s1_daoud
09/01/2006, 13:37
عندما أعرب محمد حسنين هيكل عن تخوفه من تجدد الحروب القديمة التي سببت الانشقاق الكبير في الإسلام، فان تخوفه كان يشير إلى طبيعة الصراعات المستقبلية المحتملة في بلدان الإسلام، وتعارض تلك الصراعات في عمقها وجوهرها مع مصالح تلك الشعوب وحقها في حياة حرة كريمة.
ولا يستطيع المراقب للأحداث السياسية والاجتماعية التي تعصف بالعراق ولبنان والعديد من البلدان العربية والإسلامية، إلا أن يبدي موافقته على ذلك التخوف، نظرا الى كثرة التداعيات اليومية المعبرة عن ذلك التوجه، بعد أن صمتت أنظمة تلك البلدان ونخبها الدينية والزمنية طويلا على التوجهات الجديدة لثقافة الخوف والتمايز التي انتشرت في العقود الأخيرة لدى كل المذاهب الإسلامية وشعوب المنطقة.
لم يتوقف في واقع الأمر رجال الدين المسلمون عن الإعراب علانية عن خوفهم على الإسلام مما يسمى "الهجمات الشرسة" التي يتعرض لها من الخارج والداخل. ويعجب المراقب لهذا الخوف الدائم الذي يعكسه الخطاب الديني المذهبي ويتساءل في سره عن الأسباب الخفية لهذا الخوف الذي يفتقر إلى العوامل الموضوعية المبررة له.
فهل يكون الخوف على الإسلام خوفا فعليا عليه أم خوفا مصطنعا لأهداف وغايات أخرى؟ وهل الدفاع عن الإسلام هو دفاع فعلي عنه أم دفاع عن وقائع تاريخية امتزج فيها الدين بالسياسة حتى صار يصعب الفصل بينهما؟ أم تكون الحماسة الزائدة في الدفاع عن الإسلام هي قلة ثقة من قبل المسلمين بعظمة دينهم وكونيته؟
لن ندخل في الاعتبارات التاريخية القديمة التي لا ينفك غالبية رجال الدين من مختلف المذاهب الإسلامية تذكير أبناء طوائفهم بها في كل مناسبة واصطناع المناسبة لتذكيرهم بها، بل ما يهمنا هو رصد الحراك الاجتماعي والسياسي لعلماء المذاهب الإسلامية، والموقع الذي أوجدوا أنفسهم فيه عندما أصبح الخطاب الديني جزءا أساسيا من الخطاب السياسي للنخب الحاكمة، وعن كيفية إدارتهم لذلك الموقع في علاقتهم الملتبسة في غالب الأحيان مع السلطة والناس معا.
ويمكن القول اختصارا إن هناك نوعان من العوامل التي ساعدت على تعميم الخوف على الإسلام: أحدهما يتعلق بالغرب وممارساته، والآخر، وهو ما يهمنا، يتعلق بالعلاقة بين المسلمين وطبيعة إيمانهم.
أما على صعيد النوع الأول من العوامل فهناك أسباب كثيرة ساعدت على زرع بذور الشك وعدم الثقة بين مجموع المسلمين والغرب المسيحي. فقد حفل تاريخ الطرفين بالعديد من التصورات السلبية والنزاعات والحروب التي تداخل فيها السياسي والاقتصادي والثقافي والديني. وساعد أخيرا نشوء "دولة" إسرائيل وتحميل المسؤولية السياسية والأخلاقية للغرب المسيحي، على تعميق الخوف، حيث اعتبر كل مذهب انه في خطر وان الدفاع عنه هو دفاع عن القضية وعن الإسلام.
لذا فإن المسلمين يشعرون بالإحباط و"الغيرة" لما أنجزته الأديان الأخرى، إذ نجح المسيحيون في بناء حضارة عظيمة في بلدان الغرب وتبعهم اليهود في بناء "دولة" مهيبة ومرهوبة الجانب في أرجاء العالم.
من المؤكد أن الأسباب الخارجية غير مقنعة على الإطلاق لتبرير الخوف المتزايد على الإسلام. لذا فلا بد من وجود أسباب أخرى أكثر أهمية تتعلق بالبعد السياسي للدين والبعد الإيماني للمسلمين من مختلف المذاهب.
في واقع الأمر لم تقدم المجتمعات الاسلامية إلا نماذج تجريبية ساقطة مؤسساتيا وأخلاقيا، ولم تنجح في تقديم أنموذج حضاري يحظى بالاحترام أو التقدير حتى من قبل شعوبها.
فبعد فشل الأنموذج القومي، العصري والعلماني في العديد من وجوهه، عقب هزيمة 1967، وجمود الأنموذج الإسلامي الوهابي الوحيد في المنطقة، أعيد إحياء الأوهام الدينية، التي تناولها صادق جلال العظم في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني"، فلجأت النخب الحاكمة في فترات ضعفها العديدة إلى الدين لتبرير سياساتها وأقحمته في تغطية كل الممارسات والسلوكيات السياسية والاجتماعية، مستندة إلى المشاعر الإيمانية العفوية لجماهيرها التي عاشت أوهام الحداثة بأتفه تجلياتها.
ومع انتصار الجمهورية الإسلامية الإيرانية واستلام رجل الدين مقاليد السلطة بالكامل، قدمت إيران ذات التاريخ الفارسي والإسلامي، أنموذجها الإسلامي الجديد، وهو أنموذج شيعي حصرا (ولاية الفقيه)، فعملت من خلاله على إرساء أنماط سلوكية جديدة(رفض ربطة العنق، الزي الموحد للنساء) واستبدلت المصطلحات السياسية السائدة(إمبريالية، استعمار) بمصطلحات أخرى دينية بالتأكيد(الشيطان الأكبر)، وفرضت الكثير من الممنوعات الاجتماعية(موسيقى، رياضة...)وجهدت لتصدير الثورة الإسلامية التي فتحت شهية البعض من كل المذاهب (الدولة الإسلامية، الخلافة الإسلامية، الكونفيديرالية الخ)، معتبرة نفسها المدافع الفعلي عن الإسلام والمسلمين، الأمر الذي أصاب البلدان العربية وغيرها من البلدان ذات الغالبية الإسلامية السنية بالذهول، فأثار بذلك ريبتهم و"غيرتهم" على السواء.
ولم يقتصر تأثير الأنموذج الشيعي على الداخل في إيران بل تعداه إلى العديد من الجماعات الشيعية في البلدان الناطقة العربية أو غيرها من اللغات، فعملت تلك الجماعات على تكريس هذا الأنموذج سلوكيا واجتماعيا وسياسيا واستفاضت في نبش الماضي وأعادت إحياءه، بعد أن تبنت في مواقفها السياسية مفاهيم الثورة الدائمة ضد "الاستكبار العالمي"، معتبرة أن المغالاة في التدين والتركيز الهوسي على الخصوصيات الجماعية والتهويل بالآخرة هي شروط أساسية للنجاح والنصر.
وأثار نجاح الأنموذج الشيعي "غيرة" وحماسة بقية المذاهب والفرق الإسلامية الاخرى؛ اذ لا شيء يمنعها من تقديم أنموذجها الديني والسياسي أيضا، بعد أن راوح الأنموذج الوهابي مكانه وغرق في تقاليده الصارمة طوال عشرات السنين.
ففي الأطراف البعيدة، وعلى سبيل المثال، قدمت حركة طالبان أنموذجها الخاص بها، ووصلت في دفاعها عن الإسلام والمسلمين إلى ممارسات أثارت النقد والسخط والخجل حتى في أوساط المسلمين أنفسهم.
وهكذا تسابقت الأنموذجات السياسية المذهبية وتنافست فيما بينها على تقديم نفسها كمدافعة شرعية عن الإسلام. ومن اجل ذلك اتكأ كل أنموذج على ارثه التاريخي والفكري الخاص به، فانتقى ما حلا له، وصور ما رغب بتصويره، وقطف ما أفاده، بانتقائية بارعة، فخلط الواقع بالخيال، مركزا على خصوصياته مكثرا من تعبده بعد أن لجأ إلى كم هائل من الممارسات الطقوسية المتعلقة بالتفاصيل الدقيقة للجسد والفكر والسلوك الاجتماعي للفرد والجماعة، في محاولات، بائسة في الغالب، لتقليد الرسول الكريم، حتى ليخيل للمراقب أن يوم القيامة وشيك الوقوع، لا يعرف إلا المؤمنين وحدهم، من هذا المذهب أو ذاك، تاريخ حصوله بالتحديد.
وقد سعى كل أنموذج إلى تأكيد وجوده التاريخي وتوسيع دائرة نفوذه وسيطرته في الخارج، وكدَّ في إقناع "الآخرين" بأنه الممثل والناطق "الرسمي" والوريث الأساسي للإسلام ونبيه العظيم والمدافع الرئيسي عنه.
واعتبر كل مذهب إن الإيغال في القدم والتمسك بالتفاصيل الدقيقة والبحث الدؤوب عن المبررات التاريخية والمبالغة بها والسعي لإرساء سلوكيات تبشيرية(لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-النهار 11 /8/2005) يضفي صدقية أكثر على شرعيته التي يتمحور حوله خطابها المذهبي الديني، حتى يخيل للمراقب المحايد إن السلوكيات السابقة الذكر هي دليل حيرة وشك أكثر من كونها دليل التزام أو إيمان.
في هذه الأجواء المشحونة بالتفاخر الذاتي والانفعال الوجداني واللاعقلانية الإيمانية، نشط رجال الدين من كل المذاهب وتضاعفت أعدادهم أضعافا مضاعفة وكثرت مناسباتهم التي تدعو إلى ترك الدنيا والتحضر للآخرة، يحدوهم الشعار الشهير "العلماء ورثة الأنبياء" فألحقوا الخطاب الديني بالموقف السياسي لمذهبهم وجعلوه أسيرا له.
واستبدلوا سلطة القانون بسلطة الالتزام الشرعي، وحولوا دور العبادة إلى منتديات سياسية فأكثروا من انغلاقهم وزادوا من أزمة انتمائهم، بعد أن رُسمت الحدود بين المسلمين، حتى بين أبناء الطائفة الواحدة في البلد ذاته، ولونت بدقة فكرية وأمنية مخابراتية بالغة.
وبعيدا عن منهاجية التحليل النفسي التي تعتبر أن الرغبة الكامنة خلف الهوس والسربلة بالشيء هي تعبير رمزي عن نقيضه(التكوين العكسي)، فإن المبالغة الإيمانية على صعيد الفكر والممارسة والسلوك المتعالي والتمايز الاستعراضي عن الآخرين (لباس، ذقن، شارب...) وما ينتج عن كل ذلك من تباعد تبدو وكأنها بحث عن شرعية مشكوك بأمرها وسعي متواصل لتأكيدها وإقناع النفس بها.
وهي أمور لا تؤدي بالمسلم، من هذا المذهب أو ذاك، إلا إلى المزيد من الانطواء والعزلة والتعصب والتطرف والإرهاب، حيث يسهل على الكثيرين، في غياب إمكانيات المراقبة والضبط، إصدار الفتاوى في التحريم والتكفير وإجازة قتل النفس والغير(تفجيرات لندن وشرم الشيخ... وبيان جند الشام الداعي إلى اغتيال شخصيات شيعية. (النهار27/7/2005).
فلا غرابة والحال هذه أن يصيب الوهن الأصوات الحكيمة والمتعقلة لكبار العلماء من المذاهب المختلفة ويضعف تأثيرها في صفوف العامة، بعد ان اجتاح الخطاب المذهبي التفجيري للعلماء الجدد نفوس المسلمين وغرائزهم وسمم عقولهم في كل مكان.
إن ما أصاب الغرب وما ينتظره لا يساوي نقطة مما قد يحصل للمسلمين وينتظرهم في بلادهم وأوطانهم بعد تفشي الحروب المذهبية الصغيرة التي لا ينفك رجال السياسة والديبلوماسية والدين من التحذير من الوقوع في شركها. فهل يمكن تجنبها فعلا إذا لم يفتح نقاش واسع وعريض بين المسلمين أنفسهم أولا وبمشاركة واسعة من قبل كل النخب بكل اتجاهاتها الفكرية، دون تخويف أو ترهيب، تتناول كل المسائل الخلافية(الفتاوى والقوانين الوضعية، التكفير، الجهاد، العمليات الاستشهادية، التكليف الشرعي، الدولة المدنية، العلمانية...) والخروج بما يُلزم المسلم أينما كان على "حمل الروح الموضوعية الحوارية التي تقربه من الآخر" (السيد محمد حسين فضل الله .النهار 11 آب 2005) عملا بقوله تعالى"أنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا" لأن الدين، برأي كبار الحكماء الذين يجود بهم حسن الطالع من وقت لآخر، "جاء لخدمة الإنسان ولم يأت الإنسان لخدمة الدين" (السيد محمد حسين فضل الله. النهار 9/11/2005).
إنها مسؤولية العقلاء من رجال الدين، وهي مسؤولية أخلاقية اثبت الكثير من العلمانيين في الطرف الآخر من العالم قدرتهم على الاضطلاع بها وتحمل تبعاتها في احلك الظروف
ولا يستطيع المراقب للأحداث السياسية والاجتماعية التي تعصف بالعراق ولبنان والعديد من البلدان العربية والإسلامية، إلا أن يبدي موافقته على ذلك التخوف، نظرا الى كثرة التداعيات اليومية المعبرة عن ذلك التوجه، بعد أن صمتت أنظمة تلك البلدان ونخبها الدينية والزمنية طويلا على التوجهات الجديدة لثقافة الخوف والتمايز التي انتشرت في العقود الأخيرة لدى كل المذاهب الإسلامية وشعوب المنطقة.
لم يتوقف في واقع الأمر رجال الدين المسلمون عن الإعراب علانية عن خوفهم على الإسلام مما يسمى "الهجمات الشرسة" التي يتعرض لها من الخارج والداخل. ويعجب المراقب لهذا الخوف الدائم الذي يعكسه الخطاب الديني المذهبي ويتساءل في سره عن الأسباب الخفية لهذا الخوف الذي يفتقر إلى العوامل الموضوعية المبررة له.
فهل يكون الخوف على الإسلام خوفا فعليا عليه أم خوفا مصطنعا لأهداف وغايات أخرى؟ وهل الدفاع عن الإسلام هو دفاع فعلي عنه أم دفاع عن وقائع تاريخية امتزج فيها الدين بالسياسة حتى صار يصعب الفصل بينهما؟ أم تكون الحماسة الزائدة في الدفاع عن الإسلام هي قلة ثقة من قبل المسلمين بعظمة دينهم وكونيته؟
لن ندخل في الاعتبارات التاريخية القديمة التي لا ينفك غالبية رجال الدين من مختلف المذاهب الإسلامية تذكير أبناء طوائفهم بها في كل مناسبة واصطناع المناسبة لتذكيرهم بها، بل ما يهمنا هو رصد الحراك الاجتماعي والسياسي لعلماء المذاهب الإسلامية، والموقع الذي أوجدوا أنفسهم فيه عندما أصبح الخطاب الديني جزءا أساسيا من الخطاب السياسي للنخب الحاكمة، وعن كيفية إدارتهم لذلك الموقع في علاقتهم الملتبسة في غالب الأحيان مع السلطة والناس معا.
ويمكن القول اختصارا إن هناك نوعان من العوامل التي ساعدت على تعميم الخوف على الإسلام: أحدهما يتعلق بالغرب وممارساته، والآخر، وهو ما يهمنا، يتعلق بالعلاقة بين المسلمين وطبيعة إيمانهم.
أما على صعيد النوع الأول من العوامل فهناك أسباب كثيرة ساعدت على زرع بذور الشك وعدم الثقة بين مجموع المسلمين والغرب المسيحي. فقد حفل تاريخ الطرفين بالعديد من التصورات السلبية والنزاعات والحروب التي تداخل فيها السياسي والاقتصادي والثقافي والديني. وساعد أخيرا نشوء "دولة" إسرائيل وتحميل المسؤولية السياسية والأخلاقية للغرب المسيحي، على تعميق الخوف، حيث اعتبر كل مذهب انه في خطر وان الدفاع عنه هو دفاع عن القضية وعن الإسلام.
لذا فإن المسلمين يشعرون بالإحباط و"الغيرة" لما أنجزته الأديان الأخرى، إذ نجح المسيحيون في بناء حضارة عظيمة في بلدان الغرب وتبعهم اليهود في بناء "دولة" مهيبة ومرهوبة الجانب في أرجاء العالم.
من المؤكد أن الأسباب الخارجية غير مقنعة على الإطلاق لتبرير الخوف المتزايد على الإسلام. لذا فلا بد من وجود أسباب أخرى أكثر أهمية تتعلق بالبعد السياسي للدين والبعد الإيماني للمسلمين من مختلف المذاهب.
في واقع الأمر لم تقدم المجتمعات الاسلامية إلا نماذج تجريبية ساقطة مؤسساتيا وأخلاقيا، ولم تنجح في تقديم أنموذج حضاري يحظى بالاحترام أو التقدير حتى من قبل شعوبها.
فبعد فشل الأنموذج القومي، العصري والعلماني في العديد من وجوهه، عقب هزيمة 1967، وجمود الأنموذج الإسلامي الوهابي الوحيد في المنطقة، أعيد إحياء الأوهام الدينية، التي تناولها صادق جلال العظم في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني"، فلجأت النخب الحاكمة في فترات ضعفها العديدة إلى الدين لتبرير سياساتها وأقحمته في تغطية كل الممارسات والسلوكيات السياسية والاجتماعية، مستندة إلى المشاعر الإيمانية العفوية لجماهيرها التي عاشت أوهام الحداثة بأتفه تجلياتها.
ومع انتصار الجمهورية الإسلامية الإيرانية واستلام رجل الدين مقاليد السلطة بالكامل، قدمت إيران ذات التاريخ الفارسي والإسلامي، أنموذجها الإسلامي الجديد، وهو أنموذج شيعي حصرا (ولاية الفقيه)، فعملت من خلاله على إرساء أنماط سلوكية جديدة(رفض ربطة العنق، الزي الموحد للنساء) واستبدلت المصطلحات السياسية السائدة(إمبريالية، استعمار) بمصطلحات أخرى دينية بالتأكيد(الشيطان الأكبر)، وفرضت الكثير من الممنوعات الاجتماعية(موسيقى، رياضة...)وجهدت لتصدير الثورة الإسلامية التي فتحت شهية البعض من كل المذاهب (الدولة الإسلامية، الخلافة الإسلامية، الكونفيديرالية الخ)، معتبرة نفسها المدافع الفعلي عن الإسلام والمسلمين، الأمر الذي أصاب البلدان العربية وغيرها من البلدان ذات الغالبية الإسلامية السنية بالذهول، فأثار بذلك ريبتهم و"غيرتهم" على السواء.
ولم يقتصر تأثير الأنموذج الشيعي على الداخل في إيران بل تعداه إلى العديد من الجماعات الشيعية في البلدان الناطقة العربية أو غيرها من اللغات، فعملت تلك الجماعات على تكريس هذا الأنموذج سلوكيا واجتماعيا وسياسيا واستفاضت في نبش الماضي وأعادت إحياءه، بعد أن تبنت في مواقفها السياسية مفاهيم الثورة الدائمة ضد "الاستكبار العالمي"، معتبرة أن المغالاة في التدين والتركيز الهوسي على الخصوصيات الجماعية والتهويل بالآخرة هي شروط أساسية للنجاح والنصر.
وأثار نجاح الأنموذج الشيعي "غيرة" وحماسة بقية المذاهب والفرق الإسلامية الاخرى؛ اذ لا شيء يمنعها من تقديم أنموذجها الديني والسياسي أيضا، بعد أن راوح الأنموذج الوهابي مكانه وغرق في تقاليده الصارمة طوال عشرات السنين.
ففي الأطراف البعيدة، وعلى سبيل المثال، قدمت حركة طالبان أنموذجها الخاص بها، ووصلت في دفاعها عن الإسلام والمسلمين إلى ممارسات أثارت النقد والسخط والخجل حتى في أوساط المسلمين أنفسهم.
وهكذا تسابقت الأنموذجات السياسية المذهبية وتنافست فيما بينها على تقديم نفسها كمدافعة شرعية عن الإسلام. ومن اجل ذلك اتكأ كل أنموذج على ارثه التاريخي والفكري الخاص به، فانتقى ما حلا له، وصور ما رغب بتصويره، وقطف ما أفاده، بانتقائية بارعة، فخلط الواقع بالخيال، مركزا على خصوصياته مكثرا من تعبده بعد أن لجأ إلى كم هائل من الممارسات الطقوسية المتعلقة بالتفاصيل الدقيقة للجسد والفكر والسلوك الاجتماعي للفرد والجماعة، في محاولات، بائسة في الغالب، لتقليد الرسول الكريم، حتى ليخيل للمراقب أن يوم القيامة وشيك الوقوع، لا يعرف إلا المؤمنين وحدهم، من هذا المذهب أو ذاك، تاريخ حصوله بالتحديد.
وقد سعى كل أنموذج إلى تأكيد وجوده التاريخي وتوسيع دائرة نفوذه وسيطرته في الخارج، وكدَّ في إقناع "الآخرين" بأنه الممثل والناطق "الرسمي" والوريث الأساسي للإسلام ونبيه العظيم والمدافع الرئيسي عنه.
واعتبر كل مذهب إن الإيغال في القدم والتمسك بالتفاصيل الدقيقة والبحث الدؤوب عن المبررات التاريخية والمبالغة بها والسعي لإرساء سلوكيات تبشيرية(لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-النهار 11 /8/2005) يضفي صدقية أكثر على شرعيته التي يتمحور حوله خطابها المذهبي الديني، حتى يخيل للمراقب المحايد إن السلوكيات السابقة الذكر هي دليل حيرة وشك أكثر من كونها دليل التزام أو إيمان.
في هذه الأجواء المشحونة بالتفاخر الذاتي والانفعال الوجداني واللاعقلانية الإيمانية، نشط رجال الدين من كل المذاهب وتضاعفت أعدادهم أضعافا مضاعفة وكثرت مناسباتهم التي تدعو إلى ترك الدنيا والتحضر للآخرة، يحدوهم الشعار الشهير "العلماء ورثة الأنبياء" فألحقوا الخطاب الديني بالموقف السياسي لمذهبهم وجعلوه أسيرا له.
واستبدلوا سلطة القانون بسلطة الالتزام الشرعي، وحولوا دور العبادة إلى منتديات سياسية فأكثروا من انغلاقهم وزادوا من أزمة انتمائهم، بعد أن رُسمت الحدود بين المسلمين، حتى بين أبناء الطائفة الواحدة في البلد ذاته، ولونت بدقة فكرية وأمنية مخابراتية بالغة.
وبعيدا عن منهاجية التحليل النفسي التي تعتبر أن الرغبة الكامنة خلف الهوس والسربلة بالشيء هي تعبير رمزي عن نقيضه(التكوين العكسي)، فإن المبالغة الإيمانية على صعيد الفكر والممارسة والسلوك المتعالي والتمايز الاستعراضي عن الآخرين (لباس، ذقن، شارب...) وما ينتج عن كل ذلك من تباعد تبدو وكأنها بحث عن شرعية مشكوك بأمرها وسعي متواصل لتأكيدها وإقناع النفس بها.
وهي أمور لا تؤدي بالمسلم، من هذا المذهب أو ذاك، إلا إلى المزيد من الانطواء والعزلة والتعصب والتطرف والإرهاب، حيث يسهل على الكثيرين، في غياب إمكانيات المراقبة والضبط، إصدار الفتاوى في التحريم والتكفير وإجازة قتل النفس والغير(تفجيرات لندن وشرم الشيخ... وبيان جند الشام الداعي إلى اغتيال شخصيات شيعية. (النهار27/7/2005).
فلا غرابة والحال هذه أن يصيب الوهن الأصوات الحكيمة والمتعقلة لكبار العلماء من المذاهب المختلفة ويضعف تأثيرها في صفوف العامة، بعد ان اجتاح الخطاب المذهبي التفجيري للعلماء الجدد نفوس المسلمين وغرائزهم وسمم عقولهم في كل مكان.
إن ما أصاب الغرب وما ينتظره لا يساوي نقطة مما قد يحصل للمسلمين وينتظرهم في بلادهم وأوطانهم بعد تفشي الحروب المذهبية الصغيرة التي لا ينفك رجال السياسة والديبلوماسية والدين من التحذير من الوقوع في شركها. فهل يمكن تجنبها فعلا إذا لم يفتح نقاش واسع وعريض بين المسلمين أنفسهم أولا وبمشاركة واسعة من قبل كل النخب بكل اتجاهاتها الفكرية، دون تخويف أو ترهيب، تتناول كل المسائل الخلافية(الفتاوى والقوانين الوضعية، التكفير، الجهاد، العمليات الاستشهادية، التكليف الشرعي، الدولة المدنية، العلمانية...) والخروج بما يُلزم المسلم أينما كان على "حمل الروح الموضوعية الحوارية التي تقربه من الآخر" (السيد محمد حسين فضل الله .النهار 11 آب 2005) عملا بقوله تعالى"أنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا" لأن الدين، برأي كبار الحكماء الذين يجود بهم حسن الطالع من وقت لآخر، "جاء لخدمة الإنسان ولم يأت الإنسان لخدمة الدين" (السيد محمد حسين فضل الله. النهار 9/11/2005).
إنها مسؤولية العقلاء من رجال الدين، وهي مسؤولية أخلاقية اثبت الكثير من العلمانيين في الطرف الآخر من العالم قدرتهم على الاضطلاع بها وتحمل تبعاتها في احلك الظروف