Nasserm
19/10/2009, 16:50
فؤاد بطرس: رئيس الجمهورية الأسبق
يحتلّ فؤاد بطرس موقعاً مميّزاً في السياسة اللبنانيّة، وهو يوصف عادة بـ«رجل الدولة». اتهمه ميشال أبو جودة بحب التسلّط. وأُعجب به فؤاد شهاب وهو في سن مبكرة. لكن إعجاب فؤاد بطرس بنفسه يفوق بأشواط إعجاب فؤاد شهاب به. مذكّراته الصادرة حديثاً تستحق القراءة والنقد: وقد أصبحت لتوّها مرجعاً مهماً عن التاريخ اللبناني المُعاصر. ولم تنل حقّها من النقد والمراجعة بعد، ربّما لأن إعلام السلالات مشغول بالتملّق لآل سعود وآل نهيان وآل مكتوم وآل الحريري
أسعد أبو خليل
كثرت كتابة المذكرات السياسيّة في لبنان منذ الستينيات. وبعضها يصلح للقراءة (مثل كتاب عزت صافي الأخير الذي لم ينل حقّه) وبعضها الآخر يفيد في احتواء لفائف الطعام. مذكرات فؤاد بطرس قيّمة: فهي تحتوي على كنز من المعلومات والتفاصيل، كما أنها مكتوبة بأسلوب مباشر وشيّق. يتمتع بطرس ولا شك بذكاء حاد، وإن أطنب في مديح ذاته والاعتداد بذكائه، الذي لا يوازي في حسابه إلا ذكاء الرجل الأوروبي الأبيض، مع أنه يستشهد بقول سفير إيطالي في لبنان أنه كان أقدر من وزير الخارجيّة الإيطالي نفسه. ولا يلقي بطرس خطاباً إلا يلقى «الاستحسان» حسب وصفه هو، وإذا تعرّض لهجوم، فالهجوم يأتي فقط من «أبواق سوريا» (ص. 345) وفؤاد بطرس ذكي، وخصوصاً إذا قارنته بغيره في الطبقة السياسيّة: من أمثال شفيق الوزان (الألعوبة بيد عهديْن، وقد اعترف لي بعد اعتزاله الحكم بأن أمين الجميل كان يتخذ القرارات من دون أن يستشيره، لا في الكبيرة ولا في الصغيرة) وعثمان الدنا ومجيد أرسلان وجو حمّود أو سعد الحريري وفريد حبيب من طبقة العهد الحالي.
وتأتي أهميّة المذكّرات من أن بطرس كان رئيساً فعليّاً للبنان في عهد الرئيس الضعيف والعاجز، الياس سركيس. ولا يحاول بطرس أن يخفي حقيقة دوره في ذلك العهد مع أنه يعترض على اتهامه بـ«التسلّط» (ص. 438 ) لكن الحكم في عهد سركيس لم يكن سلطانيّاً لأن سوريا وإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينيّة والميليشيات اللبنانيّة كانت تتحكّم في لبنان آنذاك. ويُظهر السرد الدرجة التي كان فيها الياس سركيس غير مؤهل للحكم.
وسركيس لم يكن في وارد أن يأخذ قراراً ما لم يشر عليه بطرس، ربما لشعوره باليتم بعد غياب شهاب. ويُلام سركيس على عهده: أمدّ بعمر الأزمة وفشل في المبادرة لتقصير عمر الحرب. مثله مثل أمين الجميّل، ركن إلى وعود أميركيّة، ثم وقع في هيام رجل إسرائيل في لبنان، وتبنّى تنصيبه رئيساً بقوة الاجتياح.
تتسم مذكرات بطرس بصفة «الأحقيّة الذاتيّة»: لا يفوّت فرصة أو سرداً إلا يبرز وجهة نظره ويدافع عنها ويبخس أو يحقّر كل من يخالفه. والطريف أن صاحب المواقف الطائفيّة لا يجد حرجاً في وصف خصومه، مثل سليم الحصّ الذي لم يكن مطواعاً كشفيق الوزان، بالطائفيّة. (يحتاج سليم الحص للردّ على الكثير مما جاء في الكتاب). أما الذكاء، فهي صفة بطرس الخاصّة، يمتاز بها عن غيره من الساسة في لبنان، وإن شاركه في الصفة الرجل الأوروبي والأميركي. وهو يناقض نفسه في أكثر من موقع: فهو، مثلاً، يستفيض في وصف المعارضة السوريّة الشرسة في عهد سركيس لأي تمثيل لأحزاب الحركة الوطنيّة في الحكومات المُتعاقبة، لكنه لا يتورّع عن وصف الأحزاب تلك عندما تنتقد مواقفه بـ«أبواق سوريا في لبنان». (ص. 345) كيف تكون أبواق سوريا وأنت أفضت في وصف معارضة النظام في سوريا لها، يا بطرس؟ والحقيقة تخالف زعم بطرس أنه حرص على احترام القانون (ص. 81) بعد الانقلاب القومي، حين خضع لبنان لحكم عسكري من دون إعلان رسمي.
لكن بطرس يتطرّف في تسويغ مواقفه وفي تبييض صحائفه: هل هناك من يقتنع عن جدّ بأن بطرس ذهب إلى دمشق عام 1985 لحضور حفل توقيع الاتفاق الثلاثي من أجل تسجيل معارضته للاتفاق؟ (ص. 576 577) أما كانت معارضته أجدى لو لازم منزله؟ هذا يُعتبر مطّاً لمفهوم الصدق. وينبري بطرس لإدراج برقيّات الثناء التي كانت تأتيه من سفراء أميركا ووزراء خارجيّتها (يتحدّث عن تقدير «عميق» من أميركا له (ص. 284)). يظنّ أن ذلك يعود لذكائه الحادّ لا لتماهيه في تطرّفه مع السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط، هذه السياسة التي لا تحتاج إلى شرح في معاداتها للمصالح العربيّة. بلغ التماهي بين الحكومة الأميركيّة وبطرس درجة دفعتها لكي تطلب منه أن يصوّت لبنان ضد قرار في الأمم المتحدة يدين ضم إسرائيل للجولان المحتلّ (ص. 507). واستغرب بطرس الطلب مع أن السبب يبطل العجب: إن التزام بطرس السياسة الأميركيّة دفعتهم للظنّ بأنه لن يرفض طلباً منهم مهما كان جائراً. ويمكن أن نزيد أن السفراء الأميركيّين في لبنان آنذاك، روبرت ديلن وجون غونتر دين وريشارد باركر (وقد تحدثت مع الأخير في سني تقاعده، كما أن الأول كتب مذكّرات قاسية جداً ضد إسرائيل وحليفها الصغير، بشير الجميّل) كانوا أكثر انتقاداً لإسرائيل من وزير خارجيّة لبنان المبجّل.
لكن المذكّرات تعبّر عن عقل سياسي طائفي لا يرى في إسرائيل عدوّاً، ويحمل ضغينة ضد الشعب الفلسطيني (أيّد بطرس ضرب المخيّمات الفلسطينيّة بالطائرات عام 1973 واعتبر ذلك ضروريّاً من أجل «إعادة الهدوء والانضباط إلى المخيّمات») (ص. 163). والطائفيّة تنضح وتقطرُ في كل صفحات الكتاب: إذ إن بطرس ينظر بدونيّة إلى المسلمين (وكان هذا سائداً في أوساط الطبقة الحاكمة في لبنان قبل الطائف حتى لا نتحدّث عمّا بعد الطائف، وخصوصاً أن آل الحريري زرعوا العقيدة الكتائبيّة في صف أوساط السنّة في لبنان). ولا يرى بطرس في المسلمين في لبنان شركاء في الوطن، أو حتى في الإنسانيّة. فهم دائماً أقل ذكاءً منه ومن أترابه من المسيحيّين، وهم دائماً مرتهنون للخارج العربي، لا يتخذون قرارهم من منطلق المصلحة اللبنانيّة. ولا نظلم بطرس إذا قلنا إنه يرى في موقف سعد حدّاد وأفعاله (وقد عارض مع سركيس بشدّة أمرَ محاسبته ومعاقبته) دفاعاً عن سيادة لبنان، بتعريف بطرس طبعاً. وقد دافع بطرس بعناد عن الضباط المسيحيّين الذين حاربوا مع «الجبهة اللبنانيّة» (ومع إسرائيل ضمناً) ورفض مساواتهم بالضباط الذين ساندوا «الحركة الوطنيّة»، كما روى سليم الحص في مذكّراته عن عهد سركيس.
أين نبدأ؟ من الطائفيّة. إن إشارات بطرس للإسلام والعرب مُحقّرة وتحمل في طيّاتها العداء الغربي المسيحي التقليدي للعرب والمسلمين. نبدأ بتأييد بطرس لإضراب المحامين عام 1961: والقصّة بسيطة. فقد اعترض المحامون في لبنان (وجلّهم من المسيحيّين كما نرى في التوضيح) على تدريس الحقوق في الجامعة العربيّة (ص. 79) لأنهم خافوا كسر احتكار المحامين المسيحيّين للمهنة (كما عارض حزب الكتائب معادلة شهادة التوجيهيّة خوفاً من ترقّي غير المسيحيّين في الوطن). والسبب يعود إلى طبيعة النظام الجائر (المتضمّن عقيدة تمييز طائفي مماثل للعقيدة التي حفزت إنشاء الدولة اليهوديّة أو دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا). لم يرد الفريق السائد أن يؤدّي التعليم إلى رقيّ الفريق المَسود، أو إلى رفع مستواه الاجتماعي.
ويرفض بطرس أن يعترف بالمساواة الجينيّة أو العقليّة أو الوطنيّة بين المسلمين والمسيحيّين في لبنان إذ يقول: «الإسلام اللبناني على وجه الإجمال برهن، مرّة جديدة، أنه لا ينظر إلى البعيد وليست له رؤية سياسيّة مستقلّة» (ص. 426). وينتقص، في مواقع متفرّقة من الكتاب، من وطنيّة المسلمين فيقول: «بعض المسلمين يتعاطفون مع القضايا العربيّة أكثر مما يهتمّون بسلامة لبنان واستقراره» (ص. 524). أما «الفريق المسيحي» الذي تحالف مع إسرائيل فيقول عنه إنه «يضع سلامة لبنان في رأس سلّم أولويّاته» (ص. 149). والمسلمون لا يتمتّعون في وصف بطرس بالقدرة على التفكير المستقلّ: فكل المواقف التي يعزوها إلى المسلمين تعود إلى سهولة انقيادهم وبساطة أذهانهم، ويصفهم بـ«أسرى» لغيرهم من العرب (ص. 300).
وبطرس لا يقبل أن يكون هناك في لبنان من يؤيّد بكامل إرادته وقواه العقليّة القضيّة الفلسطينيّة طوعاً، لا قسراً. لم يقابل، على ما يبدو، مسيحيّين لبنانيّين ممن أفنوا عمرهم في خدمة القضيّة الفلسطينيّة، وبعضهم قاتل ومات في صفوف منظمات الثورة. وهو يحصر تأييد المقاومة بالمسلمين، لم يسمع بحرب المخيّمات.
وتبرز طائفيّة بطرس عندما يحصر قضيّة المهجّرين في لبنان (قبل حرب الجبل) بمهجّري الدامور (ص. 233): لم يعلم بطرس أن آلافاً مؤلّفة من اللبنانيّين والفلسطينيّين قد هُجِّروا من المناطق الشرقيّة. هم ليسوا متساوين في «الوصفة العرقيّة» لمفهوم الأمة حسب تعبير فلاديمير جابوتنسكي مع فريق بطرس.
لكن فؤاد بطرس قابل مسلماً واحداً أعحبه، إذ يصف عبد الله اليافي (متخرج من فرنسا في الحقوق) بأنه كان «رجلاً سياسيّاً لائقاً، حضاريّاً». (ص. 113). أي هو مثل ما يصف بعض العنصريّين البيض المتعلّمين من السود بأنهم «ليسوا مثل سائر السود». وعبادة الرجل الأوروبي الأبيض ترد في تضاعيف الكتاب، وهي تعود إلى شخصيّة فؤاد شهاب نفسه.
لم يثق الرجل بعربي واحد، وكان كثير الانتقاد للشعب اللبناني من باب أنه ليس متحضّراً مثل الأوروبيّين. ويفرد بطرس قسماً خاصاً عن «الانتدان لاي» ذاك المستشار الفرنسي («أهم خبير ولا يمكن أن يخطئ» في نظر شهاب) (ص. 63) الذي لم يفارق شهاب أثناء حكمه وكان الوزراء يخافون معارضته. ويتحدّث بطرس (الذي، بالمناسبة، وُزِّر بعد سقوطه في الانتخابات عام 1968 ) بإعجاب ذاتي عن موقف بطولي له عندما تجرّأ على مخالفة وجهة نظر «لاي»، مما أثار امتعاض شهاب. (ص. 63).
وينتقد بطرس العرب بفوقيّة مزعجة جدّاً والفوقيّة مزعجة على أنواعها، كأن يقول: «أما العرب فكانوا كعادتهم يطلقون الكلام الذي لا يفيد شيئاً» (ص. 475) أي إن كلام بطرس وحده يفيد ويسمن من جوع. وقد دعا العرب «إلى التقليل من الكلام العاطفي والإكثار من التفكير والعمل الجدّي» (ص. 245). ويعلّق عن اللبنانيّين: «فاللبنانيّون يتأثّرون عاطفيّاً، وهم على غرار العرب، بعيدون عن العقلانيّة الغربيّة». (ص. 334). ويستشهد بقول جوزف أبو خاطر الذي انتدبه في مهمّة دبلوماسيّة: «ليس من شيء ننتظره من العرب أو من الفلسطينيّين، إنهم غير صادقين». (ص. 510، 511).
لكن الأهم في هذا الكتاب يتعلّق بمواقف بطرس في الأمم المتحدة وأثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. لا أظلم بطرس إذا قلت إنه ليس هناك ما يشير إلى موقف له ضد إسرائيل، أو مع القضيّة الفلسطينيّة. ولا أحكم على النيات ولا أدخل في السرائر: لكن الكتاب ومواقف بطرس السياسيّة كافيتان لإصدار أحكام. هناك ما يمكن الاعتراض عليه عندما كان جزءاً من النخبة الحاكمة (رفض لبنان إدخال قوات سوريّة إلى أراضيه عام 1967 تحسّباً لعدوان إسرائيلي، مع أن ذلك كان سيخفف من وطأة العدوان (ص. 117)، كما أن لبنان تضامن مع الدول العربيّة في حزيران 1967 عبر إقفال المطاعم والمقاهي لمدة ثلاثة أيام (ص. 119).) هذا ما يسمّيه لبنان تضحيات جسيمة في خدمة القضيّة الفلسطينيّة.
لكن بطرس يسخر من السفير السوري في الأمم المتحدة فقط لأنه «دافع عن حقوق الشعب الفلسطيني». (ص. 281). وقد رفض بطرس محاسبة سعد حدّاد أو محاكمته، وباعترافه (ص. 285).
إلاّ أن الطامة الكبرى كانت في اعتراف بطرس بأنه كان يصرّ على رفض دعوة مجلس الأمن للانعقاد في عهد سركيس عندما يتعرّض لبنان لعدوان إسرائيلي لأنه لم يكن يريد أن تُستخدم الأمم المتحدة منبراً للدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة. ويورد بطرس هذه الحجّة في أكثر من موقع دون تردّد أو حاجة لتفسير. (ص. 277). وعندما تعرّض لبنان لواحد من اعتداءات كثيرة من إسرائيل، علّق بطرس بالقول: «كانت حجّتنا قويّة هذه المرّة لأنه لم تكن للاعتداء الإسرائيلي ذريعة أو مبرِّر». (ص. 385).
ألا يُفهم من هذا الكلام أن بطرس وجد في اعتداءات أخرى من إسرائيل ذرائع وحججاً مقبولة لديه؟ هذا كان وزير خارجيّة لبنان المُولج شؤون الدفاع عن مصلحة لبنان في المحافل الدوليّة فيما كانت إسرائيل تستبيح حرمة لبنان بصورة شبه يوميّة.
يجب أن يُدرج هذا في المناهج الدراسيّة، بالإضافة إلى فصل عن تحالف بعض اللبنانيّين مع إسرائيل، ليتعرّف شعب لبنان على حقيقة تاريخه من دون تجميل فينيقي.
لكن الموقف الحقيقي لفؤاد بطرس تكشّف منذ بدء اجتياح إسرائيل. لم يحد في كل مواقفه وتصريحاته عن المطالب الإسرائيليّة. والذي لم يطالب يوماً بانسحاب سوري من لبنان، والذي كان يستشير القيادة السوريّة في أصغر التعيينات، اكتشف فجأة حبّ السيادة. تطابقت مواقفه بالكامل مع إدارة رونالد ريغان ومع مطالب إسرائيل، واعتبر بطرس نتيجة نزعته الطائفيّة واحتقاره لمن يخالفه الرأي من أبناء الوطن وبناته من المسلمين لأنه يعتبرهم قاصرين عن الوصول إلى المستوى العقلي الذي بلغه (نتيجة ثقافته الغربيّة كما يذكّرنا)، أنه هو القادر على تقرير مصلحة لبنان بالتنسيق مع من تنتدبه الإدارة الأميركيّة.
تجهد لتجد كلمة عن وحشيّة عدوان أدّى إلى مقتل 20،000 لبناني وفلسطيني حسب تعداد جريدة «النهار» فلا تجد كلمة. يتحدّث بطرس عن العدوان كأنه في بلد آخر، أو في كوكب آخر لا يقطنه هو. وكما أخفى بطرس حقيقة العلاقات الوثيقة بين جوني عبده (الذي كان عضواً في نخبة السلطة الضيّقة في عهد سركيس) وإسرائيل، تغاضى عن التحالف بين القوات وإسرائيل. وعندما كانت إسرائيل تحتل أكثر من نصف لبنان وتقف على مشارف العاصمة وعلى بعد أمتار من القصر الرئاسي، أفتى بطرس بما يأتي: «لبنان، رغم اعتداء إسرائيل عليه، ليس من الوجهة القانونيّة في حال حرب معها... بل هو متمسّك باتفاق الهدنة الموقع عام 1949». (ص. 522).
مادحُ نفسه نسي أن اجتياح لبنان وقصفه واحتلاله تتعارض من الوجهة القانونيّة مع اتفاق الهدنة، إلا إذا كانت الحكومات اللبنانيّة التي شارك فيها بطرس قد أعطت تفسيراً سريّاً للاتفاق يسمح لإسرائيل بالاجتياح والتدمير والاحتلال.
وعندما اقترح بعض الوزراء قطع العلاقات مع أميركا نتيجة تبنّيها الكامل اجتياح لبنان، ثار بطرس وصرخ: «منذ 1967 لم يتعلّم العرب شيئاً. ففي حينه عزلوا أنفسهم عن الغرب. هل سنرتكب اليوم الخطأ التاريخي نفسه؟ إني أرفض رفضاً باتاً قطع العلاقات مع واشنطن لأنها وحدها قادرة على توفير إمكان لتحقيق انسحاب إسرائيلي من لبنان.» (ص. 522). انتظر بطرس نحو عشرين عاماً ليرى جدوى نظريّاته في العلاقات الدوليّة، عندما تحقّق الانسحاب تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانيّة (هل سيعزوها هي الأخرى لضغوط فلسطينيّة كعادته عندما يتعلّق الأمر بمعاداة أطراف لبنانيين لإسرائيل؟)، وبدون أي ضغط من الحكومة الأميركيّة التي كانت ستقبل من إسرائيل عقوداً إضافيّة من الاحتلال الوحشي لو أرادت.
تقرأ هذا الكتاب فيزداد شكّك في إمكان استمرار الكيان السياسي السقيم. بعض لبنان لا يزال يعتبر أن باريس وأهلها من دون المهاجرين العرب أقرب إليه من أهل الشطر الآخر لبيروت.
ينمّ كتاب بطرس عن جهل وتجاهل لواقع أكثر من نصف سكّان لبنان من وزير شارك على مدى عقود في الحكم، وفي تمثيل لبنان حول العالم. خلال كلّ تلك الأعوام لم يعرف بطرس أن العداء اللبناني لإسرائيل لم يكن نتيجة أسر عقول بعض اللبنانيّين من منظّمات فلسطينيّة. وهذا الصلف الثقافي نحو الآخر يحمل في طيّاته سمات من الاستشراق المسيحي الذي ساهم في إنشاء مسخ الوطن، وفي وضع لبنات الأساطير المؤسِّسة. لم يأتِ هذا الاحتقار للعنصر العربي والإسلامي من عدم: بل هو نتيجة منطقيّة لمنهاج مدرسي شارك في صنعه عتاة كارهي العرب والإسلام، من أمثال هنري لامانس ولويس شيخو، وتلاميذ هؤلاء، من طراز فؤاد أفرام البستاني، ساهموا في ما بعد في وضع المناهج الدراسيّة للدولة الفتيّة، وفي تأسيس الجامعة اللبنانيّة.
لكن الأبرز في الموضوع أن الخلاف كان ولا يزال على الكبيرة والصغيرة: يختلف اللبنانيّون واللبنانيّات ليس فقط على المحطّات التلفزيونيّة المُفضّلة بل على أُسس الكيان وعلى الهويّة. لم يفصل الطائف في ذلك، وإن كان قد توصّل إلى معادلة (مستقاة في جزء منها من «سيدة البير») لم يكن منها بدّ نتيجة التغييرات الديموغرافيّة والهزيمة التي لحقت بحلفاء إسرائيل في لبنان. أما الخلاف الحالي بين اللبنانيّين، فلا تغيير في طبيعته، بل ينحصر التغيير في وجهة الخلاف وفي أطراف النزاع.
هناك بعض المعلومات المهمّة في الكتاب: عن علاقات سريّة بين وليد جنبلاط وجوني عبده أثناء الحرب، عن محاولة جنبلاط التقرّب من بشير الجميّل قبل الاجتياح الإسرائيلي، عن مناقشة بين بطرس وحافظ الأسد حول تعيين قائد للجيش اللبناني عام 1977، قال فيها الأسد: «تنامى إليّ أن هناك ضابطاً ممتازاً في الجيش اللبناني اسمه أنطون لحد» (ص. 207).
وهناك معلومات وتفاصيل عن الخلاف المستحكم بين الشقيقين العدوّين، أمين وبشير الجميّل. كما أن بطرس كشف أن الياس سركيس عبّر عن قلق عميق من «انتخاب» بشير الجميّل رغم تبنّيه له: «إذا فاز بشير بالانتخابات فسيحكم لبنان بناءً على قواعد جديدة وقد يحكم مدى الحياة، وأعتقد أنه سيوقّع اتفاق سلام مع إسرائيل، وهذا الاتفاق سيسيء إلى لبنان، في الظروف الحاليّة». (ص. 526). كما أن الكاتب أورد نقداً «قاسياً» من بابا الفاتيكان ضد القوات اللبنانيّة (ص. 391).
لن تستقيم حياة لمسخ الوطن هذا. كيان أُنشئ، مثله مثل الكيان الأردني، ليكون رديفاً وظهيراً للكيان الغاصب على أرض فلسطين.
تقرأ مذكّرات هذا الرجل وتتيقّن أنك لا تريد أبداً أن تتشارك معه في وطن أي وطن.
المصدر (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)
يحتلّ فؤاد بطرس موقعاً مميّزاً في السياسة اللبنانيّة، وهو يوصف عادة بـ«رجل الدولة». اتهمه ميشال أبو جودة بحب التسلّط. وأُعجب به فؤاد شهاب وهو في سن مبكرة. لكن إعجاب فؤاد بطرس بنفسه يفوق بأشواط إعجاب فؤاد شهاب به. مذكّراته الصادرة حديثاً تستحق القراءة والنقد: وقد أصبحت لتوّها مرجعاً مهماً عن التاريخ اللبناني المُعاصر. ولم تنل حقّها من النقد والمراجعة بعد، ربّما لأن إعلام السلالات مشغول بالتملّق لآل سعود وآل نهيان وآل مكتوم وآل الحريري
أسعد أبو خليل
كثرت كتابة المذكرات السياسيّة في لبنان منذ الستينيات. وبعضها يصلح للقراءة (مثل كتاب عزت صافي الأخير الذي لم ينل حقّه) وبعضها الآخر يفيد في احتواء لفائف الطعام. مذكرات فؤاد بطرس قيّمة: فهي تحتوي على كنز من المعلومات والتفاصيل، كما أنها مكتوبة بأسلوب مباشر وشيّق. يتمتع بطرس ولا شك بذكاء حاد، وإن أطنب في مديح ذاته والاعتداد بذكائه، الذي لا يوازي في حسابه إلا ذكاء الرجل الأوروبي الأبيض، مع أنه يستشهد بقول سفير إيطالي في لبنان أنه كان أقدر من وزير الخارجيّة الإيطالي نفسه. ولا يلقي بطرس خطاباً إلا يلقى «الاستحسان» حسب وصفه هو، وإذا تعرّض لهجوم، فالهجوم يأتي فقط من «أبواق سوريا» (ص. 345) وفؤاد بطرس ذكي، وخصوصاً إذا قارنته بغيره في الطبقة السياسيّة: من أمثال شفيق الوزان (الألعوبة بيد عهديْن، وقد اعترف لي بعد اعتزاله الحكم بأن أمين الجميل كان يتخذ القرارات من دون أن يستشيره، لا في الكبيرة ولا في الصغيرة) وعثمان الدنا ومجيد أرسلان وجو حمّود أو سعد الحريري وفريد حبيب من طبقة العهد الحالي.
وتأتي أهميّة المذكّرات من أن بطرس كان رئيساً فعليّاً للبنان في عهد الرئيس الضعيف والعاجز، الياس سركيس. ولا يحاول بطرس أن يخفي حقيقة دوره في ذلك العهد مع أنه يعترض على اتهامه بـ«التسلّط» (ص. 438 ) لكن الحكم في عهد سركيس لم يكن سلطانيّاً لأن سوريا وإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينيّة والميليشيات اللبنانيّة كانت تتحكّم في لبنان آنذاك. ويُظهر السرد الدرجة التي كان فيها الياس سركيس غير مؤهل للحكم.
وسركيس لم يكن في وارد أن يأخذ قراراً ما لم يشر عليه بطرس، ربما لشعوره باليتم بعد غياب شهاب. ويُلام سركيس على عهده: أمدّ بعمر الأزمة وفشل في المبادرة لتقصير عمر الحرب. مثله مثل أمين الجميّل، ركن إلى وعود أميركيّة، ثم وقع في هيام رجل إسرائيل في لبنان، وتبنّى تنصيبه رئيساً بقوة الاجتياح.
تتسم مذكرات بطرس بصفة «الأحقيّة الذاتيّة»: لا يفوّت فرصة أو سرداً إلا يبرز وجهة نظره ويدافع عنها ويبخس أو يحقّر كل من يخالفه. والطريف أن صاحب المواقف الطائفيّة لا يجد حرجاً في وصف خصومه، مثل سليم الحصّ الذي لم يكن مطواعاً كشفيق الوزان، بالطائفيّة. (يحتاج سليم الحص للردّ على الكثير مما جاء في الكتاب). أما الذكاء، فهي صفة بطرس الخاصّة، يمتاز بها عن غيره من الساسة في لبنان، وإن شاركه في الصفة الرجل الأوروبي والأميركي. وهو يناقض نفسه في أكثر من موقع: فهو، مثلاً، يستفيض في وصف المعارضة السوريّة الشرسة في عهد سركيس لأي تمثيل لأحزاب الحركة الوطنيّة في الحكومات المُتعاقبة، لكنه لا يتورّع عن وصف الأحزاب تلك عندما تنتقد مواقفه بـ«أبواق سوريا في لبنان». (ص. 345) كيف تكون أبواق سوريا وأنت أفضت في وصف معارضة النظام في سوريا لها، يا بطرس؟ والحقيقة تخالف زعم بطرس أنه حرص على احترام القانون (ص. 81) بعد الانقلاب القومي، حين خضع لبنان لحكم عسكري من دون إعلان رسمي.
لكن بطرس يتطرّف في تسويغ مواقفه وفي تبييض صحائفه: هل هناك من يقتنع عن جدّ بأن بطرس ذهب إلى دمشق عام 1985 لحضور حفل توقيع الاتفاق الثلاثي من أجل تسجيل معارضته للاتفاق؟ (ص. 576 577) أما كانت معارضته أجدى لو لازم منزله؟ هذا يُعتبر مطّاً لمفهوم الصدق. وينبري بطرس لإدراج برقيّات الثناء التي كانت تأتيه من سفراء أميركا ووزراء خارجيّتها (يتحدّث عن تقدير «عميق» من أميركا له (ص. 284)). يظنّ أن ذلك يعود لذكائه الحادّ لا لتماهيه في تطرّفه مع السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط، هذه السياسة التي لا تحتاج إلى شرح في معاداتها للمصالح العربيّة. بلغ التماهي بين الحكومة الأميركيّة وبطرس درجة دفعتها لكي تطلب منه أن يصوّت لبنان ضد قرار في الأمم المتحدة يدين ضم إسرائيل للجولان المحتلّ (ص. 507). واستغرب بطرس الطلب مع أن السبب يبطل العجب: إن التزام بطرس السياسة الأميركيّة دفعتهم للظنّ بأنه لن يرفض طلباً منهم مهما كان جائراً. ويمكن أن نزيد أن السفراء الأميركيّين في لبنان آنذاك، روبرت ديلن وجون غونتر دين وريشارد باركر (وقد تحدثت مع الأخير في سني تقاعده، كما أن الأول كتب مذكّرات قاسية جداً ضد إسرائيل وحليفها الصغير، بشير الجميّل) كانوا أكثر انتقاداً لإسرائيل من وزير خارجيّة لبنان المبجّل.
لكن المذكّرات تعبّر عن عقل سياسي طائفي لا يرى في إسرائيل عدوّاً، ويحمل ضغينة ضد الشعب الفلسطيني (أيّد بطرس ضرب المخيّمات الفلسطينيّة بالطائرات عام 1973 واعتبر ذلك ضروريّاً من أجل «إعادة الهدوء والانضباط إلى المخيّمات») (ص. 163). والطائفيّة تنضح وتقطرُ في كل صفحات الكتاب: إذ إن بطرس ينظر بدونيّة إلى المسلمين (وكان هذا سائداً في أوساط الطبقة الحاكمة في لبنان قبل الطائف حتى لا نتحدّث عمّا بعد الطائف، وخصوصاً أن آل الحريري زرعوا العقيدة الكتائبيّة في صف أوساط السنّة في لبنان). ولا يرى بطرس في المسلمين في لبنان شركاء في الوطن، أو حتى في الإنسانيّة. فهم دائماً أقل ذكاءً منه ومن أترابه من المسيحيّين، وهم دائماً مرتهنون للخارج العربي، لا يتخذون قرارهم من منطلق المصلحة اللبنانيّة. ولا نظلم بطرس إذا قلنا إنه يرى في موقف سعد حدّاد وأفعاله (وقد عارض مع سركيس بشدّة أمرَ محاسبته ومعاقبته) دفاعاً عن سيادة لبنان، بتعريف بطرس طبعاً. وقد دافع بطرس بعناد عن الضباط المسيحيّين الذين حاربوا مع «الجبهة اللبنانيّة» (ومع إسرائيل ضمناً) ورفض مساواتهم بالضباط الذين ساندوا «الحركة الوطنيّة»، كما روى سليم الحص في مذكّراته عن عهد سركيس.
أين نبدأ؟ من الطائفيّة. إن إشارات بطرس للإسلام والعرب مُحقّرة وتحمل في طيّاتها العداء الغربي المسيحي التقليدي للعرب والمسلمين. نبدأ بتأييد بطرس لإضراب المحامين عام 1961: والقصّة بسيطة. فقد اعترض المحامون في لبنان (وجلّهم من المسيحيّين كما نرى في التوضيح) على تدريس الحقوق في الجامعة العربيّة (ص. 79) لأنهم خافوا كسر احتكار المحامين المسيحيّين للمهنة (كما عارض حزب الكتائب معادلة شهادة التوجيهيّة خوفاً من ترقّي غير المسيحيّين في الوطن). والسبب يعود إلى طبيعة النظام الجائر (المتضمّن عقيدة تمييز طائفي مماثل للعقيدة التي حفزت إنشاء الدولة اليهوديّة أو دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا). لم يرد الفريق السائد أن يؤدّي التعليم إلى رقيّ الفريق المَسود، أو إلى رفع مستواه الاجتماعي.
ويرفض بطرس أن يعترف بالمساواة الجينيّة أو العقليّة أو الوطنيّة بين المسلمين والمسيحيّين في لبنان إذ يقول: «الإسلام اللبناني على وجه الإجمال برهن، مرّة جديدة، أنه لا ينظر إلى البعيد وليست له رؤية سياسيّة مستقلّة» (ص. 426). وينتقص، في مواقع متفرّقة من الكتاب، من وطنيّة المسلمين فيقول: «بعض المسلمين يتعاطفون مع القضايا العربيّة أكثر مما يهتمّون بسلامة لبنان واستقراره» (ص. 524). أما «الفريق المسيحي» الذي تحالف مع إسرائيل فيقول عنه إنه «يضع سلامة لبنان في رأس سلّم أولويّاته» (ص. 149). والمسلمون لا يتمتّعون في وصف بطرس بالقدرة على التفكير المستقلّ: فكل المواقف التي يعزوها إلى المسلمين تعود إلى سهولة انقيادهم وبساطة أذهانهم، ويصفهم بـ«أسرى» لغيرهم من العرب (ص. 300).
وبطرس لا يقبل أن يكون هناك في لبنان من يؤيّد بكامل إرادته وقواه العقليّة القضيّة الفلسطينيّة طوعاً، لا قسراً. لم يقابل، على ما يبدو، مسيحيّين لبنانيّين ممن أفنوا عمرهم في خدمة القضيّة الفلسطينيّة، وبعضهم قاتل ومات في صفوف منظمات الثورة. وهو يحصر تأييد المقاومة بالمسلمين، لم يسمع بحرب المخيّمات.
وتبرز طائفيّة بطرس عندما يحصر قضيّة المهجّرين في لبنان (قبل حرب الجبل) بمهجّري الدامور (ص. 233): لم يعلم بطرس أن آلافاً مؤلّفة من اللبنانيّين والفلسطينيّين قد هُجِّروا من المناطق الشرقيّة. هم ليسوا متساوين في «الوصفة العرقيّة» لمفهوم الأمة حسب تعبير فلاديمير جابوتنسكي مع فريق بطرس.
لكن فؤاد بطرس قابل مسلماً واحداً أعحبه، إذ يصف عبد الله اليافي (متخرج من فرنسا في الحقوق) بأنه كان «رجلاً سياسيّاً لائقاً، حضاريّاً». (ص. 113). أي هو مثل ما يصف بعض العنصريّين البيض المتعلّمين من السود بأنهم «ليسوا مثل سائر السود». وعبادة الرجل الأوروبي الأبيض ترد في تضاعيف الكتاب، وهي تعود إلى شخصيّة فؤاد شهاب نفسه.
لم يثق الرجل بعربي واحد، وكان كثير الانتقاد للشعب اللبناني من باب أنه ليس متحضّراً مثل الأوروبيّين. ويفرد بطرس قسماً خاصاً عن «الانتدان لاي» ذاك المستشار الفرنسي («أهم خبير ولا يمكن أن يخطئ» في نظر شهاب) (ص. 63) الذي لم يفارق شهاب أثناء حكمه وكان الوزراء يخافون معارضته. ويتحدّث بطرس (الذي، بالمناسبة، وُزِّر بعد سقوطه في الانتخابات عام 1968 ) بإعجاب ذاتي عن موقف بطولي له عندما تجرّأ على مخالفة وجهة نظر «لاي»، مما أثار امتعاض شهاب. (ص. 63).
وينتقد بطرس العرب بفوقيّة مزعجة جدّاً والفوقيّة مزعجة على أنواعها، كأن يقول: «أما العرب فكانوا كعادتهم يطلقون الكلام الذي لا يفيد شيئاً» (ص. 475) أي إن كلام بطرس وحده يفيد ويسمن من جوع. وقد دعا العرب «إلى التقليل من الكلام العاطفي والإكثار من التفكير والعمل الجدّي» (ص. 245). ويعلّق عن اللبنانيّين: «فاللبنانيّون يتأثّرون عاطفيّاً، وهم على غرار العرب، بعيدون عن العقلانيّة الغربيّة». (ص. 334). ويستشهد بقول جوزف أبو خاطر الذي انتدبه في مهمّة دبلوماسيّة: «ليس من شيء ننتظره من العرب أو من الفلسطينيّين، إنهم غير صادقين». (ص. 510، 511).
لكن الأهم في هذا الكتاب يتعلّق بمواقف بطرس في الأمم المتحدة وأثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. لا أظلم بطرس إذا قلت إنه ليس هناك ما يشير إلى موقف له ضد إسرائيل، أو مع القضيّة الفلسطينيّة. ولا أحكم على النيات ولا أدخل في السرائر: لكن الكتاب ومواقف بطرس السياسيّة كافيتان لإصدار أحكام. هناك ما يمكن الاعتراض عليه عندما كان جزءاً من النخبة الحاكمة (رفض لبنان إدخال قوات سوريّة إلى أراضيه عام 1967 تحسّباً لعدوان إسرائيلي، مع أن ذلك كان سيخفف من وطأة العدوان (ص. 117)، كما أن لبنان تضامن مع الدول العربيّة في حزيران 1967 عبر إقفال المطاعم والمقاهي لمدة ثلاثة أيام (ص. 119).) هذا ما يسمّيه لبنان تضحيات جسيمة في خدمة القضيّة الفلسطينيّة.
لكن بطرس يسخر من السفير السوري في الأمم المتحدة فقط لأنه «دافع عن حقوق الشعب الفلسطيني». (ص. 281). وقد رفض بطرس محاسبة سعد حدّاد أو محاكمته، وباعترافه (ص. 285).
إلاّ أن الطامة الكبرى كانت في اعتراف بطرس بأنه كان يصرّ على رفض دعوة مجلس الأمن للانعقاد في عهد سركيس عندما يتعرّض لبنان لعدوان إسرائيلي لأنه لم يكن يريد أن تُستخدم الأمم المتحدة منبراً للدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة. ويورد بطرس هذه الحجّة في أكثر من موقع دون تردّد أو حاجة لتفسير. (ص. 277). وعندما تعرّض لبنان لواحد من اعتداءات كثيرة من إسرائيل، علّق بطرس بالقول: «كانت حجّتنا قويّة هذه المرّة لأنه لم تكن للاعتداء الإسرائيلي ذريعة أو مبرِّر». (ص. 385).
ألا يُفهم من هذا الكلام أن بطرس وجد في اعتداءات أخرى من إسرائيل ذرائع وحججاً مقبولة لديه؟ هذا كان وزير خارجيّة لبنان المُولج شؤون الدفاع عن مصلحة لبنان في المحافل الدوليّة فيما كانت إسرائيل تستبيح حرمة لبنان بصورة شبه يوميّة.
يجب أن يُدرج هذا في المناهج الدراسيّة، بالإضافة إلى فصل عن تحالف بعض اللبنانيّين مع إسرائيل، ليتعرّف شعب لبنان على حقيقة تاريخه من دون تجميل فينيقي.
لكن الموقف الحقيقي لفؤاد بطرس تكشّف منذ بدء اجتياح إسرائيل. لم يحد في كل مواقفه وتصريحاته عن المطالب الإسرائيليّة. والذي لم يطالب يوماً بانسحاب سوري من لبنان، والذي كان يستشير القيادة السوريّة في أصغر التعيينات، اكتشف فجأة حبّ السيادة. تطابقت مواقفه بالكامل مع إدارة رونالد ريغان ومع مطالب إسرائيل، واعتبر بطرس نتيجة نزعته الطائفيّة واحتقاره لمن يخالفه الرأي من أبناء الوطن وبناته من المسلمين لأنه يعتبرهم قاصرين عن الوصول إلى المستوى العقلي الذي بلغه (نتيجة ثقافته الغربيّة كما يذكّرنا)، أنه هو القادر على تقرير مصلحة لبنان بالتنسيق مع من تنتدبه الإدارة الأميركيّة.
تجهد لتجد كلمة عن وحشيّة عدوان أدّى إلى مقتل 20،000 لبناني وفلسطيني حسب تعداد جريدة «النهار» فلا تجد كلمة. يتحدّث بطرس عن العدوان كأنه في بلد آخر، أو في كوكب آخر لا يقطنه هو. وكما أخفى بطرس حقيقة العلاقات الوثيقة بين جوني عبده (الذي كان عضواً في نخبة السلطة الضيّقة في عهد سركيس) وإسرائيل، تغاضى عن التحالف بين القوات وإسرائيل. وعندما كانت إسرائيل تحتل أكثر من نصف لبنان وتقف على مشارف العاصمة وعلى بعد أمتار من القصر الرئاسي، أفتى بطرس بما يأتي: «لبنان، رغم اعتداء إسرائيل عليه، ليس من الوجهة القانونيّة في حال حرب معها... بل هو متمسّك باتفاق الهدنة الموقع عام 1949». (ص. 522).
مادحُ نفسه نسي أن اجتياح لبنان وقصفه واحتلاله تتعارض من الوجهة القانونيّة مع اتفاق الهدنة، إلا إذا كانت الحكومات اللبنانيّة التي شارك فيها بطرس قد أعطت تفسيراً سريّاً للاتفاق يسمح لإسرائيل بالاجتياح والتدمير والاحتلال.
وعندما اقترح بعض الوزراء قطع العلاقات مع أميركا نتيجة تبنّيها الكامل اجتياح لبنان، ثار بطرس وصرخ: «منذ 1967 لم يتعلّم العرب شيئاً. ففي حينه عزلوا أنفسهم عن الغرب. هل سنرتكب اليوم الخطأ التاريخي نفسه؟ إني أرفض رفضاً باتاً قطع العلاقات مع واشنطن لأنها وحدها قادرة على توفير إمكان لتحقيق انسحاب إسرائيلي من لبنان.» (ص. 522). انتظر بطرس نحو عشرين عاماً ليرى جدوى نظريّاته في العلاقات الدوليّة، عندما تحقّق الانسحاب تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانيّة (هل سيعزوها هي الأخرى لضغوط فلسطينيّة كعادته عندما يتعلّق الأمر بمعاداة أطراف لبنانيين لإسرائيل؟)، وبدون أي ضغط من الحكومة الأميركيّة التي كانت ستقبل من إسرائيل عقوداً إضافيّة من الاحتلال الوحشي لو أرادت.
تقرأ هذا الكتاب فيزداد شكّك في إمكان استمرار الكيان السياسي السقيم. بعض لبنان لا يزال يعتبر أن باريس وأهلها من دون المهاجرين العرب أقرب إليه من أهل الشطر الآخر لبيروت.
ينمّ كتاب بطرس عن جهل وتجاهل لواقع أكثر من نصف سكّان لبنان من وزير شارك على مدى عقود في الحكم، وفي تمثيل لبنان حول العالم. خلال كلّ تلك الأعوام لم يعرف بطرس أن العداء اللبناني لإسرائيل لم يكن نتيجة أسر عقول بعض اللبنانيّين من منظّمات فلسطينيّة. وهذا الصلف الثقافي نحو الآخر يحمل في طيّاته سمات من الاستشراق المسيحي الذي ساهم في إنشاء مسخ الوطن، وفي وضع لبنات الأساطير المؤسِّسة. لم يأتِ هذا الاحتقار للعنصر العربي والإسلامي من عدم: بل هو نتيجة منطقيّة لمنهاج مدرسي شارك في صنعه عتاة كارهي العرب والإسلام، من أمثال هنري لامانس ولويس شيخو، وتلاميذ هؤلاء، من طراز فؤاد أفرام البستاني، ساهموا في ما بعد في وضع المناهج الدراسيّة للدولة الفتيّة، وفي تأسيس الجامعة اللبنانيّة.
لكن الأبرز في الموضوع أن الخلاف كان ولا يزال على الكبيرة والصغيرة: يختلف اللبنانيّون واللبنانيّات ليس فقط على المحطّات التلفزيونيّة المُفضّلة بل على أُسس الكيان وعلى الهويّة. لم يفصل الطائف في ذلك، وإن كان قد توصّل إلى معادلة (مستقاة في جزء منها من «سيدة البير») لم يكن منها بدّ نتيجة التغييرات الديموغرافيّة والهزيمة التي لحقت بحلفاء إسرائيل في لبنان. أما الخلاف الحالي بين اللبنانيّين، فلا تغيير في طبيعته، بل ينحصر التغيير في وجهة الخلاف وفي أطراف النزاع.
هناك بعض المعلومات المهمّة في الكتاب: عن علاقات سريّة بين وليد جنبلاط وجوني عبده أثناء الحرب، عن محاولة جنبلاط التقرّب من بشير الجميّل قبل الاجتياح الإسرائيلي، عن مناقشة بين بطرس وحافظ الأسد حول تعيين قائد للجيش اللبناني عام 1977، قال فيها الأسد: «تنامى إليّ أن هناك ضابطاً ممتازاً في الجيش اللبناني اسمه أنطون لحد» (ص. 207).
وهناك معلومات وتفاصيل عن الخلاف المستحكم بين الشقيقين العدوّين، أمين وبشير الجميّل. كما أن بطرس كشف أن الياس سركيس عبّر عن قلق عميق من «انتخاب» بشير الجميّل رغم تبنّيه له: «إذا فاز بشير بالانتخابات فسيحكم لبنان بناءً على قواعد جديدة وقد يحكم مدى الحياة، وأعتقد أنه سيوقّع اتفاق سلام مع إسرائيل، وهذا الاتفاق سيسيء إلى لبنان، في الظروف الحاليّة». (ص. 526). كما أن الكاتب أورد نقداً «قاسياً» من بابا الفاتيكان ضد القوات اللبنانيّة (ص. 391).
لن تستقيم حياة لمسخ الوطن هذا. كيان أُنشئ، مثله مثل الكيان الأردني، ليكون رديفاً وظهيراً للكيان الغاصب على أرض فلسطين.
تقرأ مذكّرات هذا الرجل وتتيقّن أنك لا تريد أبداً أن تتشارك معه في وطن أي وطن.
المصدر (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)