .وترك الولد معي و تزوج , كان شرط ترك الولد معي ألا ينفق عليه . لم أهتم فقد تعودت على ذلك ..!
كبر المصنع و أصبح شركة كبيرة , و كبرت معه و أصبحت مسئولة عن إدارة التسويق و الإعلان .. أعطيت عملي الكثير فأعطاني الأكثر .. سافرت إلى بلاد في أوروبا و أفريقيا و اليابان .. جلست مع وزراء و سفراء . انتقلت إلى حي سكني أفضل , و اشتركت في ناد رياضي معقول لاتيح لابني حياة اجتماعية و رياضية .
لم أتذمر من العمل طول عمري , و أعتقد أن سعادة الإنسان الحقيقية في أدائه لعمله مهما كان العمل بسيطاً , لذلك أتعجب من بعض بنات أخواتي و صديقاتي اللاتي يرفضن العمل و يردن الزواج من شبان يصرفن عليهن . يتخرجن من الجامعات , و بدلاً من تقديم أوراقهن لمكتب العمل أو كما يسمونه الآن القوى العاملة , يقدمن أوراقهن إلى مؤسسة الزواج , يعتبرن الزواج مثل الوظيفة المهم أن تكون ذات عائد مادي كبير . و إذا لم تعجبهن يبحثن عن وظيفة أخرى في مؤسسة الزواج , ليس لي أن أنتقدهن لأني " لخبطت " الأوراق في حياتي و اعتبرت الوظيفة أبدية و الزواج لبعض الوقت ! و العجيب أن أمهاتهن اللاتي كافحن و عملن يشجعهن على هذا . الحمد لله أنني أنجبت ولداً ,و تشبع بآرائي و تزوج من فتاة عاملة و شجعها على الاستمرار في العمل .. عندما وصلت إلى سن الستين وجدت أنني أعمل منذ أربع و أربعين سنة .
قررت أن أضع نقطة ,و أبدأ سطراً جديداً . حياة جديدة , أن أستريح . أقوم من نومي وقت ما أريد . أمضي يومي في لا شيء . أذهب إلى النادي. أسافر إلى أماكن في وطني لم أزرها , أسافر للخارج سياحة وليس عملاً , باختصار أريد أن أستمتع بالحياة . عندما أخبرت أصحاب الشركة برغبتي , ظنوا أنني لشدة حرصي على كرامتي فتحت لهم موضوع ترك العمل . قالوا إنني لا أعلم أنهم لا يخضعون لنظام خروج العامل أو الموظف إلى المعاش في هذه السن و إنني أعلم أنهم يحتفظون بالكفاءات ما دامت الكفاءة قادرة على العطاء , فلماذا أريد أن أتركهم ..!؟
قلت لهم أريد الاستمتاع بحياتي , قال كبيرهم أن آخذ إجازة ثلاثة أشهر أو أربعة طوال شهور الصيف و أعود . تحت إلحاحهم وافقت ظاهرياً ,و داخل نفسي كنت أريد أن أنفذ خطتي للاستمتاع بحياتي و بدأت إجازتي أول الصيف .
ليست أول مرة أسافر مع ابني و زوجته في إجازتهما في الصيفية إلى شقته في العجمي لكنها أول مرة ألاحظ أشياء كثيرة لا تعجبني في زوجته خصوصاً في طريقتها لتربية حفيدي . تدخلت فتأثرت زوجة ابني بشيء من الغضب , كنت أقضي معهما عدة أيام و أنا تفكيري منشغل بعملي حتى إني كنت أطلب مكتبي كل يوم . أما هذه المرة فقد كنت سأمضي معهما كل إجازتهما و لست منشغلة بسير العمل , فانشغلت بهما وكانت ملاحظاتي التي أغضبت زوجته ..! و ليست أول مرة نذهب في المساء إلى المقهى العائلي في المنطقة ,و ليست أول مرة أشاهد الجدات مع أبنائهن و أحفادهن , و لكنها أول مرة ألاحظهن , تخيلت منظري بعد سنتين أو ثلاث و أنا مثل هؤلاء الجدات , و قد أهملت مظهري و صحتي ,و مددت ساقي على مقعد أو انحنى ظهري من كثرة الجلوس بلا عمل حقيقي . هززت رأسي بالنفي , لا .. لن أكون مثلهن , لم أنم تلك الليلة و في الصباح الباكر حزمت حقيبة ملابسي , و تساءل ابني و زوجته إذا كانا قد أغضباني في شيء فلم أمض معهما سوى أربعة أيام ! قلت لهما إنني اتصلت بصديقة لي في النادي الرياضي و أخبرتني أنها كانت تبحث عني لأنها حجزت لي في رحلة مع النادي إلى شاطئ في البحر الأحمر بعد ثلاثة أيام ,و كانت صادقة إلا في مسألة أنها حجزت لي .. أنا التي سألتها أن تحجز لي ..!
ليست أول مرة أجتمع فيها مع شلة نساء من النادي , في مثل عمري أو أكبر قليلاً , لكنها أول مرة أقترب منهن كثيراً و لعدة أيام , و هم أرملتان لم تعملا من قبل , و مطلقة و ثلاث عاملات متزوجات خرجن الأربع قبلي على المعاش , كنت ألقاهن في النادي لعدة ساعات كل أسبوع أو اثنين و نتحدث في أمور مختلفة معظمها عن النادي . لأول مرة أستمع إلى شكواهن من الأبناء و البنات الذين انشغلوا بحياتهم عن أمهاتهم و الشكوى الصارخة من المعاشات التي أصبحت لا تكفي تكاليف الحياة .. تخيلت نفسي بعد سنتين أو ثلاث و أنا أشكو مثلهن . و إنني أسحب من رصيدي في البنك إلى أن ينتهي , و إنني أعيش عالة على ابني ! أو تتكدر ملامح وجهي مثل الأرملتين من كثرة نقدهما , و تبحث عيناي مثلهما عن القبح فلا تستطيعان الاستمتاع بأي مجال ! لا لن أكون مثل هؤلاء الندابات , و انضممت إلى مجموعة من البنات و الشبان في الرحلة والحمد لله تقبلوني في صحبتهم اليومين الباقيين . و انضمت لنا صديقتي المطلقة فهي المقربة ليمن هؤلاء النساء اللاتي قلن أنني و صديقتي متصابيتان تريدان اصطياد الشبان ..!
بعد تلك الرحلة مكثت في بيتي أعيد تنظيم "الدواليب " ألصق الصور الفوتوغرافية في " ألبومات " عندما كنت أنظر إلى هذه الصور كنت ابتسم بسرور مع تلك الذكريات , وجدت نفس الصور تثير الشجن لأيام لن تعو..! مضى شهران على إجازتي أو قراري بعدم العمل , و بدأت أشعر بملل من حياتي الخالية البطيئة , أخرج مع واحدة من أخوتي للشراء .. أذهب لزيارتهن أو يحضرن لزيارتي . كذلك أخي و ابني . أذهب إلى النادي , أسير بلا هدف , هل ستسير حياتي هكذا ..!؟ بدأت أشعر باكتئاب و آلام في بدني , لا أستطيع أن أتحرك بسهولة في الصباح . خفت , ذهبت إلى الطبيب , أشار بعمل فحص شامل .. عدت له بالتقارير , قال أنها أشياء بسيطة و الحمد لله , لكنها لا تؤثر هكذا على كل البدن , سألني : " هل انفصلت عن الزوج قريباً ..؟! قلت : إنني مطلقة من حوالي ثلاثين عاماً..!! سألني هل كان يوجد شيء معين أفعله أ, أقوم به قم امتنعت عنه ..؟! قلت له : كنت أعمل .. ذكرت له عملي و مركزي , ربما لاحظ الطبيب أنني حدثته عن عملي بحب وحنين و افتقاد كأني أحدثه عن حبيب غال يعددني بالهجر , فسألني .. هل استغنوا عني في العمل ؟! قلت : إنهم يريدون أن أستمر , قال بحزم .. عودي . عملك هو دواؤك ... و عدت .
حالمة
كان العالم يتنفس الصعداء لانتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 و تحتفل الشعوب بأحلام السلام , وكان الأب يحتفل مع أبنائه و بناته الثمانية بسلامة الأم بعد وضعها للابنة التاسعة التي جاءت ضعيفة البنية ولم تنطق بكلام إلا في سن متأخرة .
في أول عهد الثورة صدر قانون الإصلاح الزراعي لتحديد ملكية الأرض الزراعية , مائتي فدان للأسرة , لم تفهم البنت ذات السبع سنوات كلام الأب في الاجتماع العائلي , إنهم أصبحوا تقريباً من الفقراء لأن الثورة صادرت لهم ثلاثمائة فدان ..! وأنه سينقل بناته الثلاث من المدارس الأجنبية ذات المصروفات العالية إلى المدارس الحكومية , و أن يكمل أبناؤه الأربعة تعليمهم الجامعي ليجدوا وظائف بعد ذلك , وكانت ابنتاه الكبيرتان قد زوجهما في سن السادسة عشرة .
في عمر العاشرة شاهدت فلماً لا تنساه عن قصة حب الموسيقار البولندي " شوبان " و الكاتبة الفرنسية " جورج صاند " أعجبت بالمرأة المتشبهة بالرجال في زيهم حلمت أن تكون مثلها , و أعجبت بالموسيقار و حلمت أن تعزف مثله ألحاناً رومانسية , طلبت من والدها أن يحضر لها " بيانو " فوعدها عندما تنجح لكنه لم يف بوعده , وفي عمر الثانية عشرة شاهدت فرقة الباليه الروسي المشهورة " البولشوي " على مسرح دار الأوبرا القديمة , أعجبت بالراقصة الأولى للفرقة .. التي كانت الأميرة المسحورة في بحيرة البجع .
حلمت أن تكون مثل هذه البطلة راقصة الباليه , قالت لوالدها أنها تريد أن تتعلم رقص الباليه , فنهرها غاضباً : إنه لا ينقصه من حكم الزمن عليه إلا أن تصبح أحد بناته راقصة !! في سن الرابعة عشرة عشقت الأفلام الكلاسيكية , و الروايات الرومانسية , كانت صديقاتها وزميلاتها يشترين من مصروفهن أدوات التجميل والزينة و المصوغات الرخيصة , وكانت تشتري الروايات العالمية المترجمة .. كانت البنات يحلمن بالشبان من أولاد الجيران , و كانت تحلم من شبان من نوع آخر , غير هؤلاء الذين يصنعون ضجيجاً بألعابهم الصبيانية .
في عمر السادسة عشرة , في العام الأول من الستينات لم يحتمل والدها الصدمة الثانية لقانون الإصلاح الزراعي الثاني بجعل ملكية الأرض الزراعية مائة فدان للأسرة , قال أنهم أصبحوا فعلاً فقراء و .. مات .. تولى الأخ الأكبر زمام الأرض الباقية وكان قد تخرج من كلية الزراعة , كما تولى مسؤولية الأسرة , وتقبلت التغييرات التي حدثت لأسرتها بدون فزع من الفقر الذي توهمه والدها ولم يصبهم فعلاً , كانت أحلامها تحميها .. و لحبها للآداب العالمية التحقت بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية .
كان الأخ الأكبر يهتم بتعليم أخوته و أخواته وتوظيفهم توظيفهن ثم تزويجهم و تزويجهن . وعندما جاء الدور عليها في الزواج بعد أن تخرجت من الجامعة وعملت بالترجمة في شركة كانت لديها حجج كثيرة لتأجيل الزواج , لم تقل أصدقها وهو أنها لم تقابل فارس أحلامها بمواصفاته الرومانسية القديمة , إلى أن قدم لها أخوها شاباً ابن صاحب أعمال ويعمل مع والده , في سنوات السبعينيات عندما بدأت النظم تتغير وأبواب العمل الخاصة تفتح لمن يريد و يستطيع أن يدخل منها , أعجبها شكله و تعليمه , و كلماته الرومانسية , وقت الخطوبة , و ظنت أنه فارس أحلامها الذي عاشت تنتظره و تحلم به , لكنه ككل الماليين خبير بالحساب أكثر منه خبيراً بالنفس البشرية , أحبها لجمالها الهادئ , و طبعها الرقيق , لكنه لم يفهم حاجته العاطفية , لم يهتم بسكونها , لم يسأل عن شرودها , يتعجب لفرحتها الساذجة لظهور زهرة جديدة في حديقة شرفتها , و في جلستهما معاً في أوقات فراغه النادرة يحدثها عن حسابات المكسب و الخسارة في أعماله و لا يحدثها بأي كلمات عاطفية , مع بداية حملها الأول طلب منها زوجها أن تترك عملها الوظيفي , لم يكن عملها محققاً لأحلامها فلم تعترض و تركته , اهتمت بطفلها الأول ثم جاء بعده بعامين طفلها الثاني , انشغلت عن أحلامها بتربيتهما و رعايتهما .
في منتصف الثمانينات , و ابنها الأكبر عمره عشر سنوات , والثانية ثمانية أعوام , تلقت مكالمة تلفونية من والد زوجها يطلب منها أن تتحمل الصدمة , فزوجها مات فجأة في المكتب .. و تحملت . ساندها أخوها الأكبر في رفضها لفكرة " حماها " أن يأخذ الولدين ليربيهما لتعيش حياتها هي و تتزوج , قالت له : إذا أراد أن يساعدها حقيقة فليحاول تزكيتها في مكان عمل لتعمل , ليس لأن النقود التي تصلها غير كافية , لكن لأنها لا تريد أن تعيش في فراغ , و أعربت عن بإصرار عن قرارها في تربية ولديها و عدم زواجها مرة ثانية فهي في قرار نفسها أيقنت أن حكاية فارس أحلامها هذه فقط لأحلامها , أما الحقيقة فهي شيء آخر تماماً خصوصاً مع التغيرات التي حدثت في المجتمع و الناس و طغت التصرفات السوقية على تصرفات الفروسية , كما أيقنت أنها هؤلاء الناس الحالمين الذين لا تستطيع قدراتهم تحقيق أحلامهم , هكذا عملت في العلاقات العامة في شركة كبيرة , وظيفة بعيدة تماماً عن أحلامها القديمة .
ثلاثة عشر عاماً مروا على ترملها , اقتنعت بواقع حياتها و نسيت أحلامها و فرسانها . وفي أحد المؤتمرات الذي تشترك فيه الشركة التي تعمل بها وتكون في طليعة المسئولين عنه , وهي تقترب من منتصف عمرها الخمسيني ظهر لها فارس الأحلام تبعاً لسياحة المؤتمرات , عقد المؤتمر في مدينة ساحلية , في شرفة الفندق المطل على البحر جلست تراقب الغروب في هذا الجو الخريفي المائل للغموض والبرودة , سارحة في شيء غير محدد , ظهر أمامها بمظهره الأسطوري كأنه بطل في رواية كلاسيكية , قدم لها نفسه , إنه من المشتركين في المؤتمر , جاء متأخراً و قالوا له أن يذهب إليها لتعطيه الأوراق المطلوبة و الندوات المطبوعة .. نظرت إليه ساهمة كأنها لم تسمعه , أعاد عليها طلبه , فقامت و هي تسأله أن يتبعها لتعطيه ما يريد , اعتذر لها عن قطع تأملاتها في الأفق الجميل و سألها أن تسمح له بفنجان قهوة معاً .. عادا إلى مكانها في الشرفة , تحدثا عن المؤتمر وما فاته في الصباح , فجأة سألها إذا كانت قد شاهدت المسلسل الياباني" أوشين" قالت أنها تابعته و أعجبت به . قال : إنها تشبه " أوشين " وضحكت .. فملامح وجهها قريبة من وجوه أوروبيات سواحل البحر المتوسط و ليس باستدارة وجوه يابانيات سواحل اليابان . قال إنها تشبهها في هدوئها و طريقة كلامها و ابتسامتها العذبة ,و ربما في كفاحها لتصل إلى هذا المنصب في عملها , ضحكت و أخبرته أنها من أسرة كانت إقطاعية حتى بعد أن أخذوا منهم الأرض لم يمسهم الفقر بفضل ما تركوه لهم . لم يعرف أنه كما رآها تشبه هذه الشخصية الأسطورية " أوشين " وأنها خرجت له من حضن الزمن العريق هي أيضاً رأته يشبه أحد أبطال التاريخ القديم , فارسا خرج له من حضن الزمان النبيل و ربما لذلك التقت أفكارهما و امتدت أحاديثهما إلى وقت العشاء , عرف باختصار وضعها الاجتماعي , عرفت أنه زوج و أب لشابين و فتاة , توالت لقاءا تهما في قاعات المؤتمر و خارجها , توالت أحاديثهما في مختلف أمور الكون , كل منهما كأنه وجد ضالته , كل منهما كأنه خلق للآخر , و تصافحها في نهاية الأيام القليلة للمؤتمر ليذهب كل منهما لحياته و ناسه , أنهما لم يتهامسا.. لم يتلامسا .. لم يقل أحدهما للآخر , أحبك , أو كلمة ندم تعبر عن سخطه على الظروف التي لم تجعلهما يلتقيان من سنين ! لم يفكرا بامتداد علاقتهما بوعود لقاء , لم يقل أحدهما للآخر ليتنا كنا , أو يا ليتنا نصبح , لم يطلب أحدهما من الآخر أن يعطيه رقم هاتفه ليسمع صوته من حين إلى حين , و لم ينتظر أحدهما من الآخر أن يقول له عن سر ما شعر به .
سألها ولداها عن سر ابتهاجها منذ عادت من المؤتمر , ولأنها ربتهما على أن يكونا صديقيها , ربتهما على الصراحة مهما كانت صعبة و مؤلمة و لأنها تعودت على هذا معهما , قالت أنها التقت بفارس أحلامها بعد أن فقدت كل أحلامها , سألها الابن الأكبر : لماذا لم تنفصل عن والده عندما اكتشفت أنه لا يلائمها , و لماذا لم تتزوج عندما مات , و هل ستتزوج من فارس أحلامها ..؟! قالت : إن الأخلاق التي تربت عليها في زمنها لا تسمح للبنت إذا تزوجت أن تطلب الطلاق لسبب تافه , لأن زوجها ليس فارسا لأحلامها خصوصاً إذا كان موفياً لطلباتها محباً لها و هي غير كارهة وخصوصاً إذا أنجبت مباشرة , وتلك الأخلاق لا تسمح لها إذا ترملت وكان لديها أبناء أن تزوج وتجلب لهم أباً غريباً عنهم ربما لا يحبهم , خصوصاً إذا كانت غير محتاجة مادياً , أما الرجل الذي قابلته أخيراً فهو متزوج و له أبناء , فهل الأخلاق التي تربت عليها تسمح لها أن تسرق رجلاً من زوجته حتى و إن كان فارس أحلام عمرها ..!
__________________
هدول مجموعة قصص لزينب صادق وبتمنى كل واحد يقراهون
Kakabouda
18/02/2006, 17:11
أنا طبعتهم و رح اقراهم على رواءء بس القصة الأولى عجبني بدايتها
شكراً عالعموم :سوريا:
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة