sheldi
08/11/2009, 15:33
الحكومات الأخرى كلها كانت ردة فعلها وقائية إزاء هذه الأزمة. لكن الصين استغلتها للمضى قدما بحزم. فقبل عام، أنقذت حكومات الدول الكبرى الاقتصاد العالمى. هل ما زلتم تذكرون شهر أكتوبر عام 2008؟ كانت شركة «ليمان براذرز» قد تداعت، وشركة «أيه آى جى» على شفير الانهيار، وكل البنوك تشهد تدهورا ماليا. وفى كل أنحاء العالم، توقفت عمليات الإقراض والاتفاقات التجارية الجديدة تماما. ثم تم اتخاذ سلسلة من الخطوات انطلاقا من واشنطن بمثابة عمليات إنقاذ للبنوك، وخطط إنقاذ مالية، وخطط تحفيزية، والأهم من ذلك وضع حد من القيود المالية على عمليات الإقراض. ليس من المبالغ به القول إن هذه الخطوات حالت دون حصول كساد اقتصادى عالمى. لكن الأزمة أدت بالرغم عن ذلك إلى تباطؤ اقتصادى كبير أثر سلبا فى كل بلدان العالم.
المفاجأة الكبيرة عام 2009 كانت مرونة الأسواق النامية الكبرى مثل الهند والصين وإندونيسيا التى بقيت اقتصاداتها ناشطة. لكن أحد هذه البلدان لم ينج من الأزمة فحسب بل ازدهر: ألا وهو الصين. فالاقتصاد الصينى سينمو بنسبة 8.5 بالمائة هذا العام، وقد عاد معدل الصادرات ليرتفع إلى ما كان عليه فى أوائل عام 2008، واحتياطى العملات الأجنبية بلغ مستوى قياسيا وصل إلى 2.3 تريليون دولار، كما أن الخطة التحفيزية التى وضعتها بكين أطلقت المرحلة المهمة التالية من عمليات إنشاء البنى التحتية فى البلد. ويعزا الفضل فى معظم ذلك إلى السياسات الحكومية الفعالة بشكل مدهش. تشارلز كاى، المدير التنفيذى لشركة الاستثمارات الخاصة الدولية «واربرج بينكوس»، عاش فى هونج كونج طوال سنوات.
وبعد رحلته الأخيرة إلى الصين قبل بضعة أشهر، قال لى: «كل الحكومات الأخرى كانت ردة فعلها وقائية إزاء هذه الأزمة، وكانت تهدف إلى حماية مواطن ضعفها. لكن الصين استطاعت استغلالها بكفاءة للمضى قدما بحزم». لذلك فإن من المنصف القول إن بكين هى الرابحة فى هذه الأزمة الاقتصادية العالمية.
فالحقيقة أن معظم البلدان فى العالم الغربى لم تكن مستعدة لمواجهة الأزمة. كانت الحكومات تنفق بإفراط وتعانى عجزا كبيرا، لذا عندما اضطرت إلى إنفاق أموال طائلة لإرساء الاستقرار الاقتصادى، بلغت معدلات العجز حدا قياسيا. قبل ثلاثة أعوام من الآن، كان يشترط على البلدان الأوروبية أن يكون عجز ميزانيتها أقل من 3 بالمائة من ناتجها المحلى الإجمالى للتأهل لعضوية الاتحاد الأوروبى. لكن فى العام المقبل، سيصل العجز فى الكثير منها إلى نحو 8 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى.
وستكون نسبة العجز الأمريكى أكبر مما كانت عليه فى أى مرحلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أما الصين فقد بدأت بمواجهة الأزمة من موقع مختلف تماما. حيث كان لديها فائض مرتفع فى الميزانية، وكانت ترفع معدلات الفائدة للحد من حالة النمو المفرط. وكانت بنوكها تحاول كبح جماح الإنفاق الاستهلاكى والإقراض المفرط. لذلك عندما بدأت الأزمة، كان بإمكان الحكومة الصينية اعتماد السياسات التقليدية لتحفيز معدلات النمو.
هذا بالإضافة إلى كون استطاعتها تخفيض معدلات الفائدة وزيادة الإنفاق الحكومى وتسهيل عمليات الإقراض وتشجيع المستهلكين على الإنفاق. كل هذا بعدما مارست الانضباط المالى خلال سنوات الازدهار، أصبح بإمكان بكين التساهل فى السنوات العصيبة.
ولننظر إلى طبيعة الخطة التحفيزية الصينية. فمعظم الإنفاق الحكومى الأمريكى يهدف إلى تحفيز الاستهلاك وتشجيع الناس على صرف مزيد من الأموال، وذلك تم فى شكل إعانات وزيادة فى الأجور ومنافع طبية إلخ. أما التحفيزات الصينية فهى تهدف بمعظمها إلى الاستثمار فى النمو المستقبلى ــ أى البنى التحتية والتقنيات الجديدة. بعدما أنشأت بنى تحتية تواكب القرن الـ21 فى مدنها الرئيسية فى العقد الماضى، سوف تبدأ بكين الآن فى بناء منشآت مماثلة فى مدنها الثانوية.
ستنفق الصين 200 مليار دولار على السكك الحديدية فى العامين المقبلين، ومعظمها مخصصة للقطارات السريعة والفائقة السرعة أيضا. فخط بكين شنغهاى سيخفض مدة السفر بين هاتين المدينتين من 10 ساعات إلى 4 ساعات. فى المقابل، فإن الولايات المتحدة خصصت أقل من 20 مليار دولار موزعة على عشرات المشاريع، مما يحتم فشلها. الأمر لا يقتصر على السكك الحديدية بالطبع. فالصين ستشق 44.000 ميل من الطرقات الجديدة وستنشئ 100 مطار جديد فى العقد المقبل. ومن ثم هناك مجال الشحن، الذى أصبحت الصين الرائدة العالمية فيه. فشنجهاى وهونج كونج اثنتان من أكبر ثلاثة موانئ فى العالم.
الصين مدركة أيضا لمدى اعتمادها على النفط المستورد، وهى لذلك تتصرف بطرق تنم عن بعد نظر مثير للإعجاب. فهى تنفق الآن على تقنيات الطاقة الشمسية والهوائية والبطاريات أكثر مما تنفقه الولايات المتحدة. وتظهر الأبحاث التى يجريها البنك الاستثمارى لازارد فريرز أن أربعا من الشركات الـ10 الأولى (من حيث القيمة الرأسمالية فى البورصة) فى هذه القطاعات الثلاثة، هى صينية. (فى حين أن ثلاثا منها فقط أمريكية). وهى تستثمر أيضا بكثافة فى التعليم العالى.
يقول زاكارى كارابيل، مؤلف كتاب مهم جديد بعنوان Superfusion (انصهار فائق) يتناول الاقتصادين الصينى والأمريكى: «خلال العقد الماضى، فيما كان الاقتصاد الصينى ينمو بشكل مطرد وبمعدلات غير مسبوقة، بقى معظم المحللين الغربيين يتناقشون بشأن متى سينهار. الآن مع مضى الصين قدما بالرغم من الأزمة، يتناقشون بشأن متى سيتباطأ الاقتصاد الصينى. وكأنهم يرون الوقائع، لكنهم لا يزالون لا يفهمونها». فهذا المزيج الصينى الغريب من التدخل الحكومى والأسواق والديكتاتورية والفعالية محير للغاية للكثير من المحللين حول العالم. لكن حان الوقت لكى نكف عن الأمل بأن تفشل الصين ونبدأ بفهم نجاحها والتكيف معه.
فريد زكريا
المفاجأة الكبيرة عام 2009 كانت مرونة الأسواق النامية الكبرى مثل الهند والصين وإندونيسيا التى بقيت اقتصاداتها ناشطة. لكن أحد هذه البلدان لم ينج من الأزمة فحسب بل ازدهر: ألا وهو الصين. فالاقتصاد الصينى سينمو بنسبة 8.5 بالمائة هذا العام، وقد عاد معدل الصادرات ليرتفع إلى ما كان عليه فى أوائل عام 2008، واحتياطى العملات الأجنبية بلغ مستوى قياسيا وصل إلى 2.3 تريليون دولار، كما أن الخطة التحفيزية التى وضعتها بكين أطلقت المرحلة المهمة التالية من عمليات إنشاء البنى التحتية فى البلد. ويعزا الفضل فى معظم ذلك إلى السياسات الحكومية الفعالة بشكل مدهش. تشارلز كاى، المدير التنفيذى لشركة الاستثمارات الخاصة الدولية «واربرج بينكوس»، عاش فى هونج كونج طوال سنوات.
وبعد رحلته الأخيرة إلى الصين قبل بضعة أشهر، قال لى: «كل الحكومات الأخرى كانت ردة فعلها وقائية إزاء هذه الأزمة، وكانت تهدف إلى حماية مواطن ضعفها. لكن الصين استطاعت استغلالها بكفاءة للمضى قدما بحزم». لذلك فإن من المنصف القول إن بكين هى الرابحة فى هذه الأزمة الاقتصادية العالمية.
فالحقيقة أن معظم البلدان فى العالم الغربى لم تكن مستعدة لمواجهة الأزمة. كانت الحكومات تنفق بإفراط وتعانى عجزا كبيرا، لذا عندما اضطرت إلى إنفاق أموال طائلة لإرساء الاستقرار الاقتصادى، بلغت معدلات العجز حدا قياسيا. قبل ثلاثة أعوام من الآن، كان يشترط على البلدان الأوروبية أن يكون عجز ميزانيتها أقل من 3 بالمائة من ناتجها المحلى الإجمالى للتأهل لعضوية الاتحاد الأوروبى. لكن فى العام المقبل، سيصل العجز فى الكثير منها إلى نحو 8 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى.
وستكون نسبة العجز الأمريكى أكبر مما كانت عليه فى أى مرحلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أما الصين فقد بدأت بمواجهة الأزمة من موقع مختلف تماما. حيث كان لديها فائض مرتفع فى الميزانية، وكانت ترفع معدلات الفائدة للحد من حالة النمو المفرط. وكانت بنوكها تحاول كبح جماح الإنفاق الاستهلاكى والإقراض المفرط. لذلك عندما بدأت الأزمة، كان بإمكان الحكومة الصينية اعتماد السياسات التقليدية لتحفيز معدلات النمو.
هذا بالإضافة إلى كون استطاعتها تخفيض معدلات الفائدة وزيادة الإنفاق الحكومى وتسهيل عمليات الإقراض وتشجيع المستهلكين على الإنفاق. كل هذا بعدما مارست الانضباط المالى خلال سنوات الازدهار، أصبح بإمكان بكين التساهل فى السنوات العصيبة.
ولننظر إلى طبيعة الخطة التحفيزية الصينية. فمعظم الإنفاق الحكومى الأمريكى يهدف إلى تحفيز الاستهلاك وتشجيع الناس على صرف مزيد من الأموال، وذلك تم فى شكل إعانات وزيادة فى الأجور ومنافع طبية إلخ. أما التحفيزات الصينية فهى تهدف بمعظمها إلى الاستثمار فى النمو المستقبلى ــ أى البنى التحتية والتقنيات الجديدة. بعدما أنشأت بنى تحتية تواكب القرن الـ21 فى مدنها الرئيسية فى العقد الماضى، سوف تبدأ بكين الآن فى بناء منشآت مماثلة فى مدنها الثانوية.
ستنفق الصين 200 مليار دولار على السكك الحديدية فى العامين المقبلين، ومعظمها مخصصة للقطارات السريعة والفائقة السرعة أيضا. فخط بكين شنغهاى سيخفض مدة السفر بين هاتين المدينتين من 10 ساعات إلى 4 ساعات. فى المقابل، فإن الولايات المتحدة خصصت أقل من 20 مليار دولار موزعة على عشرات المشاريع، مما يحتم فشلها. الأمر لا يقتصر على السكك الحديدية بالطبع. فالصين ستشق 44.000 ميل من الطرقات الجديدة وستنشئ 100 مطار جديد فى العقد المقبل. ومن ثم هناك مجال الشحن، الذى أصبحت الصين الرائدة العالمية فيه. فشنجهاى وهونج كونج اثنتان من أكبر ثلاثة موانئ فى العالم.
الصين مدركة أيضا لمدى اعتمادها على النفط المستورد، وهى لذلك تتصرف بطرق تنم عن بعد نظر مثير للإعجاب. فهى تنفق الآن على تقنيات الطاقة الشمسية والهوائية والبطاريات أكثر مما تنفقه الولايات المتحدة. وتظهر الأبحاث التى يجريها البنك الاستثمارى لازارد فريرز أن أربعا من الشركات الـ10 الأولى (من حيث القيمة الرأسمالية فى البورصة) فى هذه القطاعات الثلاثة، هى صينية. (فى حين أن ثلاثا منها فقط أمريكية). وهى تستثمر أيضا بكثافة فى التعليم العالى.
يقول زاكارى كارابيل، مؤلف كتاب مهم جديد بعنوان Superfusion (انصهار فائق) يتناول الاقتصادين الصينى والأمريكى: «خلال العقد الماضى، فيما كان الاقتصاد الصينى ينمو بشكل مطرد وبمعدلات غير مسبوقة، بقى معظم المحللين الغربيين يتناقشون بشأن متى سينهار. الآن مع مضى الصين قدما بالرغم من الأزمة، يتناقشون بشأن متى سيتباطأ الاقتصاد الصينى. وكأنهم يرون الوقائع، لكنهم لا يزالون لا يفهمونها». فهذا المزيج الصينى الغريب من التدخل الحكومى والأسواق والديكتاتورية والفعالية محير للغاية للكثير من المحللين حول العالم. لكن حان الوقت لكى نكف عن الأمل بأن تفشل الصين ونبدأ بفهم نجاحها والتكيف معه.
فريد زكريا