me2
28/01/2006, 11:31
من أجمل ما قرأت :
منقول من ////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
أمضيت معظم أيام الصغر في بيت جدّي،في القرية،كانت تلك الأيام بالنسبة لطفل ،ذاكرة ملونة ،كمن يقلّب ببطء شديد، صور ا ضوئية شاسعة.
يوقظني جدي مع أول لون ترسله الشمس وإذا ما تكاسلت قليلا يصرخ بي:"قوم صارت الضهر،قوم شرب كاسة متة،يالله يعينك"
"صباح الخير يا عيني، يا قلبي، أنت"،كانت تقول جدتي بصوتها الذي تمرّس تجريح العتابا ومداواة القلوب..
كنت أغسل وجهي وأنا أشهد مضطرا بأن" لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "ف جدّي يراقبني_بعينه الثالثة_ دون أن ينظر إلي . أجلس قربهما ،بعد أن أقبل يد جدّي ورأس جدّتي_وأحيانا يدها أيضا_وأنا محاط بهالة من دعاء ،يجدّد روحه كل فجر ،وتغمرني رعشة لذيذة أرسلتها الشمس سرّا، إلى جسدي.
كنت أشرب من كأسه و"مصاصته"الخاصتين،ثم يقول لجدّتي: "خدي شربي"،"الله يسلم دياتك"،كانت ترد، وتنظر في عينيّ وتقول ضاحكة:
"شباك ولا"
_"سلامتك".يخرج صوتي سكرانا من آثار النوم ومن متعة خفيّة .
_"يا حيفتي عليك اسى ما فتّحت". كان يقول جدّي بصوت قاس ،وجه مضيء ،وعينين ضاحكتين، تفضحان ما كان يخفي خلف صلابته وحزمه من سكينة وحب.
بعد هذا الطقس الصباحيّ ،كنّا ننزل إلى الأرض"الفكّة"1، ونقوم أنا وجدتي بقطف التين و"سطحه" على الصخور المشمسة،بينما يشمّر جدي عن ساقيه ليسقي الأرض من ماء" مشنون" بعرق جسده. في البداية كنت أخاف الصعود على الشجرة،لكنّ عمي وجد لي الدواء المناسب ، فما إن أصعد على خلف التين ،حتى يبدأ بهزه بقوّة،وكان خوفي يسقط هنا وهناك حسب اهتزاز الشجرة، إلى أن ينكسر الخلف ، وينكسر معه خوفي ، فأسقطت بين يديه نظيفا من الخوف.
أبقى في القرية حتى تمرّ كل مواسم الصيف ،نجمع أوراق التوت لإطعام دود القز ،كل يوم، حتى يكمل مكيدته على نفسه،وبعدها يجمع الدود ، ونأخذه إلى الحارة الشمالية،ليتم غليه واستخراج الحرير. في تلك الحارة أيضا كانت توجد الطاحونة،وكنت أذهب برفقة جدي الذي يجر الدابة خلفه ، وننتظر ساعات قبل أن يجيء دورنا، وفي هذه الساعات كنت أستمع إلى غناء جدّتي في داخلي خالقا لحظات من الصمت الساهي، غالبا صخب الطاحونة، كنت أتذكّر بحنين غريب لا أجرؤ على البوح به والديّ وأختي،فتمر لحظات ضاغطة ومضجرة ، يبددها صوت جدّي،أو لسعة من ذيل الدابة.
ننبر الجوز ونلملم ما يسقط على الأرض أو على رؤوسنا أحيانا من أيادي الشجرة أو من يد عمّي، الذي يطلق ضحكة ساخرة ما إن تضع يدك على رأسك ثمّ يقول:"أبتعرف دير بالك ولك غشيم".
ونقطف العنب ، ونضعه في "سحاحير" خشبية على ظهر الدابّة، ونجمعه في "بيت التراب"،ثم يحملني عمّي ويضعني في برميل يحتوي أرطالا من العنب لأقوم بعصره بقدميّ،"المرحلة الأولى من عملية التعريق".
بعد أن يمضي ساعات على العمل ، كانت جدتي تفرش "الزوّادة "تحت شجرة الجوز بجانب البركة،بينما يسقيني جدي من النبع الصغير
بعد أن يصفي الماء بعمامته من الشوائب و"فضلات الضفادع".
وفي طريق عودتنا من الأرض ،أركب الدابّة"ولن أقول أمتطي لأنها كلمة فضفاضة عليّ بالنسبة لحالتي الجسدية آنذاك"،فتنتقل إليّ عبر حركة جسدها كل تضاريس الأرض،وعندما نصل، أنفض عن ثيابي المحمرّة من التراب، بضع شعرات بيضاء عالقة من ظهرها.
وعندما يمر يوم أو اثنين دون أن أقرأ "كلام الله"، كان جدي يغضب،فأذهب من تلقاء نفسي إلى "بيت التراب"، حاملا القرآن
أقرأ سورة أو اثنتين، من قصار السور طبعا، ثم أتركه مفتوحا على صفحة ما لربع ساعة أو عشر دقائق، وبعدها أذهب لإعادته ، ينظر إلي بعدم رضى ويقول:"هلق خلصت قريّ ، يفدح دينك".وكانت جدّتي تدافع عني في معظم الأوقات،:"ولك تركو ، تركو تعبان خطي".ماعدا المرّات التي كنت أنام فيها خارج البيت عند أقربائنا،ففي هذه المرات كانت تبدوا أكثر قسوة من الجميع وتبقى يوما أو يومين دون أن تكلمني. عندها كان شوقي لأهلي يزداد أضعافا،ويدفعني مرغما على البكاء ، طبعا الحذر من أن يراه أحد ،خصوصا عمي الذي لن يتوانى عن تأنيبي ،ووصفي بأني لن أصبح رجلا.
كان عمي يرسلني لأطعم الدواب ، وتطلب مني جدتي أن أحضر البيض من قن الدجاج، وشيئا فشيئا ،تخلصت من كل مخاوفي الأسطورية من هذه المخلوقات،وصرت أستمتع كثيرا "بسرقة" البيض من القن.
مساءً ،كان جدي يفتح التلفاز على نشرة الأخبار،ويصغي باهتمام شديد،وفي كل النشرات كان هناك ما يستدعي دموع جدتي برفقة هاتين الكلمتين،:"يا ويلي أنا"،"ياشحاري".
_"ولك سمعينا ،سمعينا"،يقول جدّي بصبر نافذ.
في تلك الدقائق،كانت تهتاج في صدرها الآلام ، فكل الكلمات التي تخرج من فم المذيع العتيد،وكل ما يظهر على الشاشة البليدة للقناة السورية،من موت في فلسطين وتشريد واعتقالات،ومن كوارث في العالم غير ذات صلة،وبداية من صورة الرئيس ،كان يوهّج ذكرى ابنها عباس وابنتها فاطمة،المحترفين للغياب في سجون السلطة،بتهمة تعاطي السياسة،وأيضا بقية أولادها المقيمين بعيدا .
_ "كانت تنظر إلى وجه الرئيس على الشاشة وتتساءل بحرقة:"لك بس بدي افهم شو هالعملو،قتلوا، سرقوا،أذوا حدي، قرد شو هالعملو، آخ يا ويلي أنا". وكنت أرد بحماس بكلمات لا أجيد الدفاع عنها،ولا أعرف كيف آمنت بها إلى هذا الحد:
_لأنن نضاف وقالوا كلمة الحق ،وهدوك ولاد … فيقاطعني جدّي بغضب ممزوج بخوف دفين:
_"ولك حيج تلت ،حيج تلت، أبكّفي كل شي صار معنا، شو بدّك بكتر هالحكي".
وتتابع جدتي:"يا عيني سابت، يا عيني عباس،لك وكوثر،….كيف بكون البيت مليان وكيف بيفضا.."
لم أكن أسمع جدي يتحدث بهذا الشأن أبدا،وكانت أكثر لحظات هيبته أثناء الصلاة،كان يتمشى على السطح لأكثر من ساعة وهو يتمتم، فأستغلّ وجدتي هذا الوقت،لنسترسل بالكلام وتغرق في حزنها على هواها
_"ستي ،غنيلي عتابا".
_"بغنيلك"،وتصمت لحظة،"أي سمع تقلّك":
"خديدك نار بشفافي ل طفيه
خصيرك مال والباري لطف فيه
وأني لروح عالبحر وطفيه
بكتر ضجّي على فراق الحباب"
_"آه ،الله يسلم تمك"،كنت ألفظها بقوّة،لأن جدي بعيد، ففي كثير من الأحيان لم أكن أفهم ما تقول.
ثم تكمل غناء أبيات أخرى،ويمتزج صوتها المكسور مع نقرات عكاز جدي على الأرض،مع خطواته البطيئة،على إيقاع شمس غاربة.
كانت جدتي تكرر على مسمعي إحدى مناماتها،والتي رأت فيها رجلان يأخذان عمي في سرداب معتم ،وكانت تركض خلفه وتتعثر،وهو يبتعد إلى أن غاب تماما.عندما رأت هذا المنام لم تكن تعلم بعد أن ولدها في السجن.وقبل أن يخرج بشهور،حلمت برجل يلبس ثيابا بيضاء،يريد أن يأخذها معه،ولا تعلم إلى أين،ولكنها صرخت:"دخيلك بس لشوف عباس واشبع منّو"، فأفلت الرجل يدها دون أن يحدثها أو ينظر في عينيها.
وبعد أن تنهي سرد المنام كانت تعلّق:" هنن بيعرفوا شو يعني اشبع منو":فأرد عليها بصوت منكسر:"أي والله بيعرفوا".
بالمقارنة مع هذه المنامات ،كانت منامات جدّي،أكثر عنفا. ففي إحدى الليالي ،بينما كنت أنام بجانبه على السطح، استيقظت متألما من ضربة قدمه على خاصرتي،وكان لا يزال يحرك يده بعنف،فأيقظته بسرعة وبخوف،وعندما فتح عينيه قال:
"قرد قرد، لك هي انت ،والله كل علمي الملك سعود، كان بدو يعدمني،فقلت لكن بطرقوا رفسة ع هالوجه.
_"وطلعت براسي". فضحك هذه المرّة بصوته وقلبه وعينيه.
هكذا كانت تمر معظم أيام الصيف،بذات التفاصيل المقدسة،ورغم حنيني إلى المنزل ،لم أكن أغادر القرية قبل منصف أيلول،موعد فتح أبواب المدرسة،حيث تغلق كل الأبواب،وأجبر كلّ صباح على ترديد شعار لا أفهم ما معناه،وعلى ترديد قائدنا إلى الأبد ….
بينما تختلط مشهد جدّتي وهي تجلس أمام شاشة التلفاز،بمشهد المعلمين الواقفين أمامنا مثل الأصنام،ويختلط صوتها ،بالهتاف الفارغ حول رأسي.
وعندما بتحرّش بي أحد التلاميذ،ويحصل أن أتردد في الرد عليه،كنت أشعر بعيني عمي تراقبني،وبيده ترفع يدي ،فأضربه.
كنت أتذكر بحنين خلال أيام الشتاء ،كل ما في القرية،ثم أعود في الصيف مرة أخرى،لأجمع مزيدا من الضوء والغناء ورائحة التراب المبلل .
بعد سنين خرجت عمتي من المعتقل،بعد أن أمضت 6 سنوات،وذهبنا معا إلى القرية،كنت أجلس بجانبها،وكان جسدها يرتجف.
على السطح الترابي "للسفيلة"2،استقبلها جدي،وبكت بحرقة في أحضانه.فقال لها :
"لا تبكي،اللي بدّو يعمل زلمي مابيبكي"، ورأيت لأول مرة،دمعة رجل تسيل على خدّه.
مع مرور السنين، بدأت تغير القرية ملامحها، وفقدنا،"بيوت التراب"،ثم الدجاج،والماعز…،وفقدت بدوري هذا الارتباط الحميم بالقرية،وأصبحت زياراتي أقل،كما غرابة الحنان والألفة هناك.
وعندما أصبحت في الجامعة، كان موعد خروج عمي هذه المرة،بعد 15 عاما أمضاها في نهاية السرداب. كانت ضيعتنا قد تغيرت أكثر،وتغيرت معها ملامح جدتي،التي أعمى البكاء إحدى عينيها_شفت فيما بعد_، قست نبرة صوتها،وبدأت تفقد ذاكرتها تدريجيا،فبعد ساعات من مغادرته لا تعرف إن كان أحد أولادها بجانبها أم لا،ولا تعلم إن زارها عباس _"يعني مارح تشبع منّو"_.
أقعد جدي الشقاء، والانتظار الصامت،وظهر المخبّأ من حنانه،وهو بانتظار الموت .
لاشيء كما كان،إلا عين الماء،وأشجار الجوز التين العجوز،والشاشة الصغيرة،ونشرة التاسعة،متوجة بصورة الوريث.
وربما لن يبق بعد حين، إلا عكاز جدي ،وأبيات العتابا المكتوبة على الأوراق،وغنائها المشوب بأصوات الهتاف والتمجيد الخارجة من مكبرات الصوت في المدارس،من حناجر الناس في الشارع،ومن ذاكرة تفقد ألوانها..
1 "الفكّة": ..اسم الأرض
2 "السفيلة": الحظيرة.
منقول من ////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
أمضيت معظم أيام الصغر في بيت جدّي،في القرية،كانت تلك الأيام بالنسبة لطفل ،ذاكرة ملونة ،كمن يقلّب ببطء شديد، صور ا ضوئية شاسعة.
يوقظني جدي مع أول لون ترسله الشمس وإذا ما تكاسلت قليلا يصرخ بي:"قوم صارت الضهر،قوم شرب كاسة متة،يالله يعينك"
"صباح الخير يا عيني، يا قلبي، أنت"،كانت تقول جدتي بصوتها الذي تمرّس تجريح العتابا ومداواة القلوب..
كنت أغسل وجهي وأنا أشهد مضطرا بأن" لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "ف جدّي يراقبني_بعينه الثالثة_ دون أن ينظر إلي . أجلس قربهما ،بعد أن أقبل يد جدّي ورأس جدّتي_وأحيانا يدها أيضا_وأنا محاط بهالة من دعاء ،يجدّد روحه كل فجر ،وتغمرني رعشة لذيذة أرسلتها الشمس سرّا، إلى جسدي.
كنت أشرب من كأسه و"مصاصته"الخاصتين،ثم يقول لجدّتي: "خدي شربي"،"الله يسلم دياتك"،كانت ترد، وتنظر في عينيّ وتقول ضاحكة:
"شباك ولا"
_"سلامتك".يخرج صوتي سكرانا من آثار النوم ومن متعة خفيّة .
_"يا حيفتي عليك اسى ما فتّحت". كان يقول جدّي بصوت قاس ،وجه مضيء ،وعينين ضاحكتين، تفضحان ما كان يخفي خلف صلابته وحزمه من سكينة وحب.
بعد هذا الطقس الصباحيّ ،كنّا ننزل إلى الأرض"الفكّة"1، ونقوم أنا وجدتي بقطف التين و"سطحه" على الصخور المشمسة،بينما يشمّر جدي عن ساقيه ليسقي الأرض من ماء" مشنون" بعرق جسده. في البداية كنت أخاف الصعود على الشجرة،لكنّ عمي وجد لي الدواء المناسب ، فما إن أصعد على خلف التين ،حتى يبدأ بهزه بقوّة،وكان خوفي يسقط هنا وهناك حسب اهتزاز الشجرة، إلى أن ينكسر الخلف ، وينكسر معه خوفي ، فأسقطت بين يديه نظيفا من الخوف.
أبقى في القرية حتى تمرّ كل مواسم الصيف ،نجمع أوراق التوت لإطعام دود القز ،كل يوم، حتى يكمل مكيدته على نفسه،وبعدها يجمع الدود ، ونأخذه إلى الحارة الشمالية،ليتم غليه واستخراج الحرير. في تلك الحارة أيضا كانت توجد الطاحونة،وكنت أذهب برفقة جدي الذي يجر الدابة خلفه ، وننتظر ساعات قبل أن يجيء دورنا، وفي هذه الساعات كنت أستمع إلى غناء جدّتي في داخلي خالقا لحظات من الصمت الساهي، غالبا صخب الطاحونة، كنت أتذكّر بحنين غريب لا أجرؤ على البوح به والديّ وأختي،فتمر لحظات ضاغطة ومضجرة ، يبددها صوت جدّي،أو لسعة من ذيل الدابة.
ننبر الجوز ونلملم ما يسقط على الأرض أو على رؤوسنا أحيانا من أيادي الشجرة أو من يد عمّي، الذي يطلق ضحكة ساخرة ما إن تضع يدك على رأسك ثمّ يقول:"أبتعرف دير بالك ولك غشيم".
ونقطف العنب ، ونضعه في "سحاحير" خشبية على ظهر الدابّة، ونجمعه في "بيت التراب"،ثم يحملني عمّي ويضعني في برميل يحتوي أرطالا من العنب لأقوم بعصره بقدميّ،"المرحلة الأولى من عملية التعريق".
بعد أن يمضي ساعات على العمل ، كانت جدتي تفرش "الزوّادة "تحت شجرة الجوز بجانب البركة،بينما يسقيني جدي من النبع الصغير
بعد أن يصفي الماء بعمامته من الشوائب و"فضلات الضفادع".
وفي طريق عودتنا من الأرض ،أركب الدابّة"ولن أقول أمتطي لأنها كلمة فضفاضة عليّ بالنسبة لحالتي الجسدية آنذاك"،فتنتقل إليّ عبر حركة جسدها كل تضاريس الأرض،وعندما نصل، أنفض عن ثيابي المحمرّة من التراب، بضع شعرات بيضاء عالقة من ظهرها.
وعندما يمر يوم أو اثنين دون أن أقرأ "كلام الله"، كان جدي يغضب،فأذهب من تلقاء نفسي إلى "بيت التراب"، حاملا القرآن
أقرأ سورة أو اثنتين، من قصار السور طبعا، ثم أتركه مفتوحا على صفحة ما لربع ساعة أو عشر دقائق، وبعدها أذهب لإعادته ، ينظر إلي بعدم رضى ويقول:"هلق خلصت قريّ ، يفدح دينك".وكانت جدّتي تدافع عني في معظم الأوقات،:"ولك تركو ، تركو تعبان خطي".ماعدا المرّات التي كنت أنام فيها خارج البيت عند أقربائنا،ففي هذه المرات كانت تبدوا أكثر قسوة من الجميع وتبقى يوما أو يومين دون أن تكلمني. عندها كان شوقي لأهلي يزداد أضعافا،ويدفعني مرغما على البكاء ، طبعا الحذر من أن يراه أحد ،خصوصا عمي الذي لن يتوانى عن تأنيبي ،ووصفي بأني لن أصبح رجلا.
كان عمي يرسلني لأطعم الدواب ، وتطلب مني جدتي أن أحضر البيض من قن الدجاج، وشيئا فشيئا ،تخلصت من كل مخاوفي الأسطورية من هذه المخلوقات،وصرت أستمتع كثيرا "بسرقة" البيض من القن.
مساءً ،كان جدي يفتح التلفاز على نشرة الأخبار،ويصغي باهتمام شديد،وفي كل النشرات كان هناك ما يستدعي دموع جدتي برفقة هاتين الكلمتين،:"يا ويلي أنا"،"ياشحاري".
_"ولك سمعينا ،سمعينا"،يقول جدّي بصبر نافذ.
في تلك الدقائق،كانت تهتاج في صدرها الآلام ، فكل الكلمات التي تخرج من فم المذيع العتيد،وكل ما يظهر على الشاشة البليدة للقناة السورية،من موت في فلسطين وتشريد واعتقالات،ومن كوارث في العالم غير ذات صلة،وبداية من صورة الرئيس ،كان يوهّج ذكرى ابنها عباس وابنتها فاطمة،المحترفين للغياب في سجون السلطة،بتهمة تعاطي السياسة،وأيضا بقية أولادها المقيمين بعيدا .
_ "كانت تنظر إلى وجه الرئيس على الشاشة وتتساءل بحرقة:"لك بس بدي افهم شو هالعملو،قتلوا، سرقوا،أذوا حدي، قرد شو هالعملو، آخ يا ويلي أنا". وكنت أرد بحماس بكلمات لا أجيد الدفاع عنها،ولا أعرف كيف آمنت بها إلى هذا الحد:
_لأنن نضاف وقالوا كلمة الحق ،وهدوك ولاد … فيقاطعني جدّي بغضب ممزوج بخوف دفين:
_"ولك حيج تلت ،حيج تلت، أبكّفي كل شي صار معنا، شو بدّك بكتر هالحكي".
وتتابع جدتي:"يا عيني سابت، يا عيني عباس،لك وكوثر،….كيف بكون البيت مليان وكيف بيفضا.."
لم أكن أسمع جدي يتحدث بهذا الشأن أبدا،وكانت أكثر لحظات هيبته أثناء الصلاة،كان يتمشى على السطح لأكثر من ساعة وهو يتمتم، فأستغلّ وجدتي هذا الوقت،لنسترسل بالكلام وتغرق في حزنها على هواها
_"ستي ،غنيلي عتابا".
_"بغنيلك"،وتصمت لحظة،"أي سمع تقلّك":
"خديدك نار بشفافي ل طفيه
خصيرك مال والباري لطف فيه
وأني لروح عالبحر وطفيه
بكتر ضجّي على فراق الحباب"
_"آه ،الله يسلم تمك"،كنت ألفظها بقوّة،لأن جدي بعيد، ففي كثير من الأحيان لم أكن أفهم ما تقول.
ثم تكمل غناء أبيات أخرى،ويمتزج صوتها المكسور مع نقرات عكاز جدي على الأرض،مع خطواته البطيئة،على إيقاع شمس غاربة.
كانت جدتي تكرر على مسمعي إحدى مناماتها،والتي رأت فيها رجلان يأخذان عمي في سرداب معتم ،وكانت تركض خلفه وتتعثر،وهو يبتعد إلى أن غاب تماما.عندما رأت هذا المنام لم تكن تعلم بعد أن ولدها في السجن.وقبل أن يخرج بشهور،حلمت برجل يلبس ثيابا بيضاء،يريد أن يأخذها معه،ولا تعلم إلى أين،ولكنها صرخت:"دخيلك بس لشوف عباس واشبع منّو"، فأفلت الرجل يدها دون أن يحدثها أو ينظر في عينيها.
وبعد أن تنهي سرد المنام كانت تعلّق:" هنن بيعرفوا شو يعني اشبع منو":فأرد عليها بصوت منكسر:"أي والله بيعرفوا".
بالمقارنة مع هذه المنامات ،كانت منامات جدّي،أكثر عنفا. ففي إحدى الليالي ،بينما كنت أنام بجانبه على السطح، استيقظت متألما من ضربة قدمه على خاصرتي،وكان لا يزال يحرك يده بعنف،فأيقظته بسرعة وبخوف،وعندما فتح عينيه قال:
"قرد قرد، لك هي انت ،والله كل علمي الملك سعود، كان بدو يعدمني،فقلت لكن بطرقوا رفسة ع هالوجه.
_"وطلعت براسي". فضحك هذه المرّة بصوته وقلبه وعينيه.
هكذا كانت تمر معظم أيام الصيف،بذات التفاصيل المقدسة،ورغم حنيني إلى المنزل ،لم أكن أغادر القرية قبل منصف أيلول،موعد فتح أبواب المدرسة،حيث تغلق كل الأبواب،وأجبر كلّ صباح على ترديد شعار لا أفهم ما معناه،وعلى ترديد قائدنا إلى الأبد ….
بينما تختلط مشهد جدّتي وهي تجلس أمام شاشة التلفاز،بمشهد المعلمين الواقفين أمامنا مثل الأصنام،ويختلط صوتها ،بالهتاف الفارغ حول رأسي.
وعندما بتحرّش بي أحد التلاميذ،ويحصل أن أتردد في الرد عليه،كنت أشعر بعيني عمي تراقبني،وبيده ترفع يدي ،فأضربه.
كنت أتذكر بحنين خلال أيام الشتاء ،كل ما في القرية،ثم أعود في الصيف مرة أخرى،لأجمع مزيدا من الضوء والغناء ورائحة التراب المبلل .
بعد سنين خرجت عمتي من المعتقل،بعد أن أمضت 6 سنوات،وذهبنا معا إلى القرية،كنت أجلس بجانبها،وكان جسدها يرتجف.
على السطح الترابي "للسفيلة"2،استقبلها جدي،وبكت بحرقة في أحضانه.فقال لها :
"لا تبكي،اللي بدّو يعمل زلمي مابيبكي"، ورأيت لأول مرة،دمعة رجل تسيل على خدّه.
مع مرور السنين، بدأت تغير القرية ملامحها، وفقدنا،"بيوت التراب"،ثم الدجاج،والماعز…،وفقدت بدوري هذا الارتباط الحميم بالقرية،وأصبحت زياراتي أقل،كما غرابة الحنان والألفة هناك.
وعندما أصبحت في الجامعة، كان موعد خروج عمي هذه المرة،بعد 15 عاما أمضاها في نهاية السرداب. كانت ضيعتنا قد تغيرت أكثر،وتغيرت معها ملامح جدتي،التي أعمى البكاء إحدى عينيها_شفت فيما بعد_، قست نبرة صوتها،وبدأت تفقد ذاكرتها تدريجيا،فبعد ساعات من مغادرته لا تعرف إن كان أحد أولادها بجانبها أم لا،ولا تعلم إن زارها عباس _"يعني مارح تشبع منّو"_.
أقعد جدي الشقاء، والانتظار الصامت،وظهر المخبّأ من حنانه،وهو بانتظار الموت .
لاشيء كما كان،إلا عين الماء،وأشجار الجوز التين العجوز،والشاشة الصغيرة،ونشرة التاسعة،متوجة بصورة الوريث.
وربما لن يبق بعد حين، إلا عكاز جدي ،وأبيات العتابا المكتوبة على الأوراق،وغنائها المشوب بأصوات الهتاف والتمجيد الخارجة من مكبرات الصوت في المدارس،من حناجر الناس في الشارع،ومن ذاكرة تفقد ألوانها..
1 "الفكّة": ..اسم الأرض
2 "السفيلة": الحظيرة.