Nasserm
11/10/2009, 19:53
الكونيات عند جبران
المهندس فايز فوق العادة
تحتل الكونيات كل كلمة قالها جبران:
"ها قد سرت خمساً وعشرين مرة حول الشمس، ولا أدري كم مرة سار القمر حولي، لكنني لم أدرك بعد أسرار النور ولا عرفت خفايا الظلام، قد سرت خمساً وعشرين مرة مع الأرض والقمر والشمس والكواكب حول الناموس الكلي الأعلى، ولكن هو ذا نفسي تهمس الآن أسماء ذلك الناموس مثلما ترجع الكهوف صدى أمواج البحر، فهي كائنة بكيانه ولا تعلم ماهيته وتترنم بأغاني مده وجزره ولا تستطيع إدراكه. منذ خمس وعشرين سنة خطتني يدالزمان كلمة في كتاب هذا العالم الغريب الهائل، وها أنذا كلمة مبهمة ملتبسة المعاني ترمز تارة إلى لا شيء وطوراً إلى أشياء كثيرة".
لقد رأى كل من آينشتاين وجبران أكواناً خاصة استلها مما خزنته الأزمنة في خلاياه. إن أهم سر من أسرار العالم، هو أن هذا العالم يمكن فهمه، لايستطيع العقل الإنساني أن يحيط بالكون:
"إننا أشبه بطفل صغير يلج مكتبةكبيرة حيث ترتفع الكتب حتى السقف وتتوزع بين لغات مختلفة، إن الطفل على علم مسبق أن البعض مسؤول عن كتابة محتويات هذه الكتب، إلا أنه لا يدري منهم هؤلاء البعض وكيف أنجزوا ما أنجزوه، كما أنه لا يفهم اللغات التي سطرت بها تلك الكتب، وعلى الرغم من ذلك يستطيع الطفل أن يتحسس خطة محددة في ترتيب تلك الكتب، إنه تنظيم غامض، لا يستطيع الطفل فهمه بشكل كامل، ولكن يستطيع إدراكه على نحو مبهم".
لم يكن هناك فاصل بين جبران وبين الكون ولا عداوة بينه وبين أصغر أو أكبر ما في الكون، بل كل ما في الكون كان يناديه:
"أنت ابني الحبيب، كبّر أيها الكون، الأولى بثوا في سمائك أنفسهم، وملؤوا الهواء أرواحاً لطيفة وعلموا الإنسان أن يرى بسمعه ويسمع بقلبه".
لقد عزت على جبران الذات المشترطة فأطلقها لتسع الكون بأسره، لا غرو في أنه تحول من محدودية الإنسان في الله إلى كلية الله في الإنسان، لم يجد جبران بين النكبات المخيفة والرزايا الهائلة إلا "ألوهية الإنسان تقف كالجبار ساخرة بحماقة الأرض وغضب العناصر ومثل عمود نور منتصبة بين خرائب بابل ونينوى وتدمر وبمباي وسان فرانسيسكو ترتل أنشودة الخلود قائلة: لتأخذ الأرض ما لها فلا نهاية لي، أنتِ أنا أيتها الأرض، فلو لم أكن لما كنتِ، إنما الإنسان كائن منتصب بين اللانهاية في باطنه واللانهاية في محيطه، فلو لم يكن فينا ما فينا لما كان في خارجنا ما في خارجنا".
إن الذات هي منبع الألوهة، أما الألوهة فهي غاية ترسمها أحلام الذات أمامها، أشار آينشتاين إلى ذلك بقوله: "إن ما يشغلني فعلاً هو التساؤل التالي: هل كان لدى الإله أي خيار في خلق العالم".
من جانبه أكد جبران أن "الطبيعة ما هي إلا جسد الله، شكل الله"، والله هو ما ننشده ونحب أن نحققه. لقد بات على الطبيعة أن تولد من الشاعرية، من الإنسان الخلاق، من الرؤيا، بعد أن كانت هي منطلق العقل.
إن النظرية العلمية الحقيقية هي قصيد كوني لحّن وفق رموز خاصة.
أضيف مما قاله آينشتاين:
"خالق العالم هو الإنسان الفرد العظيم".
علينا أن نسرع قبل أن تذوي كل الأحلام.
الحق نقول إننا نجد صعوبة بالغة في التمييز بين آينشتاين وجبران.
عود إلى جبران:
"ومن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام كان عبد الأيام".
أوليست الأحلام هي ذاتها الأكوان.
إن ما يتحدث عنه الجميع بأنه حلم، نصفه بقولنا إنه كون ومضة يسرع بالزوال، أما الكون، أو إن شئتم الأكوان فهي أحلام تبقى لفترة أطول ولو بهنيهة، لذا فلتكن ثقتكم عظيمة بالأحلام، لأن بوابة الأبدية مختفية فيها، إن الإنسان مخلوق يشعر بما لا يراه ويتخيل مالا تقع عليه حواسه، فيرسم لشعوره رموزاً تدل بمعانيها على خفايا نفسه برسم خياله بالكلام والأنغام والصور والتماثيل التي تظهر بأشكالها أقدس ميوله في الحياة وأجمل مشتهياته بعد الموت. إن كان الإنسان المصدر الوحيد الممكن لكل ما هو غير متوقع، إن كانت الحياة المقدس الوحيد المعطى من ذاته لذاته وبذاته، فإن الإنسان الحي الظاهرة هو بالتعريف النبوّة المستمرة.
"واليوم أعرف كل المعرفة أني أنا الدائرة وأنا لحياة بأسرها تتحرك في بذرات منتظمة، أنا هو البحر غير المتناهي، وماجميع العوالم سوى حبات من الرمل على شاطئ، إن انتابتني الحيرة فعلي أن أصبر، فالحيرة بدء المعرفة، أوليس الغموض والسديم هما بداءة كل شيء لانهايته. أما من يقنط فلن يكون نبياً، ومن يخاف ذاته وكل شيء آخر فهو من القانطين".
من هنا كان رفض النبوة إلى حد إنكارها، تلكم هي مأساة الإنسان المستنبتة على مسرح الدهر، وقد كثر المتفرجون المستحسنون، وقل من تأمل وتعقل. كان جبران في عداد من تأملوا وتعقلوا، كان نبياً بحق:
"جئت لأقول كلمة، وسأقولها، وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد، فالغد لا يترك سراً مكنوناً في كتاب اللانهاية".
إن أنكر النبيَّ قومُه، إنسحقت الأجيال المارة أعماله فإن أحلامه لا تفنى وعواطفه لا تضعف، لأن الأحلام والعواطف تبقى بقاء الروح الكلي الخالد وقد تتوارى وتهجع آونة متشبهة بالشمس عند مجيء الليل وبالقمر عند مجيء الصباح.
النبي هو من كانت نفسه غنية باكتفائها ومشغولة عدا ذلك بمجد الألوهة.
النبي هو من يدأب على دفع الصيرورة الزمانية نحو الكمال.
النبي أرق من تنهدة زهرة البنفسج وأشد من العاصفة.
النبي مصداقية مطلقة ترسم الطبيعة بإخلاص ثم لا تلبث أن تتحول إلى كلمة تقولها الطبيعة ثم تستردها وتخفيها طي قلبها ثم تقولها.
النبي من يغادر ونفسه بحراً عظيماً، ناشدين بحراً أعظم.
كل شيء عند النبي وهو كل شيء، إذ لا تبرز ليده أية حاجة إلى تنظير وحذف وإضافة.
ليس نبياً على الإطلاق من كانت الأشياء بالنسبة إليه على غير ما هي عليه، وأنّى لـمُصادر أو مُستحوذ أو مصنوع من مصطلحات اتفاقية أن يكون نبياً.
إن المصطلحات الاتفاقية هي بنات اللحظات الزائلة التي لم تكن أبداً. تصنف الأفكار الناجزة في معجم تلك المصطلحات، والأفكار الناجزة كزجاج النافذة، نرى الحقيقة من خلالها، لكنها تفصلنا عن الحقيقة.
تأتينا الأفكار الناجزة في كتب فتقطعنا عن أعماقنا وتنسينا أن ليس في الوجود شيء أعمق من نفس الإنسان.
"النفس هي العمق الذي ينشد ذاته، نطبع هذه الكتب على أوراق نأتيبها من أشجار متناسين أن الأشجار أشعار كتبتها الشمس على صفحة الأرض ونحن نقطعها ونصنع الورق منها لندون فيها فراغنا وبلادتنا، وما الشمس والأرض إلا بداءة لشمس أعظم وأرض أعظم، وستبقيان بداءة إلى الأبد".
تصور الذاتُ كل شيء في لحظة راهنة وتكسرها بمجرد تأملها ومع غيابها تغيب الأفكار، وما تلك الأفكار إلا اللحظة المنشودة راهنة بل هي تجميد للحظة ولّت ولم تكن أبداً، إنها الانحدار إلى الموت. لكن النبي يتمرد على الموت وينأى بالحياة عن أن تكون عرضاً زائلاً، إنه لا يجدف على الشمس ويحجم عن السخرية بالطبيعة، إنه متأهب على الدوام وشاحذ قواه ابداً لصوغ الفكرة تلو الفكرة.
تعتمد النبوة تنقية دائمة للخافية مما خلفته لحظات لم تكن ابداً، وكل لحظة انقضت لم تكن ابداً، ففي اللحظة الراهنة تذوب وتتحد عناصر الماضي والحاضر والمستقبل.
"أما الآن فقد عرفت أن في الهنيهة الحاضرة كل الزمن بكلما في الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق، أما الآن فقد علمت أن مكاناً أحل فيه هو كل مكان وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات".
إن النبي المصداقي النقي وحده يستطيع أن يتشوق ثم يتشوق ثم يتشوق حتى ينزع الشوق نقاب الظواهر عن بصره فيشاهد إذ ذاك ذاته، ومن ير ذاته ير جوهر الحياة المجرد، فكل ذات نبي هي جوهر الحياة المجرد.
هكذا علّم النبي جبران. إن كان آينشتاين قد تعلم من دستويفسكي أكثر مما تعلم من نيوتن، بدوري أقر وأعترف أن القليل مما أعرفه قد أخذته من جبران ولم أنقله عن آينشتاين.
أنا لا أعرف الحقيقة المجردة، ولكنني أركع متضعاً أمام جهلي، وفي هذا فخري وأجري.
وفق جورج لوميتر، الذي تأثر به جبران أيما تأثر، ينطلق الكون في تمدد سريع بعيد ولادته بهنيهة، ثم لا يلبث أن يغدو ضحية المواجهة بين فعل التجاذب الثقالي المتبادل الشامل من جهة، وبين أثر التنابذ المعزو إلى التعديل الذي أجراه آينشتاين على معادلاته من جهة أخرى.
كان آينشتاين قد فعل مافعل كي يكبح تمدد الكون ويعود به إلى صورة اشتقت في لحظات زائلة. إنها مواجهة يفرضها الكون ذاته، إذ ذاك يدلف الكون من بوابة ضيقة تدفعه إلى إرهاص من تمدد بطيء لا يتحرر الكون من براثنه إلا بحلول لحظة الآن.
اللحظة الجبرانية الراهنة إنها لحظة فاصلة في كونيات لوميتر يعود الكون بعدها إلى التمدد السريع مدفوعاً هذه المرة بزخم التنابذ الذي يحقق انتصاراً باهراًعلى التجاذب لحظة الآن.
إن لحظة الآن من الزمن هي حالة وجودية ظاهراتية صرفة، إنها الخافية الواعية التي تخلقها الأنا، إنها استشعار الأنا لأناها بامتياز، ويا للأسف، يغشى البصر بعيد لحظة الآن، فيفقد الناظر تدريجياً إدراكه للكون، ذلك أن التنابذ يسبقه متجاوزاً إياه أبداً.
كذا يستخدم ابن آدم أقدس ما في الكون لتعميم شرور الكون، إنه الموت يقرره الإنسان بنفسه، إنه خدر الرمز نقنع به بعيداً عن جمال المرموز إنه التجيير إلى الذات المقتبسة والجبن عن لقاء الذات المعنوية الخفية المفعمة بالأحلام المترفعة عن شرائع الإنسان وتعاليمه. إن كانت الكونيات الفيزيائية منظومات من رموز نسجتها الأنا لتعلل الأنا ما تراه الأنا عجزاً واستحالة يتمثلان بالانقطاع في السيالة الزمانية المكانية وبنقاط الانفصام التي تحتل كل حيز في السيالة، فإن الكونيات الجبرانية تبحر بعيداً إلى ما وراء نقاط الانفصام باحثة عن أصل وطبيعة الرمز والتعلل والرؤية والعجز والاستحالة.
أوليس القصد من الوجود أن يطمح الإنسان إلى ما وراء الوجود. وكما تطرح الكونيات الفيزيائية موضوعاتها،تخط الكونيات الجبرانية بدورها موضوعاتها الخاصة:
"أيها الكون العاقل،المحجوب بظواهر الكائنات، الموجود بالكائنات وفي الكائنات وللكائنات، أنت تسمعني لأنك حاضري ذاتي، وإنك تراني لأنك بصيرة كل شيء حي، ألقي في روحي بذرة من بذور حكمتك لتنبت نصبة في غابتك وتعطي ثمراً من ثمارك. فأنا وأنم لا ولن نقدر على تحديد الفكر والعاطفة ولكننا نعرف أنهما من الأوليات الأزلية الأبدية، فكل ما في الوجود كائن فيك وبك ولك. كل ما في الوجود كائن في باطنك وكل ما في باطنك موجود في الوجود، وليس هناك من حد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها أو بين أعلاها وأخفضها أو بين أصغرها وأعظمها، ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من حركات وأنظمة". أكدت الموضوعات الجبرانية على أزلية وأبدية الحياة باعتبارها ظاهرة، نحن الشيء الذي لا نهاية لصغره ولا نهاية لكبره. إن الموضوعات الجبرانية محدودة في تعدادها، لكنها ليست محدودة فيما تذهب إليه. أما الموضوعات الأخرى فهي محدودة المبنى والمعنى. نعود إلى كتاب الموضوعات الكونية الجبرانية لنقلب صفحاته: "وما لا شكل له ينشد أبداً أن يكون ذا شكل، حتى السديم الذي لا يعد يود أن يتحول إلى شموس وأقمار، أوليس الجهاد في الطبيعة شوق عدم النظام إلى النظام".
الإنسان الكوني هو في جهة منه قلق وملل وتردد، في ناحية أخرى هو وعي ومعرفة، وفي ناحية أخيرة هو حلم وعوالم جديدة لم يبلورها بعد.
ثم أنظر متأملاً بما وراء البحر، فأرى الفضاء غير المتناهي بكل ما فيه من العوالم السابحة والكواكب اللامعة والشموس والأقمار والسيارات وما بينها من الدوافع والجواذب المسالمة المتنازعة المتولدة المتحولة المتماسكة بناموس لا حد له ولا مدى الخاضعة لشرع كلي ليس لبدئه ابتداء ولا لنهايته نهاية، ما هو ذلك الشرع، إنها ما تعجز كل الأبجديات عن رسمه وبيانه، لو رصفت رموز كل الأبجديات بكل صيغها الممكنة لما استطاعت أن تدنو من الحقيقة أبداً، ليست الحقيقة أبعد مما يستطيع الخيال بلوغه وحسب، إنها أكثر خيالية مما يقدر الخيال أن يتخيل. والخيال أداتنا الوحيدة في المعرفة، إنه حقيقة لم تتحجر بعد، وإن التصور معرفة أسمى من أن تتقيد بسلاسل المقايسس وأعلى وأرحب من أن تسجن بأقفاص الألفاظ.
الخيال هو يقظة في أعماق النفس فمن يعرفها لا يستطيع إظهارها بالكلام ومن لم يعرفها لا ولن يدرك أسرارها، نحن نرافق الخيال وأيدي الخيال أنزلت المعرفة من دائرة النور الأعلى".
يتبع..
المهندس فايز فوق العادة
تحتل الكونيات كل كلمة قالها جبران:
"ها قد سرت خمساً وعشرين مرة حول الشمس، ولا أدري كم مرة سار القمر حولي، لكنني لم أدرك بعد أسرار النور ولا عرفت خفايا الظلام، قد سرت خمساً وعشرين مرة مع الأرض والقمر والشمس والكواكب حول الناموس الكلي الأعلى، ولكن هو ذا نفسي تهمس الآن أسماء ذلك الناموس مثلما ترجع الكهوف صدى أمواج البحر، فهي كائنة بكيانه ولا تعلم ماهيته وتترنم بأغاني مده وجزره ولا تستطيع إدراكه. منذ خمس وعشرين سنة خطتني يدالزمان كلمة في كتاب هذا العالم الغريب الهائل، وها أنذا كلمة مبهمة ملتبسة المعاني ترمز تارة إلى لا شيء وطوراً إلى أشياء كثيرة".
لقد رأى كل من آينشتاين وجبران أكواناً خاصة استلها مما خزنته الأزمنة في خلاياه. إن أهم سر من أسرار العالم، هو أن هذا العالم يمكن فهمه، لايستطيع العقل الإنساني أن يحيط بالكون:
"إننا أشبه بطفل صغير يلج مكتبةكبيرة حيث ترتفع الكتب حتى السقف وتتوزع بين لغات مختلفة، إن الطفل على علم مسبق أن البعض مسؤول عن كتابة محتويات هذه الكتب، إلا أنه لا يدري منهم هؤلاء البعض وكيف أنجزوا ما أنجزوه، كما أنه لا يفهم اللغات التي سطرت بها تلك الكتب، وعلى الرغم من ذلك يستطيع الطفل أن يتحسس خطة محددة في ترتيب تلك الكتب، إنه تنظيم غامض، لا يستطيع الطفل فهمه بشكل كامل، ولكن يستطيع إدراكه على نحو مبهم".
لم يكن هناك فاصل بين جبران وبين الكون ولا عداوة بينه وبين أصغر أو أكبر ما في الكون، بل كل ما في الكون كان يناديه:
"أنت ابني الحبيب، كبّر أيها الكون، الأولى بثوا في سمائك أنفسهم، وملؤوا الهواء أرواحاً لطيفة وعلموا الإنسان أن يرى بسمعه ويسمع بقلبه".
لقد عزت على جبران الذات المشترطة فأطلقها لتسع الكون بأسره، لا غرو في أنه تحول من محدودية الإنسان في الله إلى كلية الله في الإنسان، لم يجد جبران بين النكبات المخيفة والرزايا الهائلة إلا "ألوهية الإنسان تقف كالجبار ساخرة بحماقة الأرض وغضب العناصر ومثل عمود نور منتصبة بين خرائب بابل ونينوى وتدمر وبمباي وسان فرانسيسكو ترتل أنشودة الخلود قائلة: لتأخذ الأرض ما لها فلا نهاية لي، أنتِ أنا أيتها الأرض، فلو لم أكن لما كنتِ، إنما الإنسان كائن منتصب بين اللانهاية في باطنه واللانهاية في محيطه، فلو لم يكن فينا ما فينا لما كان في خارجنا ما في خارجنا".
إن الذات هي منبع الألوهة، أما الألوهة فهي غاية ترسمها أحلام الذات أمامها، أشار آينشتاين إلى ذلك بقوله: "إن ما يشغلني فعلاً هو التساؤل التالي: هل كان لدى الإله أي خيار في خلق العالم".
من جانبه أكد جبران أن "الطبيعة ما هي إلا جسد الله، شكل الله"، والله هو ما ننشده ونحب أن نحققه. لقد بات على الطبيعة أن تولد من الشاعرية، من الإنسان الخلاق، من الرؤيا، بعد أن كانت هي منطلق العقل.
إن النظرية العلمية الحقيقية هي قصيد كوني لحّن وفق رموز خاصة.
أضيف مما قاله آينشتاين:
"خالق العالم هو الإنسان الفرد العظيم".
علينا أن نسرع قبل أن تذوي كل الأحلام.
الحق نقول إننا نجد صعوبة بالغة في التمييز بين آينشتاين وجبران.
عود إلى جبران:
"ومن لا يصرف الأيام على مسرح الأحلام كان عبد الأيام".
أوليست الأحلام هي ذاتها الأكوان.
إن ما يتحدث عنه الجميع بأنه حلم، نصفه بقولنا إنه كون ومضة يسرع بالزوال، أما الكون، أو إن شئتم الأكوان فهي أحلام تبقى لفترة أطول ولو بهنيهة، لذا فلتكن ثقتكم عظيمة بالأحلام، لأن بوابة الأبدية مختفية فيها، إن الإنسان مخلوق يشعر بما لا يراه ويتخيل مالا تقع عليه حواسه، فيرسم لشعوره رموزاً تدل بمعانيها على خفايا نفسه برسم خياله بالكلام والأنغام والصور والتماثيل التي تظهر بأشكالها أقدس ميوله في الحياة وأجمل مشتهياته بعد الموت. إن كان الإنسان المصدر الوحيد الممكن لكل ما هو غير متوقع، إن كانت الحياة المقدس الوحيد المعطى من ذاته لذاته وبذاته، فإن الإنسان الحي الظاهرة هو بالتعريف النبوّة المستمرة.
"واليوم أعرف كل المعرفة أني أنا الدائرة وأنا لحياة بأسرها تتحرك في بذرات منتظمة، أنا هو البحر غير المتناهي، وماجميع العوالم سوى حبات من الرمل على شاطئ، إن انتابتني الحيرة فعلي أن أصبر، فالحيرة بدء المعرفة، أوليس الغموض والسديم هما بداءة كل شيء لانهايته. أما من يقنط فلن يكون نبياً، ومن يخاف ذاته وكل شيء آخر فهو من القانطين".
من هنا كان رفض النبوة إلى حد إنكارها، تلكم هي مأساة الإنسان المستنبتة على مسرح الدهر، وقد كثر المتفرجون المستحسنون، وقل من تأمل وتعقل. كان جبران في عداد من تأملوا وتعقلوا، كان نبياً بحق:
"جئت لأقول كلمة، وسأقولها، وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد، فالغد لا يترك سراً مكنوناً في كتاب اللانهاية".
إن أنكر النبيَّ قومُه، إنسحقت الأجيال المارة أعماله فإن أحلامه لا تفنى وعواطفه لا تضعف، لأن الأحلام والعواطف تبقى بقاء الروح الكلي الخالد وقد تتوارى وتهجع آونة متشبهة بالشمس عند مجيء الليل وبالقمر عند مجيء الصباح.
النبي هو من كانت نفسه غنية باكتفائها ومشغولة عدا ذلك بمجد الألوهة.
النبي هو من يدأب على دفع الصيرورة الزمانية نحو الكمال.
النبي أرق من تنهدة زهرة البنفسج وأشد من العاصفة.
النبي مصداقية مطلقة ترسم الطبيعة بإخلاص ثم لا تلبث أن تتحول إلى كلمة تقولها الطبيعة ثم تستردها وتخفيها طي قلبها ثم تقولها.
النبي من يغادر ونفسه بحراً عظيماً، ناشدين بحراً أعظم.
كل شيء عند النبي وهو كل شيء، إذ لا تبرز ليده أية حاجة إلى تنظير وحذف وإضافة.
ليس نبياً على الإطلاق من كانت الأشياء بالنسبة إليه على غير ما هي عليه، وأنّى لـمُصادر أو مُستحوذ أو مصنوع من مصطلحات اتفاقية أن يكون نبياً.
إن المصطلحات الاتفاقية هي بنات اللحظات الزائلة التي لم تكن أبداً. تصنف الأفكار الناجزة في معجم تلك المصطلحات، والأفكار الناجزة كزجاج النافذة، نرى الحقيقة من خلالها، لكنها تفصلنا عن الحقيقة.
تأتينا الأفكار الناجزة في كتب فتقطعنا عن أعماقنا وتنسينا أن ليس في الوجود شيء أعمق من نفس الإنسان.
"النفس هي العمق الذي ينشد ذاته، نطبع هذه الكتب على أوراق نأتيبها من أشجار متناسين أن الأشجار أشعار كتبتها الشمس على صفحة الأرض ونحن نقطعها ونصنع الورق منها لندون فيها فراغنا وبلادتنا، وما الشمس والأرض إلا بداءة لشمس أعظم وأرض أعظم، وستبقيان بداءة إلى الأبد".
تصور الذاتُ كل شيء في لحظة راهنة وتكسرها بمجرد تأملها ومع غيابها تغيب الأفكار، وما تلك الأفكار إلا اللحظة المنشودة راهنة بل هي تجميد للحظة ولّت ولم تكن أبداً، إنها الانحدار إلى الموت. لكن النبي يتمرد على الموت وينأى بالحياة عن أن تكون عرضاً زائلاً، إنه لا يجدف على الشمس ويحجم عن السخرية بالطبيعة، إنه متأهب على الدوام وشاحذ قواه ابداً لصوغ الفكرة تلو الفكرة.
تعتمد النبوة تنقية دائمة للخافية مما خلفته لحظات لم تكن ابداً، وكل لحظة انقضت لم تكن ابداً، ففي اللحظة الراهنة تذوب وتتحد عناصر الماضي والحاضر والمستقبل.
"أما الآن فقد عرفت أن في الهنيهة الحاضرة كل الزمن بكلما في الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق، أما الآن فقد علمت أن مكاناً أحل فيه هو كل مكان وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات".
إن النبي المصداقي النقي وحده يستطيع أن يتشوق ثم يتشوق ثم يتشوق حتى ينزع الشوق نقاب الظواهر عن بصره فيشاهد إذ ذاك ذاته، ومن ير ذاته ير جوهر الحياة المجرد، فكل ذات نبي هي جوهر الحياة المجرد.
هكذا علّم النبي جبران. إن كان آينشتاين قد تعلم من دستويفسكي أكثر مما تعلم من نيوتن، بدوري أقر وأعترف أن القليل مما أعرفه قد أخذته من جبران ولم أنقله عن آينشتاين.
أنا لا أعرف الحقيقة المجردة، ولكنني أركع متضعاً أمام جهلي، وفي هذا فخري وأجري.
وفق جورج لوميتر، الذي تأثر به جبران أيما تأثر، ينطلق الكون في تمدد سريع بعيد ولادته بهنيهة، ثم لا يلبث أن يغدو ضحية المواجهة بين فعل التجاذب الثقالي المتبادل الشامل من جهة، وبين أثر التنابذ المعزو إلى التعديل الذي أجراه آينشتاين على معادلاته من جهة أخرى.
كان آينشتاين قد فعل مافعل كي يكبح تمدد الكون ويعود به إلى صورة اشتقت في لحظات زائلة. إنها مواجهة يفرضها الكون ذاته، إذ ذاك يدلف الكون من بوابة ضيقة تدفعه إلى إرهاص من تمدد بطيء لا يتحرر الكون من براثنه إلا بحلول لحظة الآن.
اللحظة الجبرانية الراهنة إنها لحظة فاصلة في كونيات لوميتر يعود الكون بعدها إلى التمدد السريع مدفوعاً هذه المرة بزخم التنابذ الذي يحقق انتصاراً باهراًعلى التجاذب لحظة الآن.
إن لحظة الآن من الزمن هي حالة وجودية ظاهراتية صرفة، إنها الخافية الواعية التي تخلقها الأنا، إنها استشعار الأنا لأناها بامتياز، ويا للأسف، يغشى البصر بعيد لحظة الآن، فيفقد الناظر تدريجياً إدراكه للكون، ذلك أن التنابذ يسبقه متجاوزاً إياه أبداً.
كذا يستخدم ابن آدم أقدس ما في الكون لتعميم شرور الكون، إنه الموت يقرره الإنسان بنفسه، إنه خدر الرمز نقنع به بعيداً عن جمال المرموز إنه التجيير إلى الذات المقتبسة والجبن عن لقاء الذات المعنوية الخفية المفعمة بالأحلام المترفعة عن شرائع الإنسان وتعاليمه. إن كانت الكونيات الفيزيائية منظومات من رموز نسجتها الأنا لتعلل الأنا ما تراه الأنا عجزاً واستحالة يتمثلان بالانقطاع في السيالة الزمانية المكانية وبنقاط الانفصام التي تحتل كل حيز في السيالة، فإن الكونيات الجبرانية تبحر بعيداً إلى ما وراء نقاط الانفصام باحثة عن أصل وطبيعة الرمز والتعلل والرؤية والعجز والاستحالة.
أوليس القصد من الوجود أن يطمح الإنسان إلى ما وراء الوجود. وكما تطرح الكونيات الفيزيائية موضوعاتها،تخط الكونيات الجبرانية بدورها موضوعاتها الخاصة:
"أيها الكون العاقل،المحجوب بظواهر الكائنات، الموجود بالكائنات وفي الكائنات وللكائنات، أنت تسمعني لأنك حاضري ذاتي، وإنك تراني لأنك بصيرة كل شيء حي، ألقي في روحي بذرة من بذور حكمتك لتنبت نصبة في غابتك وتعطي ثمراً من ثمارك. فأنا وأنم لا ولن نقدر على تحديد الفكر والعاطفة ولكننا نعرف أنهما من الأوليات الأزلية الأبدية، فكل ما في الوجود كائن فيك وبك ولك. كل ما في الوجود كائن في باطنك وكل ما في باطنك موجود في الوجود، وليس هناك من حد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها أو بين أعلاها وأخفضها أو بين أصغرها وأعظمها، ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من حركات وأنظمة". أكدت الموضوعات الجبرانية على أزلية وأبدية الحياة باعتبارها ظاهرة، نحن الشيء الذي لا نهاية لصغره ولا نهاية لكبره. إن الموضوعات الجبرانية محدودة في تعدادها، لكنها ليست محدودة فيما تذهب إليه. أما الموضوعات الأخرى فهي محدودة المبنى والمعنى. نعود إلى كتاب الموضوعات الكونية الجبرانية لنقلب صفحاته: "وما لا شكل له ينشد أبداً أن يكون ذا شكل، حتى السديم الذي لا يعد يود أن يتحول إلى شموس وأقمار، أوليس الجهاد في الطبيعة شوق عدم النظام إلى النظام".
الإنسان الكوني هو في جهة منه قلق وملل وتردد، في ناحية أخرى هو وعي ومعرفة، وفي ناحية أخيرة هو حلم وعوالم جديدة لم يبلورها بعد.
ثم أنظر متأملاً بما وراء البحر، فأرى الفضاء غير المتناهي بكل ما فيه من العوالم السابحة والكواكب اللامعة والشموس والأقمار والسيارات وما بينها من الدوافع والجواذب المسالمة المتنازعة المتولدة المتحولة المتماسكة بناموس لا حد له ولا مدى الخاضعة لشرع كلي ليس لبدئه ابتداء ولا لنهايته نهاية، ما هو ذلك الشرع، إنها ما تعجز كل الأبجديات عن رسمه وبيانه، لو رصفت رموز كل الأبجديات بكل صيغها الممكنة لما استطاعت أن تدنو من الحقيقة أبداً، ليست الحقيقة أبعد مما يستطيع الخيال بلوغه وحسب، إنها أكثر خيالية مما يقدر الخيال أن يتخيل. والخيال أداتنا الوحيدة في المعرفة، إنه حقيقة لم تتحجر بعد، وإن التصور معرفة أسمى من أن تتقيد بسلاسل المقايسس وأعلى وأرحب من أن تسجن بأقفاص الألفاظ.
الخيال هو يقظة في أعماق النفس فمن يعرفها لا يستطيع إظهارها بالكلام ومن لم يعرفها لا ولن يدرك أسرارها، نحن نرافق الخيال وأيدي الخيال أنزلت المعرفة من دائرة النور الأعلى".
يتبع..