Nasserm
05/10/2009, 21:31
الأمم المتحدة: مسرح العبثيّة الدولي
يتقاطر الرؤساء والملوك من كلّ حدب وصوب كلّ عام. يتزاحمون لالتقاط الصور مع إمبراطور الكون الأميركي. الكلّ يريد أن يظهر مبتسماً إلى جانب بوش أو أوباما. بعض الزعماء لا يتجشّم عناء السفر ويُرسل الابن أو الشقيق نيابةً. لكن طقس افتتاح الجمعيّة العمومية لم يتغيّر حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، التي أضفت نمطاً ديموقراطيّاً نسبيّاً على مداولات الجمعيّة العمومية وحتى على مجلس الأمن رغم بنيته غير الديموقراطيّة
أسعد أبو خليل *
يصرّ رئيس جمهوريّة لبنان الممتازة، على حضور الجمعية العمومية للأمم المتحدة كل سنة. هي جزء من محاولة اقتناص وهج فقده في جمهوريّة الطائف. يحاول أن يبدو رئيساً عن جدّ في محفل دولي لعلّ الصور في نيويورك تزيد من هيبة المنصب. لكن في عهد عصر النفقات وهي ذريعة السنيورة لإفقار الفقير ولمنع الإعمار عن الجنوب اللبناني، يتساءل المرء عن سبب ذهاب وفد لبناني عرمرمي (ضمّ الوزير نسيب لحّود، أي ليس هناك ما يمنع تسفير الراسبين في الانتخابات) إلى نيويورك. كم بدا لبنان صغيراً وهامشيّاً، على حقيقته. كان على كل الشعب اللبناني متابعة البرنامج الرسمي لرئيس الجمهوريّة ليتيقّن أن هذا البلد لم يكن يوماً إلا هامشيّاً ودونيّاً لا يحتّل موقعاً إلا تبعاً لأوامر تأتيه من هذا البلد العربي أو من ذاك البلد الغربي. وطارق متري الذي يجود في الخطب الحريريّة هذه الأيام، يتحدّث من دون تردّد عن دور ريادي للبنان. أي ريادة؟ لكن طارق متري اليوم بات كالمكتوب الذي يُقرأ من عنوان مقالات نصير الأسعد.
والإعلام اللبناني يعطي صورة مضلّلة عن تحركّات زعماء لبنان وزياراتهم حول العالم. ولكن يجب أن يذكر التاريخ أن سعد الحريري زار رئيس قبرص أثناء عدوان تموز طالباً مساعدته في طلب وقف للنار على ما ذكرت نشرة «المستقبل» على صفحتها الأولى آنذاك. هكذا تكون الدبلوماسيّة الفعّالة. وأذكر في عام 1982 ــــ 83 في بيروت قبل مجيئي إلى أميركا، أن صحافة لبنان كانت تتحدّث عن زيارات أمين الجميّل إلى الأمم المتحدة (عندما ألقى خطابه الشهير «أعطونا السلام وخذوا حروباً أهليّة ودماءً في الشوارع وقتلاً بالفؤوس في حرب الجبل وسرقات من خزينة الدولة واستسلاماً أمام إسرائيل») والبيت الأبيض. كان إعلام الدولة وجريدة «النهار» (المُروِّجة لاتفاق 17 أيار آنذاك لن ننسى) يتحدّثان عن اهتمام أميركي رسمي وإعلامي وشعبي بزيارات الجميّل إلى أميركا. وعندما جئت إلى أميركا اكتشفت أن الجميّل وزعماء لبنان يأتون ويروحون دون أن يدري بهم أحد باستثناء موظّفين في وزارة الخارجيّة وروّاد المطاعم اللبنانيّة في واشنطن. يأتي زعماء لبنان إلى الولايات المتحدّة من دون إشارة ولو عابرة في الصحف الأميركيّة، ويستحق لبنان هذا التجاهل بسب صغر حجمه ودوره. لكن مسخ الوطن نشأ على الادعاء الفارغ والأكاذيب. هذا عهدنا به منذ الولادة. ماذا تقول عن وطن يمارس الكذب على تلاميذ المدارس حول حكاية الاستقلال، فيما كانت أحزاب ومقامات دينيّة «رفيعة» ومجيدة تعارض الاستقلال وتطالب باستعمار فرنسي دائم على لبنان. ماذا تقول عن وطن يكلّف فيه الجيش وقوى الأمن الداخلي عناصرهم وببلاغ رسمي التصويت على الإنترنت لمغارة جعيتا؟ (أدعو اللبنانيّين واللبنانيّات للتصويت لأي مَعْلم آخر حتى لا يُصاب العقل اللبناني بخبل إضافي).
وقد التقى ميشال سليمان برؤساء ألبانيا والبوسنة والهرسك وقبرص والنمسا وغينيا، بالإضافة إلى لقاء عابر مع ساركوزي. وقد أنعم عليه الرئيس الإيراني بلقاء أيضاً. لكن صحافة لبنان ذكرت أن سليمان التقى أوباما «على هامش» العشاء الذي أقامه الرئيس الأميركي لرؤساء الدول. هل يدري شعب لبنان ماذا يعني اللقاء «على الهامش»؟ إنه يعني أن سليمان وقف بالصف مثل غيره من رؤساء الوفود وألقى التحيّة على أوباما وذكر له اسم لبنان، قبل أن يأتي مسؤول التشريفات ويقول ما يوازي «اللي بعدو»، كما كانت «أم كامل» تصيح في مسلسل «حمام الهنا» في أواخر الستينيات. أصبح السلام في صحافة لبنان «لقاءً على الهامش» وبحثاً معمّقاً في القضيّة اللبنانيّة.
أما أحمدي نجاد، فيستمرّ في تزويد إسرائيل حججاً دعائيّة مجانيّة. أحمدي نجاد يجعلك تحنّ إلى خطب أحمد الشقيري في أيار 1967. لماذا يصرّ نجاد على إقحام المحرقة بالقضيّة الفلسطينيّة؟ هل يظن أن إقحامها يدخل في الرصيد الدعائي الفلسطيني؟ ألا يعلم ... ولكن من المُستبعد أنه يعلم لأن خطابه ينمّ عن تحجّر فكري وانغلاق ثقافي لا مثيل له إلا في أروقة مقرّ هيئة كبار العلماء في السعوديّة. في كل كلام له عن المحرقة يعطي نجاد لإسرائيل فرصة ذهبيّة ليس فقط لاستغلال الاستفظاع الغربي (المُحقّ) للمحرقة ولكنه يعطي أيضاً لإسرائيل فرصة إضافيّة لعزو المقاومة العربيّة لإسرائيل إلى أسباب نازيّة. بات نجاد تحقيقاً لأمنية إسرائيليّة. وأبواق الدعاية الصهيونيّة نفضت في الأشهر الماضية الكرّاسات الصهيونيّة عن العلاقة بين الحاج أمين الحسيني والحكم النازي (وتتناسى الصهيونيّة كما تناسى الحاج أمين الذي تلقّى من هتلر سيّارة مصفّحة شاهدتها بأم عيني في مرأب سيّارات في بيروت، أن النازيّة انطوت على نظرة عنصريّة بغيضة للعرب، مع أن هتلر رفع مرتبة العرب في تراتبيّة الكراهية النازيّة العنصرية بعد لقائه مع الحسيني لأنه كان فاتح اللون على غير ما كان هتلر ينتظر). كان خطاب نجاد في نيويورك مناسبة لإعطاء زخم دعائي لبنيامين نتنياهو كي يفتح ملف المحرقة بالصور والوثائق ويكسب عطفاً مجانياً... على عدوان إسرائيل وحروبها، هديّة من نجاد.
هل يشكّك أحمدي نجاد أيضاً بالمحرقة ضد غير اليهود؟ وماذا يرى في نظريّة داروين؟ هل يشاطر ابن باز نظرته إلى القمر وشكل الأرض؟ ولا يعلم نجاد أن إصراره على التشكيك بالمحرقة أو نفيها من أساسها يساعد إسرائيل في حملتها لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي، ويجعلها توازي بين السلاح الإيراني والسلاح النازي في الحرب العالميّة الثانيّة.
لهذا، فإن واجب مناصري القضيّة الفلسطينيّة أن ينتقدوا ليس فقط من هو في معسكر العدو والخصم، بل أيضاً من يعتبر نفسه أو دولته في منطق الدفاع عن الحق الفلسطيني، مثل أحمدي نجاد هذا. من واجب أنصار القضيّة الفلسطينيّة أن يتوجهوا إلى أحمدي نجاد بالتقريع والنقد. إذا كان هو غير قادر على التحدث عن قضيّة فلسطين من دون التشكيك بالمحرقة، حتى لو بأسلوب يظنه هو ذكيّاً، فعلى أنصار القضيّة مطالبته بتركها لأنصارها ولمن يستطيع أن يدافع عنها من دون إسداء خدمات للصهيونيّة.
أما الزعيم (لأن لا صفة رسميّة له، كونه يعيش في حكم الجماهيريّة حيث يمارس الشعب حكم نفسه بنفسه وقلع أظافره بنفسه وكهربة أعضائه التناسليّة بنفسه والضرب المبرّح لنفسه بنفسه ومراقبة بعضه بعضاً) الليبي فقد كان الحدث الهزلي بامتياز (مسموح للإعلام السعودي السخرية من القذافي، وخصوصاً أن أبواق الأمراء تمنع اليوم من السخرية من الرئيس السوري. كله بأمر أميري، ويُحسن المعلّقون اللبنانيّون تلقّي الأوامر وتلبيتها بسرعة). وقد برز في تغطية خطابه في نيويورك أمر مميّز في هذه البلاد: درجة الجهل بالسياسة الخارجيّة في أميركا وصلت إلى حد أن الإعلام والرأي العام سخرا من القذافي وقرّعاه وندّدا بحكمه دون أن يعلما أو يلاحظا أن العقيد أصبح واحداً من حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: أي إن العقيد دخل في نطاق «محور الاعتدال»، وهو خيّر أميركيّاً، فيما يظن الشعب الأميركي أن أميركا لا تزال تعادي القذافي. وكلام العقيد باطل حتى عندما يكون مُحقّاً في نقده للأمم المتحدة أو للولايات المتحدة، مع أنه خاف ذكر اسم الولايات المتحدة عندما تعرّض إلى ماضيها بالنقد.
كما أنه كال من المديح لأوباما ما لم يكله أي رئيس آخر. وما قيمة كلام القذّافي في الحريّة والاستقلال وهو الذي باع ليبيا مقابل اعتراف أميركي بسلالته، وقد أصبح سيف الإسلام والمعتصم سفيرين سريّين لأجهزة الإدارة الأميركيّة؟ لكن كلام القذافي، من الناحية الطبيّة العياديّة، يذكّر بالهذيان حتى لو حمل في بعضه صواباً، مع أن الشيخ محمد علي الجوزو أشاد بكلمة القذافي ووصفها بـ«المرافعة القيّمة»، وهو لم يفعل ذلك استفزازاً لشيعة لبنان لأن المفتي الجوزو أبعد ما يكون عن إثارة الفتنة المذهبيّة والطائفيّة، ولم يكن دوره في خليّة حمد إلا تكريساً لذلك. والحكومة الأميركيّة تعمد دوماً إلى وصف خصومها العرب والمسلمين بـ«الجنون». وهذا الوصف كان جزءاً من الإرث الاستعماري الأوروبي. والجنون هنا يحتاج إلى دراسة مثلما درس ميشيل فوكو «ولادة العيادة»، أي إن الوصيف «الطبي» هو جزء من منظومة السيطرة الاستعماريّة والسلطويّة.
كثيرون من الذين عارضوا الاستعمار وُصفوا بـ«الجنون»: من أحمد عرابي إلى جمال عبد الناصر إلى قادة المقاومة الفلسطينيّة. أما الولايات المتحدة فإنها تستعمل الوصف ضد خصومها وأعدائها، من نورييغا إلى القذافي والخميني وعرفات، إلخ. أي إن الجنون هو في معارضة الولايات المتحدة والعقلانيّة هي في الانصياع لإرادتها. وعليه، فإن أنور السادات تحوّل من معتوه يسخر منه حكّام أميركا في السرّ (راجع مذكرات بريجنسكي) إلى عاقل العقلاء عندما ارتمى في أحضان زعماء إسرائيل. وعليه، ملوك وأمراء مشكوك بصحتهم الجسديّة والعقليّة باتوا ذروة العقلانيّة والنباهة مكافأة لهم على طاعتهم للراعي الأميركي كما يسمّيه صائب عريقات. والتشكيك بسلامة العقيد العقليّة كان جزءاً من السياسية الخارجيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط، وقد وصفه رونالد ريغان بـ«الكلب المسعور»، كما أن جورج شولتز تمنّى إصابته بمرض «الإيدز». لكن العقيد بات عقلانيّاً ومُحترماً في السياسة الأميركيّة. أي إنه شُفي من الجنون في اللحظة التي أذعن فيها.
الخطاب الأبرز كان طبعاً لمعبود الجماهير العربيّة والإسلاميّة: أوباما. ولولا خشيتي من جرح مشاعر هؤلاء لأخبرتهم كيف أن المرشّح أوباما فعل المستحيل لإقناع الجمهور الأميركي بأن لا علاقة له ولا صلة بالإسلام والمسلمين، ولا تعاطف البتة، كما أنه أخفى عنهم خبر رحلته إلى باكستان والهند عندما كان في الجامعة خشية إثارة قلق وهواجس لم تزل قائمة. لم يستعمل اسمه الثاني (حسين) في حملته الانتخابيّة، فيما يظنّ الإعلام العربي أن أوباما سليل أشراف قريش ويفخر بنسبه. لكن الترحيب العربي والإسلامي (السطحي) بأوباما مفهوم: كان يسود تعطشٌ في أوساط العامّة لأي رجل يأتي بعد بوش، حتى لو كان تشيني. لكن التعويل على بشرة أوباما (والرجل من أقل الرؤساء حديثاً عن عنصريّة البيض) أو على اسمه، هو بمثابة الضرب في الرمل. للرجل طموح سياسي وليس في تاريخه ما ينبئ بتعاطف مع قضايا العرب والمسلمين (وهي غير قضايا الشيوخ والأمراء الشخبوطيين). وهناك من يبدي خيبة خجولة بابتعاد أوباما عن خطاب القاهرة، وهنا الطامة.
خدع أوباما الشعوب العربية والإسلامية لأن هذه كانت في حاجة إلى إقناع أنفسها بأن عهد بوش ولّى إلى غير رجعة: نظرتهم إلى صنع السياسة الخارجيّة محكومة بتجاهل أخذ المُقرّرات والمؤثِّرات المتعدّدة في حسبان التحليل السياسي للسياسة الخارجيّة التي يلعب فيها اللوبي دوراً مهماً ولكن ليس حصريّاً. ينسى المتيّمون بأوباما في العالم العربي أن كل كلام أوباما المُعسّل عن الإسلام وعن إنشاء دولة فلسطينيّة جاء من قبل في خطب لجورج بوش، وبالحرف. الحكم لا يمكن أن يقوم على الكلام المعسول، بل على الأفعال. هل أوقف أوباما الحروب الأميركيّة؟ على العكس. يبدو أنه يُوسّع نطاق الحرب في أفغانستان فيما لا يزال عدد القوات الأميركيّة في العراق يقارب الثلاثمئة ألف (الجنود بالإضافة إلى ما يسمّى «المُتعاقدين» يجب ترجمة كتاب جيريمي سكيهيل عن «بلاك ووتر»). هل أقفل غوانتنامو؟ لا، وقد اعترف وزير الدفاع الأميركي بأن السجن سيبقى في الخدمة إلى ما بعد السنة المقبلة. هل تحيّة «السلام عليكم» من أوباما أو ابتساماته تمثّل انعطافة في السياسة الخارجيّة؟ على العكس، يمكن القول إن عقيدة أوباما أشدّ خطراً من عقيدة بوش لأن كلامه المعسول وابتساماته تُنسي البعض أن قنابله لا تزال تنهمر، وأن التعصّب الأميركي لإسرائيل وحروبها لم ينقص درجة واحدة.
يمكن تأريخ موت الأمم المتحدة عام 1991 عندما رضخت الجمعية العمومية للأمم المتحدة لمشيئة الإمبراطوريّة المُنتشية آنذاك. قرّرت أميركا بإصرار من الكونغرس (وبمبادرة من السناتور باتريك مونيهان الذي عمل سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة عندما أصدرت قرار «الصهيونيّة هي العنصريّة» في عام 1975 وبموافقة 72 دولة) على مراجعة قرار ذم الصهيونيّة. وكان للولايات المتحدة ما أرادت. وقرار الرجوع عن القرار حاز 111 صوتاً. رسمت أميركا حدود المسموح به في حقبة السيادة الأميركيّة شبه المطلقة بعد انتهاء الحرب الباردة. أفرغت الجمعيّة العمومية من أي قوة، وتحوّل ليس فقط القرار بل المنبر إلى مجلس الأمن الذي عبّر عن ميزان قوى مختلف تماماً. كانت الجمعيّة العمومية، وبدرجة أقل مجلس الأمن، تعبيراً عن تطلعات شعوب العالم النامي أثناء الحرب الباردة، وكانت كتلة عدم الانحياز ــــ وهي غير كتلة «كسّارات فتوش بالقلب» أو كتلة ميشال المرّ ذات العضو الواحد ــــ يُحسب لها حساب.
أصبحت الأمم المتحدة باعتراف جورج بوش الأب في كتابه «عالم متغيّر» مجرّد وسيلة لخدمة أهداف الإمبراطوريّة الأميركيّة، تستخدمها حيناً وتتجاهلها كليّاً حيناً آخر. وبالنظر إلى الاستهتار بالأمم المتحدة في الحرب على العراق، نرى أن الأمم المتحدة عادت (بحماسة من الأخضر الإبراهيمي وغسان سلامة) إلى العراق بعدما أمعنت فيه إفقاراً وحصاراً وتجويعاً من خلال «النفط مقابل الغذاء» الظالم لتخدم الاحتلال وتساعده في نشر سلطانه. لكن تفجير مقرّ الأمم المتحدة في بغداد غيّر الحسابات، مع أن الأمم المتحدة في أفغانستان، وبإشراف خادم الإدارات الأميركيّة المطيع، الأخضر الإبراهيمي، لا تزال تحاول ما تستطيع لتوطيد دعائم الاحتلال الأميركي. وهي التي غطّت غزو أفغانستان الثأري.
قد يكون الحل العودة إلى عصبة الأمم التي لم تكن تضم في صفوف أعضائها الولايات المتحدة، لكن الأمم المتحدة تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة المالي التي تصرّ على السيطرة الكليّة على مقدّرات المنظمة الدوليّة. أذكر عندما كنت أزور عام 1993 بول هير (نائب سابق لمساعد وزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى، وابن الدبلوماسي ريمون هير الذي عمل سفيراً في بيروت في الخمسينيات ثم خدم في مصر إبّان الحقبة الناصريّة وأحبّ عبد الناصر) في مكتبه بمؤسّسة الشرق الأوسط في واشنطن حيث كنت باحثاً مقيماً، دقّ جرس الهاتف. تحدّث لبضع دقائق، ثم نظر إليّ مستغرباً. قال: أتدري أنني عُيِّنت للتوّ في منصب ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة في أنغولا، والذي هاتفني هو مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة؟ قلت: يعني صدر تعيينك كممثل للأمين العام من دون علم الأمين العام؟ قال ضاحكاً: لا، سيتلقّى الخبر بعد قليل. الولايات المتحدّة هي التي تقرِّر السياسات والتعيينات وسبل الإنفاق والتدقيق المالي (وكأن الموازنة الأميركيّة العسكريّة لا تعاني إهداراً بالمليارات). بطرس غالي تحدّث بصراحة في الجزء الأول من مذكراته عن تجربته مع سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت، عندما صارحها مبكِّراً بأنه قد يضطرّ في منصبه الجديد لإصدار نقد غير عنيف لسياسات أميركا. توقّفت عن التحدّث إليه وبدأت مشاكله التي لم تنته، مع أنه كان من الساداتيّين المطيعين (ينسى بطرس غالي أن البعض لا يزال يتذكّر كتاباته الاشتراكيّة في الحقبة الناصريّة).
وهذه هي معضلة الأمم المتحدة اليوم: كيف تستطيع أن تخلق أو أن تطوّر منظمة دوليّة لتعكس العلاقات الديموقراطيّة بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والإنسانيّة، فيما العلاقات الدوليّة قائمة على لغة القوّة («الفائقة» كما وصفها الوزير الفرنسي السابق، هوبير فيدرين في كتابه «فرنسا في عصر العولمة»). وحتى من ينصحون بين علماء السياسة، مثل جوزيف ناي، باللجوء إلى «القوة الليّنة» فإنهم لا يطالبون بنبذ القوة في سياسة أميركا الخارجيّة في المطلق. لكن عصر السيطرة الأحاديّة لا بدّ أن ينعكس على عمل الأمم المتحدة. أي إن التغيير في العلاقات الدوليّة لا بدّ أن ينعكس على الأمم المتحدة، وخصوصاً إذا قلّ تفرّد الولايات المتحدة بالقرارات الدوليّة. وفي انتظار ذلك، من الضروري رفض الشرعيّة الدوليّة متى تضاربت مصالحها مع مصالحنا: لأن «الشرعيّة الدولية» (أي الكساء الذي لا يستر المشيئة الأميركيّة ويروِّج لها على أنها إجماع دولي) تعبير عن مصالح تهدف إلى خدمة إسرائيل والسيطرة على العرب، سياسيّاً واقتصاديّاً. أي إن الشرعيّة الدوليّة لا تختلف اليوم عن شرعيّة عصبة الأمم التي فرضت وعد بلفور (وأدخلته في فذلكة مشروع العصبة) وباعتنا ما سمّته «الانتداب» ــــ اسم غير مهذب للاستعمار، وهو على أنواع ــــ والإصرار على المصالح الوطنيّة حتى لو تعارضت مع ما يُسمّى ظرفيّاً «الشرعيّة الدوليّة» (وهذا التعبير الدعائي لا يُستعمل في لغات المُستعمر الذي يستعيض عنها بعبارة «المُجتمع الدولي») هو الدرس البليغ الذي لجأت إليه دولة العدوّ، وبنجاح كبير. أصرّت إسرائيل لعقود على تجاهل القرارات الدوليّة حتى تيسّر لها التمتّع بعهد السيطرة الأميركيّة الكليّة. أي أمامنا عقود من التجاهل والرفض والإصرار والعزم، إلى أن تتغيّر بنية العلاقات الدوليّة، وعندها يمكن أن نطالب من جديد بتصويت للمرّة الثالثة على التوالي على قرار «الصهيونيّة هي عنصريّة» هذا إذا كانت إسرائيل باقية إلى حينه. عندما صدّر قرار «الصهيونيّة هي العنصريّة» للمرّة الأولى، قام المندوب الإسرائيلي، حاييم هرتزوغ، بتمزيقه أمام الجمع الدولي. فلنبدأ بالتمزيق، بدءاً بـ242 وصولاً إلى 1701.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
المصدر (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)
يتقاطر الرؤساء والملوك من كلّ حدب وصوب كلّ عام. يتزاحمون لالتقاط الصور مع إمبراطور الكون الأميركي. الكلّ يريد أن يظهر مبتسماً إلى جانب بوش أو أوباما. بعض الزعماء لا يتجشّم عناء السفر ويُرسل الابن أو الشقيق نيابةً. لكن طقس افتتاح الجمعيّة العمومية لم يتغيّر حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، التي أضفت نمطاً ديموقراطيّاً نسبيّاً على مداولات الجمعيّة العمومية وحتى على مجلس الأمن رغم بنيته غير الديموقراطيّة
أسعد أبو خليل *
يصرّ رئيس جمهوريّة لبنان الممتازة، على حضور الجمعية العمومية للأمم المتحدة كل سنة. هي جزء من محاولة اقتناص وهج فقده في جمهوريّة الطائف. يحاول أن يبدو رئيساً عن جدّ في محفل دولي لعلّ الصور في نيويورك تزيد من هيبة المنصب. لكن في عهد عصر النفقات وهي ذريعة السنيورة لإفقار الفقير ولمنع الإعمار عن الجنوب اللبناني، يتساءل المرء عن سبب ذهاب وفد لبناني عرمرمي (ضمّ الوزير نسيب لحّود، أي ليس هناك ما يمنع تسفير الراسبين في الانتخابات) إلى نيويورك. كم بدا لبنان صغيراً وهامشيّاً، على حقيقته. كان على كل الشعب اللبناني متابعة البرنامج الرسمي لرئيس الجمهوريّة ليتيقّن أن هذا البلد لم يكن يوماً إلا هامشيّاً ودونيّاً لا يحتّل موقعاً إلا تبعاً لأوامر تأتيه من هذا البلد العربي أو من ذاك البلد الغربي. وطارق متري الذي يجود في الخطب الحريريّة هذه الأيام، يتحدّث من دون تردّد عن دور ريادي للبنان. أي ريادة؟ لكن طارق متري اليوم بات كالمكتوب الذي يُقرأ من عنوان مقالات نصير الأسعد.
والإعلام اللبناني يعطي صورة مضلّلة عن تحركّات زعماء لبنان وزياراتهم حول العالم. ولكن يجب أن يذكر التاريخ أن سعد الحريري زار رئيس قبرص أثناء عدوان تموز طالباً مساعدته في طلب وقف للنار على ما ذكرت نشرة «المستقبل» على صفحتها الأولى آنذاك. هكذا تكون الدبلوماسيّة الفعّالة. وأذكر في عام 1982 ــــ 83 في بيروت قبل مجيئي إلى أميركا، أن صحافة لبنان كانت تتحدّث عن زيارات أمين الجميّل إلى الأمم المتحدة (عندما ألقى خطابه الشهير «أعطونا السلام وخذوا حروباً أهليّة ودماءً في الشوارع وقتلاً بالفؤوس في حرب الجبل وسرقات من خزينة الدولة واستسلاماً أمام إسرائيل») والبيت الأبيض. كان إعلام الدولة وجريدة «النهار» (المُروِّجة لاتفاق 17 أيار آنذاك لن ننسى) يتحدّثان عن اهتمام أميركي رسمي وإعلامي وشعبي بزيارات الجميّل إلى أميركا. وعندما جئت إلى أميركا اكتشفت أن الجميّل وزعماء لبنان يأتون ويروحون دون أن يدري بهم أحد باستثناء موظّفين في وزارة الخارجيّة وروّاد المطاعم اللبنانيّة في واشنطن. يأتي زعماء لبنان إلى الولايات المتحدّة من دون إشارة ولو عابرة في الصحف الأميركيّة، ويستحق لبنان هذا التجاهل بسب صغر حجمه ودوره. لكن مسخ الوطن نشأ على الادعاء الفارغ والأكاذيب. هذا عهدنا به منذ الولادة. ماذا تقول عن وطن يمارس الكذب على تلاميذ المدارس حول حكاية الاستقلال، فيما كانت أحزاب ومقامات دينيّة «رفيعة» ومجيدة تعارض الاستقلال وتطالب باستعمار فرنسي دائم على لبنان. ماذا تقول عن وطن يكلّف فيه الجيش وقوى الأمن الداخلي عناصرهم وببلاغ رسمي التصويت على الإنترنت لمغارة جعيتا؟ (أدعو اللبنانيّين واللبنانيّات للتصويت لأي مَعْلم آخر حتى لا يُصاب العقل اللبناني بخبل إضافي).
وقد التقى ميشال سليمان برؤساء ألبانيا والبوسنة والهرسك وقبرص والنمسا وغينيا، بالإضافة إلى لقاء عابر مع ساركوزي. وقد أنعم عليه الرئيس الإيراني بلقاء أيضاً. لكن صحافة لبنان ذكرت أن سليمان التقى أوباما «على هامش» العشاء الذي أقامه الرئيس الأميركي لرؤساء الدول. هل يدري شعب لبنان ماذا يعني اللقاء «على الهامش»؟ إنه يعني أن سليمان وقف بالصف مثل غيره من رؤساء الوفود وألقى التحيّة على أوباما وذكر له اسم لبنان، قبل أن يأتي مسؤول التشريفات ويقول ما يوازي «اللي بعدو»، كما كانت «أم كامل» تصيح في مسلسل «حمام الهنا» في أواخر الستينيات. أصبح السلام في صحافة لبنان «لقاءً على الهامش» وبحثاً معمّقاً في القضيّة اللبنانيّة.
أما أحمدي نجاد، فيستمرّ في تزويد إسرائيل حججاً دعائيّة مجانيّة. أحمدي نجاد يجعلك تحنّ إلى خطب أحمد الشقيري في أيار 1967. لماذا يصرّ نجاد على إقحام المحرقة بالقضيّة الفلسطينيّة؟ هل يظن أن إقحامها يدخل في الرصيد الدعائي الفلسطيني؟ ألا يعلم ... ولكن من المُستبعد أنه يعلم لأن خطابه ينمّ عن تحجّر فكري وانغلاق ثقافي لا مثيل له إلا في أروقة مقرّ هيئة كبار العلماء في السعوديّة. في كل كلام له عن المحرقة يعطي نجاد لإسرائيل فرصة ذهبيّة ليس فقط لاستغلال الاستفظاع الغربي (المُحقّ) للمحرقة ولكنه يعطي أيضاً لإسرائيل فرصة إضافيّة لعزو المقاومة العربيّة لإسرائيل إلى أسباب نازيّة. بات نجاد تحقيقاً لأمنية إسرائيليّة. وأبواق الدعاية الصهيونيّة نفضت في الأشهر الماضية الكرّاسات الصهيونيّة عن العلاقة بين الحاج أمين الحسيني والحكم النازي (وتتناسى الصهيونيّة كما تناسى الحاج أمين الذي تلقّى من هتلر سيّارة مصفّحة شاهدتها بأم عيني في مرأب سيّارات في بيروت، أن النازيّة انطوت على نظرة عنصريّة بغيضة للعرب، مع أن هتلر رفع مرتبة العرب في تراتبيّة الكراهية النازيّة العنصرية بعد لقائه مع الحسيني لأنه كان فاتح اللون على غير ما كان هتلر ينتظر). كان خطاب نجاد في نيويورك مناسبة لإعطاء زخم دعائي لبنيامين نتنياهو كي يفتح ملف المحرقة بالصور والوثائق ويكسب عطفاً مجانياً... على عدوان إسرائيل وحروبها، هديّة من نجاد.
هل يشكّك أحمدي نجاد أيضاً بالمحرقة ضد غير اليهود؟ وماذا يرى في نظريّة داروين؟ هل يشاطر ابن باز نظرته إلى القمر وشكل الأرض؟ ولا يعلم نجاد أن إصراره على التشكيك بالمحرقة أو نفيها من أساسها يساعد إسرائيل في حملتها لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي، ويجعلها توازي بين السلاح الإيراني والسلاح النازي في الحرب العالميّة الثانيّة.
لهذا، فإن واجب مناصري القضيّة الفلسطينيّة أن ينتقدوا ليس فقط من هو في معسكر العدو والخصم، بل أيضاً من يعتبر نفسه أو دولته في منطق الدفاع عن الحق الفلسطيني، مثل أحمدي نجاد هذا. من واجب أنصار القضيّة الفلسطينيّة أن يتوجهوا إلى أحمدي نجاد بالتقريع والنقد. إذا كان هو غير قادر على التحدث عن قضيّة فلسطين من دون التشكيك بالمحرقة، حتى لو بأسلوب يظنه هو ذكيّاً، فعلى أنصار القضيّة مطالبته بتركها لأنصارها ولمن يستطيع أن يدافع عنها من دون إسداء خدمات للصهيونيّة.
أما الزعيم (لأن لا صفة رسميّة له، كونه يعيش في حكم الجماهيريّة حيث يمارس الشعب حكم نفسه بنفسه وقلع أظافره بنفسه وكهربة أعضائه التناسليّة بنفسه والضرب المبرّح لنفسه بنفسه ومراقبة بعضه بعضاً) الليبي فقد كان الحدث الهزلي بامتياز (مسموح للإعلام السعودي السخرية من القذافي، وخصوصاً أن أبواق الأمراء تمنع اليوم من السخرية من الرئيس السوري. كله بأمر أميري، ويُحسن المعلّقون اللبنانيّون تلقّي الأوامر وتلبيتها بسرعة). وقد برز في تغطية خطابه في نيويورك أمر مميّز في هذه البلاد: درجة الجهل بالسياسة الخارجيّة في أميركا وصلت إلى حد أن الإعلام والرأي العام سخرا من القذافي وقرّعاه وندّدا بحكمه دون أن يعلما أو يلاحظا أن العقيد أصبح واحداً من حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: أي إن العقيد دخل في نطاق «محور الاعتدال»، وهو خيّر أميركيّاً، فيما يظن الشعب الأميركي أن أميركا لا تزال تعادي القذافي. وكلام العقيد باطل حتى عندما يكون مُحقّاً في نقده للأمم المتحدة أو للولايات المتحدة، مع أنه خاف ذكر اسم الولايات المتحدة عندما تعرّض إلى ماضيها بالنقد.
كما أنه كال من المديح لأوباما ما لم يكله أي رئيس آخر. وما قيمة كلام القذّافي في الحريّة والاستقلال وهو الذي باع ليبيا مقابل اعتراف أميركي بسلالته، وقد أصبح سيف الإسلام والمعتصم سفيرين سريّين لأجهزة الإدارة الأميركيّة؟ لكن كلام القذافي، من الناحية الطبيّة العياديّة، يذكّر بالهذيان حتى لو حمل في بعضه صواباً، مع أن الشيخ محمد علي الجوزو أشاد بكلمة القذافي ووصفها بـ«المرافعة القيّمة»، وهو لم يفعل ذلك استفزازاً لشيعة لبنان لأن المفتي الجوزو أبعد ما يكون عن إثارة الفتنة المذهبيّة والطائفيّة، ولم يكن دوره في خليّة حمد إلا تكريساً لذلك. والحكومة الأميركيّة تعمد دوماً إلى وصف خصومها العرب والمسلمين بـ«الجنون». وهذا الوصف كان جزءاً من الإرث الاستعماري الأوروبي. والجنون هنا يحتاج إلى دراسة مثلما درس ميشيل فوكو «ولادة العيادة»، أي إن الوصيف «الطبي» هو جزء من منظومة السيطرة الاستعماريّة والسلطويّة.
كثيرون من الذين عارضوا الاستعمار وُصفوا بـ«الجنون»: من أحمد عرابي إلى جمال عبد الناصر إلى قادة المقاومة الفلسطينيّة. أما الولايات المتحدة فإنها تستعمل الوصف ضد خصومها وأعدائها، من نورييغا إلى القذافي والخميني وعرفات، إلخ. أي إن الجنون هو في معارضة الولايات المتحدة والعقلانيّة هي في الانصياع لإرادتها. وعليه، فإن أنور السادات تحوّل من معتوه يسخر منه حكّام أميركا في السرّ (راجع مذكرات بريجنسكي) إلى عاقل العقلاء عندما ارتمى في أحضان زعماء إسرائيل. وعليه، ملوك وأمراء مشكوك بصحتهم الجسديّة والعقليّة باتوا ذروة العقلانيّة والنباهة مكافأة لهم على طاعتهم للراعي الأميركي كما يسمّيه صائب عريقات. والتشكيك بسلامة العقيد العقليّة كان جزءاً من السياسية الخارجيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط، وقد وصفه رونالد ريغان بـ«الكلب المسعور»، كما أن جورج شولتز تمنّى إصابته بمرض «الإيدز». لكن العقيد بات عقلانيّاً ومُحترماً في السياسة الأميركيّة. أي إنه شُفي من الجنون في اللحظة التي أذعن فيها.
الخطاب الأبرز كان طبعاً لمعبود الجماهير العربيّة والإسلاميّة: أوباما. ولولا خشيتي من جرح مشاعر هؤلاء لأخبرتهم كيف أن المرشّح أوباما فعل المستحيل لإقناع الجمهور الأميركي بأن لا علاقة له ولا صلة بالإسلام والمسلمين، ولا تعاطف البتة، كما أنه أخفى عنهم خبر رحلته إلى باكستان والهند عندما كان في الجامعة خشية إثارة قلق وهواجس لم تزل قائمة. لم يستعمل اسمه الثاني (حسين) في حملته الانتخابيّة، فيما يظنّ الإعلام العربي أن أوباما سليل أشراف قريش ويفخر بنسبه. لكن الترحيب العربي والإسلامي (السطحي) بأوباما مفهوم: كان يسود تعطشٌ في أوساط العامّة لأي رجل يأتي بعد بوش، حتى لو كان تشيني. لكن التعويل على بشرة أوباما (والرجل من أقل الرؤساء حديثاً عن عنصريّة البيض) أو على اسمه، هو بمثابة الضرب في الرمل. للرجل طموح سياسي وليس في تاريخه ما ينبئ بتعاطف مع قضايا العرب والمسلمين (وهي غير قضايا الشيوخ والأمراء الشخبوطيين). وهناك من يبدي خيبة خجولة بابتعاد أوباما عن خطاب القاهرة، وهنا الطامة.
خدع أوباما الشعوب العربية والإسلامية لأن هذه كانت في حاجة إلى إقناع أنفسها بأن عهد بوش ولّى إلى غير رجعة: نظرتهم إلى صنع السياسة الخارجيّة محكومة بتجاهل أخذ المُقرّرات والمؤثِّرات المتعدّدة في حسبان التحليل السياسي للسياسة الخارجيّة التي يلعب فيها اللوبي دوراً مهماً ولكن ليس حصريّاً. ينسى المتيّمون بأوباما في العالم العربي أن كل كلام أوباما المُعسّل عن الإسلام وعن إنشاء دولة فلسطينيّة جاء من قبل في خطب لجورج بوش، وبالحرف. الحكم لا يمكن أن يقوم على الكلام المعسول، بل على الأفعال. هل أوقف أوباما الحروب الأميركيّة؟ على العكس. يبدو أنه يُوسّع نطاق الحرب في أفغانستان فيما لا يزال عدد القوات الأميركيّة في العراق يقارب الثلاثمئة ألف (الجنود بالإضافة إلى ما يسمّى «المُتعاقدين» يجب ترجمة كتاب جيريمي سكيهيل عن «بلاك ووتر»). هل أقفل غوانتنامو؟ لا، وقد اعترف وزير الدفاع الأميركي بأن السجن سيبقى في الخدمة إلى ما بعد السنة المقبلة. هل تحيّة «السلام عليكم» من أوباما أو ابتساماته تمثّل انعطافة في السياسة الخارجيّة؟ على العكس، يمكن القول إن عقيدة أوباما أشدّ خطراً من عقيدة بوش لأن كلامه المعسول وابتساماته تُنسي البعض أن قنابله لا تزال تنهمر، وأن التعصّب الأميركي لإسرائيل وحروبها لم ينقص درجة واحدة.
يمكن تأريخ موت الأمم المتحدة عام 1991 عندما رضخت الجمعية العمومية للأمم المتحدة لمشيئة الإمبراطوريّة المُنتشية آنذاك. قرّرت أميركا بإصرار من الكونغرس (وبمبادرة من السناتور باتريك مونيهان الذي عمل سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة عندما أصدرت قرار «الصهيونيّة هي العنصريّة» في عام 1975 وبموافقة 72 دولة) على مراجعة قرار ذم الصهيونيّة. وكان للولايات المتحدة ما أرادت. وقرار الرجوع عن القرار حاز 111 صوتاً. رسمت أميركا حدود المسموح به في حقبة السيادة الأميركيّة شبه المطلقة بعد انتهاء الحرب الباردة. أفرغت الجمعيّة العمومية من أي قوة، وتحوّل ليس فقط القرار بل المنبر إلى مجلس الأمن الذي عبّر عن ميزان قوى مختلف تماماً. كانت الجمعيّة العمومية، وبدرجة أقل مجلس الأمن، تعبيراً عن تطلعات شعوب العالم النامي أثناء الحرب الباردة، وكانت كتلة عدم الانحياز ــــ وهي غير كتلة «كسّارات فتوش بالقلب» أو كتلة ميشال المرّ ذات العضو الواحد ــــ يُحسب لها حساب.
أصبحت الأمم المتحدة باعتراف جورج بوش الأب في كتابه «عالم متغيّر» مجرّد وسيلة لخدمة أهداف الإمبراطوريّة الأميركيّة، تستخدمها حيناً وتتجاهلها كليّاً حيناً آخر. وبالنظر إلى الاستهتار بالأمم المتحدة في الحرب على العراق، نرى أن الأمم المتحدة عادت (بحماسة من الأخضر الإبراهيمي وغسان سلامة) إلى العراق بعدما أمعنت فيه إفقاراً وحصاراً وتجويعاً من خلال «النفط مقابل الغذاء» الظالم لتخدم الاحتلال وتساعده في نشر سلطانه. لكن تفجير مقرّ الأمم المتحدة في بغداد غيّر الحسابات، مع أن الأمم المتحدة في أفغانستان، وبإشراف خادم الإدارات الأميركيّة المطيع، الأخضر الإبراهيمي، لا تزال تحاول ما تستطيع لتوطيد دعائم الاحتلال الأميركي. وهي التي غطّت غزو أفغانستان الثأري.
قد يكون الحل العودة إلى عصبة الأمم التي لم تكن تضم في صفوف أعضائها الولايات المتحدة، لكن الأمم المتحدة تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة المالي التي تصرّ على السيطرة الكليّة على مقدّرات المنظمة الدوليّة. أذكر عندما كنت أزور عام 1993 بول هير (نائب سابق لمساعد وزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى، وابن الدبلوماسي ريمون هير الذي عمل سفيراً في بيروت في الخمسينيات ثم خدم في مصر إبّان الحقبة الناصريّة وأحبّ عبد الناصر) في مكتبه بمؤسّسة الشرق الأوسط في واشنطن حيث كنت باحثاً مقيماً، دقّ جرس الهاتف. تحدّث لبضع دقائق، ثم نظر إليّ مستغرباً. قال: أتدري أنني عُيِّنت للتوّ في منصب ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة في أنغولا، والذي هاتفني هو مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة؟ قلت: يعني صدر تعيينك كممثل للأمين العام من دون علم الأمين العام؟ قال ضاحكاً: لا، سيتلقّى الخبر بعد قليل. الولايات المتحدّة هي التي تقرِّر السياسات والتعيينات وسبل الإنفاق والتدقيق المالي (وكأن الموازنة الأميركيّة العسكريّة لا تعاني إهداراً بالمليارات). بطرس غالي تحدّث بصراحة في الجزء الأول من مذكراته عن تجربته مع سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، مادلين أولبرايت، عندما صارحها مبكِّراً بأنه قد يضطرّ في منصبه الجديد لإصدار نقد غير عنيف لسياسات أميركا. توقّفت عن التحدّث إليه وبدأت مشاكله التي لم تنته، مع أنه كان من الساداتيّين المطيعين (ينسى بطرس غالي أن البعض لا يزال يتذكّر كتاباته الاشتراكيّة في الحقبة الناصريّة).
وهذه هي معضلة الأمم المتحدة اليوم: كيف تستطيع أن تخلق أو أن تطوّر منظمة دوليّة لتعكس العلاقات الديموقراطيّة بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والإنسانيّة، فيما العلاقات الدوليّة قائمة على لغة القوّة («الفائقة» كما وصفها الوزير الفرنسي السابق، هوبير فيدرين في كتابه «فرنسا في عصر العولمة»). وحتى من ينصحون بين علماء السياسة، مثل جوزيف ناي، باللجوء إلى «القوة الليّنة» فإنهم لا يطالبون بنبذ القوة في سياسة أميركا الخارجيّة في المطلق. لكن عصر السيطرة الأحاديّة لا بدّ أن ينعكس على عمل الأمم المتحدة. أي إن التغيير في العلاقات الدوليّة لا بدّ أن ينعكس على الأمم المتحدة، وخصوصاً إذا قلّ تفرّد الولايات المتحدة بالقرارات الدوليّة. وفي انتظار ذلك، من الضروري رفض الشرعيّة الدوليّة متى تضاربت مصالحها مع مصالحنا: لأن «الشرعيّة الدولية» (أي الكساء الذي لا يستر المشيئة الأميركيّة ويروِّج لها على أنها إجماع دولي) تعبير عن مصالح تهدف إلى خدمة إسرائيل والسيطرة على العرب، سياسيّاً واقتصاديّاً. أي إن الشرعيّة الدوليّة لا تختلف اليوم عن شرعيّة عصبة الأمم التي فرضت وعد بلفور (وأدخلته في فذلكة مشروع العصبة) وباعتنا ما سمّته «الانتداب» ــــ اسم غير مهذب للاستعمار، وهو على أنواع ــــ والإصرار على المصالح الوطنيّة حتى لو تعارضت مع ما يُسمّى ظرفيّاً «الشرعيّة الدوليّة» (وهذا التعبير الدعائي لا يُستعمل في لغات المُستعمر الذي يستعيض عنها بعبارة «المُجتمع الدولي») هو الدرس البليغ الذي لجأت إليه دولة العدوّ، وبنجاح كبير. أصرّت إسرائيل لعقود على تجاهل القرارات الدوليّة حتى تيسّر لها التمتّع بعهد السيطرة الأميركيّة الكليّة. أي أمامنا عقود من التجاهل والرفض والإصرار والعزم، إلى أن تتغيّر بنية العلاقات الدوليّة، وعندها يمكن أن نطالب من جديد بتصويت للمرّة الثالثة على التوالي على قرار «الصهيونيّة هي عنصريّة» هذا إذا كانت إسرائيل باقية إلى حينه. عندما صدّر قرار «الصهيونيّة هي العنصريّة» للمرّة الأولى، قام المندوب الإسرائيلي، حاييم هرتزوغ، بتمزيقه أمام الجمع الدولي. فلنبدأ بالتمزيق، بدءاً بـ242 وصولاً إلى 1701.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
المصدر (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)