-
دخول

عرض كامل الموضوع : تجربة تستحق التأمل!


Nay
13/10/2009, 13:20
* تركيا: تجربة تستحق التأمل!
صحيفة السفير اللبنانية – الخميس 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2009
ميشيل كيلو
رغم اختلاف التجارب العربية في ما بينها، واختلافها عن تجارب تركيا الحديثة، فإن علينا نحن العرب تأمل ما يجري اليوم في تركيا تحت قيادة حزب إسلامي هو حزب العدالة والتنمية، الذي أحدث اختراقاً مهماً في سياسة بلاده، بإضفاء طابع مدني على العمل العام، نجح حتى الآن في التوفيق بين الإسلام والعلمانية، وبين الحداثة والديموقراطية، وبين التعددية والنزعتين القومية والجمهورية، وأفسح مكاناً في صفوفه (الحزب) لمؤيدي وأنصار قوى وتيارات غير إسلامية، ينتمون إلى هذه الاتجاهات الفكرية والسياسية، ورفع يد المؤسسة العسكرية عن الحياة العامة، وحد من قدرتها ـ وربما رغبتها ـ في التدخل الدوري لـ«تصحيح» أوضاع البلد، وردها إلى دور يشبه دور مثيلاتها في البلدان الليبرالية، بينما وسع، تدريجياً وبثبات، ساحة اللقاء مع الأكراد، واعترف بهم كقوم، واستجاب أكثر فأكثر لمطالبهم، ضمن خطة مفتوحة على اندماج وطني بعيد المدى، ركيزته التخلي عن صهر الأكراد في نسيج ينكر خصوصيتهم رفضوا دوماً الانتماء إليه، واللقاء معهم على أرضية توافق وطني عام يلبي حاجاتهم وتطلعاتهم كقوم غير أتراك، للإقرار بحقوقه السياسية والثقافية أهمية خاصة بالنسبة لتركيا، التي لا خيار لديها غير أن تتقبل الواقع فتعيش بسلام، أو تتنكر لهوية الأكراد ومطالبهم ولما يترتب عليها من حقائق، فتعاني حياتها الوطنية من تشوهات مختلفة، ويتواصل تدخل الجيش فيها، وتغرق في أزمات تحبط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تأخذ تركيا إلى صدامات أهلية ضروس، تزداد ضراوة بمرور الأيام وتعثر الحلول.
أنجز حزب العدالة والتنمية في وقت قصير ـ نيف وعقد ـ ما كان يبدو إلى الأمس القريب مستحيل التحقيق، فأخذ بلده إلى ازدهار غير مسبوق، أسست له المصالحة التاريخية التي أنجزها بين أفكار وآراء واتجاهات وميول كانت قبله في تناقض عدائي ومتفجر، عطل تقدم تركيا، وحال بين حكوماتها وابتكار حلول حقيقية ومقبولة لمشكلاتها. والحق، أن حزب العدالة هو، بما حققه لبلده، مفاجأة الشرق الأوسط خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الماضي من قرننا الراهن، فقد أخرج وطنه من احتجاز تاريخي مدمر، وأوجد توليفة فعالة ومقبولة لتناقضات الفكر والسياسية والواقع، وحقق نمواً اقتصادياً مميزاً أوصل إجمالي دخلها الوطني إلى قرابة 800 مليار دولار أميركي، لتتفوق على بلد أوروبي متقدم نسبياً كإسبانيا، المتفوق في إجمالي إنتاجه على البلدان العربية مجتمعة، فهي تنتج حوالى ثلاثة أضعاف ما تنتجه إيران، مالكة ثروات معدنية ونفطية وطبيعية لا مثيل لها في تركيا، وصاحبة خبرات لا تقل إطلاقاً عما لدى أنقرة، لكنها إما معطلة أو موظفة في حقول ومشاريع غير إنتاجية.
فعلت تركيا هذا، بينما تحطم الوطن العربي على صخرة سياسات عقيمة وضعت الفكرة القومية في مواجهة قاتلة مع الفكرة الديموقراطية، وفكرة الأصالة في حالة تنافي مع فكرة الحداثة، وسخرت التنمية لخدمة أقليات حاكمة ومالكة، وفتحت أبواب البلدان العربية أمام أشكال متنوعة من تناقضات عدائية محدثة، أي مزودة بعنف السلطة، وتاليا أمام مختلف أنواع التدخلات الخارجية، وانشغلت بالصراع بعضها ضد بعض عن الصراع مع العدو الإسرائيلي، الذي احتل فلسطين أولا، ثم استولى بعد عشرين عاما، في حرب سهلة إلى أبعد حد، على أراضي ثلاث دول عربية تعادل مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة الأرض الفلسطينية، بينما غابت القيم الجمهورية وراء سياسات ملكية، والقيم الملكية وراء سياسات عشائرية، وانقلبت العلمانية إلى دين سلطة، وامتصت أبنية وهياكل تقليدية عفا عليها الزمن مردود الجهود التحديثية والتطويرية، فأنتجت عكس ما كانت تدعي الرغبة في إنتاجه من أوضاع وعلاقات ووعي، فإذا العرب شيع متنافسة / مقتتلة، والاعتماد على الخارج سياسة قومية ووطنية ثابتة، وما تحقق بعد الحرب العالمية الثانية وقيام الثورة الناصرية يذهب هباء خلال سنوات قليلة، وإذا بالقوى العسكرية والحزبية والسياسية العربية تندفع، ردا على هزيمة عام 1967، لإقامة نظم سلطوية همها الوحيد البقاء في السلطة، وإعادة إنتاج المجتمع باعتباره مجتمع سلطة، مع ما ترتب على ذلك من تشوهات سياسية مميتة أصابت حياة العرب «الحديثة» وأخذتها إلى نقيض ما كانت تتطلع إليه.
حركة انهيار وتدهور عندنا، وصعود وارتقاء في تركيا. أزمة متفاقمة ومستفحلة واحتجاز مزمن وبلا قاع بين ظهرانينا، وحلول عملية ناجحة للأزمات المزمنة والمستفحلة هناك، بينها أزمة هوية صعبة ومعقدة هي الأزمة الكردية. لئن كان خراب الأمم يبدأ من السياسة، فإن نهضتها تبدأ أيضا منها. وقد بدأت نهضة تركيا من سياسة قدمت قراءات جديدة لمقاربة مشكلاتها، الكثيرة والمعقدة والمتنوعة المستويات، تبناها حزب مدني هو حزب العدالة والتنمية، وجعلها تتسم بالشمول والصدق، وتصالح العقل الإسلامي مع أفكار حديثة حملت النهضة الكونية منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم، كأفكار المواطنة وحقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة وسيادة القانون، دون التخلي عن مفاهيم الجمهورية والقومية والعلمانية الأتاتوركية. المثير للإعجاب والاهتمام أن من حقق هذه النقلة هو حزب إسلامي حديث التكوين، يستحق عقله السياسي وسلوكه المدني أن يكون قدوة لأحزاب المنطقة العربية، الدينية والعلمانية على حد سواء.
قبل افتراق تجربة تركيا عن التجربة العربية، بفضل حزب العدالة والتنمية، وبعد الحرب العالمية الثانية واستقلال الدول العربية، انخرط العرب في تجربتين كبيرتين فشلت كلتاهما، اعتبرت إحداهما اشتراكية (أسماها ياسين الحافظ بحق تأخراكية) والثانية رأسمالية (أسماها تأخرالية). واليوم، وبعد ما أنتجته كلتا التجربتين من تأخر سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي، يسود العالم العربي خواء شامل، ويعجز العرب عن كبح اندفاعهم نحو الهاوية، بينما تتحقق تجربة رائدة على مرمى حجر منهم، على حدودهم المباشرة، تشبه في واقعها وكثير من مفرداتها ورهاناتها واقعهم ورهاناتهم، وتحاول ما كانوا يحاولونه وفشلوا في بلوغه، بل بلغوا عكسه ونقيضه.
... وبينما يتم تقارب مطلوب بين تركيا وبلدان عربية عديدة منها سوريا والعراق، ألا تستحق التجربة التركية تأملا نقديا يجعلنا ننتفع بها ونتعلم منها، باعتبار أنها حاملة حلول ربما كانت جوانب منها فرصة لنا كما هي لشعبها الصديق والشقيق؟ ما العيب في التعلم من الآخرين، إذا كانوا ناجحين، وكان النظام العربي قد قوض بسياساته قدرته الذاتية وقدرة مجتمعاته على إبداع حلول فعالة للمشكلات الهيكلية الخطيرة التي أنتجها، وكان قد أجبر أمته على الانكفاء على ذاتها والعيش بسلبية في هوامش الواقع المحلي والإقليمي والدولي، تقعدها حال من الضعف والعجز السياسي، تستدعي التدخل الخارجي في شؤونها، وتزين لحكوماتها محاسن الانضواء التام تحت إبط قوة ما، دولية أو إقليمية، لاعتقادها أن هذا الحل، الكارثي بكل الأبعاد، قد يحول دون المزيد من تدهور أوضاعها، ويرفع سعرها في سوق النخاسة الدولية؟!
تعود تركيا بقوة إلى العالم العربي، ويعود إليها. فهل ستقتصر العودة المتبادلة على علاقات تقتصر على النظم، فتكون محدودة وخاضعة لشتى أنواع الشد والجذب، أم تتخطى ذلك إلى العلاقات بين المجتمعات، بنخبها الثقافية والحاكمة والمالكة وقطاعاتها الشعبية الواسعة، فتكون بداية واعدة لجميع أطرافها، وتفيد منها مجتمعاتنا المسكينة والمظلومة، التي تبقى، على رغم كل ما وقع لها، حامل التقدم والنهضة والاستقلال؟.