-
عرض كامل الموضوع : سورية بين الأمس واليوم
صياد الطيور
12/11/2005, 11:51
الموضوع منقول من إيلاف ( . بلال خبيز )
بصرف النظر عما يتضمنه خطاب الرئيس السوري بشار الأسد أمام السوريين والعالم اجمع، من تفاصيل ومواقف، الثابت ان الرئيس الشاب يعلن في هذا الخطاب اختتام مرحلة من التاريخ السوري والمباشرة بمرحلة جديدة، تختلف اختلافاً بيناً عن المرحلة التي سبقتها.
يمكن القول ان الرئيس الأسد بدأ حكمه الفعلي كحاكم لسورية اليوم، وان كل ما سبق من سنوات له في الحكم، كانت اشبه ما يكون بحكم من الأرشيف. ارشيف الوالد الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى في الوقت نفسه الذي بدأت بشائر انهيار منظومته السياسية والأمنية تهل.
الرئيس بشار الأسد ورث من والده، بخلاف ما يظن ويشاع، نظاماً يحتضر، نظاماً من الماضي لم يكن يستطيع التعامل معه وحيداً. فالنظام المحتضر قد يكون أخطر الانظمة على قادته اولاً. وبصرف النظر عن المسالك التي سلكها الرئيس بشار والمعارج التي دخلها فإن النتيجة التي توصل إليها كانت في ما يظهر محتومة ولا راد لها.
هذا الكلام لا يقع في معرض المديح او الذم. بل يقع في معرض التأريخ المنصف لسياسة وقيادة حاولت جهدها النجاح في مساعيها، واصطدمت بجدران من الصعاب. جارت على غيرها وبعض الغير جار عليها. لكنها دائماً كانت، على ما كان يقول الأسد المؤسس، على شفير الهاوية.
اليوم تفتتح سورية عهداً جديداً. عهداً هي فيه غير ما كانت عليه من قبل جذرياً، وغير ما كان يحسب بعض قادتها من انه صعاب عابرة لطالما واجه مثلها الأسد الأب واستطاع ان يتجاوزها ويعيد لسورية رونقها ألمع من السابق ويعيد دورها أشد تأثيراً وأكثر قوة وحضوراً.
الذي جرى في الشهور الأخيرة لا يمكن تفسيره على وجوه متعددة، وبصرف النظر عن فيض التعليقات ومستوى الصراخ والمواقف حول القرار الدولي 1636، فإن ما يبدو اضحاً للعيان ان هذا القرار ختم المعركة الإجمالية حول شرعية أو لا شرعية تدويل الوضع اللبناني وانتقل إلى البحث الصريح في تدويل الوضع السوري، وافتتح من مدخل قانوني مسار فرض وصاية دولية على الداخل السوري.
يجدر بنا ان نراقب منذ اليوم المسار الذي في وسع القيادة السورية والشعب السوري عموماً افتتاحه في مجال التعايش مع المستجدات الدولية الراهنة، والتي تحيط بالمنطقة العربية من كل جانب. والأرجح ان الصعوبات التي تواجه سورية، كما غيرها، اكثر من ان تحصى. لكن التدقيق في التاريخ السوري القريب قد يكون امراً ملحاً اليوم، ليعيد سورية إلى بساط البحث الفكري والتاريخي، ويعيد ترتيب وضعها في سلم الاولويات، بعدما جهدت سياسة الراحل حافظ الاسد في اصطناع موارد وهمية لسوريا تفوق قدرتها على حملها واحتمالها.
عودة سورية إلى حجمها الطبيعي بقيادة الرئيس بشار الأسد اليوم، قد تكون افضل ما يمكن تصوره من سيناريوهات للوضع السوري المرتبك. ذلك يوجب علينا ان نتخذ جانب الحيطة في الهجوم والدفاع عن سوريا وعليها. هكذا تبدو اللغة الملتفة على نفسها التي نطق بها وزير الخارجية السوري فاروق الشرع رداً على قرار دولي متخذ بإجماع مجلس الأمن اشبه ما تكون بالتمترس خلف نافذة من زجاج. كما ان بعض الاصوات الموالية للسياسة السورية التي دعت إلى تخيير العالم بين الانحياز لسورية او الانحياز للهجمة التدويلية تعني ان اصحاب هذه الدعوات حكموا على انفسهم وعلى سورية بالتحجر والثبات عند حدود العزلة الخانقة التي تعانيها. ليس على هذا الوجه تنقذ سورياة، وليس مجدياً طبعاً لهؤلاء المدافعين بألسنة الخشب ان يتمسكوا بخشب السنتهم وبدعوة الناس إلى اغماض عيونهم عما جرى وما يجري، وان يعيدوا تأسيس النظام العربي مرة أخرى على العفو عن الاخطاء ورفض المحاسبة والمساءلة، كما لو اننا تحت الزلزال ونرفض ان نتقي غوائل الطبيعة لأننا نريد ان نحاكم الجيران لأنهم تعدوا على مصطبتنا الآيلة إلى السقوط.
ليس في الوضع العربي الراهن ما يسر احداً. لكن بعض السياسات يشبه انتحاراً معلناً. والأرجح ان سورية محكومة بأن تخرج من شرنقة المنتحرين وان تطمح بتواضع وحكمة لفجر جديد يهنئ فيه الناجون بعضهم بالنجاة.
تنشر "إيلاف" هذا الملف الذي يتناول جانباً من التاريخ السياسي السوري عبر أبرز صناعه في العقود الثلاثة الاخيرة، لعل فيه ما يعين على استقبال الآتي العظيم، بمزيج من الدراية وحسن الفطن. في سورية ولبنان وفلسطين, في كل مكان من العالم العربي عموماً.
صياد الطيور
12/11/2005, 11:53
حالت الظروف المادية الخانقة دون ان يتابع حافظ الأسد الشاب دراسته في كلية الطب بالجامعة اليسوعية ببيروت. فلم يجد مفراً من الالتحاق بالكلية العسكرية بوصفها افضل الممكن. لو تسنى للأسد الشاب يومذاك ان يصبح طبيباً لربما كان تاريخ سوريا قد انقلب رأساً على عقب. لكن الأحوال المادية المتردية لأهل الريف السوري في خمسينات وستينات القرن الماضي كانت امراً شائعاً. ويرى بعض المؤرخين لهذه الحقبة من تاريخ سوريا ان لهذا التردي اثره الكبير فيما آلت إليه اوضاع سوريا فيما بعد. في ظل السلطنة العثمانية كان اهل الذمة من يهود ونصارى وشيعة وعلويين ودروز ممنوعين من دخول الجيش العثماني. وكان الانتظام في سلك الجيوش العثمانية حكراً على ابناء الطائفة السنية. لكن ذكريات الحروب العثمانية، وسفربرلك، جعلت أبناء الطائفة السنية ينصرفون عن التطوع في الجيش ويقبلون على التجارة، خصوصاً انهم كانوا من أبناء المدن الأساسية، وكانت بورجوازيتهم التجارية ناشطة وتجارتهم مزدهرة في حلب ودمشق وتحقق ارباحاً حقيقية. والحال لم يكن التطوع في الجيش مرغوباً بشدة لدى ابناء الطائفة الأكبر وذات الموارد الأغنى في سوريا النصف الأول من القرن العشرين.
هذا العزوف المديني عن التطوع في الجيوش ليس امراً يخص سوريا وحدها, فعلى النحو نفسه تؤرخ علاقات اهل المدن بالجيوش في العراق ولبنان وفلسطين. لكن الإشارة إلى هذه الواقعة التاريخية لها ما يبررها فيما آلت إليه احوال سوريا اليوم بعد ما ينوف على الخمس سنوات من رحيل حافظ الأسد اطول رؤساء سوريا عمراً على الإطلاق.
يجدر بنا ان نلاحظ بعض خصائص الجيوش في الدول الحديثة. ذلك ان الجندي في الديموقراطيات الحديثة هو مواطن تخلى عن حقوقه كمواطن ليضطلع بمهمة الدفاع عن الأمة في وجه الاعداء الخارجيين، وعلى النحو نفسه فإن الجندي ينزع من عزوته وأهله ورابطته المواطنية ويتم تدريبه ليكون عضواً في جماعة لا حياة له من دونها وهي تخسر اول ما تخسر حقوقها التي تؤمنها لها المواطنة في الدول الحديثة، وهذا بحث يطول. لكن ما جرى في بعض البلاد العربية خالف هذه القواعد الصارمة مخالفة صريحة. فالجندي في سوريا اليوم هو حامي حمى الطائفة. اي ان القوة الضاربة في الجيش ومخابراته تتحد عصبياً وطائفياً وعائلياً. فضلاً عن ذلك لم يحصل في سوريا كما في غيرها من البلدان العربية، ان تخلى الجندي عن حقوقه كمواطن في سبيل الدفاع عن بلاده. بل على العكس من ذلك، ففي غالب الأحيان أُجبر المواطن على التخلي عن حقوقه، وفي مقدمها حقه في ان تتم حمايته من اي عدوان، لصالح الجيوش وقادتها.
وهذا ليس شأناً سورياً مخصوصاً، بل هو شأن عربي عام. طبع مرحلة من مراحل التاريخ العربي القريب. وغاية القول ان حافظ الاسد الضابط الشاب في الجيش السوري رغماً عنه يومذاك، لم يصل إلى السلطة في سوريا ويتربع على قمة هرمها طوال ثلاثة عقود لولا ان الظروف التاريخية العربية كانت مواتية للعسكر في تسنم هرم القرارات السياسية والمصيرية في العالم العربي.
بدأ حافظ الأسد سيرته السياسية عضواً متحمساً في حزب البعث العربي الإشتراكي حين كان لا يزال طالباً ثانوياً. وتشير بعض المصادر انه تلقى طعنة سكين في ظهره اثناء احدى المناوشات مع طلاب الاخوان المسلمين. وسرعان ما بلغ هذا الطالب المتحمس مركزاً قيادياً في التنظيم الطلابي لحزب البعث. لكن مسيرته الحزبية انقطعت ليتحول طالباً في الكلية العسكرية إلى مسار آخر. لم تنقطع صلاته بالبعث طبعأً، لكنه لم يعد حزبياً مدنياً في حزب كان قادته جميعاً من المدنيين ولم يكن بينهم يومذاك عسكريون كثر.
اثناء الوحدة المصرية السورية نُقل حافظ الأسد ورفاقه الاربعة (ثلاثة علويين وواحد اسماعيلي، محمد عمران، صلاح جديد، عبد الكريم الجندي، ومحمد المير) الذين حكموا سوريا فيما بعد إلى مصر. كان يومها برتبة نقيب، وبعضهم يقول رائداً، وكان صلاح جديد صديقه ورفيقه رائداً طياراً وقائداً لسرب ليلي في سلاح الجو السوري. امتعض الضباط البعثيون الخمسة كثيراً من أفاعيل الوحدة المصرية السورية، وسرعان ما قرروا تشكيل تنظيم سري قيض له فيما بعد ان يحكم سوريا بقبضة من حديد. بعد الانفصال سجن بعض اعضاء هذه العصبة، وصلاح جديد كان بين المسجونين، ثم اعيدوا إلى سوريا في تبادل للأسرى بين البلدين اللذين كانا قبل بضعة شهور بلداً موحداً. في سوريا وقّع البعث على وثيقة الانفصال عن مصر مع الاحزاب التي وقعت على الوثيقة. لكن الضباط الصغار لم يغفروا فيما يبدو لقادة البعث المدنيين قرارهم حل الحزب اثناء الوحدة. هكذا استمر هذا التنظيم الصغير فاعلاً في ظل تشتت في قوى التنظيم المدني البعثي الذي كان يقوده يومذاك ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار.
الأعوام التي تلت الانفصال كانت اعوام اضطرابات حكم في سوريا على نحو يتندر به كل المؤرخين لتلك الحقبة وما تلاها. لكن تلك الفترة فيما يظهر كانت مخاضاً سورياً بين اتجاهين كبيرين. واحدهما متمسك بالوحدة العربية وبترك الساحة السورية مفتوحة لكل التأثيرات الخارجية، وثانيهما كان يريد ان تنعم سوريا باستقرار معقول يمكنها من انشاء دولة ونظام حكم. ويمكن القول ان الاتجاه الذي مثله حافظ الأسد بين الضباط الخمسة هو الاتجاه الذي غلب في النهاية، وهذا مما يحفظ له من انجازاته الكبيرة. فعلى العكس مما كان صلاح جديد ومحمد عمران وعبد الكريم الجندي يرون من دور لسوريا يتجاوز قدرتها على الاستقرار وطاقتها على احتمال الاضطراب، كان زميلهم حافظ الاسد يرى ان مصلحة البلد تكمن في استقرار الدولة والنظام وهذا ما جهد للحفاظ عليه طوال فترة حكمه.
عندما تسلم الضباط الخمسة الحكم في سوريا بعد انقلاب 1966، انتهج صلاح جديد نهجاً مغايراً للأصل الذي نشأت عليه حركته، إذ سرعان ما وضع نصب عينيه السيطرة على الحزب المدني. وتخلى عن رتبته العسكرية ليصبح الرفيق صلاح جديد. لكن الاسد الذي رقي من رتبة مقدم إلى رتبة لواء دفعة واحدة وتسلم مهام وزارة الدفاع، استمر على النهج السابق معتمداً على الجيش والقوى المسلحة بوصفهما الوسيلة التي اوصلته إلى الحكم والتي إذا ما اهملت يمكن ان تخلعه من الحكم. والحق ان الضباط الخمسة اعتمدوا على الجيش والقوى المسلحة لتثبيت اركان حكمهم وعمدوا من خلال عضويتهم في اللجنة العسكرية إلى إجراء المناقلات في القوى المسلحة بطريقة تناسبهم، وطوعواً في الجيش من وجدوا انه يواليهم ويمكن الوثوق به. هذا الأمر جعل اداء الجيش السوري في حرب 1967 بالغ الرداءة. وما زال الناس حتى اليوم يتناقشون في الأسباب التي دعت وزارة الدفاع يومذاك وعلى رأسها اللواء حافظ الاسد إلى اعلان سقوط القنيطرة قبل سقوطها الفعلي. ويروي احد الوزراء الذي كان في جولة في جنوب القنيطرة يومذاك، انه سمع بخبر سقوط القنيطرة من الإذاعة فاتصل بوزير الدفاع ليسأله عن السبب في هذا الإعلان، فأجابه الاخير ان الامر لا يخصه وان عليه ألا يتدخل في ما لا يعنيه. فضلاً عن ذلك تكثر الروايات عن الاداء السوري المرتبك في هذه الحرب، فبحسب شهادة ضابط لبناني، كان الضباط السوريون معلمي مدارس مخلصون للحزب لكن خبرتهم العسكرية كانت في الحضيض، ذلك ان انقلابيي 1966 سرحوا معظم الضباط ذوي الكفاية غير الموالين لحركتهم من الجيش ليحل محلهم ضباط من رتب ادنى، فيما ترك امر قيادة القطع الصغيرة في الميدان لضباط لا خبرة لهم على الإطلاق. ويروي الملك الاردني الحسين بن طلال انه طلب من السوريين في تلك الحرب ان يقوم سلاحا الجو الاردني والسوري بضرب البنى التحتية لسلاح الجو الإسرائيلي في الوقت الذي كان هذا السلاح منشغلاً بتدمير سلاح الجو المصري. لكن السوريين استمهلوه ساعة، ثم نصف ساعة أخرى، فنصف ساعة أخرى، إلى ان قرر الأردنيون ان يخوضوا غمار تلك المعركة بإمكاناتهم الضئيلة. وكانت اول طلعة سورية بعد ساعة من ذلك الوقت حيث تم قصف مصفاة حيفا، لكن الجيش الاسرائيلي كان قد فرغ في ذلك الوقت من تدمير سلاح الجو المصري واصبح متفرغاً لسلاح الجو السوري، إذ تزامنت الطلعة السورية على مصفاة حيفا مع طلعة اسرائيلية على دمشق. وسرعان ما دمر الجيش الاسرائيلي المطارات العسكرية السورية وصار سيد الجو في تلك الحرب بلا منازع.
هذا الجيش الذي كان وزير دفاعه حافظ الأسد يوليه عنايته الكبرى لم يكن يومذاك جيشاً محترفاً. لكنه كان يؤدي الغرض الذي يطلب منه على اكمل وجه.
دور الجيش في تلك اللحظة كان حماية النظام من الداخل وليس حمايته من حرب خارجية وفي هذا ما يناقض ما ذهب إليه صلاح جديد من دور لسوريا في تلك الحقبة مخالفة صريحة.
لم يكن جيش حافظ الأسد يمكنه في تلك الأثناء ان يخوض حرباً طويلة مع الجيش الإسرائيلي على النحو الذي كان صلاح جديد يريده ويصبو إليه، وجل ما كان يستطيعه ان يحتل الإذاعة ويعلن البلاغ رقم واحد. على هذا لم يشأ وزير الدفاع ان يغامر بجيشه في معركة غير متكافئة واحتفظ بقواه ليوظفها حيث يمكنه ان ينتصر فعلاً وان يحقق الانجازات.
صياد الطيور
12/11/2005, 11:55
كان صلاح جديد وحافظ الأسد رفيقا الحرب والسلطة على خلاف في التوجهات. جديد المتحدر من اسرة علوية متوسطة الحال كان لا يزال يقيم وزناً لحاضر سوريا وماضيها، بقيادة البورجوازية السنية والحكم المدني. انشد انشداداً واضحاً إلى هذا الماضي واراد ان يعدل فيه من دون ان يلغيه. جعل من امين الحافظ السني واجهة في الحكم وكان يحكم من خلف الستار. كان وجود الرئيس السني على رأس السلطة من الأعراف التي لم يكن قد تم تجاوزها حتى ذلك الوقت. وحتى حين بلغ به الخلاف مع امين الحافظ اشده وقام جديد بإزاحة الرئيس، لم يتجرأ ان يعلن نفسه اول رئيس علوي لسوريا ذات الغالبية السنية. كان يحكم من وراء الواجهة، ويوم انقلب عليه حافظ الأسد كان نور الدين الاتاسي هو رئيس سوريا لكن حاكمها الفعلي كان صلاح جديد. في الجهة المقابلة كان حافظ الاسد الذي سحب جيشه سالماً تقريباً من حرب حزيران، (أقل من 200 قتيل، وهم جميعاً من الذين خالفوا الأوامر وقرروا الاستشهاد في المعركة) يراهن على الجيش بوصفه الفئة الصاعدة في سوريا والبلاد العربية. وفي وقت كانت البورجوازيات المدينية في سوريا وفي غيرها من البلاد العربية تنظر إلى الجيش بوصفه منفذاً للسياسات العامة، كان حافظ الأسد يدرك بحدسه ان الجيش هو القوة الضاربة التي يجب المراهنة عليها في تثبيت سلطانه وهذا ما حصل فعلاً.عام 1970 واثناء الحرب التي خاضها الجيش الاردني ضد المقاومة الفلسطينية هب صلاح جديد والقيادة السورية لنجدة الفلسطينيين، لكن وزير الدفاع وقائد سلاح الجو ترك العسكر السوري من دون تغطية في تلك الحرب، مما جعل الجيش السوري عرضة لنيران الجيش الأردني الحامية. عاد الجيش من نجدة الفلسطينيين بخفي حنين، لكن الرفيق صلاح جديد جمع اللجنة القطرية لحزب البعث التي قررت بالإجماع اقالة وزير الدفاع حافظ الأسد ورئيس اركان الجيش مصطفى طلاس من منصبيهما. لم يتقبل الأسد القرار وزحف بقطع الجيش التي كانت تواليه على دمشق وامسك كافة السلطات بيديه، ثم رمى برفاق الأمس في السجن. ونصّب نفسه اول رئيس علوي للجمهورية السورية واستتبت له السلطات في سوريا طوال ثلاثة عقود.
مستفيداً من تاريخ سوريا القلق، ثبت حافظ الأسد رئيساً للجمهورية استقرار الداخل السوري ومنع القلاقل التي كانت تطيح بالحكومات. وبدأ العمل حثيثاً ووئيداً على صناعة دور لسوريا يجعلها واحداً من مراكز الاستقطاب العربية، مثلها في ذلك مثل مصر والعربية السعودية. قبل حافظ الاسد كانت مراكز الاستقطاب العربية تتدخل في الساحة السورية تدخلاً مقبولاً ومأنوساً من قبل السوريين انفسهم. ومع حافظ الاسد صارت سوريا مركزاً من مراكز الاستقطاب التي يحسب حسابها في العالم العربي، وتحولت سوريا من ساحة إلى دولة تمارس نفوذها وتأثيرها في ساحات أخرى وتلعب دوراً يتعدى حدودها نحو دواخل الجيران.
قيض لحافظ الاسد ان يتزامن تسلم مهامه كرئيس للجمهورية العربية السورية مع وفاة جمال عبد الناصر ابرز قادة العرب واكثرهم امتداداً خارج حدود بلده. وبوفاة عبد الناصر لم يعد ثمة ما يمنع اي قائد عربي عن محاولة التنطح للعب الدور الذي اضطلع به الراحل الكبير. خليفة عبد الناصر مثلما يقول عن نفسه، كان عاجزاً عن وراثة دور السلف. والأرجح ان التردد المصري في حرب تشرين 1973 الذي طبع سلوك القيادة المصرية العليا بعد تحقيق الانجاز الذي تمثل بتدمير خط بارليف وعبور الف دبابة مصرية قناة السويس كان بسبب الخوف على الانجاز من ان يضيع. ويروى انه منذ تلك اللحظة اخذ الرئيس المصري انور السادات يحاول استدراج عروض وقف النار على الجبهة المصرية لإبقاء الوضع على ما هو عليه، اي وقف النار والجيش المصري في حالة انجاز كبرى. ذلك انه لم يكن في وسع الرئيس المصري الذي خلف عبد الناصر ان يتحمل اكلاف هزيمة كما كان يستطيع سلفه. لهذا ضرب ضربته الاولى وتوقف محاولاً المحافظة على هذا الانجاز. في مثل هذا الوضع الذي حف بالقيادة المصرية يومذاك كان من الممكن لسوريا ان تلعب دوراً مهماً وأساسياً بوصفها ركناً من اركان النظام العربي العام. وهذا ما اجاده حافظ الاسد اجادة تامة، وهو بالضبط اكبر انجازاته.
في سبيل استقرار سوريا جعل الرئيس حافظ الأسد يؤسس لتغذية نظامه واستقراره من شرايين خارجية. ويروي بعض اركان الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت قيد التأسيس في منتصف السبعينات بقيادة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط ان الرئيس السوري في احدى جلساته مع اركان الحركة الوطنية اخبرهم ان الرئيس السادات قبيل زيارته الشهيرة إلى القدس زار سوريا وفي جلسة الرئيسين قال الرئيس المصري لنظيره السوري، نحن امام واحد من خيارين اما الحرب واما السلام. وحيث اننا غير قادرين على الحرب فليس ثمة مفر من محاولة تحقيق السلام. لكن الرئيس السوري رفض هذا الضرب من التخيير قائلاً يمكن ان يكون خيارنا هو "اللاحرب واللاسلم". هذه العبارة الشهيرة التي نقلت عن الرئيس السوري اضحت في ما بعد اهم عباراته على الإطلاق. ومعنى اللاحرب واللاسلم بالنسبة للرئيس السوري انه لا حرب على سوريا ولا سلم على اسرائيل. وبكلام ادق ان سوريا لن تحارب كدولة لكنها ستنظم اشتباكات مع العدو من خارج حدودها وسترعى كل نوع من انواع المقاومة ليتسنى لها ان تحقق الشعار: سوريا امنة واسرائيل قلقة. اسرائيل تخوض حروب صغيرة على جبهات متعددة وسوريا تنعم بهدوء الدولة المحايدة.
على هذا الأساس رعت القيادة السورية مناوشات ضد اسرائيل من كافة الجبهات. لكن ما كان ينقص سوريا في هذا المجال هو امكان ضبط هذه المناوشات على ايقاع النظام السوري. منذ النصف الأول من السبعينات كان النظام السوري يحاول جاهداً تفريخ بدائل عسكرية وسياسية تعود ملكيتها له في معظم الأقطار المجاورة، من فلسطين إلى لبنان مروراً بالأردن والعراق وتركيا. ولم يكن النظام السوري يهتم لهوية الطرف المناوش الايديولوجية الذي يطلب تملك قراره او لأهدافه البعيدة المدى. على هذا رعت القيادة السورية تنظيمات فوضوية كما هي حال كارلوس، واخرى ماركسية متشددة مثلما هي حال عبدالله اوجلان، واسلامية كما جرى مع حزب الله اللبناني وبعض المناوشات على جبهة الاخوان المسلمين في الاردن، وصولاً إلى تنظيمات قومية في العراق وفلسطين وفي لبنان ايضاً. في نهاية الأمر كان الفيصل الذي يحسم في مسألة الدعم السوري لهذا التنظيم او ذاك هو مدى الولاء الذي يكنه للقيادة السورية ومدى قدرته على الطاعة.لا شك ان هذه السياسة كلفت جيران سوريا غالياً. فكان الدور السوري الركين يستمد قوته من شرايين خارجية، او لنقل بتسمية اصرح، كان النظام السوري يمارس سياسة قطاع الطرق الذين يفرضون خوة على جيرانهم تحت طائلة التعكير والشغب وتنظيم الاشتباكات الصغيرة. حروب صغيرة هي دون الحروب الفعلية لكنها مؤذية ومقلقة احياناً. ولم يكن النظام السوري يتورع عن استغلال اي بارقة ضعف في وضع احد جيرانه، فلم يتردد في ادخال جيشه إلى لبنان حالما لاحت له فرصة مناسبة، ولم يكف عن الشغب على الجانب التركي إلى ان حشدت تركيا جيشها على الحدود. وذهب به الأمر إلى تنظيم انشقاق على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وترتيب الجو لحرب اهلية فلسطينية – فلسطينية بعيد الاجتياح الاسرائيلي للبنان وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس.
غني عن القول ان نظاماً يطمح إلى دور يتجاوز حدوده ليحمي استقراره الداخلي لن يكون مهتماً بتحقيق نتائج حاسمة في معارك جانبية، كانت جل غايته هي استمرار الشغب الذي يدير موازينه، لكنه لم يكن مهتماً بمصير المشاغبين. وهو على التوالي سلم مشاغبيه واحداً إثر آخر من كارلوس الذي تم ترحيله إلى السودان بين ليلة وضحاها، وصولاً إلى اوجلان الذي سلم للسلطات التركية. ولن ينجو من هذا المصير التنظيمات الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقرات لها، ولا ايضاً بعض المقاومة العراقية التي يعرض رأسها على الأميركيين كلما لاحت له الفرصة.
صياد الطيور
14/11/2005, 15:54
تمثل الانجاز الاكبر الذي حققه الرئيس الراحل حافظ الاسد في لبنان. كان الراحل حاكماً فعلياً للبنان على مدى ما يزيد على العقد الكامل، ومتدخلاً مؤثراً في الوضع اللبناني لمدة تزيد على الخمسة عشر عاماً. ومن لبنان وفيه تغذى النظام السوري وتورم دوره على المستوى العربي الأعم. لذلك قد يكون الخروج من لبنان اكبر تهديد للنظام شهده طوال تاريخه. حافظ الاسد كان رئيساً فذاً من دون شك. مفاوض ماهر ولاعب دقيق. يعرف من اين تؤكل الكتف، ولا يتردد في اتخاذ القرار المناسب وقياس اتجاه الريح وسرعتها. لكن وقائع القرن الواحد والعشرين والسنوات القلية التي سبقته، بدت في غير مصلحة النظام على اي وجه من الوجوه. والحق فإن تلك الوقائع التي شهدت اولى عواصفها الكبرى بعيد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان كانت من الشدة والخطورة بما يجعل الكلام عن سوء تقدير القيادة السورية الحالية وعجزها عن التعامل مع المستجدات بالحنكة والحكمة التي عرفت عن الرئيس الأسد الأب مشكوكاً في صحته. فتلك وقائع يجدر بالمراقب ان ينتبه لمدى خطورتها على بنية النظام السوري وطموحاته بما يقطع دابر المهارب الفولكلورية التي ترى في الحصار الذي تعانيه سوريا اليوم نتيجة لأخطاء القيادة الحالية. لا شك ان القيادة الحالية لم تحسن كثيراً او قليلاً التعامل مع الظروف، لكن مسلسل الانحدار السريع بدأ في عهد الأب والأرجح ان حكمته وحنكته ليستا كافيتان وحدهما لضبط مفاعيل هذا الانهيار.والحق ان قيادة الاسد الأب في العقد الأخير من القرن العشرين اتسمت بالمراهنة على قدرة الأصابع السورية التي تعبث خارج الحدود السورية على تحقيق تسوية ما مع اسرائيل تضمن لسوريا ان تخرج منها سليمة معافاة، سياسياً واقتصادياً. لكن ما جرى ان العرب الذين ذهبوا إلى مدريد كمكافأة لهم على دعمهم الخطة الاميركية لتحرير دولة الكويت لم يكونوا قادرين على دفع اسرائيل إلى تسوية عادلة وشاملة، او إلى تحقيق سلام الشجعان كما كان يحلو للرئيس الراحل القول. فالعرب ذهبوا ومعهم هزائمهم. ذهبوا وفي تاريخهم القريب حربهم التي لم يستطيعوا المشاركة فيها في بيروت 1982، ومعهم ايضاً كل الاختلال الساحق في موازين القوى الذي يجعل من اسرائيل دولة راسخة وفي قلب المعادلات الدولية، في حين تبدو الاقطار العربية عموماً تعاني من اعطاب بنيوية هائلة تضرب مفاعيلها على كل الأصعدة. إذاً ولمن يحسن ان يتذكر، ذهب العرب إلى مدريد من دون الفلسطينيين. كان ثمة وفد فلسطيني ملحقاً بالوفد الاردني. كان لهذا الأمر معنى واحد ووحيد: ليس في وسع الفلسطينيين ان يحلموا بتحقيق اعتراف اسرائيلي بوجودهم. لكن وقائع مدريد وما تلاها اثبتت ان الفلسطينيين يملكون خياراً آخر. على هذا نشأ خيار اوسلو. الخيار الذي اعترض عليه الراحل حافظ الأسد طويلاً. والحق ان الكلام عن ضرورة التضامن العربي الذي كان يتقن وزير الخارجية السوري السيد فاروق الشرع تكراره لم يكن بيت القصيد في أي حال من الأحوال. فالرئيس الأسد نفسه، ويوم كان المسار السوري مرشحاً للخرق، في اواخر 1993 صرح للصحافة ان اي اختراق على اي جبهة في السلام هو امر مفيد ومرغوب. لم يكن التضامن مطلوباً إلا حين يتعلق الأمر بالتضامن مع سوريا المحشورة. وحين يصل الأمر إلى الفلسطينيين او اللبنانيين او الأردنيين يصبح الانفراد بالمفاوضة خرقاً للتضامن العربي المنشود. والحق ان هذا السلوك السوري، بصرف النظر عن مادته التعبوية التي عفا عليها الزمن، ينسجم انسجاماً مطلقاً مع السياسة الخارجية التي أرساها الرئيس حافظ الأسد. فمثل هذه السياسة تقيم لسوريا وزناً اكبر من وزنها الحقيقي، وتجعل امر التضامن العربي والوحدة العربية متمحوراً حول سلامتها ومصالحها، بصرف النظر عن مصالح القوى ولاطراف الأخرى. الخلاصة ان الفلسطينيين انفردوا في اوسلو وغردوا خارج السرب العربي. كان اوسلو من دون ادنى شك، وبمحاكمة منصفة تضع الشعارات الفارغة من مضمونها جانباً، اول خرق فلسطيني بعد مدريد. مثل اوسلو اولاً اعترافاً اسرائيلياً ودولياً بالفلسطينيين شعباً يحق له المطالبة بتقرير المصير. ثم ان الرئيس ياسر عرفات الذي اصر على غزة - اريحا اولاً، لم يكن قليل الدراية والحكمة في عقد ذلك الاتفاق. كثيرون من فلسطينيين وعرب رأوا في اوسلو تفريطاً، لكن وقائع السنوات التالية اظهرت انه الإنجاز الوحيد الذي تحقق على مدى السنوات العربية العجاف الأخيرة.
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////صورة أرشيفية للرئيس السوري الراحل حافظ الأسدعلق الرئيس الأسد على اتفاق اوسلو تعليقاً ذهب مثلاً في عالم السياسة في ما بعد. قال ان هذا الاتفاق يحتاج لتنفيذه إلى اتفاقات على كل بند من بنوده. والحق ان اتفاق اوسلو لم يكن اتفاق سلام بالنسبة للفلسطينيين على أقل تقدير. انه اتفاق على بدء مسار عسير ودام من النضال من اجل تحقيق مطالب الحد الأدنى الفلسطينية، انما هذه المرة تحت السقف الدولي. والحال فإننا اليوم نشهد ان الرئيس محمود عباسن رغم انسداد الأفاق امام اي تسوية ورغم كلفة الحل العسكري والكفاح المسلح الباهظة، ما زال يستطيع ان يجادل جورج بوش من على منصة البيت الأبيض في معنى الديموقراطية وفي الإصرار على قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. كان اتفاق اوسلو يعني في معنى من المعاني ان يثبت الفلسطينيون الانجاز ثم يعودون للمفاوضة على تحقيق المطلب التالي. وغالباً ما كانت المفاوضات تكلف الفلسطينيين شلالات من الدم، لكن ما يجدر بنا ان نسجله انصافاً وعدالة، ان الفلسطينيين بكل تياراتهم، ما عدا تلك التي تدور في فلك سوريا وايران، ما كانوا يقاتلون من دون افق سياسي ومن دون ان يكون في الأفق احتمالاً للربح. والحق ان المجتمع الدولي الذي يخوض حرباً شعواء ضد الإرهاب الأصولي استمر منقسماً في الرأي حول حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وحول حزب الله اللبناني، ذلك ان هذين الموقعين كانا يستمدان شرعية العنف الذي يمارسانه من التفاف شعبي سياسي. ليس التفافاً اعمى ولم يكن مرة من دون قدر من الواقعية السياسية التي تتيح لهذا الطرف او ذاك ان يخرج من قمقم الإرهاب المطلوب حشره فيه.
هذا الاستطراد يهدف في الدرجة الأولى إلى تبيان مأزق الخيار السوري في المفاوضات مع اسرائيل. إذ افتتح القرن الفائت أيامه على خيبة سورية من الراعي الأميركي تمثلت في لقاء الأسد – كلينتون في جنيف. ومنذ تلك الخيبة، وحتى اليوم لم تفلح الدعوات السورية في جر اسرائيل إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى. لكن سياسة الأسد قبل ذلك التاريخ كانت تقضي بربط خيل الفلسطينيين في دمشق. وحيث ان الاصرار الفلسطيني على استقلال القرار الوطني كان حاسماً ودفع ثمنه غالياً، خسرت الإدارة السورية اول اوراقها المهمة في ترتيب سياستها الخارجية. منذ اوسلو كان الفلسطينيون قد اعلنوا انهم خارج الزمان والمكان السوريين، وانهم يملكون مربطاً لخيلهم، ولو لم يكن متسعاً كما هي حال مرابط غيرهم. ولم يبق في يد الإدارة السورية من اوراق فلسطينية مضمونة إلا بعض الأجهزة العسكرية والمخابراتية التي لا يمكن الاعتداد بوزنها في الشارع الفلسطيني وان كانت تستطيع المشاغبة من حين إلى حين. تماماً مثلما حدث مع فتح الانتفاضة بقيادة ابي موسى والقيادة العامة بقيادة احمد جبريل في ايام لبنان الأخيرة.
يمكن القول ان المغالبة الفلسطينية الطويلة النفس كانت على جبهتين، جبهة الصراع مع العدو الإسرائيلي، وجبهة انتزاع الاعتراف النهائي باستقلالية القرار الوطني الفلسطيني، والحق انها نجحت إلى حد بعيد في تحقيق الشق الثاني من هذه المهمة، لكن الشق الأول ما زال محفوفاً بالمخاطر ويشهد المزيد من الانسدادات الخانقة. في هذا السياق لم تكن خسارة الورقة الفلسطينية شأناً عارضاً في السياسة السورية. ولم يفلح حزب الله اللبناني في وراثة هذه الورقة وتسليمها لسوريا رغم كل التصريحات والخطب التي القاها امينه العام السيد حسن نصرالله، عن ضرورة ان يتعظ الفلسطينيون ويتعلموا من حزب الله اللبناني. والحق ان سائل يمكن ان يسأل اليوم: ما الذي يراد للفلسطينيين تعلمه من حزب الله؟ ايكون الدرس التاريخي المطلوب تعلمه هو ان يدفع الفلسطينيون من دمائهم وارزاقهم وتطور اجتماعهم في حرب غير متكافئة مع العدو الإسرائيلي ثم يسلمون الإنجاز كاملاً مكملاً إلى حكمة القيادة السورية في إدارة الصراع؟
بدت الخسارة السورية على الصعيد الفلسطيني اصعب من ان تعوض. ومن جانب آخر لم يسمح المجتمع الدولي باهتزاز المملكة الأردنية للحظة واحدة، فسرعان ما احتشد المجتمع الدولي برمته في تشييع الملك الاردني الراحل الحسين بن طلال دعماً للملك الجديد. ما يعني ان الاصابع السورية التي سبق للملك وان قلم اظافرها عام 1970، لم تستطع ان تمتد مرة أخرى داخل حدود المملكة.
على الجانب التركي، ضاق الجنرالات الاتراك ذرعاً بالمناوشات التي ترعاها دمشق، فحشدوا قواتهم على الحدود وهددوا بالاجتياح، مما اضطر الإدارة السورية في عهد الأسد الراحل إلى الاستجابة للمطالب التركية بتسليم عبدالله اوجلان وملاحقة الناشطين من حزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية. وكان للراحل انتحاراً وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان دوراً بارزاً في ترتيب هذا العقد.
بقي لبنان وحيداً في الحاضنة السورية. ولم يكن لبنان تفصيلاً نافلاً. فهو كان الدجاجة التي تبيض ذهباً. لذلك تبدو خسارته خسارة لسوريا في العمق اكثر منها خسارة عابرة يمكن التعويض عنها. ربما لهذا السبب لم يستطع المسؤولون السوريون ان يصدقوا ان المجتمع الدولي في صدد اخذ البيض اللبناني ومنع سوريا من تجميعه في سلتها. فلم تكل ألسنة المسؤولين السوريين والمحللين المأذون لهم بالتحليل عن تكرار الحديث بعيد صدور القرار 1559 عن مجلس الامن ان هذا القرار صدر ليوضع على الرف، وان المطلوب اميركياً من سوريا هو التعاون في الساحة العراقية. وحالما يتم التعاون السوري وترضى عنه الإدارة الأميركية، سيخفت الحديث عن لبنان وتترك الدجاجة السحرية لأصحابها في دمشق.
خرج الجيش السوري من لبنان وحوصرت الإدارة السورية في قمقم ضيق، وما زالت الخطابات هي نفسها. ثمة طموح سوري في لعب دور ما في لبنان ضمن صفقة اميركية – سورية. ذلك ان التصديق والاقتناع بخسارة الدور تعني في المقام الاول ان المعركة الآن تخاض داخل الحدود السورية لا خارجها. وذلك يعني حرفياً عودة سوريا ساحة كما كانت حالها قبل انقلاب حافظ الأسد ومصطفى طلاس في الربع الاول من عام 1970.
صياد الطيور
14/11/2005, 16:05
لم يكن انجاز الأسد الأب سهلاً. تواجه هذا الخيار مع خيارات أخرى، كانت طويلة الأنياب والمخالب، وقوية الشكيمة في سوريا ستينات القرن الماضي. كان اول ما قام به الضباط الخمسة في انقلابهم عام 1966 ان حاولوا ضمان ولاء الجيش. فالضباط الخمسة كانوا من ذوي الرتب المتواضعة في الجيش، ولم يكن ولاء الجنرالات الكبار مضموناً لهم. على هذا سرعان ما بدأ هؤلاء بتريب وضع الجيش، وكان من اول ما فعلوه ان سرحوا المنتسبين إلى دورة للضباط واتوا بتلامذة ضباط غيرهم على عجل، وسيمت الدورة دورة البعث الأولى، وانهت تدريباتها في سنة ونصف بدلاً من سنتين. كان من بين هؤلاء الضباط رجلان، هما رفعت الاسد وعبدالله طلاس، قيض لأحدهما ان يلعب دوراً بارزاً في تاريخ سوريا الحديث.
رفعت الاسد هو الابن الأصغر لعلي سليمان الأسد، ويصغر اخاه حافظ بسبع سنوات، فهو من مواليد 1937، وانتظم في سلك الوظيفة العامة بعدما انهى دراسته الثانوية، وعمل في دائرة الجمارك، براتب كان قدره يومذاك 200 ليرة سورية على ما تقول مصادر مختلفة. لكن الانقلاب الذي كان اخوه حافظ احد قادته قاده مباشرة إلى سلك ضباط الجيش من الباب الأوسع. انهى رفعت دورته ومنذ ذلك الحين بدأ سلسلة ترقيات لم تقيض لغيره من ضباط الجيش. فهو اول نقيب سوري يلتحق بدورة أركان. ومنذ البداية كان يبدو ان الشقيق الأصغر يتم اعداده ليلعب دوراً بارزاً في السياسة السورية.
عام 1968 واثر المواجهة بين صلاح جديد وامين الحافظ، قاد الضابط الدرزي سليم حاطوم عملية ازاحة امين الحافظ عن الساحة، كان رفعت الاسد يومذاك واحداً من الضباط البارزين الذين شاركوا في هذه العملية. جرت اشتباكات يومها بين حراس الحافظ والقوة المهاجمة وسقط فيها اكثر من 200 ضحية من الجانبين، وهذا العدد يبلغ ضعف الخسائر التي حلت بالجيش السوري في حرب 1967، كما تشير بعض المصادر.
في العام 1969 نجح رفعت الاسد على رأس قوة من سرايا الدفاع في اعتقال سائقي عبد الكريم الجندي الضابط الذي كان على رأس جهاز المخابرات في عهد صلاح جديد. وحين علم الجندي بضياع اسطول سياراته ايقن انه انتهى، فانتحر بعد مكالمة هاتفية عنيفة مع مدير المخابرات علي ظاظا. وبذلك بدا ان حافظ الأسد كسب جولة مهمة ضد صلاح جديد الذي اصبح منذ ذلك اليوم يعد ما تبقى له من ايام في السلطة.
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -/////////////// عام 1970 قاد مصطفى طلاس وحافظ الاسد انقلاباً على صلاح جديد ونور الدين الاتاسي واستتبت الامور لحافظ الاسد رئيساً للجمهورية العربية السورية.
كان رفعت قد التحق بدورات عسكرية متتالية، وتمت ترقيته سريعاً من نقيب إلى رائد فمقدم فعقيد، واسس سرايا الدفاع التي لم تشارك في اي حرب من الحروب التي خاضتها سوريا ضد اسرائيل، والتي كانت تتمركز حول دمشق وتحيط بكرسي الحكم. بلغ عدد افراد هذه السرايا في عز سطوتها اكثر من 55 الف عسكري، وكانت تملك طائراتها العمودية، وتستخدم احدث الدبابات الروسية التي كانت متوافرة للجيش السوري يومذاك. والحق ان رفعت الاسد على رأس سرايا الدفاع كان ذراع الأسد الرئيس اليمنى وحامي النظام طوال فترة وجوده في سوريا. ولم يكن متاحاً للمخابرات السورية الاطلاع على ما يجري في سرايا الدفاع، إذا كان قائدها يسجن اي ضابط يقيم اي علاقة مع اي جهاز من اجهزة المخابرات في سوريا.
يروي المعارض السوري نزار نيوف انه بعد محاولة اغتيال فاشلة للرئيس حافظ الاسد في العام 1980، ارغى رفعت الاسد وازبد "وكلف رفعت صهره محمد ناصيف ( زوج ابنته تماضر ) بتكليف مجموعتين من سرايا الدفاع، تم نقلهم بالطائرات العمودية إلى سـجن تدمر الصحراوي، وتـم إطلاق النار على السجناء داخل الزنازين، فقتلوا قرابة ألف مواطن معظمهم من الإخوان المسلمين، من الأطباء والمهندسين والمدرسين وطلاب الجامعات، وتم دفنـهم جماعياً بالجرافات وبعضهم مازال حياً. وقد روى هذه الواقعة ايضاً عناصر من سرايا الدفاع أرسـلوا للأردن لاغتيال رئيس الوزراء مضر بدران، وتم اعتقالهم واستجوابهم على التلفزيون الأردني".
ثم ما لبث ان تم تعيينه حاكماً عرفياً لمناطق حمص وحماه وحلب، في ايلول 1981 بعد تنامي خطر حركة الاخوان المسلمين، والراجح ان دوره في مأساة حماه كان اساسياً، وينسب إليه الدور الأبرز في قمع تمرد الاخوان المسلمين بقسوة منقطعة النظير.
على هذه المقدمات اصبح رفعت الأسد الرجل الأقوى في سوريا والذي يهابه الجميع. لكن الشقيق الأصغر لم يكن قد خرج عن طوع اخيه. ويروي باتريك سيل ان رفعت الأسد قلق اشد القلق لمرض اخيه في النصف الاول من الثمانينات، وسهر على فراشه ثلاثة ايام بلياليها، لكن الأسد المؤسس شكل لجنة من ستة اعضاء من قيادة البعث لتسيير شؤون الدولة في غيابه، ضمت زهير مشارقة، عبد الحليم خدام، حكمت الشهابي، عبد الرؤوف الكسم، عبدالله الاحمر وومصطفى طلاس، ولم يكن رفعت من بينهم. "ولم يوافق كبار الضباط على هؤلاء الستة، الذين لم يروا فيهم سوى موظفين تنفيذيين موهوبين، وليسوا دعائم للنظام. وبناء على تحريضهم قام الشهابي وخدام بزيارة رفعت، ليخبروه أن رجلاً مثله لايمكن إبعاده في مثل تلك اللحظات عن المجالس الحاكمة في البلد، أما رفعت فقال إنه يمتثل لرغبات الرئيس الذي لم يجعله أحد الستة.
ولكن سرعان ما اقتنع رفعت معهم، ثم عقد اجتماعاً كاملاً للقيادة القطرية لم يغب عنه سوى حافظ الأسد ووزير إعلامه أحمد اسكندر الذي كان على فراش الموت. وقررت القيادة القطرية أن تجعل من نفسها بديلاً عن اللجنة السداسية، وكانت هذه طريقة أنيقة متقنة لجلب رفعت.
ولما علم الأسد وهو في النقاهة سخط سخطاً شديداً لأن أي انحراف عن الطاعة الكاملة الخالية من أي تساؤل كان يثير شكوكه. فاستدعى كبار ضباطه ووبخهم على الابتعاد عن تنفيذ رغباته الصريحة، وبذلك فتحوا الباب لأخطار غير متوقعة: أولم يروا أن دفع رفعت إلى المقدمة كان خطة أميركية ـ سعودية لإزاحته عن الحكم؟
ولما مرض حافظ في نوفمبر (1983)، وتجمع الضباط حول رفعت، فجأة ظهرت في كل مكان في العاصمة دمشق، صورة لرفعت تظهره في أوضاع قيادية آمرة وقد ارتدى زي المظليين".
كان حافظ الأسد منذ ذلك الحين قد أخذ يعد العدة لتسليم ابنه البكر، باسل، الخلافة من بعده، في وقت كانت كل موازين القوى تشير إلى ان رفعت هو الخليفة الأقوى والأكثر حظاً. لكن رفعت من ناحية ثانية لم يكن موافقاً على كل سياسات اخيه، وينقل عنه اعتراضه على الاعتماد الكلي على السوفيات، وعن ضرورة التعامل مع اميركا باللين، فضلاً عن اعتراضه على رعاية الانشقاق على ياسر عرفات بقيادة ابو صالح وابو موسى وابو خالد العملة. وفي هذا ما يتعارض تعارضاً حاسماً وسياسة الرئيس الأسد. لكن الاسد القوي لم يكن مثار خلاف وجدال، ولم يكن رفعت ينوي، في ما يظهر من سيرته، او يريد الانقلاب على اخيه القوي، بل كان يطمح ان يكون خليفته في حال وفاته. على كل حال سرعان ما نظم الرئيس الأسد معركة ضد اخيه رفعت جعلته يقر بالهزيمة ويطلب الخروج من سوريا سالماً. وافق الاسد على الطلب، رغم انه كان مشفوعاً بطلب رفعت مبلغاً كبيراً من المال، لم يكن المصرف المركزي السوري يستطيع تغطيته، ويروى ان الرئيس الأسد طلب تمويل خروج رفعت الاسد من العقيد معمر القذافي الذي وافق على ذلك. هكذا تمت الصفقة بين الشقيقين وطار رفعت في طائرة خاصة إلى روسيا اشترط ان يكون من بين ركابها اللواء محمد الخولي خوفاً من ان تكون مفخخة. ومن هناك إلى باريس فجنيف فأسبانيا حيث ما زال يقيم.
حُلت سرايا الدفاع لكن نفوذ رفعت الاسد لم ينته في سوريا واستمر لاعباً مهماً على مستوى الداخل السوري، إلى ان قاد بشار الاسد عام 1998، في حياة الاسد الأب، هجوماً بالمدرعات على ميناء غير شرعي يخص رفعت الاسد قرب اللاذقية.
قيل الكثير عن علاقة ما لرفعت الاسد بتهريب المخدرات فضلاً عن تجارته بالذهب، ويذكر السوريون ورقة الخمسماية ليرة سورية التي وقعها رفعت صراحة والتي كان يستطيع ان يسحب منها ما يشاء من المصرف السوري المركزي، والتي يقال انه مول بهذه الاوراق النقدية عمليات شراء الذهب من سوريا وتهريبه إلى الخارج. لكن الثابت ان رفعت يملك ثروة لا يستهان بحجمها، وانه فرض على السلطة السورية تمويل حاشيته حتى العام 1998 حين اعفي من منصبه كنائب للرئيس السوري لشؤون الامن.
بعض عناصر هذه السيرة تكشف ان الخلاف بين حافظ الاسد وأخيه رفعت فتح النظام السوري مرة اخرى على اخطار داخلية، وعرضه لاختبارات اساسية تتعلق بترتيب موازين القوى على نحو لا يلائم بالضرورة مصلحة النظام كل مرة. فرفعت الاسد كان من دون شك حارس نظام حافظ الأسد الأمين، وبغيابه عن مهمته فتح الباب امام عواصف محلية كان الاسد الأب يستطيع معالجتها بطريقته الفذة وبنفوذه وسلطته المحكمة. لكن بعض هذه العواصف استمرت فاعلة في ما بعد واصبحت في ما يبدو شوكة في خاصرة الخلف، الرئيس الحالي بشار الاسد، تمنعه احياناً من التحرك بحرية وبحسب قناعاته.
وهي كمان تسجيل متابعة
و مشكور صياد ..........
صياد الطيور
16/11/2005, 00:26
تحياتي لكما
كريم
آغا
وشكراً على المتابعة
صياد الطيور
16/11/2005, 00:31
تختلف التقديرات كثيراً في السبب الذي حدا بالرئيس حافظ الاسد إلى اقصاء اخيه رفعت عن دائرة القرار. الأرجح ان رفعت لم يكن يفكر قبل العام 1983 بموضوع خلافة اخيه في السلطة. ولم يعرف عنه ميلاً إلى الظهور بمظهر رجل الدولة الذي يملك مشروعاً يسعى إلى تنفيذه وتحقيقه. كان رفعت، على ما تشير المصادر المختلفة التي تناولت سيرة آل الأسد، رجلاً يحب الحياة، بخلاف اخيه الذي كان زاهداً في معنى من المعاني. وكان يبدو انه يتمتع بالسلطات الممنوحة له والثروة التي حققها على خير وجه. ولم يكن يظهر انه واحد من الذين يريدون أكثر من ذلك. ربما تسارعت الاحداث إلى حد لم يعد يمكن للأسد الأكبر ايقافها فجرى ما جرى. لكن الأرجح ان صفات رفعت الشخصية التي لم تكن تروق للأسد الكبير، كانت واحداً من الأسباب التي دعت الأسد الكبير إلى التفكير جدياً في شخص آخر غير اخيه رفعت لخلافته. علينا ان نسلم ان مثل هذا القرار الذي اتخذه الاسد الرئيس بإقصاء اخيه لا يمكن ان يكون قراراً قد اتخذ لسبب واحد فقط، من قبيل انه يريد توريث السلطة لأبنائه. على كل حال لم يكن اي من ابنائه في العام 1983 قد بدأ يظهر كشخصية محورية في سوريا. كان باسل الابن البكر في بداية عشريناته يومذاك، ولم يكن ممكناً الحديث عن خلافته لأبيه. اما بشار فلم يكن قد تجاوز العشرين بعد. والحال فإن اللجنة السداسية التي شكلها حافظ الاسد لإدارة شؤون سوريا لم تتضمن اي علوي.
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////ويشير نيقولاس فان دام في كتابه "الصراع على السلطة" ان الجنرالات العلويين الكبار رأوا في هذا التدبير ما يخيفهم . فلو ان مكروهاً ألم بالرئيس وتسلم السلطة فعلياً لجنة من الشخصيات السنية، فإن احداً لن يعصمهم من المساءلة والمحاسبة. وفي بلد بني نظامه السياسي على القسوة والشدة والاستبداد، لا يأمن الضباط الكبار على انفسهم من غائلة تغير وجه السلطة وعنوانها. والثابت ان القيادة العسكرية والامنية التي كانت تتحكم بسوريا يومذاك، كانت في معظمها من الطائفة العلوية. وقد وصل الضباط العلويون إلى هذه المراكز بعد لأي وخاض الأسد الأب صراعات لا تحصى لتثبيت السلطة على النحو الذي رست عليه يوم ادخل إلى المستشفى للمعالجة. ولا شك ان ثمة ثارات لم تكن قد بارحت مخيلة السوريين كانت وراء قرار الضباط الكبار ادخال رفعت الأسد كأحد اركان النظام الأساسيين في دائرة القرار التي استثني منها. لكن الأسد شفي بعد ذلك بفترة قصيرة، وسرعان ما عمد إلى تأنيب الضباط على مخالفة اوامره. والحق انه لو حدث وتفاقم مرض الأسد في تلك الأثناء لكانت السلطة اليوم من دون ادنى شك في يدي رفعت اخيه. لكن ما جرى قد جرى، وعاد الأسد إلى سابق عهده من النشاط، وقرر تصفية الذراع التي يهدده اخوه رفعت بها كل حين .
منذ ذلك الحين اخذ اسم باسل الاسد في التداول في سوريا، وتحول الشاب الذكي والمقدام إلى واحد من الذين تنشد إليهم الانظار في سوريا التسعينات.
تتضارب المعلومات المتعلقة بشخصية باسل الأسد، فمنها ما يشير إلى انه كان محباً للعيش كعمه، ومنها ما يؤكد انه كان مبدأياً وصارماً كمثل ابيه. لكن الثابت في سيرته انه كان رياضياً بارزاً وفارساً محترفاً. وانه ايضاً كان عسكرياً مجلياً ومظلياً بارعاً. وكان اول دوراته في الكلية العسكرية وقيادة الأركان والقفز بالمظلة. لكن هذه المرتبة لا يمكن الاعتداد بصدقيتها كثيراً في ظل نظام البعث، فحدث ان كان رفعت اول دورته ويليه فيها عبدالله طلاس. لكن باسل الأسد بدا بالنسبة للسوريين يومذاك سبباً لولادة الأمل بالتغيير. واحسب ان هذا الامر في حد ذاته كان من الأمور التي فكر فيها الأسد الأب وهو يعد ابنه البكر لتولي السلطة من بعده.
المهم ان باسل الأسد تسلم بعد فترة وجيزة مهمة قيادة الحرس الرئاسي، هذا الحرس الذي سيكون منذ ذلك اليوم هو البديل الحقيقي لسرايا الدفاع. والذي سيصبح القوة الضاربة التي تحمي النظام. لذلك لم يصل إلى قيادته إلا الأقربون والذين يمتون بصلات قرابة لصيقة بآل الأسد.
قضى باسل الأسد في ريعان شبابه في حادث سيارة مروع في كانون الثاني من العام 1994. تاركاً الجمعية المعلوماتية في سورية من دون رئيس، وهي الجمعية نفسها التي ترأٍسها الرئيس الحالي بشار الأسد فيما بعد، وتاركاً حراسة النظام في عهدة خاله وابنائه.
بعد تنصيب اخيه بشار رئيساً تولى اخوه الاصغر ماهر قيادة الحرس الجمهوري.
اليوم يقود ماهر الأسد الحرس الجمهوري، وينسب إليه ان قواته هي التي تحمي النظام اليوم. وماهر الأسد على ما يشاع عنه شجاع إلى حد التهور، وتتقاطع المعلومات عن خلافه مع زوج اخته اللواء آصف شوكت، وينسب إليه انه اطلق النار عليه في بطنه حين تمادى الاخير في مهاجمة رفعت الاسد، ونقل شوكت على أثر تلك الإصابة إلى فرنسا للمعالجة وسط تكتم شديد. وعلى جاري العادة مما يخرج من بطن النظام السوري من معلومات لا يستطيع المرء تبين صدقيتها من عدمه، يشاع اليوم ان ماهر الأسد يصرح للمقربين منه ان السبب فيما وصلت إليه سوريا من عزلة خانقة، هو الانصياع لنصائح الصهر القوي آصف شوكت. وانه آن الأوان ليسدد كل واحد حسابه بالتفصيل. على كل حال، لم يعد سراً ان ماهر الأسد كان معارضاً لزواج اخته من الضابط الطموح، وان اخاه الراحل باسل الأسد كان ايضاً ضد هذا الزواج، وقد عمد إلى سجن شوكت لمنعه من الزواج بأخته. وعقد مصالحة بين افراد العائلة، ليصبح شوكت واحداً من اعضاء الدائرة الصغيرة التي تحيط بالرئيس بشار الأسد والتي تملك قرار سوريا وتتحكم في مقدراتها. ويشاع ان الرئيس الأسد على فراش الموت اوصى ابنه الذي خلفه في رئاسة الجمهورية بالإعتماد على شوكت، والثقة فيه.
لا شك ان الأخوة الأسد ورثوا حملاً ثقيلاً لا يستهان به. ورثوا دوراً لسوريا متضخماً صنعه والدهم. وورثوا نظاماً شديد القسوة ويزخر بمراكز القوة التي لا يمكن تجاهلها. والأرجح انه لم يكن ممكناً تكرار التجربة التي خاضها حافظ الأسد وصلاح جديد، وتكرار تجربة اعفاء الضباط الكبار من مناصبهم ليتسنى للقادة الجدد ان يقودوا من دون صعبوات وإحراجات. والحال كان لا بد من الصراع البطيء بمزيج من الحذر والشدة ليحكم قادة سوريا الشبان قبضتهم على سوريا مثلما كانت الحال مع والدهم.
هكذا وجد ابناء الأسد انفسهم محكومين بالاستعانة بأقرباء آخرين، رغم بعض الخلافات معهم. فتحول آصف شوكت زوج بشرى الاسد اقوى الرجال في النظام السوري، وعلى النحو نفسه، يبدو ان رامي مخلوف ابن خال الرئيس بشار الأسد يمسك بأعنة الاقتصاد السوري بيديه.
عندما ذكر اسم ماهر الأسد كواحد من الذين حذفت اسماءهم في تقرير ديتليف ميليس في جريمة اغتيال رفيق الحريري. بدا كما لو ان بشار الأسد محكوم بتكرار السيناريو نفسه الذي جرى بين والده وعمه رفعت. لكن ذلك لم يكن ممكناً على نحو قاطع. فالنظام الفتي لا يستطيع ان يغامر بكل اوراقه ويبقى عرضة لرياح الأرض الأربع من الداخل والخارج. والأرجح ان الأخوين سيتعاونان ما امكنهما ذلك على تجنيب النظام وسوريا فيما بعد ما يمكن ان يكون مصيراً اسوأ مما نتخيل.
صياد الطيور
18/11/2005, 11:46
بعد وفاة ابن الاسد البكر الرائد باسل الأسد في حادث سيارة عام 1994، استدعي بشار الابن الثاني لحافظ الاسد إلى سوريا ليحل محل اخيه. كان بشار يومذاك يتابع تخصصه في طب العيون في بريطانيا. ولم يكن معروفاً عنه اي نشاط سياسي . ويقول بشار الأسد بعدما اصبح رئيساً للجمهورية العربية السورية، انه لم يكن يفكر اصلاً في اي دور عام: " حتى عام 1994 لم يكن يسمع أحد عن الشاب الذي كان في حدود الثلاثين، وأصبح في هذه الأثناء العقيد الركن بشار الاسد. ولم يعرف هو من قبل سوى الحياة في " قصر الرئاسة " فقد كان طفلاً في السادسة من عمره عندما اعتلى حافظ الأسد السلطة عام 1970؛ على رأس انقلاب عسكري أنهى سلسلة من الصراعات بين أجنحة حزب البعث العربي الاشتراكي، وقضى على البقية الباقية من الرفاق الحزبيين القدماء والقيادات التاريخية للحزب، سجنًا أو نفيًا، وقضى بشار سنوات طفولته في مدرسة "الحرية" الفرنسية في دمشق، ثم درس "طب العيون" في مستشفى تشـرين العسـكري في العاصمة السورية أيضًا، بين عامي 1988 و 1992، ورحل إلى لندن للتخصص.
وكان في منتصف فترة التخصص عندما مات أخوه باسل في حادث سيارة في عام 1994 فعاد إلى دمشق .
وبينما اتخذ إعداد باسل لخلافة أبيه في الرئاسة مجراه بصورة بطيئة اعتيادية نسبيًا، كان لا بد من إعداد بشار كبديل بصورة سريعة، فمنذ الأزمة الصحية الحادة التي أصابت الرئيس السوري عام 1983 لم تنقطع التكهنات عن حقيقة وضعه الصحي، وقد تضاعفت في بداية التسعينات بصورة ملحوظة". يمكن القول ان دخول بشار الأسد عالم السياسة تم في زمن كانت فيه سوريا في اوج مجدها. فيومذاك كانت العلاقة مع الإدارة الاميركية في قمة شهر عسلها، بعد اجتياح العراق الأول، عام 1990 ومشاركة القوات السورية الرمزية في الحرب لتحرير الكويت. الامر الذي عزاه المراقبون يومذاك إلى صفقة اميركية - سورية تم بموجبها اطلاق يد الاسد في لبنان، في مقابل دعم الأسد السياسة الاميركية في العراق ومنطقة الخليج عموماً. ومن ناحية ثانية كان المسار التفاوضي السوري - الإسرائيلي على مشارف تحقيق انجاز ما، بل وبدأت تتسرب في تلك الأثناء معلومات صحافية عن مناقشات اسرائيلية مستفيضة حول كيفية تسليم الجولان إلى سوريا، ومصير المصالح الإسرائيلية هناك. على المستوى الفلسطيني لم يكن الفلسطينيون قد حققوا اي انجاز، وكانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لا تزال في تونس وتعاني حصاراً اميركياً ودولياً لم يكن من السهل فك طوقه.
وفي المشهد العراقي كان الوضع ينذر بسقوط النظام الذي ناصبته سوريا العداء وبادلها العداء بالعداء. في اختصار كان الأسد في قمة مجده. والحق ان الرجل الذي نقل سوريا من حال إلى حال، طبع سوريا بطابعه فعلاً وقولاً. فالحديث عن سوريا الأسد ليس محض خرافة. بل يمكن القول ان سوريا في عهد الأسد، تحولت وخلافاً لمجرى التاريخ، إلى سوريا الأسد حقاً. فهو صانع تاريخها وامجادها وانجازاتها. ورغم ضآلة الموارد والامكانات إلا ان الاسد الأب استطاع ان يصنع لسوريا دوراً محورياً في العالم العربي كان يعز نظيره في زمن التسعينات. فمصر كانت لا تزال في طريق العودة إلى العالم العربي بعد اتفاقية كمب دايفيد، والعربية السعودية كانت مشغولة انشغالاً مقلقاً في الخليج، فيما عينها الثانية مفتوحة غلى آخرها على الهلال السني في آسيا. اما العراق فكان واقعاً تحت الحصار الدولي، وينذر وضعه بعاقبته الوخيمة. كانت سوريا في تلك المرحلة اكثر الدول العربية قوة وحضوراً. واوسعها نشاطاً. على مثل هذا الحضور الوازن، كان في وسع الرئيس الأسد ان ينفذ سياساته في الجوار من دون حسيب او رقيب. والحق ان الإدارة الأميركية لم تجز للأسد الأب القبض على لبنان، لكنها ايضاً لم تعترض اعتراضاً صريحاً وفاعلاً. وعلى هذا التغاضي بنى الاسد سياسته القاسية في المنطقة وفي الداخل، فلم يتورع عن الضرب بقسوة في الداخل والخارج إذا وجد ذلك مناسباً لتعزيز نفوذه.
في ذلك الوقت تسلم الاسد الشاب، ولم يكن تجاوز الثلاثين بعد، المف اللبناني. ومعنى الملف اللبناني في العهدة السورية ليس اقل من الرئة التي يتنفس منها النظام اقتصادياً وسياسياً وامنياً وعسكرياً. كان هذا الملف في عهدة رئيس الأركان حكمت الشهابي في الثمانينات، ومن ثم انتقل إلى نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، ليستقر اخيراً بين يدي بشار الأسد. واوعز الأسد الأب إلى معاوني بشار في هذا الملف تزويده بكل ما يلزم ليتسنى له ان يدير هذا الملف على النحو الانسب. والحال يمكن القول ان كل ما جرى منذ ذلك الحين في لبنان يمت بعلاقة مباشرة لبشار الأسد، من التمديد للرئيس الياس الهراوي، إلى تفاهم نيسان في العام 1996، وصولاً إلى تعيين اميل لحود رئيساً، والتمديد له فيما بعد.
لكن المجد السوري بقيادة الأسد كان محفوفاً بأخطار يمكن معاينتها بالعين المجردة. اليوم يكثر الحديث عن خطورة مجاورة الجيش الاميركي لسوريا على حدودها مع العراق. لكن سنوات مجد الأسد الذهبية لم تكن بعيدة عن هذا الخطر. فالجيش الاميركي الذي حرر الكويت رابط في الخليج العربي. لم يكن بعيداً كثيراً. على مرمى دولة او يكاد، ليصل إلى الحدود السورية. والحق ان وجود الجيش الاميركي في المنطقة مع ما يعنيه ذلك من رعاية مصالح مباشرة للولايات المتحدة الاميركية، لم يكن في اي حال من الاحوال يمكن ان يديم لسوريا سيطرتها ودورها المتورم. هكذا دخل الأسد الابن عالم السياسة في لحظة تحف بها المخاطر من كل جانب. لكنه لم يصل إلى الرئاسة من دون رصيد. فالرئيس الفرنسي استبشر به كثيرأً وقابله من غير ان يحوز الرئيس العتيد اي صفة رسمية، وعلى النحو نفسه قيض للأسد الابن ان يلتقي بزعماء من دول العالم والعالم العربي من غير ان يكون ذا صفة رسمية. وحين اخذت علامات المرض والوهن تضرب الاسد الأب وتظهر على وجهه وجسمه، استبشر العالم كله بتغيير في سوريا. تغيير يقوده الاسد الشاب، في ما دعي انذاك جيل القادة الشبان في العالم العربي، ودفع محمد حسنين هيكل إلى التعليق الطريف الذي يقول فيه: ان التغيير لا يحصل في العالم العربي إلا بالموت. وينقل عن الملك عبدالله بن الحسين انه استبشر بالتغيير في سوريا خصوصاً ان القائد الجديد تلقى تعليمه في بريطانيا، مثل القادة الجدد في المشرق والمغرب، وانه منفتح على كل التطورات وعاين جهاراً طريقة عمل الديموقراطيات الغربية.
على كل حال لم يكن دور الاسد الابن من دون نجاحات على الإطلاق. ففي عهده عرفت دمشق بعض الانفتاح. وفي عهده ايضاً دخلت سوريا عصر المعلومات ولو من اضيق الابواب. ولا شك ان الاسد تجلى في القمم العربية التي حضرها وحاضر فيها في الأفكار والسياسة، ولم تكن احاديثه الصحافية تقل نجاحاً. لكن ما يجدر ملاحظته في هذا المجال، ان الرئيس الأسد الفصيح والمثقف كان انما يرد الخطاب السياسي السوري إلى زمن غابر. على الأقل إلى ما قبل عهد أبيه. فلم يكن المطلوب من الرئيس السوري في النصف الأول من العقد الحالي ان يحاضر بل ان يعلن مواقف. على الأقل هذا ما كان ينتظر من رئيس دولة محورية. لكن الاسد الابن بدا كما لو انه لا يستطيع، نظراً للحصار الذي يعانيه في الداخل والخارج، ان يعيد لسوريا ذلك الألق الذي كان لها في عهد والده.
والحق انه ما ان اضطر إلى اخذ خطوات جريئة، وتتسم بالقسوة التي عرف بها والده، حتى بدأ وضعه ينهار دولياً وعربياً. فليس من غريب المصادفات ان يتخذ الرئيس الأسد قراراً بالتمديد للرئيس لحود رغم المعارضة اللبنانية الواسعة تماشياً مع ارث ابيه. لكنه ما ان اتخذ القرار القاسي والجريء حتى جر عليه حصاراً لم يعد يحسن الفكاك منه.
صياد الطيور
18/11/2005, 11:51
توخياً للعدالة والانصاف، لا يمكن محاكمة سلوك الرئيس بشار الأسد بوصفه ينم عن قلة حنكة في تدبير الأمور. مثلما عرف عن والده. والحق ان الاسد الابن ورث من والده امبراطورية نخرة، لا ينفع معها عنف الصولجان وسطوته. توفي الأسد الأب في حزيران من العام 2000، بعد ايام قليلة على تحرير الجنوب اللبناني. وربما يكون من المفيد ان يستعيد المرء وقائع تلك الايام التي سبقت تحرر الجنوب اللبناني وجلاء الجيش الاسرائيلي عنه. ففي تلك الأيام بدت السياسة السورية مربكة حيال قدرتها على تثمير هذا الانتصار. انه نصر معنوي من دون شك، لكنه ايضاً كان يعني من دون اي لبس قطع الاصبع السورية التي تعبث بأمن اسرائيل. استمر الارتباك اياماً واعلن الوزير فاروق الشرع بعدها من مدريد ان الانسحاب هو انتصار، فانفكت عقدة الالسن في لبنان التي ارتبكت امام فخ الانسحاب الاسرائيلي كما كانت تدعوه الصحافة الموالية لسوريا في لبنان. قبل هذا الفخ كان ايضاً ثمة فخ دعي جزين اولاً، وكان يقضي بانسحاب اسرائيلي من منطقة جزين على ان يحل الجيش اللبناني محل قوات الاحتلال المنسحبة. لكن الرفض السوري كان قاطعاً. ولم يكن ثمة ما يجعل الاتفاق ممكناً على هذا المستوى. على كل حال خرجت اسرائيل من لبنان مرغمة، لكن المدقق في وقائع ما جرى في ما بعد، لبنانياً وسورياً، لا بد وان يسأل سؤالاً معبراً: هل انتصرت سوريا والعرب من خلفها على اسرائيل في تلك الحرب؟ وما الذي يجعل هذا الانجاز اللبناني الكبير صعباً على تثميره لبنانياً اليوم؟
الأرجح ان اسرائيل خرجت من لبنان، لأنها في معنى من المعاني رأت في خروجها وترسيم الحدود بينها وبين لبنان بإشراف الامم المتحدة، نزعاً للذريعة التي تطال سوريا فيها اسرائيل، وتعض على اصابعها. ومنذ ذلك الانسحاب، لم يستطع حزب الله اللبناني ان يعيد فتح او تنظيم اشتباك حقيقي بين قواته والقوات الاسرائيلية. استمر الوضع متوتراً على الحدود اللبنانية – الاسرائيلية، لكن ما اختلف بين الحدود المتوترة والمقاومة الفاعلة، ان اسرائيل لم تعد مهددة يويماً بالقصف والعمليات التي كانت تجعل الملف اللبناني ساخناً على اصابعها، وغير قاردة على الامساك به كما لو انه خارج للتو من الماء الغالية. ومنذ ذلك الحين تغير منطق الرد الإسرائيلي على حزب الله اللبناني، وتحول الرد على نحو مباشر إلى الداخل السوري، الامر الذي جعل سوريا مكتوفة الأيدي.
تسلم بشار الاسد سدة الرئاسة في سوريا، ولم يكن يملك بعد غير ظفر صغير في مزارع شبعا، المختلف على ملكيتها بين لبنان وسوريا اليوم، يستطيع من خلاله ان يلعب خارج حدوده. كانت تركيا قد اقفلت كل المنافذ، اما العراق فكان من الشؤون الاميركية الحصرية، قبل اجتياحه، التي لا تقبل شركاء. والفلسطينيون كانوا يومها يخوضون اكثر انتفاضاتهم كلفة ضد الاحتلال الاسرائيلي. مما افقد سوريا الذرائع كلها التي بررت ادوارها الخارجية. فلم يعد احد يستطيع اتهام ياسر عرفات بالتخاذل والخيانة، وهو المسجون في غرفة ويشاغب على العالم كله منها في رام الله. ولم تكن مزارع شبعا حجة كافية قانونياً وسياسياً لجعلها قفازاً تدخل المخالب السورية في طياته. ولم يطل الزمن بالولايات المتحدة الاميركية حتى نظمت هجومها العسكري على العراق. وبدا ان السلوك السوري حيال العراق والذي حكم سياسة الأسد الابن الخارجية طوال السنوات الثلاث الأخيرة اقل من ان يحقق دوراً سياسياًَ.
يمكن القول اليوم ان المجتمع الدولي، واميركا على رأسه، ظبطت سوريا متلبسة بالتخريب عليها في العراق. وسواء صح ذلك ام لم يصح، إلا ان ما يجدر بنا قوله ان سوريا تدفع ثمن هذه التهمة من كيسها كل يوم. لكنها ايضاً متهمة بالتخريب من دون اي دور سياسي او مصلحة. فلا يجادل احد ان للزرقاوي اجندته الخاصة في المقاومة، ولا يختلف اثنان على ان البعث العراقي ليس تابعاً للبعث السوري او ملحقاً به. والحق ان معظم دول الجوار العراقي لها ادوار، كبرت ام صغرت في العراق، من ايران والعلاقة مع الشيعة، إلى تركيا ووضع والمسألة الكردية، فالسعودية والتخوف من التدخل الإيراني والمد الشيعي، صولاً إلى الأردن واحياء مشروع الخلافة الهاشمية. وحدها سوريا لا تملك مشروعاً سياسياً في العراق، لكنها تدفع ثمن اتصالها بالإرهاب من غير ان تقبض في السياسة.
على المستوى الفلسطيني لا يحتاج الأمر إلى اثباتات كثيرة لنكتشف ضآلة الدور السوري في الساحة الفلسطينية، على المستوى السياسي, فياسر عرفات كان قد انتزع في زمن حصاره في المقاطعة امراً بالغ الاهمية يتعلق باستحالة ان ينوب عن الفلسطينيين ومن يمثلهم نائب من اي نوع في تقرير مصيرهم. كان الرجل محاصراً، ولم تفلح جهود الإدارة الاميركية الحثيثة في نزع هذه الصفة عنه، او جعل اي كان يستطيع النطق باسم الفلسطينيين، كبر شأنه في العالم العربي ام ضغر.
اما في لبنان فاستمر الوجود السوري ماثلاً وقوياً ومن دون منازع. لكنه ومنذ الانسحاب الإسرائيلي بدا فاقداً لمبرراته الشرعية. اولاً لجهة استحالة الحديث عن لبنان المتعاون مع اسرائيل والقاصر في ما يتعلق بموضوع الدفاع عن ارضه في وجه العدوان الإسرائيلي والمشكوك بعروبته. وثانياً لجهة فقدان سوريا سياقين مهمين يبرران بقاء جيشها في لبنان. السياق السياسي الذي حكمها في لبنان بعد اتفاق الطائف، وجعل الحديث عن وجودها مرتبطاً بجلاء قوات الاحتلال الإسرائيلي. والسياق التعبوي الذي يجعل سوريا حاضرة في الصراع العربي الإسرائيلي. فمنذ الانسحاب الإسرائيلي لم تكف اقلام لبنانية عن تذكير سوريا بالجولان المحتل، وسؤالها عن السبب الذي لا تنظم فيه مقاومة كالتي اصلاها حزب الله والقوى الوطنية اللبنانية من قبله للاحتلال الاسرائيلي.
والحال لم يعد ثمة مسوغ او تبيرير شرعي يمكن للرئاسة السورية ان تسوقه في وجه الحملات التي تطالبها بإخراج جيشها من لبنان.
ورث بشار الأسد والحال هذه من والده، ما يشبه مزارع شبعا على طول خطوط الحدود السورية مع جيرانها. مزارع شبعا بمعنى انها قد تكون معها وقد تكون عليها. فالمقاومة العراقية، ليست مع سوريا بالتأكيد، وقد تكون عليها، حتى لو حققت انتصاراً بعيد المنال. ومزارع شبعا في لبنان، قد تصبح على سوريا ما ان يطالب لبنان باستعادة ملكيتها للعمل على تحريرها، وترسيم الحدود مع الاردن وضع خطاً فاصلاً وحاسماً للتدخل السوري في الشؤون الاردنية الداخلية. اما الملف التركي – الكردي فاصبح في عهدة تركيا برمته، ولم يبق لسوريا فيه إلا بعض المشكلات الداخلية التي يكثر الحديث عنها في هذه الآونة، والتي ظهرت إلى السطح في العام الماضي اثر انتفاضة الاكراد الشهيرة. على هذا ورث الأسد الابن امبراطورية خربة، من الداخل والخارج. كان الاسد الراحل قد استعان على الداخل الخرب بالخارج المضيء. لكن الاسد الابن دخل عالم السياسة في الوقت الذي بلغ انهيار الدور الخارجي لسوريا ذروته المقلقة.
حكم الاسد الابن من ارشيف والده طوال السنوات الخمس السابقة. كان يحكم بلداً تنهار مقومات دوره الذي ارساه الراحل، ولم يكن ثمة طريقة انسب من حكمه من الأرشيف.
صياد الطيور
18/11/2005, 11:52
افتتح القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن، والذي يحمل الرقم 1636، عهد الوصاية الدولية على سوريا. لم يعد الأمر مقتصراً على علاقات متوترة بين سوريا وجيرانها، بين سوريا ولبنان تحديداً، حيث تاريخ هذه العلاقات بين البلدين كان على الدوام متوتراً. انقلابات سوريا مثلما يعلم القاصي والداني رتبت في ليل بيروت، وبعض حروب لبنان رتبت في فروع الاستخبارات السورية. اليوم ثمة وصاية دولية تريد لسوريا الانضباط تحت سقفها. ولا ينفع لصدها وتغيير وقائعها الخطابات التعبوية التي تصدر بين الحين والآخر، او نقل التوتر إلى خارج الحدود. سوريا اليوم هي سوريا المعروفة بحدودها الجغرافية. لم تعد تستطيع التمدد خارج اطارها الطبيعي وتلعب خارج حدودها.
في وضع كهذا، يبدو النظام السوري الذي تعيّش طوال عقود على تضخم ادواره الخارجية، مهدداً في صميمه. لقد ارسى الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد معادلة لا يمكن التفلت من احكامها اليوم. ففي مقابل الدور الخارجي المتضخم كان لا بد من تطويع الداخل بالقسوة والقمع، وبقسر المجتمع السوري كله على مهمة وحيدة، تتصل اتصالاً وثيقاً بتغذية الدور الخارجي. ولم تكن سوريا حافظ الاسد تستطيع العيش من دون توتر على ستوى العلاقة العربية – الاسرائيلية. السلام بالنسبة لنظام تغذى على استطالة امد الازمة وصعوبات حلها، هو مجازفة كبرى. وسواء كان السلام مفروضاً على ما تطمح الإدارة الاميركية إلى تحقيقه اليوم عملاً بمقتضى موازين القوى، او سلاماً عادلاً على ما يطالب العرب والفلسطينيون، فإن السلام بالنسبة لسوريا هو مجازفة كبرى. لأنه يفتح الأبواب جميعها على وضع داخلي مترد، ويكاد يقترب من الانفجار. اليوم ثمة من يقول ان لا بديل عن بقاء النظام السوري إلا الفوضى. والارجح ان هذا ما يتغذى منه النظام اليوم. لكن هذا النظام لا يستطيع الفكاك من تطلب الرعاية الدولية التي تجعله قادراً على الصمود في وجه اعاصير الداخل السوري إذا ما انفتحت ملفاته.
على مذبح الصراع العربي – الاسرائيلي حجز الاجتماع السوري في قمقم لا يصله الضوء. واختتم القرن الماضي سورياً على هباء الانجازات. دفعت سوريا على هذا المذبح اثماناً غالية. لكنها اليوم وهي تستعد للحصاد، لا تجد بداً من اخذ موازين القوى التي اسفرت عنها هذه الحقبة في اعتبارها. لا احد يحسب ان الصراع العربي – الاسرائيلي قد اختتم على نتيجة نهائية. لكن قوانين الصراع اختلفت اختلافاً جذرياً ولم يعد ثمة امكان لاستمرارها على النحو الذي جرى طوال النصف الثاني من القرن العشرين.
يمكن القول ان النظام السوري اصبح نظاماً من الماضي وان شروط بقائه فاعلاً تعود بالدرجة الاولى إلى الخوف من بدائله. ويبدو ان النظام اليوم لا يحسن فهم هذه االمسألة بحرفها. فيذهب الرئيس بشار الاسد إلى تدبيج خطاب تعبوي، يشبه اعلان الحرب. لكنه من ناحية ثانية لا يبدو قادراً على اعلان الحرب او حتى تنظيم اشتباكات فرعية في اي مكان في العالم. ومن ناحية ثانية، فإن بقاء النظام اليوم مرهون بحسن اصغائه إلى الداخل السوري ومشكلاته بعد طول قسر وقمع. ذلك ان الدور الذي يجب ان يتحول إليه النظام اليوم، ليتسنى له التعايش مع الحقبة الجديدة، لا يمكن إلا ان يكون داخلياً. في هذا المعنى تبدو شوكته كليلة المخالب، او لنقل ان النظام السوري اليوم الذي يدعو اللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين إلى المقاومة يملك بعض المخالب، لكنه لم يعد يملك اسناناً تعينه على هضم ما تطاوله مخالبه. ما يعني ان النظام فقد الدور السياسي مرة واحدة وإلى اجل غير مسمى. وان سوريا الدولة الكبرى اقليمياً، تقع الآن تحت وصاية ورقابة دولية فاعلة وحاسمة.
ورث الرئيس الأسد تاريخاً سورياً يمكن دعوته بأنه تاريخ سوريا الأسد. كان الراحل قد طبع سوريا بطابعه، وحين يكتب تاريخ هذا البلد في الربع الاخير من القرن العشرين، لا بد ان يلاحظ المؤرخون انه ليس اكثر من تاريخ انجازات الرئيس. لكن تاريخ انجازات الرئيس كان يسير بعكس المجرى العام للتأريخ. فمنذ زمن بعيد لم يعد التأريخ للملوك وانجازاتهم ممكناً. وحل محل تأريخ الملوك تواريخ الشعوب والدول. ويبدو ان الرئيس بشار الأسد يقع اليوم في مأزق تاريخ والده. فهو مدعو لأن يعيد كتابة تاريخ سوريا، ويهمل تاريخ رؤسائها. مدعو هذه المرة إلى استنهاض داخل مهمل ومهان طوال عقود طويلة، والعمل من اجل ترتيب الوضع الداخلي لسوريا، وترتيب سبل المقاومة الفاعلة والمجدية من اجل مجد سوريا وعزتها.
من دون شك ان الاعمدة التي يستند عليها النظام السوري والتي مكنت الأسد الأب من ممارسة دوره الفاعل في المنطقة، اصبحت تهدد بسقوط الهيكل على النظام والشعب السوري. وان الرئيس الشاب الذي ورث نظاماً متكاملاً وناجزاً ويحسن لعب اوراقه إلى هذا الحد او ذاك، وجد نفسه خارج طاولة اللعب. فلم يعد ثمة ما يفيد في الاوراق التي ملكها وما زال يملكها، في صناعة دور لم يعد له سياق. لاعب مطرود من حلقة اللاعبين ويملك بعض الاوراق المفيدة له فيما لو كان لاعباً. بهذا المعنى لا بد من التضحية بالأوراق لتستمر اللعبة.
يطالب المجتمع الدولي سوريا اليوم بتسليم بعض كبار ضباطها على خلفية التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس الحريري. هذا يفترض ان التحقيق مع الضباط وادانتهم لن يمر من دون مضاعفات على الداخل السوري. اقلها ان يتم الإقرار سورياً بأن الدور الأمني الذي كان يمكن للأجهزة السورية المتعددة لعبه، ليتسنى للإدارة السورية تثميره سياسياً، لم يعد صالحاً تحت الرقابة الدولية. وحيث ان هذا الدور كان معظم ما تملكه سوريا من اسلحة في عهد الرئيس الراحل، فإن الرئيس الشاب مدعو اليوم إلى اكتشاف اسلحة جديدة يستعين بها على المقبل من الايام.
لقد بدأ عهد بشار الأسد رئيساً للتو، ويمكنه ان ينجح في ان يكون رئيساً مميزاً كما كان والده. لكن ما يبدو محسوماً ان اسلحة الوالد لم تعد تنفع في حمايته، وانه ملزم بالبحث عن اسلحة جديدة
ناطرين 8) ........
بس انا مدري ليش:humm: بحس مقولة من خلف ما مات فيها وجهة نظر:humm:
صياد الطيور
20/11/2005, 13:25
والله يا مجود الواقع قدامك ... والحقيقة لا تحتاج إلى برهان
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة