قرصان الأدرياتيك
29/09/2009, 15:20
"الخوف من الحداثة، الإسلام والديموقراطية" لفاطمة المرنيسي
كم نحتاج الى المعتزلة الجدد
لا تزال مقولة ان الاسلام يستعصي على الحداثة والتقدم الحضاري منتشرة في الغرب، وليست بعيدة عن الفكر العربي العلماني المتصلب ايضا. يأتي الوصف من واقع ما تسجله المجتمعات العربية والاسلامية من احتضان للتنظيمات الاصولية والارهابية، ومن رفض الفقه الاسلامي للكثير من افكار التعددية والديموقراطية. لا يمكن انكار ما تحويه الاتهامات من صحة في هذا المجال، لكن لا يجوز ايضا تغييب نظرات ضيقة واحادية الجانب الى هذه المجتمعات التي شهدت سابقا في تاريخها القديم صراعات فكرية ضد السائد والمتحجر من الايديولوجيا الاسلامية، وهي تحاول اليوم الافادة من التقدم والحداثة، في ظل صعوبات موضوعية ناجمة عن هيمنة الفكر الديني الغيبي في الكثير من مناحي الحياة. تتخذ عملية الصراع "الحضاري" شكل التناقض مع الغرب وان ثمة صراعا حضاريا يقوم بين الغرب والاسلام، يرى فيه بعض المنظّرين في الغرب ان الاسلام يشكل خطرا على حضارته، فيما يرى مسلمون ان الغرب لا يزال اسير نظرته الاستعمارية تجاه المجتمعات الاسلامية، وساعيا الى ابقاء هذه المجتمعات تحت سيطرته عبر نهب مواردها والقضاء على خصوصياتها الثقافية. تستمر المناقشة دائرة بقوة حول الاسلام والحداثة، والاسلام والديموقراطية، وليس مقدرا لها ان تنتهي سريعا. يقدم كتاب فاطمة المرنيسي "الخوف من الحداثة، الاسلام والديموقراطية"، الصادر في ترجمته العربية (محمد دربيات) لدى "دار الجندي" في دمشق، مساهمة في هذه المناقشة، اقرب الى وجهة نظر الغرب في قراءة معضلة علاقة الاسلام بالديموقراطية والحداثة.
تنطلق المرنيسي من تعيين قوة الغرب وسر تفوقه وتقدمه ومقدرته على السيطرة، فلا ترى ذلك في القوة العسكرية التي يمتلكها، على اهميتها، بمقدار كونها ناجمة عن التقدم التكنولوجي والثورة الفكرية والعقلية النابعة منه، وما نتج من ذلك من نظريات سياسية اساسها الديموقراطية وحقوق الانسان. تنطلق من هذا التقديم لتقدم تفسيرا لعلاقة العرب بالغرب، وتعيين اسباب خوف العرب والمسلمين من هذا الغرب. فالعربي والمسلم لا يزالان اسيري نظرة الى الغرب تحوي في داخلها انفصاما بين الواقع والمتخيّل. لم يستطع العربي الخروج من نرجسية تستند الى ماض يعود الى الف سنة حيث عرفت الحضارة العربية والاسلامية ازدهارا وكان لها تأثير كبير في النهضة الاوروبية لاحقا. يردد العربي مقولة "افضال" العرب على الغرب بما يوحي بموقع حضاري ارقى في الاصل، من دون ان يرى ما تجاوزه الزمن، وما تكرس من فوارق كبيرة بين الواقع الراهن للعالم العربي واقامته في التخلف المديد، وما حققه الغرب من تقدم حضاري على جميع المستويات. في مقابل هذه النظرة النرجسية العربية، يعاني العربي عقدة نقص تجاه هذا الغربي، ويحمّله مسؤولية تأخره وتخلفه، بسبب استعماره العالم العربي واستمراره في نهب ثرواته.
تلقي المرنيسي الضوء بقوة على العوامل التي تراها فعلية في خوف العربي والمسلم من الحداثة ومن الديموقراطية، التي تطرح تحدي القراءة العقلانية لجميع الامور السياسية والعلمية والاخلاقية. وهذا امر يتنافى مع فكر ماورائي لا يزال يسلط الغيبيات والاساطير والخرافات احيانا في قراءة امور الطبيعة والحياة. تشهد العقلانية حربا شعواء ضد تكريسها منهجا في التفكير، ويقود الفكر الديني هذه الحملة، ويعتبر العقلانية استيرادا غربيا، وهو امر يضع حواجز ضخمة ضد مواكبة الاسلام للحداثة، لكون هذه العقلانية من المنتجات الرئيسية للحداثة. وفي استعادة للتاريخ العربي والاسلامي، يمكن استذكار ما عاناه الفكر العقلاني منذ ايام المعتزلة التي طرحت العقل مقياسا للحكم على الامور الدينية والدنيوية، وجرى التنكيل بها وبأفكارها ومعتنقيها، بحيث بات الفكر المعتزلي من "غير المسموح التفكير فيه" وفق تعبير لمحمد اركون.
ويأتي الخوف من الحداثة كونها تُخضع النصوص الدينية والتراثية للنقد والتمحيص والاجتهاد، وتموضع هذا التراث ضمن التاريخ الذي صدرت فيه والمكان الذي فعلت ضمنه، وهو منهج ينفي صلاحية هذا التراث لكل زمان ومكان، ويرفض اسقاطه على الحاضر والعمل به كأنّ الزمن لا يزال اياه كما كان قبل الف وخمسمئة عام. ويتبدى الخوف ايضا مما تطرحه الديموقراطية من حكم للشعب واخضاع الحاكم لهذه السيادة عبر التمثيل الانتخابي ودورية السلطة، وذلك لان التراث الاسلامي ينبض اليوم بقوة نحو مقولات تنطلق من انه "لا حكم الا لله"، وهذا الحكم الالهي يجسده الحاكم الذي يستمد سلطته من الله وليس من الشعب. خاض الغرب معارك دامية من اجل فصل السلطتين الدينية والزمنية الواحدة عن الاخرى، ويرى كثيرون ان الحداثة بمعناها الفعلي قد تحققت عند اعادة البابا والكنيسة الى موقعهما الديني، وتكريس سيادة الشعب عبر مؤسساته الديموقراطية في النظام السياسي. يتجلى التناقض بين الغرب والعالم العربي والاسلامي من خلال ما نشهده لمقولة ان ولي الفقيه في النظام الايراني يستمد سلطته من الله، وهو الامام الذي يمثل الله على الارض، كما نشهد ما يماثله في طرح الحركات الاسلامية الاصولية من هدف مركزي لاستعادة نظام الخلافة واقامة الدولة الاسلامية التي يمثل فيها الخليفة ظل الله على الارض.
طرحت الحداثة مسألة حرية الانسان وحقه في خياراته ومسؤوليته عن اعماله، في مقابل فكر ديني يعيد كل شيء الى الله المسيّر أمور البشر. شكلت مقولة الجبرية والقدرية في التاريخ اللاهوتي الاسلامي مدار صراع بين القوى الاجتماعية والسياسية، حيث كان الحكام يشددون على مقولة الجبر وان كل شيء مرسوم سلفا من الله، وما على الانسان سوى الخضوع لما شاءه الله، بما يمنع على الانسان السعي الى تغيير واقعه او تعديل ما يصيبه من عمل الحاكم. تمكنت الحداثة في الغرب من قلب هذه المعادلة لمصلحة تحرير الفرد من ربقة هذه الجبرية واعتباره المسؤول الاول عن مصيره وخياراته، فيما لا تزال هذه المسألة في قلب الصراع الفكري والسياسي للمسلم اجمالا والعربي خصوصا.
يحفل كتاب فاطمة المرنيسي بأمثلة عديدة اخرى حول العوامل التي تجعل المسلمين يخافون من الحداثة، وترى ان تواصل هذا الخوف سيمنع العالم العربي والاسلامي من الدخول في العصر، والعجز عن مواجهة التخلف المديد الذي يضع هذه المجتمعات خارج التاريخ. لا مفر من علاقة مع الغرب تفيد من انجازاته الحضارية، في وقت يمكن فيه المحافظة على الاستقلالية والخصوصية الثقافية والقومية.
خالد غزال
جريدة "النهار"، الثلاثاء 29 أيلول 2009، السنة 77، العدد 23829.
كم نحتاج الى المعتزلة الجدد
لا تزال مقولة ان الاسلام يستعصي على الحداثة والتقدم الحضاري منتشرة في الغرب، وليست بعيدة عن الفكر العربي العلماني المتصلب ايضا. يأتي الوصف من واقع ما تسجله المجتمعات العربية والاسلامية من احتضان للتنظيمات الاصولية والارهابية، ومن رفض الفقه الاسلامي للكثير من افكار التعددية والديموقراطية. لا يمكن انكار ما تحويه الاتهامات من صحة في هذا المجال، لكن لا يجوز ايضا تغييب نظرات ضيقة واحادية الجانب الى هذه المجتمعات التي شهدت سابقا في تاريخها القديم صراعات فكرية ضد السائد والمتحجر من الايديولوجيا الاسلامية، وهي تحاول اليوم الافادة من التقدم والحداثة، في ظل صعوبات موضوعية ناجمة عن هيمنة الفكر الديني الغيبي في الكثير من مناحي الحياة. تتخذ عملية الصراع "الحضاري" شكل التناقض مع الغرب وان ثمة صراعا حضاريا يقوم بين الغرب والاسلام، يرى فيه بعض المنظّرين في الغرب ان الاسلام يشكل خطرا على حضارته، فيما يرى مسلمون ان الغرب لا يزال اسير نظرته الاستعمارية تجاه المجتمعات الاسلامية، وساعيا الى ابقاء هذه المجتمعات تحت سيطرته عبر نهب مواردها والقضاء على خصوصياتها الثقافية. تستمر المناقشة دائرة بقوة حول الاسلام والحداثة، والاسلام والديموقراطية، وليس مقدرا لها ان تنتهي سريعا. يقدم كتاب فاطمة المرنيسي "الخوف من الحداثة، الاسلام والديموقراطية"، الصادر في ترجمته العربية (محمد دربيات) لدى "دار الجندي" في دمشق، مساهمة في هذه المناقشة، اقرب الى وجهة نظر الغرب في قراءة معضلة علاقة الاسلام بالديموقراطية والحداثة.
تنطلق المرنيسي من تعيين قوة الغرب وسر تفوقه وتقدمه ومقدرته على السيطرة، فلا ترى ذلك في القوة العسكرية التي يمتلكها، على اهميتها، بمقدار كونها ناجمة عن التقدم التكنولوجي والثورة الفكرية والعقلية النابعة منه، وما نتج من ذلك من نظريات سياسية اساسها الديموقراطية وحقوق الانسان. تنطلق من هذا التقديم لتقدم تفسيرا لعلاقة العرب بالغرب، وتعيين اسباب خوف العرب والمسلمين من هذا الغرب. فالعربي والمسلم لا يزالان اسيري نظرة الى الغرب تحوي في داخلها انفصاما بين الواقع والمتخيّل. لم يستطع العربي الخروج من نرجسية تستند الى ماض يعود الى الف سنة حيث عرفت الحضارة العربية والاسلامية ازدهارا وكان لها تأثير كبير في النهضة الاوروبية لاحقا. يردد العربي مقولة "افضال" العرب على الغرب بما يوحي بموقع حضاري ارقى في الاصل، من دون ان يرى ما تجاوزه الزمن، وما تكرس من فوارق كبيرة بين الواقع الراهن للعالم العربي واقامته في التخلف المديد، وما حققه الغرب من تقدم حضاري على جميع المستويات. في مقابل هذه النظرة النرجسية العربية، يعاني العربي عقدة نقص تجاه هذا الغربي، ويحمّله مسؤولية تأخره وتخلفه، بسبب استعماره العالم العربي واستمراره في نهب ثرواته.
تلقي المرنيسي الضوء بقوة على العوامل التي تراها فعلية في خوف العربي والمسلم من الحداثة ومن الديموقراطية، التي تطرح تحدي القراءة العقلانية لجميع الامور السياسية والعلمية والاخلاقية. وهذا امر يتنافى مع فكر ماورائي لا يزال يسلط الغيبيات والاساطير والخرافات احيانا في قراءة امور الطبيعة والحياة. تشهد العقلانية حربا شعواء ضد تكريسها منهجا في التفكير، ويقود الفكر الديني هذه الحملة، ويعتبر العقلانية استيرادا غربيا، وهو امر يضع حواجز ضخمة ضد مواكبة الاسلام للحداثة، لكون هذه العقلانية من المنتجات الرئيسية للحداثة. وفي استعادة للتاريخ العربي والاسلامي، يمكن استذكار ما عاناه الفكر العقلاني منذ ايام المعتزلة التي طرحت العقل مقياسا للحكم على الامور الدينية والدنيوية، وجرى التنكيل بها وبأفكارها ومعتنقيها، بحيث بات الفكر المعتزلي من "غير المسموح التفكير فيه" وفق تعبير لمحمد اركون.
ويأتي الخوف من الحداثة كونها تُخضع النصوص الدينية والتراثية للنقد والتمحيص والاجتهاد، وتموضع هذا التراث ضمن التاريخ الذي صدرت فيه والمكان الذي فعلت ضمنه، وهو منهج ينفي صلاحية هذا التراث لكل زمان ومكان، ويرفض اسقاطه على الحاضر والعمل به كأنّ الزمن لا يزال اياه كما كان قبل الف وخمسمئة عام. ويتبدى الخوف ايضا مما تطرحه الديموقراطية من حكم للشعب واخضاع الحاكم لهذه السيادة عبر التمثيل الانتخابي ودورية السلطة، وذلك لان التراث الاسلامي ينبض اليوم بقوة نحو مقولات تنطلق من انه "لا حكم الا لله"، وهذا الحكم الالهي يجسده الحاكم الذي يستمد سلطته من الله وليس من الشعب. خاض الغرب معارك دامية من اجل فصل السلطتين الدينية والزمنية الواحدة عن الاخرى، ويرى كثيرون ان الحداثة بمعناها الفعلي قد تحققت عند اعادة البابا والكنيسة الى موقعهما الديني، وتكريس سيادة الشعب عبر مؤسساته الديموقراطية في النظام السياسي. يتجلى التناقض بين الغرب والعالم العربي والاسلامي من خلال ما نشهده لمقولة ان ولي الفقيه في النظام الايراني يستمد سلطته من الله، وهو الامام الذي يمثل الله على الارض، كما نشهد ما يماثله في طرح الحركات الاسلامية الاصولية من هدف مركزي لاستعادة نظام الخلافة واقامة الدولة الاسلامية التي يمثل فيها الخليفة ظل الله على الارض.
طرحت الحداثة مسألة حرية الانسان وحقه في خياراته ومسؤوليته عن اعماله، في مقابل فكر ديني يعيد كل شيء الى الله المسيّر أمور البشر. شكلت مقولة الجبرية والقدرية في التاريخ اللاهوتي الاسلامي مدار صراع بين القوى الاجتماعية والسياسية، حيث كان الحكام يشددون على مقولة الجبر وان كل شيء مرسوم سلفا من الله، وما على الانسان سوى الخضوع لما شاءه الله، بما يمنع على الانسان السعي الى تغيير واقعه او تعديل ما يصيبه من عمل الحاكم. تمكنت الحداثة في الغرب من قلب هذه المعادلة لمصلحة تحرير الفرد من ربقة هذه الجبرية واعتباره المسؤول الاول عن مصيره وخياراته، فيما لا تزال هذه المسألة في قلب الصراع الفكري والسياسي للمسلم اجمالا والعربي خصوصا.
يحفل كتاب فاطمة المرنيسي بأمثلة عديدة اخرى حول العوامل التي تجعل المسلمين يخافون من الحداثة، وترى ان تواصل هذا الخوف سيمنع العالم العربي والاسلامي من الدخول في العصر، والعجز عن مواجهة التخلف المديد الذي يضع هذه المجتمعات خارج التاريخ. لا مفر من علاقة مع الغرب تفيد من انجازاته الحضارية، في وقت يمكن فيه المحافظة على الاستقلالية والخصوصية الثقافية والقومية.
خالد غزال
جريدة "النهار"، الثلاثاء 29 أيلول 2009، السنة 77، العدد 23829.