yass
30/09/2004, 00:03
بقلم: جان كورد *
قد لا يصدّق المرء التقارير التي تتحدّث عن مدى وشدّة الرقابة التي تمارسها أجهزة النظام البعثي الحاكم في سورية على الشعب السوري في كل المستويات، ويظّن أنها من رواية الكاتب الإنجليزي الشهير فريدريك فورسيث "المانيفست الأسود"، الذي ينقل لنا فيه صورة مرعبة عن الملاحقات السياسية والأمنية في روسيا أثناء مرحلة الانتقال من الشيوعية إلى الحرّية .. ورغم ذلك، فإن جهاز الاستخبارات الخارجية الأمريكية يزرع جواسيسه في ذلك النسيج الأمني المحكم، ويحصل على ما يشاء من معلومات ويتصرّف وكأنه في بلاده أمريكا .. ويظهر لنا الكاتب البارع أسباب الانحطاط الكبير الذي عليه النظام الروسي آنذاك، ألا وهو نظام قائم على الرشوة، واستشرى فيه الفساد الإداري، وأصبحت موارد الدولة مثلما يقول السوريون: "حارة كل مين إيدو إلو ..".
وقد لا يصدّق الذين يعيشون خارج القفص الحديدي السوري بأن المخابرات السورية، كما كانت المخابرات الروسية، تحاول أن يكون لها عميل في كل بيت من بيوت السوريين، بحيث يتجسس الولد على أبيه والشقيقة على شقيقتها، وأن هذه الأجهزة التي عددها يتجاوز 17 جهازاً تتبّع أخبار كل فرد من أفراد المجتمع، حتى الرعاة في جبل "هاوار" في المنطقة الكردية، فقد يستغلون ابتعادهم عن القرى لتعلّم اللغة الكردية المحظورة في البلاد.
السجين في سجنه، الجندي في خيمته على الحدود، المهاجر في غربته، المعلّم في مدرسته، الطبيب في عيادته، المحامي في مكتبه، وكل موّظف في أي دائرة كان، عليه رقيب حسيب، وعلى الرقيب رقيب، وهكذا من أسفل الهرم البعثي الدكتاتوري حتى قمته، كل فرد يخاف الآخر ويظّن به الظنون، ولا يسلم من الرقابة بريد أو طرد مرسل، ولا مسافر ولا عابر سبيل .. فسورية محكومة بالمخابرات، وهي حقاً دولة مخابرات .. ومع ذلك تم اختراق الستار الحديدي الكبير ..
ليس هناك مجلّة تدخل البلاد دون أن تخضع لرقابة صارمة، عسى أن يكون فيها مقال أو خبر يعتبره النظام معادياً له، فتمزّق الصفحة التي فيها شيء لا يحب النظام سماعه أو قراءته، وليست هناك عربة تعبر حدود البلاد، دخولاً أو خروجاً، دون تمحيص وتخبيص، حتى حقائب النساء تتعرّض للتفتيش، بحثاً عما يكون رسالة أو كتاباً أو رقم تلفون مشبوه لمعارض .. صفحات الإنترنت وكل البريد الالكتروني إنه مشبوه ومعارض يجب منعه أو حصره أو تشويهه .. وكم من فيروس ترسله أجهزة المخابرات السورية إلى صناديق البريد الالكتروني للمعارضين الساكنين بعيداً عن البلاد لتخريب أجهزة الكومبيوتر التي يستخدمونها .. وكأن الروائي الشهير جورج أورويل استمّد أفكاره في روايته الشهيرة (1984) مما سمعه أو قرأه عن سورية ..
ثم جاءت هذه الضربة القاسية، عملية اغتيال زعيم فلسطيني التجأ إلى سورية، بعد تهديدات متتالية وصريحة من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس الموساد الإسرائيلي ووزير (الحرب) الإسرائيلي؛ بأنهم سيضربون ضربتهم في دمشق على مرأى ومسمع من النظام الحاكم فيها .. فكيف حدث هذا؟ كيف لم تشعر بذلك كل هذه الأجهزة التي تعلم ماذا يقول ثلاثة قرويين أكراد لبعضهم بعضاً وهم يحصدون القمح في أقصى شرق البلاد أو يقطفون الزيتون في أقصى شماله وغربه؟
أين الخلل؟ طبعاً إنه خلل في النظام نفسه، وهنا لا يستطيع "البعث" الحاكم اتهام الشعب السوري بقلة الحذر والحيطة وعدم الاهتمام بأمن الدولة .. فالمتهم هنا هو النظام نفسه، وعليه أن يدفع ثمن أخطائه وإهماله وفساده الأمني ..
إنها قصة روسيا، قصة الفساد المستشري والرشوة، وعبور الجواسيس حدود البلاد برزم الدولارات وبالخواطر، في وقت يقف فيه المواطنون وكأنهم في يوم الحساب عندما يحاولون استصدار "إخراج قيد نفوس" من دوائر الأحوال المدنية .. إنها قصة ذبول القيم التي نادى بها "البعث"، إلى درجة أن الشعب سئم سماعها، حيث الأقوال غير الأفعال، والممارسات خاطئة في كل الأحوال ..
وحقيقة، فإن على النظام التفكير مليّاً في كل ما يقوم به من رقابات أمنية وحزبية وعسكرية على الشعب السوري، فقد أصبحت هذه الأجهزة كلها بمثابة دمل سرطانية في جسد الشعب السوري، في حين أنها عاجزة عن تحقيق الأمن الحقيقي للبلاد، وتعرّض النظام إلى سخرية لدى كل الأجهزة الأمنية الأخرى في العالم ..
إن المدخل لبناء سورية قويّة وقادرة على الدفاع عن نفسها وعلى تحقيق أمنها الداخلي هو العمل على إنهاء ترويع وإرهاب الشعب، وهو العمل على إنهاء الفساد الإداري الذي يتمكّن بسببه الآخرون من النفاذ إلى الداخل السوري بسهولة، وعن طريق الرشاوي وبوسة العيون وبمجرد تلفون من فلان أبو فلان ..
ولكن هذا لا يمكن إنجازه دون محاسبة النظام القائم على الفساد، والذي هو أصل الفساد وسببه الرئيسي .. فلا قوّة اقتصادية تطمئن الموّظف المرتشي إلى أن أولاده لن يجوعوا غداً ما دامت العملة السورية في هذا الوضع السيئ، وما دام الاقتصاد السوري ينزف دماً، وما دام الذين يحكمون البلاد يتصرّفون بأموال الدولة كيفما يشاؤون، بحيث تبقى ميزانية الدولة مضطربة وخزائنها خاوية، في حين تمتلئ جيوب النخبة المصطفاة بالمال المسروق والمنهوب .. أفلم يحن أوان رحيل "البعث" بعد كل هذه النكبات؟
__________
* كاتب كردي سوري - ألمانيا
قد لا يصدّق المرء التقارير التي تتحدّث عن مدى وشدّة الرقابة التي تمارسها أجهزة النظام البعثي الحاكم في سورية على الشعب السوري في كل المستويات، ويظّن أنها من رواية الكاتب الإنجليزي الشهير فريدريك فورسيث "المانيفست الأسود"، الذي ينقل لنا فيه صورة مرعبة عن الملاحقات السياسية والأمنية في روسيا أثناء مرحلة الانتقال من الشيوعية إلى الحرّية .. ورغم ذلك، فإن جهاز الاستخبارات الخارجية الأمريكية يزرع جواسيسه في ذلك النسيج الأمني المحكم، ويحصل على ما يشاء من معلومات ويتصرّف وكأنه في بلاده أمريكا .. ويظهر لنا الكاتب البارع أسباب الانحطاط الكبير الذي عليه النظام الروسي آنذاك، ألا وهو نظام قائم على الرشوة، واستشرى فيه الفساد الإداري، وأصبحت موارد الدولة مثلما يقول السوريون: "حارة كل مين إيدو إلو ..".
وقد لا يصدّق الذين يعيشون خارج القفص الحديدي السوري بأن المخابرات السورية، كما كانت المخابرات الروسية، تحاول أن يكون لها عميل في كل بيت من بيوت السوريين، بحيث يتجسس الولد على أبيه والشقيقة على شقيقتها، وأن هذه الأجهزة التي عددها يتجاوز 17 جهازاً تتبّع أخبار كل فرد من أفراد المجتمع، حتى الرعاة في جبل "هاوار" في المنطقة الكردية، فقد يستغلون ابتعادهم عن القرى لتعلّم اللغة الكردية المحظورة في البلاد.
السجين في سجنه، الجندي في خيمته على الحدود، المهاجر في غربته، المعلّم في مدرسته، الطبيب في عيادته، المحامي في مكتبه، وكل موّظف في أي دائرة كان، عليه رقيب حسيب، وعلى الرقيب رقيب، وهكذا من أسفل الهرم البعثي الدكتاتوري حتى قمته، كل فرد يخاف الآخر ويظّن به الظنون، ولا يسلم من الرقابة بريد أو طرد مرسل، ولا مسافر ولا عابر سبيل .. فسورية محكومة بالمخابرات، وهي حقاً دولة مخابرات .. ومع ذلك تم اختراق الستار الحديدي الكبير ..
ليس هناك مجلّة تدخل البلاد دون أن تخضع لرقابة صارمة، عسى أن يكون فيها مقال أو خبر يعتبره النظام معادياً له، فتمزّق الصفحة التي فيها شيء لا يحب النظام سماعه أو قراءته، وليست هناك عربة تعبر حدود البلاد، دخولاً أو خروجاً، دون تمحيص وتخبيص، حتى حقائب النساء تتعرّض للتفتيش، بحثاً عما يكون رسالة أو كتاباً أو رقم تلفون مشبوه لمعارض .. صفحات الإنترنت وكل البريد الالكتروني إنه مشبوه ومعارض يجب منعه أو حصره أو تشويهه .. وكم من فيروس ترسله أجهزة المخابرات السورية إلى صناديق البريد الالكتروني للمعارضين الساكنين بعيداً عن البلاد لتخريب أجهزة الكومبيوتر التي يستخدمونها .. وكأن الروائي الشهير جورج أورويل استمّد أفكاره في روايته الشهيرة (1984) مما سمعه أو قرأه عن سورية ..
ثم جاءت هذه الضربة القاسية، عملية اغتيال زعيم فلسطيني التجأ إلى سورية، بعد تهديدات متتالية وصريحة من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس الموساد الإسرائيلي ووزير (الحرب) الإسرائيلي؛ بأنهم سيضربون ضربتهم في دمشق على مرأى ومسمع من النظام الحاكم فيها .. فكيف حدث هذا؟ كيف لم تشعر بذلك كل هذه الأجهزة التي تعلم ماذا يقول ثلاثة قرويين أكراد لبعضهم بعضاً وهم يحصدون القمح في أقصى شرق البلاد أو يقطفون الزيتون في أقصى شماله وغربه؟
أين الخلل؟ طبعاً إنه خلل في النظام نفسه، وهنا لا يستطيع "البعث" الحاكم اتهام الشعب السوري بقلة الحذر والحيطة وعدم الاهتمام بأمن الدولة .. فالمتهم هنا هو النظام نفسه، وعليه أن يدفع ثمن أخطائه وإهماله وفساده الأمني ..
إنها قصة روسيا، قصة الفساد المستشري والرشوة، وعبور الجواسيس حدود البلاد برزم الدولارات وبالخواطر، في وقت يقف فيه المواطنون وكأنهم في يوم الحساب عندما يحاولون استصدار "إخراج قيد نفوس" من دوائر الأحوال المدنية .. إنها قصة ذبول القيم التي نادى بها "البعث"، إلى درجة أن الشعب سئم سماعها، حيث الأقوال غير الأفعال، والممارسات خاطئة في كل الأحوال ..
وحقيقة، فإن على النظام التفكير مليّاً في كل ما يقوم به من رقابات أمنية وحزبية وعسكرية على الشعب السوري، فقد أصبحت هذه الأجهزة كلها بمثابة دمل سرطانية في جسد الشعب السوري، في حين أنها عاجزة عن تحقيق الأمن الحقيقي للبلاد، وتعرّض النظام إلى سخرية لدى كل الأجهزة الأمنية الأخرى في العالم ..
إن المدخل لبناء سورية قويّة وقادرة على الدفاع عن نفسها وعلى تحقيق أمنها الداخلي هو العمل على إنهاء ترويع وإرهاب الشعب، وهو العمل على إنهاء الفساد الإداري الذي يتمكّن بسببه الآخرون من النفاذ إلى الداخل السوري بسهولة، وعن طريق الرشاوي وبوسة العيون وبمجرد تلفون من فلان أبو فلان ..
ولكن هذا لا يمكن إنجازه دون محاسبة النظام القائم على الفساد، والذي هو أصل الفساد وسببه الرئيسي .. فلا قوّة اقتصادية تطمئن الموّظف المرتشي إلى أن أولاده لن يجوعوا غداً ما دامت العملة السورية في هذا الوضع السيئ، وما دام الاقتصاد السوري ينزف دماً، وما دام الذين يحكمون البلاد يتصرّفون بأموال الدولة كيفما يشاؤون، بحيث تبقى ميزانية الدولة مضطربة وخزائنها خاوية، في حين تمتلئ جيوب النخبة المصطفاة بالمال المسروق والمنهوب .. أفلم يحن أوان رحيل "البعث" بعد كل هذه النكبات؟
__________
* كاتب كردي سوري - ألمانيا