sona78
21/11/2009, 17:13
إيلي شلهوب
يبدو أن الوقت قد حان لوقفة ضمير تفرضها تطورات الأسابيع الماضية، لمراجعة بعض الأحكام القيمية التي أُلبست على مدى أعوام لحميد قرضاي ونوري المالكي ومحمود عباس. بل قل «القرضايات الثلاثة»، نسبة إلى الرئيس النموذج الذي حكم أفغانستان منذ إطاحة حكم طالبان في 2001. آنذاك، ترسّخ اعتقاد صائب بأن الغزاة الأميركيين قد أتوا بابن زعيم عشيرة باشتونية أمضى معظم حياته في أميركا ونصّبوه رئيساً على بلده الأم. دمية هبطت بالمظلة الأميركية لتأدية مهمة محددة: جعل الاحتلال سلساً ومقبولاً، وإطاعة أوامر العم سام من دون اعتراض، ولا حتى نقاش.
سيناريو سرعان ما تكرر، مع بعض الفوارق، في الأراضي المحتلة، في أعقاب وفاة ياسر عرفات. وقتها، جيء بمحمود عباس، أمين سر منظمة التحرير، من عزلته الطوعية التي دفعه إليها أبو عمّار يوم أحلّ مكانه أحمد قريع في رئاسة الوزراء، ذاك المنصب الذي أجبر على استحداثه في 2003 وتسليمه بداية إلى مهندس اتفاقات أوسلو. كانت مهمة الرئيس الجديد واضحة: المضيّ قدماً في مسيرة التسوية إلى نهايتها «السلمية».
أمر مشابه حدث في العراق، في 2006. يومها استبدل إبراهيم الجعفري، الذي تولّى منصبه لأشهر عقب أول انتخابات تشريعية في العام السابق، بمدير مكتبه نوري المالكي، في إطار تسوية معقّدة تداخلت فيها عوامل عديدة، وإن كانت كلها حصلت تحت إشراف زلماي خليل زاد وريكاردو سانشيز. وكان للمالكي أيضاً مهمته، التي لا تختلف كثيراً عن مهمة قرضاي: استكمال مسيرة العملية السياسية بطريقة تضمن تكريس عراق أميركي الهوى يمثّل نموذجاً للمنطقة.
ثلاثة تعيينات تمّت في عهد بوش، في إطار الرؤية التي بلورها (بالأحرى تبنّاها) لقيام شرق أوسط جديد على أنقاض برجي مركز التجارة العالمي. لكن بعض الرياح هبّت من حيث لا تشتهي السفن.
الهبّة الأولى جاءت من أفغانستان، حيث تبيّن أن «الصديق» قرضاي (صديق بوش طبعاً الذي كان على اتصال دائم به) يعمد إلى تطبيق جدول أعمال خاص به يضمن استمراريته على رأس الدولة، من دون الالتفات إلى ما يطلبه أسياده في واشنطن. عاد إلى جذوره الباشتونية، حيث سعى إلى إعادة وصل حبل السرّة عبر تخصيص شخصيات من هذه الإثنية الكبرى بالعدد الأكبر من مناصب الدولة. باشر في بناء دوائر نفوذ خاصة به. امتهن لعبة الفساد والمحسوبيات وغضّ الطرف عن زراعة المخدرات والاتجار بها، رغم معرفته بأنها أحد مصادر التمويل الرئيسة للمجموعات المسلحة في البلاد. عزز علاقته مع زعماء الحرب، وكان آخرهم محمد قاسم فهيم (الذي اختاره نائباً له في الانتخابات الأخيرة) وعبد الرشيد دوستم (الذي تتهمه واشنطن بارتكاب مجازر بحق سجناء الحرب)، وذلك رغم رفض إدارة أوباما. تلك الإدارة التي لم تخف سراً أنها كانت «تريد أن ترى مرشحاً آخر» للرئاسة غير قرضاي (مع علمها بمحدودية البدائل)، يكون قادراً على تطهير أجهزة الحكم وبناء نموذج جذّاب بديلاً من ذاك الذي تقدمه حركة «طالبان». كل ذلك مع العلم بأن قرضاي يدرك مدى أهمية أفغانستان، بصفتها «الجبهة المركزية للحرب على الإرهاب»، للإدارة الأميركية. أما الهبّة الثانية فقد جاءت من العراق، حيث سرعان ما تبيّن أن الرفيق نوري المالكي (رفيق نفسه طبعاً والإيرانيين) يسعى خلف جدول أعمال خاص يكرّسه زعيماً أوحد للبلاد، شبيهاً بالراحل صدام حسين (لكن بنسخة شيعية هذه المرة). عزّز سيطرته على الأجهزة الأمنية، وربط معظمها مباشرة بمكتبه (خاصة الاستخبارات)، وسعى لاحتكار السلطة في حكومة لا يمتلك فيها أي وزير. أسهم بنصيبه (من حيث المسؤولية السياسية) في الاقتتال المذهبي لعامي 2006 و2007، وسعى إلى حصد نتائجها بنَسْب توقّفها إلى الخطة الأمنية التي وضعها. خطة فاخر بها إلى حدّ أنه دفع به إلى المطالبة بشراسة بانسحاب قوات الاحتلال من العراق، في خطوة بدا واضحاً أنه يستهدف من خلالها زيادة شعبيته، وتوّجت باتفاقية أمنية لم يجر الاستفتاء عليها بعد. حارب الصحوات مذ قرر الاحتلال إنشاءها، قبل أن يتحالف مع من والاه منها. انتفض في وجه واشنطن يوم انفتحت على دمشق وبدأت تفاوض البعثيين مباشرة (أو عبر سوريا التي نالت نصيبها من انتقامه). خرج من زيّه المذهبي يوم بدا له أنه رهان خاسر، واعتمد خطاباً وطنياً (بل قل قومياً عراقياً) عند أول اختبار انتخابي محلي كان في مقدّمة الفائزين به.
وحده أبو مازن (رضي العم سام عنه!) كان مثالاً للتلميذ المجتهد المخلص الأمين المرضي عنه دائماً وأبداً (خلافاً لأقرانه). طبّق خريطة الطريق بحذافيرها، حيث عرقلها أبو عمّار. تعاون مع كيث دايتون إلى أقصى حدّ لإعادة تأليف الأجهزة الأمنية بما يسمح بالوقوف في وجه المقاومة والتجسّس على أبنائها واعتقالهم وتصفيتهم، إلى أن تحولت الضفة إلى مصيدة لكوادرها. تآمر مع محمد دحلان على حركة «حماس» في غزة إلى أن أجبرها على الحسم خشية تكرار سيناريو الضفة في القطاع. عارض انتخابات 2006 خشية فوز الحركة الإسلامية فيها، ثم قبل بها إذعاناً لواشنطن. سار مع أنابوليس «كرامة بوش». حكايته مع أوباما والاستيطان تتحدث عن نفسها...
عذراً حميد قرضاي ونوري المالكي، وهنيئاً لك أبو مازن.
من جريدة الاخبار
يبدو أن الوقت قد حان لوقفة ضمير تفرضها تطورات الأسابيع الماضية، لمراجعة بعض الأحكام القيمية التي أُلبست على مدى أعوام لحميد قرضاي ونوري المالكي ومحمود عباس. بل قل «القرضايات الثلاثة»، نسبة إلى الرئيس النموذج الذي حكم أفغانستان منذ إطاحة حكم طالبان في 2001. آنذاك، ترسّخ اعتقاد صائب بأن الغزاة الأميركيين قد أتوا بابن زعيم عشيرة باشتونية أمضى معظم حياته في أميركا ونصّبوه رئيساً على بلده الأم. دمية هبطت بالمظلة الأميركية لتأدية مهمة محددة: جعل الاحتلال سلساً ومقبولاً، وإطاعة أوامر العم سام من دون اعتراض، ولا حتى نقاش.
سيناريو سرعان ما تكرر، مع بعض الفوارق، في الأراضي المحتلة، في أعقاب وفاة ياسر عرفات. وقتها، جيء بمحمود عباس، أمين سر منظمة التحرير، من عزلته الطوعية التي دفعه إليها أبو عمّار يوم أحلّ مكانه أحمد قريع في رئاسة الوزراء، ذاك المنصب الذي أجبر على استحداثه في 2003 وتسليمه بداية إلى مهندس اتفاقات أوسلو. كانت مهمة الرئيس الجديد واضحة: المضيّ قدماً في مسيرة التسوية إلى نهايتها «السلمية».
أمر مشابه حدث في العراق، في 2006. يومها استبدل إبراهيم الجعفري، الذي تولّى منصبه لأشهر عقب أول انتخابات تشريعية في العام السابق، بمدير مكتبه نوري المالكي، في إطار تسوية معقّدة تداخلت فيها عوامل عديدة، وإن كانت كلها حصلت تحت إشراف زلماي خليل زاد وريكاردو سانشيز. وكان للمالكي أيضاً مهمته، التي لا تختلف كثيراً عن مهمة قرضاي: استكمال مسيرة العملية السياسية بطريقة تضمن تكريس عراق أميركي الهوى يمثّل نموذجاً للمنطقة.
ثلاثة تعيينات تمّت في عهد بوش، في إطار الرؤية التي بلورها (بالأحرى تبنّاها) لقيام شرق أوسط جديد على أنقاض برجي مركز التجارة العالمي. لكن بعض الرياح هبّت من حيث لا تشتهي السفن.
الهبّة الأولى جاءت من أفغانستان، حيث تبيّن أن «الصديق» قرضاي (صديق بوش طبعاً الذي كان على اتصال دائم به) يعمد إلى تطبيق جدول أعمال خاص به يضمن استمراريته على رأس الدولة، من دون الالتفات إلى ما يطلبه أسياده في واشنطن. عاد إلى جذوره الباشتونية، حيث سعى إلى إعادة وصل حبل السرّة عبر تخصيص شخصيات من هذه الإثنية الكبرى بالعدد الأكبر من مناصب الدولة. باشر في بناء دوائر نفوذ خاصة به. امتهن لعبة الفساد والمحسوبيات وغضّ الطرف عن زراعة المخدرات والاتجار بها، رغم معرفته بأنها أحد مصادر التمويل الرئيسة للمجموعات المسلحة في البلاد. عزز علاقته مع زعماء الحرب، وكان آخرهم محمد قاسم فهيم (الذي اختاره نائباً له في الانتخابات الأخيرة) وعبد الرشيد دوستم (الذي تتهمه واشنطن بارتكاب مجازر بحق سجناء الحرب)، وذلك رغم رفض إدارة أوباما. تلك الإدارة التي لم تخف سراً أنها كانت «تريد أن ترى مرشحاً آخر» للرئاسة غير قرضاي (مع علمها بمحدودية البدائل)، يكون قادراً على تطهير أجهزة الحكم وبناء نموذج جذّاب بديلاً من ذاك الذي تقدمه حركة «طالبان». كل ذلك مع العلم بأن قرضاي يدرك مدى أهمية أفغانستان، بصفتها «الجبهة المركزية للحرب على الإرهاب»، للإدارة الأميركية. أما الهبّة الثانية فقد جاءت من العراق، حيث سرعان ما تبيّن أن الرفيق نوري المالكي (رفيق نفسه طبعاً والإيرانيين) يسعى خلف جدول أعمال خاص يكرّسه زعيماً أوحد للبلاد، شبيهاً بالراحل صدام حسين (لكن بنسخة شيعية هذه المرة). عزّز سيطرته على الأجهزة الأمنية، وربط معظمها مباشرة بمكتبه (خاصة الاستخبارات)، وسعى لاحتكار السلطة في حكومة لا يمتلك فيها أي وزير. أسهم بنصيبه (من حيث المسؤولية السياسية) في الاقتتال المذهبي لعامي 2006 و2007، وسعى إلى حصد نتائجها بنَسْب توقّفها إلى الخطة الأمنية التي وضعها. خطة فاخر بها إلى حدّ أنه دفع به إلى المطالبة بشراسة بانسحاب قوات الاحتلال من العراق، في خطوة بدا واضحاً أنه يستهدف من خلالها زيادة شعبيته، وتوّجت باتفاقية أمنية لم يجر الاستفتاء عليها بعد. حارب الصحوات مذ قرر الاحتلال إنشاءها، قبل أن يتحالف مع من والاه منها. انتفض في وجه واشنطن يوم انفتحت على دمشق وبدأت تفاوض البعثيين مباشرة (أو عبر سوريا التي نالت نصيبها من انتقامه). خرج من زيّه المذهبي يوم بدا له أنه رهان خاسر، واعتمد خطاباً وطنياً (بل قل قومياً عراقياً) عند أول اختبار انتخابي محلي كان في مقدّمة الفائزين به.
وحده أبو مازن (رضي العم سام عنه!) كان مثالاً للتلميذ المجتهد المخلص الأمين المرضي عنه دائماً وأبداً (خلافاً لأقرانه). طبّق خريطة الطريق بحذافيرها، حيث عرقلها أبو عمّار. تعاون مع كيث دايتون إلى أقصى حدّ لإعادة تأليف الأجهزة الأمنية بما يسمح بالوقوف في وجه المقاومة والتجسّس على أبنائها واعتقالهم وتصفيتهم، إلى أن تحولت الضفة إلى مصيدة لكوادرها. تآمر مع محمد دحلان على حركة «حماس» في غزة إلى أن أجبرها على الحسم خشية تكرار سيناريو الضفة في القطاع. عارض انتخابات 2006 خشية فوز الحركة الإسلامية فيها، ثم قبل بها إذعاناً لواشنطن. سار مع أنابوليس «كرامة بوش». حكايته مع أوباما والاستيطان تتحدث عن نفسها...
عذراً حميد قرضاي ونوري المالكي، وهنيئاً لك أبو مازن.
من جريدة الاخبار