Nasserm
10/10/2009, 20:13
ديمومة الأنظمة: بحث في أسباب المحنة العربيّة
يحلم زعماء العرب بالخلود. ينفقون الغالي والرخيص بحثاً عن عقاقير وأعشاب، ويستعينون بالمشعوذين للحصول على سرّ الخلود. كان مستشار أنور السادات، حسن التهامي (ذو الدور المشؤوم في العلاقة المبكرة مع إسرائيل)، يحضّر الأرواح ويشير على السادات للوقاية من الشرّ. وبعض منجمّي لبنان بنى قصوراً مقابل «تنبؤات» لهذا الحاكم أو ذاك. حياة واحدة من قمع شعوبهم لا تكفي، فيزيدون عليها بسلالات لتخلّد اسمهم. بعضهم حكمنا لعقود، والبعض الآخر لقرون من الزمن
أسعد أبو خليل*
الملك فهد بدأ باكراً في البحث عن الوقاية من المرض والاغتيال والمؤامرات. بلغه أمر ضاربة بالمندل، وأنها ماهرة. عجّل في استدعائها. باقي القصّة معروف: كيف أنها أشارت عليه باستحالة إصابته بصيبة العين إذا ما لازمه ابنه الطفل (آنذاك) عبد العزيز. لم يفارق جانبه في حياته، واستحدث له الملك وزارة الشؤون الوزاريّة كي يلازمه أينما حلّ. الخارجيّة البريطانيّة حاولت مرّة أن تعترض عندما أصرّ على أن يصطحب «عزّوز» إلى لقاء مع الملكة إليزابيت. ونعلم اليوم أن صدّام كان مثل «هملر» مأخوذاً بالسحرة والمشعوذين، وكيف كان مهووساً بأمنه الشخصي وبأمن ولديْه.
لكن ما سبب تعمير الأنظمة العربيّة وديمومتها؟ اللجوء إلى النظريّات الاستشراقيّة المُتجدِّدة عن «الاستبداد الشرقي» أو عن الاستثناء العربي أو عن تسلطيّة كامنة في الإسلام لا تفي بالغرض التحليلي، كما أنها باطلة من منظار علم الاجتماع. غرضها سياسي وهو تسويغ الدعم الغربي لأنظمة التسلّط العربيّة، ولرفع المسؤوليّة عن المُستعمِر. ويجب ألا نعزو سواد نظريّات الاستثناء العربي إلى الاستشراق الأميركي ــــ الإسرائيلي المبتذل (الذي لا يرتقي إلى مصاف الاستشراق الأوروبي الكلاسيكي الرصين والغزير العلم بصرف النظر عن مشاكله المنهجيّة والسياسيّة) فقط، بل هناك من يروّج في العالم العربي لفكر التنميط التعميمي عن العرب والإسلام: ما معنى الاستشهاد المُتكرِّر بكتاب عبد الله القصيمي «العرب ظاهرة صوتيّة»؟ وهل في الكتاب إلا خواطر وتعميمات إسقاطيّة فيها من إهانة العنصر العربي ما في الكتابات العنصريّة من إهانة العنصر الأفريقي؟ وكتاب عبد الرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد» خلافاً لابتذال الاستشراق يتقرّب من منهج علم الاجتماع الحديث لأن المؤلّف لا يحصره ببيئة أو بعنصر أو بشعب: على العكس، يحاول أن يتبع مبادئ علم السياسة السائدة آنذاك، وإن وسمت الكتاب نزعة نخبويّة من حيث إيلاء العلم والمعرفة أهميّة فائقة وكأنهما ضمان لانعدام الاستبداد (يقول الكواكبي إن الاستبداد والعلم «ضدان» ويصف «العوام» بـ«الجهل والغباوة» («طبائع الاستبداد» في «الأعمال الكاملة للكواكبي»، ص. 459) مع أن الاستبداد الألماني ساد في أمة متقدّمة في العلم والمعرفة.
يحتاج مروّجو تحليل استثناء «الاستبداد العربي» إلى مراجعة المؤلف الضخم لثيودور أدورنو الفذّ (وزملائه) عن «الشخصيّة التسلّطيّة» الذي بناه على دراسات ميدانيّة داخل الولايات المتحدة. تضمّنت الدراسة تسعة عناصر نفسيّة تجعل الشخص إذا كان حاملاً لها مطواعاً من ناحية الوقوع ضحيّة السيطرة التسلّطيّة. أي إن منهج التحليل هو محض نفسي، وينطبق على كل المجتمعات، ولا يحصرها بواحد دون آخر، ولا ينزع نحو التعميم الثقافي والديني على طريقة كتاب «العقل العربي» أو كتابات الليبراليّين العرب السائرة على منهج رفائيل باتاي. وقد قامت القيامة في هذه البلاد عند صدور كتاب أدورنو عام 1950 لأن المجتمع الأميركي كان واقعاً تحت تأثير دعاية سياسيّة تؤكّد له أنه في منأى عن الوقوع ضحيّة لنظام تسلّطي. كان علماء الاجتماع الأميركيّون يصرّون على أن الاستبداد صفة للألمان أو الروس أو سواهم من غير الأميركيّين. خذلهم أدورنو، وسعوا لإثبات وجود أخطاء في الكتاب.
يجب البحث في الموضوع من منظار علم الاجتماع لنفسّر استمرار الحكّام العرب رازحين فوق صدور شعوبهم دون دعوات للضيافة. بتنا نحنُّ إلى عام 1949 عندما توالت ثلاثة انقلابات عسكريّة في سوريا وحدها. والانقلابات اليوم باتت معدومة إلا في موريتانيا. الأنظمة وجدت طريقة لتكون منيعة، ولتحصّن نفسها أمام المؤامرات. يجب في هذا الصدد التنويه بقدرات أجهزة الاستخبارات العربيّة التي تفشل في الفعاليّة ضد العدو لكنها تنجح في التسلّط وفي حماية الأنظمة من الخطر.
يمكن أولاً تصنيف ثلاثة أنواع من الأنظمة من حيث الديمومة: الصنف الأول هو صنف النظام المتوارث حيث تسود عائلات حاكمة. ويدخل لبنان جزئيّاً في هذا الصنف في بعض طوائفه (حيث تهيمن سيادة عائلات الزعماء، وبعضها ساد لقرون من الزمن). الصنف الثاني هو صنف الحكام المولودين من داخل نظام سابق، مثل تونس حيث وصل مدير الاستخبارات إلى الحكم من خلال انقلاب طبّي، أو مصر حيث خلف الحاكمُ حاكماً انتقاه، وهو بدوره كان مُنتقى (خطأ عبد الناصر الثاني الذي لا يُغتفر) من حاكم أسبق. الصنف الثالث هو صنف الأنظمة الجديدة التي تحاول أن تبني لنفسها سلالات جديدة، ويدخل فيها النظام السوري واليمني والليبي والعراقي (قبل 2003). وتنجح الأصناف الثلاثة في استحداث وسائل من أجل استقرار النظام وتوريث الحكم.
أما أسباب الاستمرار فهي متعدِّدة، ومنها:
أولاً، نهاية الحرب الباردة. كانت الحرب الباردة تسمح بمؤامرات تسهّل لأعمال انقلابيّة وتغيير للأنظمة. كان الانقلابيّون يستسهلون زيارة السفارة الأميركيّة أو السوفياتيّة في طلب المعونة لمؤامراتهم. كانت حدّة الحرب الباردة تفتح قابليّة القوتيْن العظمييْن أمام تغيير الأنظمة، إذا كان ذلك مضرّاً بمصلحة الخصم. كانت الحرب الباردة تشجّع أو تخطط لمؤامرات قلب الحكم.
ثانياً، إن الولايات المتحدة راضية تمام الرضى عن الأنظمة السائدة في العالم العربي، وهي تعتبر أن بقاء الأنظمة يساهم في الحفاظ على مصالحها. لهذا، فقد اكتشف وليد جنبلاط أنه حتى إدارة بوش لم تكن تسعى لقلب النظام في الشام. وهذا العامل قد يكون من أهم العوامل في تفسير أسباب استمرار الأنظمة العربيّة التي تتلقّى في معظمها مساعدات عسكريّة و (أو) ماليّة لضمان استمرارها. وقد ساهمت الأنظمة الغربيّة الديموقراطيّة في دعم الأنظمة التسلّطية عندما تتعرّض للقلاقل والهزّات (مثل السعوديّة أثناء انتفاضة الحرم أو الأردن في أيلول الأسود أو عُمان أثناء ثورة ظفار أو اليمن ضد الثورة في الشمال والجنوب اليوم).
ولا تسعى الولايات المتحدة إلى تغيير حتى تلك الأنظمة التي تختلف معها مثل السودان. فقد اكتشفت بعد حرب العراق (أو حتى قبل ذلك في وزارة الخارجيّة الأميركيّة قبل عهد بوش) أن تغيير الأنظمة العربيّة يجر الوبال غير المحسوب على مصالح أميركا، وإن منعتها المكابرة الإمبراطوريّة الأميركيّة من الاعتراف بذلك. ولا ننسى أن القوات الأميركيّة (المنتشرة في أكثر من 130 دولة حول العالم) موجودة بسلاحها وأجهزتها الاستخباريّة في العالم العربي (هناك قاعدة استخباراتيّة هائلة في دبي مثلاً وقد كُشف النقاب عنها صدفة في مداولات الكونغرس قبل ثلاثة أعوام عن قضيّة شركة «موانئ دبي» وما تبعها من مناقشة لدور دبي في حروب أميركا). والبحرين هي المقرّ الرسمي للأسطول الخامس، كما أن الولايات المتحدة أبقت عدداً غير محدّد من «المستشارين العسكريّين» بعد انسحاب قواتها الرسمي من السعوديّة. وعصابات الدحلان وقوى الأمن الداخلي في لبنان تلقى «رعاية» أميركيّة مباشرة.
ثالثاً، هذا النمو الهائل في البنية الاستخباراتيّة ــــ العسكريّة القمعيّة ساعد الأنظمة العربيّة في الاستمرار. كانت الاستخبارات العربيّة قبل عقود فقط تعتمد على مخبرين في الأحياء وعلى مراقبة الناس بصورة مفضوحة (وهي تراقب الناس من دون أن تموت همّاً). أصبحت أجهزة الاستخبارات من أكثر الأجهزة تطوّراً في الدولة. عندما زرت جامعة محمد الخامس في الرباط منتصف التسعينيات، لم أجد إلا حاسوبيْن أو ثلاثة، فيما كانت الأجهزة منتشرة في دائرة مراقبة الجوازات في مطار الرباط. والكومبيوتر دخل العالم العربي في الستينيات خارج الجامعات: في مبنى الاستخبارات الأردنيّة وفي وزارة الدفاع اللبناني. رفيق اعتقل في عمّان وعُذب في الثمانينيات دُهش من التنظيم الدقيق ومن تصنيف الملفّات: لكل تنظيم فلسطيني قسم خاص «يُعنى» به، ويُعنى بتعذيب ناشطيه.
واستعانت أجهزة الاستخبارات العربيّة بالكفاءات الأكاديميّة. فاضل البرّاك أدار الاستخبارات العراقيّة بعدما حاز شهادات عليا (أذكر أن حنا بطاطو عندما زار العراق في الثمانينيات صادف صديقاً له أخبره أنه قرأ كتابه عن العراق. تعجّب بطاطو وسأله عن كيفيّة حصوله على كتاب ممنوع. أجابه أنه استعار نسخة فاضل البرّاك). أصبح لأجهزة الاستخبارات متخصّصون: واحد يتخصّص في التعذيب بالكهرباء، آخر ماهر في الضرب المبرح، وآخر امتهن قلع الأظافر، بالإضافة إلى متدرّبين في الطب يساهمون في التعذيب (كما ساهم أميركيّون أطباء وعلماء نفس في عمليّات التعذيب التي قامت بها الأجهزة الأميركيّة بعد 11 أيلول). وهذا التطوّر في أجهزة الاستخبارات، وإنشاء أجهزة استخبارات لتتجسّس على أجهزة الاستخبارات، وطّد أعمدة الحكم. كانت الانقلابات العسكريّة سهلة في الخمسينيات والستينيات: كانت تكفي بضع دبّابات للاستيلاء على مقرّ الإذاعة ووزارة الدفاع والقصر الجمهوري (ولم تكن قلاعاً حصينة كما هي اليوم). كانت قصور صدّام حسين مجمّعات هائلة، حتى لا يُعرف مكان إقامته فيها في لحظة ما. وقامت الأنظمة بحسن استخدام سلاح الجوّ لتقويض أية حركة انقلابيّة: نذكر التهديد المريع الذي أصدره حافظ الأسد ضد انقلاب مصطفى حمدون. أي إن شراء الأسلحة المتطوّرة باسم تحرير فلسطين ساهم في حماية الأنظمة، ولم يقدّم عوناً في الحروب ضد إسرائيل.
رابعاً، السيطرة العائليّة وعدم الوثوق إلا بأفراد العائلة ساعد في توطيد الحكم. أصبحوا كلّهم نموذجاً للحكم الشخبوطي: الأب يقود، والإخوة والأبناء يسيطرون على أجهزة الحكم. لو أن ميشيل فوكو أفرد فصلاً خاصاً عنّا في كتابه «راقب وعاقب». لم يعد الحاكم يثق إلا بالأبناء والأصهار وأبناء العموم. وقتل الأقارب لم يكن ممنوعاً: كما فعل صدّام مع عدد من أقربائه. المهم هو المحافظة على الحكم. لم يمنع الانشقاقات وعزل الإخوة وصراع الأشقّاء وانشقاق الأمراء الحمر في الستينيات، استمرار حكم آل سعود.
خامساً، تمرّس الحكّام في الحكم، وتمرّسوا في منع الانقلابات. وهذا يعود إلى دعم خارجي، بالإضافة إلى وصول عدد من الحكام العرب إلى الحكم من خلال انقلابات ومؤامرات. حافظ الأسد، مثلاً، شارك في أكثر من انقلاب ومن مؤامرة لقلب الحكم، كما أن صدّام حسين خبر التآمر وعمليّات الاغتيال في سنّ مبكرة. أصبح للحكّام خبرة وتمرّس في شؤون الانقلاب والمؤامرات.
سادساً، خوف العامّة من المجهول. لا يركن الشعب اليوم إلى وعود التغيير: الخيبات تراكمت، وتباعد الحلم. لعلّها حرب 1967، ولعلّه فشل عبد الناصر، ولعلّه سقوط الأيديولوجيّات... اعتاد الناس حكّامهم، ولعلّهم خافوا من الأسوأ: هذا يفسّر كيف فضّل البعض في الشعب السوري حافظ الأسد على شقيقه، رفعت (وهو اليوم داعية ديموقراطي مدعوم سعوديّاً). والأنظمة تعمد إلى استغلال الخوف، وتحذّر من الويلات لو زال أربابها من الحكم.
سابعاً، التخويف الفقهي التقليدي من الفتنة. ويجب هنا التحذير من الذهاب بعيداً في الاعتماد على عامل الدين (الذي حذّر منه القدير ماكسيم رودنسون في مؤلّفه الخطير «الافتنان بالإسلام»، وسماه بـ«الثيولوجوسنترزم» أي التعصّب في الدراسات الاستشراقيّة لعزو كل الظواهر في أوساط المسلمين إلى الدين). لكن يمكن اعتبار بعض النظريّات الإسلاميّة السياسيّة المُحافظة، مثل الواردة في كتابات الغزالي، مُعينة لأنظمة التسلّط الديني. فالتحذير من «الفتنة» الذي شغل الغزالي كان عوناً للدعوة إلى طاعة الحاكم الظالم خوفاً من الفوضى والحرب الأهليّة. وفقهاء السلاطين في الدول العربيّة يقومون بتحديث نظريّات الفكر السياسي الداعم للحاكم مهما جار.
ثامناً، عائدات النفط والمساعدات الخارجيّة قللت من ضرورة الاستعانة بـ«القدرة الاستخراجيّة» التي تحدّث عنها نزيه أيّوبي في كتابه عن «التعظيم من الدولة العربيّة». أي إن الدولة العربيّة خفّفت من إمكان الثورة (ألم يكن شعار الثورة الأميركيّة «لا ضرائب من دون تمثيل»؟) عبر الاستعانة بعائدات النفط والمساعدات الخارجيّة للتخفيف من نقمة الشعب. هذا يساعد في دعم المواد الغذائيّة (التي أراد فريق الحريري أن «يحرّرها» بالكامل وهو لا يخشى الثورة لأن الطائفيّة والمذهبيّة تحميان الحكم من الثورة).
تاسعاً، مزاج من اليأس والخوف قلّل من إمكان المعارضة المسلّحة. فقد الشعب العربي الكثير من آماله ورغباته عبر عقود من الهزائم والخيبات والمؤامرات والقمع والأحلام المُبدّدة. وغنائيّة «الحلم العربي» أشبه بالبكائيّة واللحن فيها جنائزي لكنّه عبّر عن المزاج الشعبي المعاصر، الذي يتسم بالكثير من الكربلائيّة الكئيبة.
عاشراً، معادلة «سي رايت ملز» في كتابه «نخبة السلطة» عن وصفة «التسلية والخداع والثناء» للبقاء في الحكم، تنطبق على العالم العربي. يعتبر ميلز أن النخبة الحاكمة في أميركا أحكمت سيطرتها عبر مزيج من استغلال وسائل التسلية والخداع والثناء (وكان قدماء الإغريق يحتقرون «الثناء على الجماهير» وهي أصل معنى «الديماغوجيّة») لتطويع الجماهير وتخديرها. وكيف يمكن تفسير هذا الانفجار الهائل في الفضائيّات العربيّة وهي أفيون الشعوب بحق، وآفتها الكبرى تكمن في برامج الرياضة وفي المسلسلات وبرامج على نسق «سوبر ستار» التي تهدف إلى تعزيز النعرة القطريّة كما أدرجت وثيقة سُرِّبت عن العراق من وزارة الدفاع الأميركيّة. لكن حكّام العرب خلافاً لحكّام أميركا لا يمدحون شعوبهم. يكتفون بمديح الذات الملكيّة والجمهوريّة.
حادي عشر، سيادة الحقبة السعوديّة والحفاظ على الأنظمة الموالية لها (بالاتفاق مع أميركا وإسرائيل). أحكمت الولايات المتحدة سيطرتها في معظم العالم العربي عبر دعم نظام سياسي إقليمي يخضع لقيادة المملكة السعوديّة (تحت مُسمّى «معسكر الاعتدال» الذي يتضمّن في اعتداله قطع الرؤوس في الساحات العامّة ورجم العشّاق وجلد ضحايا الاغتصاب كما حدث أخيراً في السعوديّة). وتتدافع الأنظمة العربيّة اليوم للدفاع بعضها عن بعض: فحرب النظام اليمني ضد الحوثيّين تلقى دعماً أميركيّاً ــــ سعوديّاً، كما أن نظام حسني مبارك الأبدي أصدر بياناً شبه عسكري عن الحرب الدائرة في اليمن، وإن لم يكن هناك دليل على دعم إسرائيلي.
ثاني عشر، العنف المستشري والاستعانة بالمجازر للتخويف ولتقويض قوى المعارضة. قد يكون هذا العامل هو الأهم، وهو يناقض كل المزاعم الاستشراقيّة (المُجترّة اليوم في ما يُسمّى الليبراليّة العربيّة التي تدعو إلى الحريّة الفرديّة في ساعة، وتهتف بحياة شيوخ النفط في ساعة تالية، أو تؤلّف كتاباً في شعر الأمير خالد الفيصل كما فعل شاكر النابلسي الذي توصّل أخيراً إلى نظريّة مفادها أن قمع المرأة في السعوديّة من فعل المرأة نفسها، لا العائلة الحاكمة) عن الاستبداد الشرقي أو عن النزوع العربي نحو الاستكانة والخنوع. يمكن الملاحظة أن الأنظمة العربيّة في الجزائر وسوريا ولبنان والعراق ومصر وعمان واليمن والسودان ارتكبت عدداً هائلاً من المجازر ضد شعوبها من أجل توطيد حكمها. والمجازر هي دليل على عدم رضوخ الشعوب. لم تكن الأنظمة تحتاج لهذا القتل الجماعي وهذا السجن الجماعي لو كان هناك خنوع وقبول شعبي بالاستبداد. لا يمكن التقليل من حجم هذا القمع: فقد سجن النظام المصري 7588 شخصاً بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين في العام الماضي (حسب بيان لمحامي الإخوان). إن النظام الذي يحتاج إلى سجن 7588 شخصاً في سنة واحدة لا يستفيد من مناخ ملائم للاستبداد، أو من نزوع جيني لتقبّل القمع، على الإطلاق.
ثالث عشر، فعالية تنسيق القمع العربي. يمكن اعتبار اجتماع وزراء الداخليّة العرب من أهم الاجتماعات العربيّة الجامعة على الإطلاق. والأنظمة العربيّة تعارض كل مساعي التوحّد والاندماج لكنها تتعاون بفعالية أكيدة في مجال القمع العربي المشترك. ويجلس أشرف ريفي (مدير قوى الأمن اللبناني) في مجلس إدارة جامعة الأمير نايف «العربيّة» للعلوم الأمنيّة. لا ندري إذا كانت المواد المُقرّرة تشمل في ما تشمل، دروساً في كهربة الأعضاء التناسليّة وفي سلخ الجلد وقلع الأظافر.
رابع عشر، يجب ألا نغفل عامل القمع الذاتي الذي حذّرنا منه فوكو (والفنان الفذّ علي فرزات): أي البحث عن مكامن التسلّط في كلّ مكان خارج الدولة، من العائلة إلى الذات إلى الدين الى التقاليد إلى القبيلة.
لا يمكن التطرق إلى مسألة استمرار الأنظمة دون الحديث عن طبيعة السيطرة الاستعماريّة التي لم تترك منطقة الشرق الأوسط لحظة واحدة. أصرّت الولايات المتحدة بعد الحرب العالميّة الثانية على السيطرة على الشرق الأوسط، وإحكام السيطرة على أميركا اللاتينيّة (لهذا لم تغفر أميركا لكوبا تمرّدها).
أي إن العلاقة بين استمرار حكم الأنظمة وفق عوامل داخليّة والتدخّل الخارجي المباشر وغير المباشر هي علاقة جدليّة.
ويمكن أن نضيف أن النموذج العراقي في التغيير ساهم على عكس ما روّج المُستعمر الأميركي في تدعيم أنظمة التسلّط العربيّة، لأن نموذج التغيير بات مرتبطاً في الأذهان الشعبيّة بالعنف والفتنة والسيطرة الأجنبيّة والفساد وسيادة الميليشيات المسلّحة والرجوع القهقرى تاريخيّاً واجتماعيّاً من ناحية تقوية الروابط العشائريّة والسيطرة الإكليريكيّة (وما يعنيه ذلك من تراجع في وضع المرأة العربيّة، أي إن الليبراليّة العربيّة تدعم الأنظمة العربيّة والحروب التي تزيد من قمع المرأة لكن ليس هذا هو التناقض الوحيد الذي يعتري جسم الحركة الهزيل).
يجب عدم النظر إلى ما ورد من تحليل كدعوة للمزيد من اليأس. على العكس، فإن تفنيد النظريّات الاستشراقيّة يجب أن يعوّل على قدرة التغلّب على عوامل سياسيّة واقتصاديّة مؤثِّرة في القمع العربي. أي إن قوة الضعفاء أهم من (انتظار) ضعف الأقوياء، على قول ماركس. لكن التغيير يتطلّب إهمال جهاز التحكّم من بعد لمدّة من الزمن، حتى لو فاتتكم مشاهدة مسلسل أو مسلسليْن.
ملاحظة: هذه المقالة مُستقاة من مُحاضرة ألقيتها في جامعة مونتانا قبل أيّام (وهي جزء من دراسة ستصدر في كتاب بالإنكليزيّة عن أسباب استمراريّة أنظمة التسلّط في العالم العربي).
المصدر (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)
يحلم زعماء العرب بالخلود. ينفقون الغالي والرخيص بحثاً عن عقاقير وأعشاب، ويستعينون بالمشعوذين للحصول على سرّ الخلود. كان مستشار أنور السادات، حسن التهامي (ذو الدور المشؤوم في العلاقة المبكرة مع إسرائيل)، يحضّر الأرواح ويشير على السادات للوقاية من الشرّ. وبعض منجمّي لبنان بنى قصوراً مقابل «تنبؤات» لهذا الحاكم أو ذاك. حياة واحدة من قمع شعوبهم لا تكفي، فيزيدون عليها بسلالات لتخلّد اسمهم. بعضهم حكمنا لعقود، والبعض الآخر لقرون من الزمن
أسعد أبو خليل*
الملك فهد بدأ باكراً في البحث عن الوقاية من المرض والاغتيال والمؤامرات. بلغه أمر ضاربة بالمندل، وأنها ماهرة. عجّل في استدعائها. باقي القصّة معروف: كيف أنها أشارت عليه باستحالة إصابته بصيبة العين إذا ما لازمه ابنه الطفل (آنذاك) عبد العزيز. لم يفارق جانبه في حياته، واستحدث له الملك وزارة الشؤون الوزاريّة كي يلازمه أينما حلّ. الخارجيّة البريطانيّة حاولت مرّة أن تعترض عندما أصرّ على أن يصطحب «عزّوز» إلى لقاء مع الملكة إليزابيت. ونعلم اليوم أن صدّام كان مثل «هملر» مأخوذاً بالسحرة والمشعوذين، وكيف كان مهووساً بأمنه الشخصي وبأمن ولديْه.
لكن ما سبب تعمير الأنظمة العربيّة وديمومتها؟ اللجوء إلى النظريّات الاستشراقيّة المُتجدِّدة عن «الاستبداد الشرقي» أو عن الاستثناء العربي أو عن تسلطيّة كامنة في الإسلام لا تفي بالغرض التحليلي، كما أنها باطلة من منظار علم الاجتماع. غرضها سياسي وهو تسويغ الدعم الغربي لأنظمة التسلّط العربيّة، ولرفع المسؤوليّة عن المُستعمِر. ويجب ألا نعزو سواد نظريّات الاستثناء العربي إلى الاستشراق الأميركي ــــ الإسرائيلي المبتذل (الذي لا يرتقي إلى مصاف الاستشراق الأوروبي الكلاسيكي الرصين والغزير العلم بصرف النظر عن مشاكله المنهجيّة والسياسيّة) فقط، بل هناك من يروّج في العالم العربي لفكر التنميط التعميمي عن العرب والإسلام: ما معنى الاستشهاد المُتكرِّر بكتاب عبد الله القصيمي «العرب ظاهرة صوتيّة»؟ وهل في الكتاب إلا خواطر وتعميمات إسقاطيّة فيها من إهانة العنصر العربي ما في الكتابات العنصريّة من إهانة العنصر الأفريقي؟ وكتاب عبد الرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد» خلافاً لابتذال الاستشراق يتقرّب من منهج علم الاجتماع الحديث لأن المؤلّف لا يحصره ببيئة أو بعنصر أو بشعب: على العكس، يحاول أن يتبع مبادئ علم السياسة السائدة آنذاك، وإن وسمت الكتاب نزعة نخبويّة من حيث إيلاء العلم والمعرفة أهميّة فائقة وكأنهما ضمان لانعدام الاستبداد (يقول الكواكبي إن الاستبداد والعلم «ضدان» ويصف «العوام» بـ«الجهل والغباوة» («طبائع الاستبداد» في «الأعمال الكاملة للكواكبي»، ص. 459) مع أن الاستبداد الألماني ساد في أمة متقدّمة في العلم والمعرفة.
يحتاج مروّجو تحليل استثناء «الاستبداد العربي» إلى مراجعة المؤلف الضخم لثيودور أدورنو الفذّ (وزملائه) عن «الشخصيّة التسلّطيّة» الذي بناه على دراسات ميدانيّة داخل الولايات المتحدة. تضمّنت الدراسة تسعة عناصر نفسيّة تجعل الشخص إذا كان حاملاً لها مطواعاً من ناحية الوقوع ضحيّة السيطرة التسلّطيّة. أي إن منهج التحليل هو محض نفسي، وينطبق على كل المجتمعات، ولا يحصرها بواحد دون آخر، ولا ينزع نحو التعميم الثقافي والديني على طريقة كتاب «العقل العربي» أو كتابات الليبراليّين العرب السائرة على منهج رفائيل باتاي. وقد قامت القيامة في هذه البلاد عند صدور كتاب أدورنو عام 1950 لأن المجتمع الأميركي كان واقعاً تحت تأثير دعاية سياسيّة تؤكّد له أنه في منأى عن الوقوع ضحيّة لنظام تسلّطي. كان علماء الاجتماع الأميركيّون يصرّون على أن الاستبداد صفة للألمان أو الروس أو سواهم من غير الأميركيّين. خذلهم أدورنو، وسعوا لإثبات وجود أخطاء في الكتاب.
يجب البحث في الموضوع من منظار علم الاجتماع لنفسّر استمرار الحكّام العرب رازحين فوق صدور شعوبهم دون دعوات للضيافة. بتنا نحنُّ إلى عام 1949 عندما توالت ثلاثة انقلابات عسكريّة في سوريا وحدها. والانقلابات اليوم باتت معدومة إلا في موريتانيا. الأنظمة وجدت طريقة لتكون منيعة، ولتحصّن نفسها أمام المؤامرات. يجب في هذا الصدد التنويه بقدرات أجهزة الاستخبارات العربيّة التي تفشل في الفعاليّة ضد العدو لكنها تنجح في التسلّط وفي حماية الأنظمة من الخطر.
يمكن أولاً تصنيف ثلاثة أنواع من الأنظمة من حيث الديمومة: الصنف الأول هو صنف النظام المتوارث حيث تسود عائلات حاكمة. ويدخل لبنان جزئيّاً في هذا الصنف في بعض طوائفه (حيث تهيمن سيادة عائلات الزعماء، وبعضها ساد لقرون من الزمن). الصنف الثاني هو صنف الحكام المولودين من داخل نظام سابق، مثل تونس حيث وصل مدير الاستخبارات إلى الحكم من خلال انقلاب طبّي، أو مصر حيث خلف الحاكمُ حاكماً انتقاه، وهو بدوره كان مُنتقى (خطأ عبد الناصر الثاني الذي لا يُغتفر) من حاكم أسبق. الصنف الثالث هو صنف الأنظمة الجديدة التي تحاول أن تبني لنفسها سلالات جديدة، ويدخل فيها النظام السوري واليمني والليبي والعراقي (قبل 2003). وتنجح الأصناف الثلاثة في استحداث وسائل من أجل استقرار النظام وتوريث الحكم.
أما أسباب الاستمرار فهي متعدِّدة، ومنها:
أولاً، نهاية الحرب الباردة. كانت الحرب الباردة تسمح بمؤامرات تسهّل لأعمال انقلابيّة وتغيير للأنظمة. كان الانقلابيّون يستسهلون زيارة السفارة الأميركيّة أو السوفياتيّة في طلب المعونة لمؤامراتهم. كانت حدّة الحرب الباردة تفتح قابليّة القوتيْن العظمييْن أمام تغيير الأنظمة، إذا كان ذلك مضرّاً بمصلحة الخصم. كانت الحرب الباردة تشجّع أو تخطط لمؤامرات قلب الحكم.
ثانياً، إن الولايات المتحدة راضية تمام الرضى عن الأنظمة السائدة في العالم العربي، وهي تعتبر أن بقاء الأنظمة يساهم في الحفاظ على مصالحها. لهذا، فقد اكتشف وليد جنبلاط أنه حتى إدارة بوش لم تكن تسعى لقلب النظام في الشام. وهذا العامل قد يكون من أهم العوامل في تفسير أسباب استمرار الأنظمة العربيّة التي تتلقّى في معظمها مساعدات عسكريّة و (أو) ماليّة لضمان استمرارها. وقد ساهمت الأنظمة الغربيّة الديموقراطيّة في دعم الأنظمة التسلّطية عندما تتعرّض للقلاقل والهزّات (مثل السعوديّة أثناء انتفاضة الحرم أو الأردن في أيلول الأسود أو عُمان أثناء ثورة ظفار أو اليمن ضد الثورة في الشمال والجنوب اليوم).
ولا تسعى الولايات المتحدة إلى تغيير حتى تلك الأنظمة التي تختلف معها مثل السودان. فقد اكتشفت بعد حرب العراق (أو حتى قبل ذلك في وزارة الخارجيّة الأميركيّة قبل عهد بوش) أن تغيير الأنظمة العربيّة يجر الوبال غير المحسوب على مصالح أميركا، وإن منعتها المكابرة الإمبراطوريّة الأميركيّة من الاعتراف بذلك. ولا ننسى أن القوات الأميركيّة (المنتشرة في أكثر من 130 دولة حول العالم) موجودة بسلاحها وأجهزتها الاستخباريّة في العالم العربي (هناك قاعدة استخباراتيّة هائلة في دبي مثلاً وقد كُشف النقاب عنها صدفة في مداولات الكونغرس قبل ثلاثة أعوام عن قضيّة شركة «موانئ دبي» وما تبعها من مناقشة لدور دبي في حروب أميركا). والبحرين هي المقرّ الرسمي للأسطول الخامس، كما أن الولايات المتحدة أبقت عدداً غير محدّد من «المستشارين العسكريّين» بعد انسحاب قواتها الرسمي من السعوديّة. وعصابات الدحلان وقوى الأمن الداخلي في لبنان تلقى «رعاية» أميركيّة مباشرة.
ثالثاً، هذا النمو الهائل في البنية الاستخباراتيّة ــــ العسكريّة القمعيّة ساعد الأنظمة العربيّة في الاستمرار. كانت الاستخبارات العربيّة قبل عقود فقط تعتمد على مخبرين في الأحياء وعلى مراقبة الناس بصورة مفضوحة (وهي تراقب الناس من دون أن تموت همّاً). أصبحت أجهزة الاستخبارات من أكثر الأجهزة تطوّراً في الدولة. عندما زرت جامعة محمد الخامس في الرباط منتصف التسعينيات، لم أجد إلا حاسوبيْن أو ثلاثة، فيما كانت الأجهزة منتشرة في دائرة مراقبة الجوازات في مطار الرباط. والكومبيوتر دخل العالم العربي في الستينيات خارج الجامعات: في مبنى الاستخبارات الأردنيّة وفي وزارة الدفاع اللبناني. رفيق اعتقل في عمّان وعُذب في الثمانينيات دُهش من التنظيم الدقيق ومن تصنيف الملفّات: لكل تنظيم فلسطيني قسم خاص «يُعنى» به، ويُعنى بتعذيب ناشطيه.
واستعانت أجهزة الاستخبارات العربيّة بالكفاءات الأكاديميّة. فاضل البرّاك أدار الاستخبارات العراقيّة بعدما حاز شهادات عليا (أذكر أن حنا بطاطو عندما زار العراق في الثمانينيات صادف صديقاً له أخبره أنه قرأ كتابه عن العراق. تعجّب بطاطو وسأله عن كيفيّة حصوله على كتاب ممنوع. أجابه أنه استعار نسخة فاضل البرّاك). أصبح لأجهزة الاستخبارات متخصّصون: واحد يتخصّص في التعذيب بالكهرباء، آخر ماهر في الضرب المبرح، وآخر امتهن قلع الأظافر، بالإضافة إلى متدرّبين في الطب يساهمون في التعذيب (كما ساهم أميركيّون أطباء وعلماء نفس في عمليّات التعذيب التي قامت بها الأجهزة الأميركيّة بعد 11 أيلول). وهذا التطوّر في أجهزة الاستخبارات، وإنشاء أجهزة استخبارات لتتجسّس على أجهزة الاستخبارات، وطّد أعمدة الحكم. كانت الانقلابات العسكريّة سهلة في الخمسينيات والستينيات: كانت تكفي بضع دبّابات للاستيلاء على مقرّ الإذاعة ووزارة الدفاع والقصر الجمهوري (ولم تكن قلاعاً حصينة كما هي اليوم). كانت قصور صدّام حسين مجمّعات هائلة، حتى لا يُعرف مكان إقامته فيها في لحظة ما. وقامت الأنظمة بحسن استخدام سلاح الجوّ لتقويض أية حركة انقلابيّة: نذكر التهديد المريع الذي أصدره حافظ الأسد ضد انقلاب مصطفى حمدون. أي إن شراء الأسلحة المتطوّرة باسم تحرير فلسطين ساهم في حماية الأنظمة، ولم يقدّم عوناً في الحروب ضد إسرائيل.
رابعاً، السيطرة العائليّة وعدم الوثوق إلا بأفراد العائلة ساعد في توطيد الحكم. أصبحوا كلّهم نموذجاً للحكم الشخبوطي: الأب يقود، والإخوة والأبناء يسيطرون على أجهزة الحكم. لو أن ميشيل فوكو أفرد فصلاً خاصاً عنّا في كتابه «راقب وعاقب». لم يعد الحاكم يثق إلا بالأبناء والأصهار وأبناء العموم. وقتل الأقارب لم يكن ممنوعاً: كما فعل صدّام مع عدد من أقربائه. المهم هو المحافظة على الحكم. لم يمنع الانشقاقات وعزل الإخوة وصراع الأشقّاء وانشقاق الأمراء الحمر في الستينيات، استمرار حكم آل سعود.
خامساً، تمرّس الحكّام في الحكم، وتمرّسوا في منع الانقلابات. وهذا يعود إلى دعم خارجي، بالإضافة إلى وصول عدد من الحكام العرب إلى الحكم من خلال انقلابات ومؤامرات. حافظ الأسد، مثلاً، شارك في أكثر من انقلاب ومن مؤامرة لقلب الحكم، كما أن صدّام حسين خبر التآمر وعمليّات الاغتيال في سنّ مبكرة. أصبح للحكّام خبرة وتمرّس في شؤون الانقلاب والمؤامرات.
سادساً، خوف العامّة من المجهول. لا يركن الشعب اليوم إلى وعود التغيير: الخيبات تراكمت، وتباعد الحلم. لعلّها حرب 1967، ولعلّه فشل عبد الناصر، ولعلّه سقوط الأيديولوجيّات... اعتاد الناس حكّامهم، ولعلّهم خافوا من الأسوأ: هذا يفسّر كيف فضّل البعض في الشعب السوري حافظ الأسد على شقيقه، رفعت (وهو اليوم داعية ديموقراطي مدعوم سعوديّاً). والأنظمة تعمد إلى استغلال الخوف، وتحذّر من الويلات لو زال أربابها من الحكم.
سابعاً، التخويف الفقهي التقليدي من الفتنة. ويجب هنا التحذير من الذهاب بعيداً في الاعتماد على عامل الدين (الذي حذّر منه القدير ماكسيم رودنسون في مؤلّفه الخطير «الافتنان بالإسلام»، وسماه بـ«الثيولوجوسنترزم» أي التعصّب في الدراسات الاستشراقيّة لعزو كل الظواهر في أوساط المسلمين إلى الدين). لكن يمكن اعتبار بعض النظريّات الإسلاميّة السياسيّة المُحافظة، مثل الواردة في كتابات الغزالي، مُعينة لأنظمة التسلّط الديني. فالتحذير من «الفتنة» الذي شغل الغزالي كان عوناً للدعوة إلى طاعة الحاكم الظالم خوفاً من الفوضى والحرب الأهليّة. وفقهاء السلاطين في الدول العربيّة يقومون بتحديث نظريّات الفكر السياسي الداعم للحاكم مهما جار.
ثامناً، عائدات النفط والمساعدات الخارجيّة قللت من ضرورة الاستعانة بـ«القدرة الاستخراجيّة» التي تحدّث عنها نزيه أيّوبي في كتابه عن «التعظيم من الدولة العربيّة». أي إن الدولة العربيّة خفّفت من إمكان الثورة (ألم يكن شعار الثورة الأميركيّة «لا ضرائب من دون تمثيل»؟) عبر الاستعانة بعائدات النفط والمساعدات الخارجيّة للتخفيف من نقمة الشعب. هذا يساعد في دعم المواد الغذائيّة (التي أراد فريق الحريري أن «يحرّرها» بالكامل وهو لا يخشى الثورة لأن الطائفيّة والمذهبيّة تحميان الحكم من الثورة).
تاسعاً، مزاج من اليأس والخوف قلّل من إمكان المعارضة المسلّحة. فقد الشعب العربي الكثير من آماله ورغباته عبر عقود من الهزائم والخيبات والمؤامرات والقمع والأحلام المُبدّدة. وغنائيّة «الحلم العربي» أشبه بالبكائيّة واللحن فيها جنائزي لكنّه عبّر عن المزاج الشعبي المعاصر، الذي يتسم بالكثير من الكربلائيّة الكئيبة.
عاشراً، معادلة «سي رايت ملز» في كتابه «نخبة السلطة» عن وصفة «التسلية والخداع والثناء» للبقاء في الحكم، تنطبق على العالم العربي. يعتبر ميلز أن النخبة الحاكمة في أميركا أحكمت سيطرتها عبر مزيج من استغلال وسائل التسلية والخداع والثناء (وكان قدماء الإغريق يحتقرون «الثناء على الجماهير» وهي أصل معنى «الديماغوجيّة») لتطويع الجماهير وتخديرها. وكيف يمكن تفسير هذا الانفجار الهائل في الفضائيّات العربيّة وهي أفيون الشعوب بحق، وآفتها الكبرى تكمن في برامج الرياضة وفي المسلسلات وبرامج على نسق «سوبر ستار» التي تهدف إلى تعزيز النعرة القطريّة كما أدرجت وثيقة سُرِّبت عن العراق من وزارة الدفاع الأميركيّة. لكن حكّام العرب خلافاً لحكّام أميركا لا يمدحون شعوبهم. يكتفون بمديح الذات الملكيّة والجمهوريّة.
حادي عشر، سيادة الحقبة السعوديّة والحفاظ على الأنظمة الموالية لها (بالاتفاق مع أميركا وإسرائيل). أحكمت الولايات المتحدة سيطرتها في معظم العالم العربي عبر دعم نظام سياسي إقليمي يخضع لقيادة المملكة السعوديّة (تحت مُسمّى «معسكر الاعتدال» الذي يتضمّن في اعتداله قطع الرؤوس في الساحات العامّة ورجم العشّاق وجلد ضحايا الاغتصاب كما حدث أخيراً في السعوديّة). وتتدافع الأنظمة العربيّة اليوم للدفاع بعضها عن بعض: فحرب النظام اليمني ضد الحوثيّين تلقى دعماً أميركيّاً ــــ سعوديّاً، كما أن نظام حسني مبارك الأبدي أصدر بياناً شبه عسكري عن الحرب الدائرة في اليمن، وإن لم يكن هناك دليل على دعم إسرائيلي.
ثاني عشر، العنف المستشري والاستعانة بالمجازر للتخويف ولتقويض قوى المعارضة. قد يكون هذا العامل هو الأهم، وهو يناقض كل المزاعم الاستشراقيّة (المُجترّة اليوم في ما يُسمّى الليبراليّة العربيّة التي تدعو إلى الحريّة الفرديّة في ساعة، وتهتف بحياة شيوخ النفط في ساعة تالية، أو تؤلّف كتاباً في شعر الأمير خالد الفيصل كما فعل شاكر النابلسي الذي توصّل أخيراً إلى نظريّة مفادها أن قمع المرأة في السعوديّة من فعل المرأة نفسها، لا العائلة الحاكمة) عن الاستبداد الشرقي أو عن النزوع العربي نحو الاستكانة والخنوع. يمكن الملاحظة أن الأنظمة العربيّة في الجزائر وسوريا ولبنان والعراق ومصر وعمان واليمن والسودان ارتكبت عدداً هائلاً من المجازر ضد شعوبها من أجل توطيد حكمها. والمجازر هي دليل على عدم رضوخ الشعوب. لم تكن الأنظمة تحتاج لهذا القتل الجماعي وهذا السجن الجماعي لو كان هناك خنوع وقبول شعبي بالاستبداد. لا يمكن التقليل من حجم هذا القمع: فقد سجن النظام المصري 7588 شخصاً بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين في العام الماضي (حسب بيان لمحامي الإخوان). إن النظام الذي يحتاج إلى سجن 7588 شخصاً في سنة واحدة لا يستفيد من مناخ ملائم للاستبداد، أو من نزوع جيني لتقبّل القمع، على الإطلاق.
ثالث عشر، فعالية تنسيق القمع العربي. يمكن اعتبار اجتماع وزراء الداخليّة العرب من أهم الاجتماعات العربيّة الجامعة على الإطلاق. والأنظمة العربيّة تعارض كل مساعي التوحّد والاندماج لكنها تتعاون بفعالية أكيدة في مجال القمع العربي المشترك. ويجلس أشرف ريفي (مدير قوى الأمن اللبناني) في مجلس إدارة جامعة الأمير نايف «العربيّة» للعلوم الأمنيّة. لا ندري إذا كانت المواد المُقرّرة تشمل في ما تشمل، دروساً في كهربة الأعضاء التناسليّة وفي سلخ الجلد وقلع الأظافر.
رابع عشر، يجب ألا نغفل عامل القمع الذاتي الذي حذّرنا منه فوكو (والفنان الفذّ علي فرزات): أي البحث عن مكامن التسلّط في كلّ مكان خارج الدولة، من العائلة إلى الذات إلى الدين الى التقاليد إلى القبيلة.
لا يمكن التطرق إلى مسألة استمرار الأنظمة دون الحديث عن طبيعة السيطرة الاستعماريّة التي لم تترك منطقة الشرق الأوسط لحظة واحدة. أصرّت الولايات المتحدة بعد الحرب العالميّة الثانية على السيطرة على الشرق الأوسط، وإحكام السيطرة على أميركا اللاتينيّة (لهذا لم تغفر أميركا لكوبا تمرّدها).
أي إن العلاقة بين استمرار حكم الأنظمة وفق عوامل داخليّة والتدخّل الخارجي المباشر وغير المباشر هي علاقة جدليّة.
ويمكن أن نضيف أن النموذج العراقي في التغيير ساهم على عكس ما روّج المُستعمر الأميركي في تدعيم أنظمة التسلّط العربيّة، لأن نموذج التغيير بات مرتبطاً في الأذهان الشعبيّة بالعنف والفتنة والسيطرة الأجنبيّة والفساد وسيادة الميليشيات المسلّحة والرجوع القهقرى تاريخيّاً واجتماعيّاً من ناحية تقوية الروابط العشائريّة والسيطرة الإكليريكيّة (وما يعنيه ذلك من تراجع في وضع المرأة العربيّة، أي إن الليبراليّة العربيّة تدعم الأنظمة العربيّة والحروب التي تزيد من قمع المرأة لكن ليس هذا هو التناقض الوحيد الذي يعتري جسم الحركة الهزيل).
يجب عدم النظر إلى ما ورد من تحليل كدعوة للمزيد من اليأس. على العكس، فإن تفنيد النظريّات الاستشراقيّة يجب أن يعوّل على قدرة التغلّب على عوامل سياسيّة واقتصاديّة مؤثِّرة في القمع العربي. أي إن قوة الضعفاء أهم من (انتظار) ضعف الأقوياء، على قول ماركس. لكن التغيير يتطلّب إهمال جهاز التحكّم من بعد لمدّة من الزمن، حتى لو فاتتكم مشاهدة مسلسل أو مسلسليْن.
ملاحظة: هذه المقالة مُستقاة من مُحاضرة ألقيتها في جامعة مونتانا قبل أيّام (وهي جزء من دراسة ستصدر في كتاب بالإنكليزيّة عن أسباب استمراريّة أنظمة التسلّط في العالم العربي).
المصدر (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)