-
عرض كامل الموضوع : يوميات يهودي من دمشق (رواية)
يوميات يهودي من دمشق
الكاتب: ابراهيم الجبين
( لتحميل الكتاب كاملا ً .. إضغط هنا (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)) (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)
هذه الرواية تستند إلى أحداث وشخصيات حقيقية..بعض الأسماء تم تغييرها لضرورات تتعلق بسلامة أصحابها.
(كُتبتْ هذه الصفحات في كلّ من دمشق وحلب وسياتل و نيويورك)
1.
لم تكن تلك الأرض تعني لي الكثير، ولكنهم يتحدثون عنها في البيت، وفي مكان الصلاة، وفي نشرة الأخبار، ليس مهماً الآن استعادة تلك اللحظات، وكيف تم اكتشاف أن هذه الأرض لها معنى آخر غير كونها شوارع وبيوت وحارات وأبنية مغبرة وأيضاً مبان حكومية وأماكن للفسحة والنزهات أو ما كان يسميه أهلي (سيران)
في السيران كنا نخرج إلى المناطق المحيطة بالمدينة، وكنت على الأغلب أشعر بالملل، لم أتعود على مغادرة الأماكن الحجرية، وحين يذهب أبي إلى مشغله، في القشلة، كنت أرافقه وأنا مليء بالإحساس بأنني سائح فأنا الآن أبتعد عن الحارة، وأذهب في مغامرة إلى القشلة رغم أن المسافة لم تكن تزيد عن مئتي متر فقط، ولكنها كانت تعني عبور الحدود وتلك الحدود التي لم تكن مرئية كانت أكثر من مرئية وثقيلة وحادة، الحدود التي تفصل بين الأحياء المسيحية وحارة اليهود حيث نسكن.
الآن مضى كل ذلك وذهب الجميع في سيرانهم الجديد إلى البعيد، وانفتحت الحارة وأصبح كل شيء مختلفاً، وبقيت وحدي مع هاتين الآنستين الخمسينيتين، شقيقتي زينب وراحيل، قد يندهش البعض من أن أختي الكبرى اسمها زينب، أما أنا فلا أجد الأمر غريباً، فأبي لم يكن يكترث إذا كان اسم أحد أبنائه الأربعة عبرانياً أم لا، وإذا ما كان الاسم يحمل دلالات آتية من الديانتين الأخريين، كان يهمه فقط أن يكون الاسم ملائماً للوقت وقد كان وقتها يعمل لصالح أحد التجار الدمشقيين الذين يمتون إلينا بصلة قرابة لم أعرف كيف وقتها، فهم مسلمون سنة ونحن يهود موسويون كما يسموننا، عرفت فيما بعد أن أقاربنا هؤلاء قد فضلوا التحول إلى الإسلام لأسبابهم التي قال أبي إنها تخصهم ولم يطلعنا عليها، وكان هذا التاجر قد بدأ يصبح شيخاً مسلماً وقرر التبرع بقسط كبير من أمواله الهائلة لبناء جامع باسمه قرب باب توما، وكانت ابنته الكبرى اسمها زينب ـوهو الاسم الذي سمى به محمد رسول المسلمين ابنتهـ كان أبي قريباً من الرجل ويساهم معه في كافة نشاطاته، ولذلك قرر أن يكرّم زينب بنت الشيخ الجديد بأن يسمي ابنته على اسمها.
لا أعرف لماذا أحدثك عن أمور كهذه، هل تعتقد أننا صرنا أصدقاء كفاية حتى أفتح لك صدري وأبوح لك بأسراري الخاصة؟ لا أعرف على كل حال أنا الذي جئت إليك وطلبت أن نتحدث.
* *
لست الوحيد الذي لديه أصدقاء غريبو الأطوار، هناك أيضاً من يحس بأنه يرافق أناساً مختلفين أو لهم علامات فارقة. ولكن هذا الصديق ليس عادياً وليس غريب الأطوار ـقد أكون أنا كذلك ولهذا أراه مختلفاًـ جاء إلي وأنا في المقهى، وكنت وقتها في أسوأ أحوالي والعواصف تشتد من حول كتفي، أفكر بما أفعل وبما لم أفعل، كنت أقصف كسعفة، في الخارج خلف زجاج المقهى كان الثلج يندفع بخفة من الجنوب من جهة البرلمان إلى عمق شارع العابد، يقترب من طاولتي شاب أشقر بثياب عادية، أقل أناقة قليلاً مما توحي ملامحه، يشبه سريان الجزيرة السورية، ولكنه ليس سرياناً هذا واضح من التفاصيل غير الدقيقة في وجهه، فالسريان طالما تميزوا بوجوه محفورة وملونة بدماء كثيرة تتحرك تحت جلودهم. هذا الشاب مختلف، ولكن من هو؟
* * *
قال أبي إننا يجب أن نرحل فوراً فقد سمح لنا الرئيس بالسفر أخيراً ولكنْ هناك شرط وحيد، وهو ألا نفكر بالعودة ثانية إلى هنا، ماذا أفعل؟.. لا أريد الرحيل... وأبي يحقق حلمه القديم والأزلي بالذهاب إلى هناك وأخذ يعد العدة للسفر واتفق بسرعة مع أحد التجار على أن يبيعه أثاث البيت، زينب لم تناقشه، تريد فقط أن تذهب إلى هناك كي تتزوج رغم أنها تجاوزت الأربعين بعدة سنوات تكتمها دائماً، راحيل مثلي تحب البقاء هنا، ربما ما زالت تنتظر عودة صديقها المسيحي الذي ذهب إلى الحرب في العام 1967 ولم يعد، كان نجيب أكثر شبان الحارة زعرنة وقلة أدب..وكنت وقتها لا أزال طفلاً ولكنني أعرفه وأتذكر كيف أنه ذهب مرغماً إلى التجنيد والجبهة ولا أعتقد أنه مات شهيداً فداء لوطنه وأرضه، كان يجب أن تفكر راحيل بالسفر إلى هناك للبحث عنه بدلاً من زينب، فمن المؤكد أنه بقي هناك ويحمل الآن جواز سفر الدولة.
أنا لا أريد السفر لأنني لا أعرف لماذا علي أن أسافر، قد تظن أنني أكثر تطرفاً من أهلي ولكن هذه هي الحقيقة، هنا وهناك مكان واحد يا إبراهيم، يقولون أرض مقدسة هناك، ولكن هل هذه الأرض ليست مقدسة أيضاً؟
اسمع...يصف الصوفيون اليهود قدر إيليا وأخنوخ اللاحق في السماء بطريقة خيالية، ففي حين تلتهم النار جسد أخنوخ ويتحول هو ذاته إلى الملاك الأعلى ميتاترون، يحافظ إيليا بعد صعوده على ارتباطه بالعالم البشري، حيث يمكنه الظهور على الأرض،إذا كان ذلك ضروريا.إن جسده لم يشكّل من تراب الأرض كبقية الكائنات البشرية، بل جاء من شجرة الحياة، وقد مكّنه هذا من تنفيذ أوامر الله ومعجزاته.. هكذا.. ألم تنتبه إلى أن إيليا لم يكن يوماً من الأرض؟ بل هو من شجرة الحياة وبالتالي فإن أي أرض هي مقدسة عنده، لأنها ارتباطه بالعالم البشري الذي على معجزاته أن تظهر فيه... ليس لديّ أرض مقدسة دون سواها.. كل الأرض ملك للآتي من شجرة الحياة.
* * *
مذهل كيف يفكر هذا الأشقر...ولكنني لا أعرف بعد..أتوقع أنه يفكر بطريقة غرائبية أيضاً، مازال يقترب، لعله لا يقصدني..يجب أن لا أحدّق به أهكذا ..ماذا لو كان يتجه نحو ذاك الذي يلعب بالزهر مع العجوز العراقي، لا أحب هذا العجوز يقول إنه كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث في العراق وأنه اختلف مع صدام حسين يوم أن قال لهم صدام ( قسماً بالله..اللي أسمعه همساً يحكي ويّا مواطن عراقي..أو بعثي..إلا أطرّه بإيدي أربع وصل....يلا اطلعو..لعنة الله على هالشوارب) وكان أعضاء القيادة في طريقهم إلى الإعدام لولا أنه تمكن من الفرار بطريقة ما بواسطة أحد أقاربه، وجاء إلى البعث الآخر حيث سيستضيفونه هنا ويخصصون له الكثير من الخدمات. بيت وسيارة ودخل شهري مغدق. وهو الآن لا يريد العودة إلى العراق مع أن صدام قضى الوقت وهو يفكّر في كتابة مذكراته في السجن الأميركي، قبل إعدامه، وانتهى عهده وسقطت جمهورية الخوف التي صنعها. لماذا لا يريد العودة ؟! لا أفهم كيف أترك أفكاري أحياناً تسترسل وتتسلسل..
ما همّني أنا، عاد أم لم يعد..؟
لا شك أن الفتى الأشقر يقترب مني أنا، حتى أنه يبتسم وكأن في فمه كلاماً يكاد يسبق وصوله إليّ. كيف يمكن أن أترجم أفكاري المختلطة حول إنسانية أنك تخاف من اقتراب أحد منك؟ لا مشكلة في من يكون، ولكن في أن يكون هنا الآن.
أحياناً تشعر أنك لا تطيق أن يلمسك أحد، وكأنك لا تريد أن يوقظك أحد من كآبتك، مع أنني لا أرغب بالاستغراق في الكآبة.
لأعد إلى ورقتي ..كنت أكتب عن بيروت ...وعن بحر بيروت ..لم أستطع تحمل الحياة هناك، كان يسيطر علي شعور باليأس وعدم الإدراك لكل شيء..
حتى الماء في بيروت كان مختلفاً، والخضار والهواء والأصدقاء.. كنت أقول:
كتابة على بحر بيروت ....
لماذا لم أكتب شيئاً في بيروت ؟!
ولمَ تجعلني الأبنية القديمة في دوامة كما يفعل بي النهر ؟!
ما أكتبه في بيروت
عن بيروت ...
ليس عن بيروت ؟
لا ليس عن المدينة ولا سكانها الذين اعتادوا صخب السنوات والكلام الدائخ كمركب رامبو .....والفكرة التالية في حوارٍ مديد ...
لا تكتب في بيروت ...!!
كيف لا أكتب في بيروت ؟!
ولكن كيف أكتب في بيروت ؟!
يدخل البحر دورته الزرقاء والخضراء ...على المقهى تجلس البدوية في ثياب حديثة ..تنظر إلي كمن يكتشف قرينه الناري....لم أتحدث معها...أدرت عيني إلى البحر ....
والبحر يأتي بالكلام القديم ....خشب رطب مالح ما زال ينتظر من يحمله إلى المتحف ...متحف الحرب ...ومتحف الناجين...
الناجون من الحرب هم الأحياء الآن....وهم أبناء القتلة...ولكنهم لا خيار لهم سوى القتل وقتها ..والانجذاب نحو الصدف المرمي في رمل الشاطئ....
يظهر البحر في المنحنى الأرضي ....تراه من الأشرفية كما تراه من خلف النهر....تراه من فردان ...وتراه من الرملة البيضاء...تراه من الحمرا....تراه من دمشق أيضاً....
ماذا يفعلون في بيروت ....سألتُ أصحابي ...لم أعثر على أحد يفعل شيئاً .... جميعهم يعيشون باضطرار ولكن في حياتهم اشتياق إلى الحرب ....دون بنادق ولا قذائف ولا متاريس ....حرب في الرقص والموسيقى وحرب في الفراش وفي الشراب ...
على البار القريب ...كأس فودكا ...تسير لوحدها على الخشب الرخامي ....من اليمين إلى اليسار ... صورة للحلاج ....كان يحترق من يومها في بيته في الحمرا ...
صورة لزياد رحباني ... صورة لهيفا وهبي .... وهراير ... صورة لسامر أبو هواش ....الفلسطيني الرقيق ....الذي لا يتحدث عن الثورة .,..يفضل التحدث عن ابنه إسماعيل ...أو عن ضياء ....أو عن الترجمة ...
في المدى التي لا تراه العين ...أصلع بشاربين ...وصوت ضاحك ....عباس بيضون ....يعرف أنني لن أنجح في رحلتي ...ولكنه يتكلم وكأنني صرت على الحد الذي يفصل آخر مفرزة للسوريين عن الأرواح السجينة ....
ولكن أين سفن البحر ...؟
لا المرفأ يشبه الذي حدثوني عنه ولا مينا الصيادين ....وأين مبنى السفير ...؟
هل هذه بيروت ؟!
هناك ما ينطمر في غبار الحداثة الجديدة ...؟
بسام حجار ويوسف بزي أحياء .....
كنت مطارداً ...والأرواح السوداء تلاحقني .... كتبت (نهاية التاريخ السوري) في ملحق النهار ....لم أشعر أنني خارج الأرض التي تلاحقني ....معي ورق ينبغي أن لا يراه أحد ...
لا شيء في بيروت يذكّرني بأنني خرجت من حدود الراية الحمقاء للعنف...
ولا شيء سيقول لي كيف أصنع ؟!
أين بيت سعدي يوسف الذي أكلته الكوليرا ...؟!
وأين مطبعة أبو علي التي زرتها قبل سنوات ؟!
أين الطريق التي مرّ منها جورج حاوي بعد عودته من زيارة غيفارا ؟!
هل أنا في بيروت ؟!
لا لست هنا ؟!
حين يضرب الشريط الشوكي الذي تهزه الريح بطرف قميصي ، التفت إلى الخلف ....ماذا يوجد في الخلف سوى المفرزة ؟!
والمفرزة لا يجلس فيها سوى الآتين من بلادنا الموصدة ....
هل أنا في بيروت ؟!
لستُ في أي مكان الآن ...
أصعد إلى الطابق السابع في برج حمود ...حيث أسكن على أنني لبناني .....عبرت الحدود بالرشوة ...ولكنهم سوف يعرفون ...وسيصلون إلى الطابق السابع حيث أسكن على أنني لبناني ....يحاصرني شهود يهوه ورئيستهم التي تحيك الثياب بإبرتها المقدسة ، أنت من عند قرياقوس ...مطران المسلمين ؟! نعم من عند قرياقوس ...
.ولكنه ليس مطراناً لأحد !!!
أنت تقرأ بالعبرانية ؟!
اقرأ بالسريانية ...
أنت ...
أنت ...
وفي الأعلى ..أتفقد المبنى القديم في برج حمود ...هناك بقايا من سنوات الحرب ...صندوق رصاص ...وجمجمة طائر ....وكتباً لشخص ما يبدو أنه من القوميين السوريين ....
لم يكن لدي وقت لأتحسّس نفسي ...هل أنا هنا ؟
(إنهم في الثكنة القديمة في الأشرفية ) هل تحضر اجتماعاتنا ؟...
وماذا تفعلون ؟!
نقرأ سيرة المنتظر ....
ومن تنتظرون ؟....
لا يجيبون ....
وماذا عليّ أن أفعل أنا ؟
ستكتب عن بيروت ....
لم اشعر أنني هنا ....
لن تشعر ...أنت في الطبقة السفلية من المدينة ....
هل تتقن أي شيء ...؟
لاشيء ...!!
حسناً سنقول إنك تتقن أشياء كثيرة .......
ما هي المشكلة ؟
لا مشكلة ...
إذاً ؟
عادت الطيور إلى السطح الذي أسكنه على أنني لبناني ، لم يكن صاحب البيت ليقبل بي لو عرف أنني من دمشق ....ولكنه سيحدثني عن المعمودية ...إذاً ليتحدث ...هناك الكثير ...وسيتحدث عن الذين احتجزوا ولده يوماً ولم يعد إليه ...وسيتحدث عن بيته الذي سأسكنه وكيف أنهم سيطروا عليه لسنوات ........
ماذا أفعل ؟!
هل أعود إلى دمشق ؟!
ستطاردني الأرواح السوداء ....
وسأترك زوجتي وطفلتي في مهب الرياح الشريرة ...
ريح من شر تهب من دمشق ......
ولكنني لا أعرف كيف أصنع ...هل انتظر معهم ذاك الذي ينتظرونه ؟!
أجلس وحيداً مع البحر ....تراني المراكب التي لا أراها ...
وتراني سلطعوناتٌ ، وكائناتُ ليلٍ ....
أجلس وحيداً مع البحر ...
أنظر في الكأس .... نوستراداموس ...ماذا تفعل هنا ؟
تركتك في دمشق ...
ولو أنك تتركني ...
ولو أن شيئاً يترصّدك في بيروت ...ستعرف أنني رأيت ما رأيت
هل أنت في المدينة التي تعرف ؟
لا ...
يتوقف البحر ..
والسلطعونات ترجع خطوة عن زحفها ....كانت تقترب مني ....
وكائنات الليل تصمت ...
وبيروت ترحل إلى مكانها في الغيب ....
في الغيب الأزرق
في الغيب السماوي
* *
2.
أنت ـ كما توقعت ـ لا تفهمني ،وكل ما أقوله لك هو عن بيت في حارة اليهود في دمشق، تصوّر أنني اكتشفت أشياء مثيرة جداً في بيتنا ..
هل تعرف كيف ؟!
لا تعرف ...أقول لك ، قرأت كتاباً عن مقتل أحد الرهبان المسيحيين في القرن التاسع عشر في الحارات القديمة وقد جاء في الكتاب أن ثمانية عشر يهودياً قاموا بتنفيذ العملية، لم تكن قتلاً فقط بل كانت طقساً دينياً أو ما شابه ، غير مهم ..المهم أن الأماكن الذي يتحدث عنها الكتاب ما تزال موجودة، وقد ورد فيه أن الجثة تم تقطيعها ورميها في فجوة في الأرض تقع فوق أحد فروع النهر..هذه الفجوة في بيتنا....عثرت عليها...وتتبعت التفاصيل وتمكنت من مطابقة الكلام عن مقتل توما الكبوشي مع المكان...هل هذا يثيرك ؟...أعرف أنك تهتم ولكنك لا تريد أن تظهر لي ذلك..أنتم تتحفظون في العلاقة معنا، لكنني لست تماماً من هؤلاء الذين لا تريدون التعامل معهم، وأيضاً لست منكم، هل تريد أن أتابع ؟...اليوم يقولون لي أنت عظيم لأنك رفضت السفر إلى هناك....ليس لدي وقت للتفكير في ما إذا كان قراري صحيحاً أم لا..أريد أن أتوقف عن التفكير بصوت عال معك...لا يمكنني أن أبقى هكذا أثرثر كممثل مسرحي عجوز. قرأت ما كتبته عن العبور وعن جدنا الكبير جد يعقوب وموسى. كيف لا تهتم وأنت تحفر في ثقافتي ؟..تقول ليست ثقافتي وحدي ولكنها ثقافتنا معاً ؟..أوافقك..ثقافتنا معاً ولكن عليك الانتباه إلى التفاصيل..التفاصيل أهم من النتائج ، لأن العالم مكون منها وليس مبنياً على القواعد الكبرى .مثلاً عندما جاءت إلي راحيل لتخبرني أن أبي مات في غرفته وهو يرتب أوراقه كي يرحل إلى هناك لم تكن تعرف كيف تنقل لي ما حصل ..كانت بكماء، وكان وجهها قد تحول إلى اللون الأزرق مما زادها قبحاً.كانت راحيل جميلة في صباها ولكنها الآن ليست كذلك.عندما وصلت إلي لتخبرني أن أباها قد وقع عن الكرسي ميتاً منذ دقائق، كانت وكأنها تعيد مشهداً قديماً.وكأنها ستقول انهار الهيكل، وجاء نبوخذ نصّر ليسبينا...لا أعرف لماذا تلبّسني هذا الإحساس ...لم أكن حاضراً وقتها ..قبل الميلاد بخمسمائة سنة ...ولكنها الجينات يا صديقي ....الشيفرة تنقل لي ما حصل ..لماذا لا تقرأ كمال الصليبي...التوراة جاءت من جزيرة العرب ؟..والبحث عن يسوع ...اسمع..أتذكّر ما كتب الصليبي: في العام 568 ق.م تقريباً، قضى الملك نبوخذنصّر البابلي على مملكة يهوذا(وفي يقيني أن مركزها كان في سراة عسير،إلى الجنوب من الحجاز)،فقبض على آخر ملوكها،وهو المدعو صدقيا،وأمر بقتل جميع أبنائه أمامه،ثم قلعت عيناه،وقيّد بالسلاسل،واقتيد أسيراً إلى بابل حيث مات في أرض (لا يراها) كما ورد في سفر الملوك وسفر حزقيال . ودرجت العادة لدى شعبي بعد ذلك مذ بداية الملك عندهم بأن يكرّس كل واحد من ملوكهم لخدمة الله عند تبوّئه العرش عن طريق مسح الرأس بالدهن، بحيث يصبح(مسيحاً للرب) ولذلك اصبح لقب (مسيح) يطلق على ملوك بني إسرائيل،وخاصة ملوك يهوذا من سلالة داود،وبعد زوال مملكة يهوذا، أصبح كل واحد من المطالبين بعرش داود، في نظر أتباعه في الأقل، مسيحاً منتظراً تعقد حوله الآمال لإحياء الملك الإسرائيلي الضائع.
هل تعرف شيئاً ؟...لا أظن أنني هو ...لست ذلك الذي ينتظرونه.ولذلك لا أريد الذهاب إلى هناك...مملكتي في كل مكان.
* *
ـ مرحبا
ـ أهلاً .....
ـ أنا إخاد ...هل تسمح بقليل من وقتك ...؟
ـ إخاد!! ..نعرف بعضنا ..؟
ـ لا...ولكن أريد التحدث معك قليلاً...قرأت كتابك (لغة محمد) منذ عشرة شهور تقريباً، وأريد أن أكلمك بخصوصه...إذا لم يكن لديك مانع.
ـ لا ..تفضل....
ـ أعجبني الكتاب...هو بحث سريع وعميق...
ـ ولكن كيف حصلت عليه ؟...تعرف أنه ممنوع ؟
ـ أعرف ولكنني حصلت عليه عن طريق الأصدقاء...استعرت النسخة ولم أعدها لصاحبها وهو نسي الأمر..
ـ وكيف عرفتني الآن ؟
ـ سألت النادل ...فقال هذا هو الذي يجلس هناك ...
كانت هذه الكلمات هي الأولى التي دارت بيننا أنا وإخاد صاحب الاسم الغريب،الذي اقترب مني في المقهى وهو يبتسم ...الأشقر المريب ...
والآن ...كيف سأتمكن من محاورته وأنا عالق في الهم والمشاكل ..ولكنه يهتم لأمر كتابي ، ويجب أن أحترم رغبته واهتمامه، لا يعرف إخاد طبعاً أنني مفلس وأنني لن أتمكن حتى من دعوته على كاسة شاي أو فنجان قهوة ، حسناً (حكم) أكبر ندلاء المقهى لن يخجلني هذه المرة ، سيترك لي حساب القهوة التي سأطلبها للضيف إلى الغد.
ـ ماذا أطلب لك ؟
ـ لا داع ...أفضل لو نغيّر المكان إذا كان لديك وقت ولست مرتبطاً بموعد.
ـ كم الساعة الآن ؟...آآ...الساعة الآن الثالثة ...في الظهيرة الشتائية.. من يمكن أن يواعدك في مثل هذا الوقت ؟
ـ امرأة مثلاً ..
ـ لا ..
ـ إذاً لنذهب من هنا ...
ـ لنذهب .
* * *
كان مساءاً غريباً، في الطريق إلى غرفتي في باب توما...قرب مدرسة الكتاب المقدس...لم يخطر ببالي وأنا أمشي وحيداً في ليل المدينة القديمة أن ليندا ستفتح باب بيتها فجأة، وتدخلني وكأنني طرد بريدي، كنت أعرف أنها ستنهار يوماً ما ولكن ليس بهذه السرعة، تقول إنني أسحرها، على الرغم من إحساسي بأنني غالباً مرتبك ولا أعرف كيف أقوم بدور الرجل الذي يسحر الفتيات، أبدو حاداً وشرساً، ولكنني لست بأية حال آل باتشينو..أو حتى محمد عطية نجم الستار أكاديمي...حين اترك لحيتي أصبح أكثراً شبهاً بالمسيح...أو غيفارا...وحين أحلقها أصبح مثل توم كروز أو عمرو دياب...
لم تكن ليندا تسكن وحدها..هناك والدها وأمها وأخوتها الشباب جميعهم..وأنا ماذا أفعل هنا في المدخل الضيق لبيتهم القديم ...لم أره من الداخل من قبل ...في شارع الكنيستين...بعد كنيسة الأرمن..على زاوية تمثال العذراء...بيت عمره خمسة آلاف عام...ولكنه من الداخل أكثر من ذلك..كل ما فيه على حاله...يبدو أن والدها بخيل ولم يرمم شيئاً ولم يكلف نفسه عناء إصلاح الحيطان التي ملأتها الشقوق...حيطان الحجر التي لا دهان عليها في مدخل البيت...
* *
منذ يومين كتبت هذه القصيدة، وتركت أوراقها في حقيبتي، ليس لدي بيت الآن، أشعر أنها تصلح للإلقاء في أمسية في بار أو بوب..بأضواء خافتة..وموسيقى صاخبة...وصبايا جميلات يجلسن قرب البار وحولي وأنا أقرأ..كتبت القصيدة كي تذهب إلى هناك، المكان الذي أصفه، ولا أعرفه:
تفصيل من حنانيا
في الحي الشرقي خلف باب الشمس حيث تضع الكرة الملتهبة بيضها على سطوح البيوت الحجر في حنانيا، وحيث ينتهي قوس الكواكب في آخر أبواب المدينة، شيءٌ ما يدفع الكائنات إلى المشي في طريق مرصوفة ومتعرجة ....
في الزيتون ...
وعند مار جرجس...
في الزاوية السريانية...
تمر الظلال ...
والأجنبية تلمس الحجر القديم .................
تقفز في المشي كفرس الجندي ...
شعرها مربوط كذيل الفرس ....
ستذهب نحو حنانيا ....
ولكنها لن تدخل القبو ..
ستمر باتجاه اليسار حيث تقف العذراء في طرف الطريق ..
تشعل شمعاً للسيدة ، وتصافحها ...
وتكمل طريقها نحو الغرب ...
ستدخل حي دار الكتاب المقدس ...
ولكن شيئاً يدفعها أكثر إلى بار قريب ...
تشرب البيرة ....
بلا أحد ...
لا يهم ..
اشترت بالأمس تعويذة قديمة من تحت سور القلعة ...
كان اليهودي على مسافة ...
ماذا يفعل في حنانيا ؟.....يطرّز قماشاً ؟...يحفر على النحاس ...؟...بيده خنجره المعقوف ، وعلى كتفه وشم لم يعرف أحد كيف يمكن أن يقرأه ....ليس بأحرف عبرانية .. وليس رسماً ....كان يفكر في أمر ما . لم ير الأجنبية ...ولم يمش خلفها ..وهو لا يتوقف أصلاً عند العذراء ...ولا يشعل الشمع ...
مع أنه سيدخل إلى القبو عند حنانيا ....لا للصلاة ...ولكن لتعبّد سحر الاسم العبراني ..... وليعرف أن الوشم على كتفه ليس لغة ولا رسماً ...يهودي يدلّ يهودياً على الطريق ...على الحجر القديم خلف باب الشمس ...
هل للنبيذ هنا طعم تفاح الجنوب ؟...أم أن العنب الآشوري سيبقي في أسفل الزجاجة كي يبدأ الشاربون في تأويله ؟...وفي التفكير ...هل آشور هنا أم هناك ....؟...في الزجاجة الطويلة ذات العنق أم في البلاد خلف النهر ؟....
أين ذهب الجالسون من حولي ؟...قالت الأجنبية ...
يمر اليهودي أمام باب البار ...لا تنظر إليه ..ولم تنتبه إلى خطواته الخفيفة ...وهو بلا ظل ....ولم يلتفت ....
تترك النبيذ ...لنعد إلى البيرة ..(ميشيل) صاحب البار يحضر لها ما تطلب ..ولا يتكلم ..ولا يضايقها بنظراته .....هو لا يهتم أيضاً بفرس الجندي ...ولا بربطة ذيل الحصان ...ولا حتى بالتعويذة ...
عبرت طيورٌ لا يراها أحد ....وعبرت غيوم لم يرفع رأسها إليها أحد...وعبرت الشمس دون أن يستوقفها أحد ...عبر اليهودي ....
وعبرت سماءٌ لا يراها أحد .....
في دمشق يمر الإله ولا يشعر به أحد .....
أجلس عند الأدراج الواطئة ....في باب توما ...وفي الحرّاث ....قرب الكنيس والقشلة ...وفي شارع الألم ....يجلس إلى جانبي اليهودي ....وبجانبه تجلس الأجنبية ...النهر يفكر في نهاية أفضل ...وشجر التين الذي يقتلعونه يثرثر مع الجرافات ...
تصعد المدينة القديمة إلى غيمها ...
لماذا لا تسكنين معي في المدينة القديمة ...؟....لم لا يثيرك الضوء الأسود في الحجر الأموي ؟....وكيف تقولين كلاماً عن غير المكان الساحر ؟...
أنت هنا في صحرائي وفردوسي ...في الغيب السماوي ....وفي أقصى اللون الأزرق ....في التعويذة ...والكلمات ...وفي مخطوط العجوز العائد من أرض ميعاده ....
ولكن أين أنت الآن ؟....
هل ذهبت إلى البحر ؟...
هل فتحت السفينة المخبأة في حقيبتك الصغيرة ...؟
هل غبت في قصيدة حب لشاعر كردي ؟
هل أخذك الحرف في لوحة بالفارسية ؟
هل تعلقت بالنون ؟
الألف إشارة إليك والراء سريرك ...
رأسي يعصف ...بعجينة ألوانٍ ....
من أراكِ المئذنة ؟
ومن وضع كفّكِ عند رأس الحسين في قلب معبد "حدد" ؟
ومن جعلك تجلسين في حوض المعمودية قرب يحيى بن زكريا ...؟
لم أكن أنا ....
ولم تكوني أنت من فعل ذلك ...
كانت المدينة تصوّر كل شيء...كعدسة هائلة...كشاشة تعرض فيما بعدُ ما تفعلين ....ولكن أنت لا تفعلين ...تقولين أعود إليك في خريفٍ هادئ ....وتعودين ..أكون في الصحراء...وتحملني إليك التعويذة...ولكن لا أن أعثر عليكِ ؟....
سأكتب لعنات على شياطينك وعلى المدينة ....
في المسكيّة ....أشتري لك البخور...وأقول إنك لن تعرفي كيف تشعلينه في جسمكِ...أضع لك خشباً أحمر ونحاساً في علبة البخور....
لن تفهمي ....
لستِ من مملكتي...
ولستِ الأجنبية...واليهودي يراقبني...يجلس عند بركة الماء المطفأة....
* *
مشينا أنا وإخاد ثلاثة أميال من شارع العابد حتى باب توما، لم يقل إلى أين سنذهب ولم يقل أيضاً أنه يدعوني إلى أي مكان..وأنا لم أتجرأ على دعوته بالخمسين ليرة التي في جيبي، كان صامتاً معظم الوقت، ولكنه كان حاضراً إلى جانبي، ولم أعرف إذا كان علي وقتها أن أبدأ بفتح الموضوع الذي جاء من أجله أم لا..فاخترت أن أتحدث عن شارع بغداد وعن بيتي هناك في الديوانية أيام كنت أسكن على بعد أمتار من الطريق في بيت قديم في وسطه بركة ماء وتملؤه البرودة، كان سريري تحت النافذة التي تطل على حارة فرعية ضيقة، وكنت أستيقظ كل صباح وأنا أظن أنني نائم على الشاطئ، هواء تلك النافذة يحمل معه صوت الموج وريح البحر مع أنها تتجه نحو الشمال لا نحو الجنوب.
المهم أن إخاد لم يفتح معي أية مواضيع ولكنه كان يمشي بهمة من يعرف أنه متجه نحو هدف واحد محدد، وصلنا الآن إلى ساحة التحرير حيث تقف الأعمدة الحجرية ذات العقد التي تنتصب كمسلات لا فراعنة لها، أمام مبنى كلية الفنون الجميلة الذي حولوه إلى مبنى رسمي يشرف على العلاقات السورية اللبنانية، أعمدة بلا أي معنى توحي بأن الناس في هذه المدينة يقضون وقتهم، وقتاً واقفاً كتلك المجسمات البلهاء.
انحرفنا يميناً نحو نوبار بائع الخبز، لم أكن جائعاً تماماً،لكن تذكرت أنني كلما مررت منه هنا عادة أكون في آخر لحظات الصبر على المعدة الخاوية رغم أني لا آكل كثيراً عادة إلا عندما أعمل، يتملكني الشعور بالرغبة في إشغال معدتي بأشياء تلهيها عن بث الإشارات إلى الدماغ.
وسط ساحة باب توما، أمام القوس الوحيد والموحش، الذي كان باباً ذات يوم ولكنه الآن لا وظيفة له سوى انتظار المزيد من التخريب الذي يحوم حوله كل لحظة، تدور حول الباب، وتعبر من تحته، ولا شيء يفضي إليه الباب، سوى دمشق، تُختصر في باب توما خاصرة المدينة التي انفتحت على الفراغ.
في القشلة على الحجر المرصوف على شكل طريق طويلة ومنحنية، كمسار سهم يلتف ليدخل حارة اليهود، تكلم إخاد أخيراً، يريد أن يقول شيئاً، كنت أشعر به، ولكنه لم يتكلم طيلة المشوار، الآن تكلم وطلب إلي أن أختار بين الجلوس في مقهى قديم في المنطقة أو الذهاب إلى بيته.
* *
لا شيء....
أجلس وحيداً في الليل مثل نوستراداموس، أرى في الماء وأعرف كيف تتحرك الشخوص من حولي، تقترب الأرواح، لم يكن نوستراداموس يسمح لها بإحداث الضجيج والصخب، كان يسيطر، ولكن أنا كيف أضبط حركة الأرواح؟ لو تعرف يا إبراهيم ماذا حدث حين جرّبت أن أستخرج تعويذة من أحد النواويس القديمة في المقبرة...قد لا تكون مقتنعاً بكلامي، ولكنك لست ملحداً أعرف أن لديك اهتمامات روحانية، ربما لست متديناً، ولكنك لست علمانياً كفاية أليس كذلك ؟!
لا تغضب أنا أمازحك...كنت أقول لو تعرف ماذا حدث لي.. ظهرت إشارات لا يشعر بها أحد قرب الناووس، وسمعت صوت تحريك الحجر الضخم الذي كتب عليه بالعربية والعبرانية، شيء يخرج، نحن لا نؤمن بالمومياء ولكننا ماهرون بالسحر.
ارتعد جسمي وندمت على هذا الدخول غير المشروع، لا أؤمن كثيراً بتلك المهارة ولكنها تحاصرني وتلاحقني كرائحة تعبر من البزورية إلى بيتنا، أنت تعرف بيتنا، ألم تنتبه إلى أنه دائماً يعبق بروائح مختلطة، كأنه قافلة قادمة من الشرق إلى خراسان...
في جلستي أرى كل شيء، لم يكن أبي يشجعني على الاحتكاك بالحاخامات، كان يفضل أن أبقى هكذا دون ثياب سوداء ودون ضفيرتين تتدليان قرب أذنيّ، وحين مات كنت قد رأيت موته في إناء الليل، كنت أعرف أنه سيرحل ولكنني فهمت الإشارة بشكل خاطيء، ظننت أن سفره إلى هناك سيكون موتاً، ولم أعرف أنه سيموت قبل أن يخطو خطوة واحدة خارج دمشق.
راحيل لم تبك أباها، وزينب يئست بصمت من العثور على مرافق إلى هناك، لم يعد لديها من يدخل معها غلالة الحلم الأزرق والأبيض خلف نهر الأردن.
رأيت في الماء، ولم يكن سوى ماءً صافياً لا يخالطه شيء، فقط قرأت عليه الكلمات( بالإيمان رُفعَ أخنوخ لئلا يرى الموت، فلم يجده أحد لأن الله أخذه.وشُهد له قبل رفعه بأن الله قد رضي عنه، وبغير الإيمان يستحيل نيل رضا الله) هذا ما قلته يا إبراهيم، لم أكن أبحث عن أبي في الماء والكلمات ولكن الكلمات عثرت عليه وحدها، ووجدته ميتاً، ورضا الله هو البحث عن تلك الأرض..لم يقتنع أبي بأن كل الأرض ملك للرب وأبنائه الذين يعملون عمل أخنوخ.
أنت مثل أخنوخ ولكنك لست يهودياً، قد تكون يهودياً لا أحد يعرف، ربما كان أحد أجدادك يهودياً، لا يهم، إنسان العالم الجديد يهودي ، حتى دون أن يعرف شيئاً عن الدين ،الأرض ستنفتح على بعضها ونصبح كلنا شعب واحد.
أنت تعتقد أنني واهم، وأحلم بترهات لن تتحقق،ولكن هذا ما سيحدث.
* *
كانت ليندا ترتدي بنطلون جينز بلون أزرق داكن، وفي الأعلى بلوز أبيض خفيف يكشف كتفيها ورقبتها وشريطاً عارياً من بطنها البيضاء المشدودة بهندسة عالية، كانت تحدثني عن تمارين رياضية قاسية تواظب عليها يومياً، وحديد، وجري، وتايكواندو..وغير ذلك..وكنت مهتماً فقط بصوتها الخلاب الذي لا يذكرني بشيء، جديد تماماً، وشهي، ومنعش، لا أعرف الآن ما الذي سيحدث في مدخل البيت..غرقنا في قبلة طويلة، مع أنني ما أزال أسمع أصوات العائلة قريبة من أذني وكأننا نجلس معاً.
بدت وكأنها لن تكتفي بالقبلة الطويلة البنفسجية ـ بنفسجية بلون الروج الذي كانت تضعه ـ بدأت بالتحوّل إلى كائن آخر، ولم أعد أمسك ظهرها من الخلف ويدي لم تعد تتحرك ببطء تحت بلوزها الأبيض.لم يعد لها وزن أو حجم، أحسست أنني وحدي في مدخل البيت.
* * *
أدخلني إخاد إلى حارات اليهود في المدينة، ومشينا في ظلال جدران مائلة، ونوافذ يسترق من خلفها السمع ظلال أخرى، في العتمة داخل البيوت المهجورة.
فوق كل باب رسمت نجمة داود، وكتب تحتها عبارة بالحروف العبرانية، والأبواب كانت موصدة من الخارج بأقفال وسلاسل صدئة، بيوت نزعت شبابيكها وبقيت أقفالها كقوس باب توما، تركها أناس لم يفكروا في تركها للأبد، لابد أنهم عندما رحلوا كانوا ينوون العودة، وربما لم يكن رحيلهم كاملاً.
بين تلك الأطلال، رأيت بيوت الفلسطينيين، وهم جيران لليهود في حاراتهم، لم أفهم لماذا، ولكنهم يسكنون في المكان ذاته وفي بيوت تشبه بيوت اليهود وأطفالهم يلعبون مع أطفال اليهود.
* * *
طلبت مني ليندا أن أساعدها بإدخال الخيط في ثقب الإبرة، ظننتها تشير إلى أمرٍ ما في نفسها، ولكنها كانت تتحدث بجدية، (أرجوك...لا أستطيع فعل ذلك اليوم...) ولكن لماذا ؟!
قالت إنه السبت.
* *
عندما يعرض يوسف شاهين فيلماً جديداً، أكون في مأزق كبير، كيف يتمكن هؤلاء من إنجاز ذلك الحلم الواسع ولا أفعل أنا؟!
عندما عرض (المصير) كدت أصاب باختناق في صالة العرض، إنها أفكاري، بالطبع لم يسرقها أحد، ولكنها تذهب إلى الآخرين، تخيلت من قبل أنني سأكتب وأخرج فيلماً عن ابن رشد، وسأصوره في قلعة الحصن، وسآتي بمحمد منير ليغني فيه، لم أفكر في نور الشريف لأداء الدور الرئيسي، من الممكن أن أعطيه لجمال سليمان، لم تكن ليلى علوي سيئة.
الغريب أنني التقيت بخالد يوسف كاتب قصة وسيناريو الفيلم،وقت عرضه، وكدنا نصبح أصدقاء، لولا أنه كان مشغولاً بارتباطاته وكنت مشغولاً باكتئابي وزواجي الذي كان ينهار يوماً إثر يوم.تحدثنا في كلام متقطع فترة مهرجان السينما، ثم ذهب ونسيت الأمر، ولم أحسد خالد، بل حسدت يوسف شاهين على عبقريته، كذلك حسدت التونسي ناصر الخمير صاحب أهم أفلام السينما العربية على الإطلاق..(طوق الحمامة المفقود).
ولكن ليست لدي أية شهية للعمل الجماعي، ولا أظن أنني كنت سأنجح في التفاهم مع ما يسمونه الـ (كاست) ولا مع جهة الإنتاج، ولا الممثلين، عرفت ذلك منذ زمن طويل، الكتابة بمفردك أرض أكثر حرية من تضييع الوقت مع آخرين.
* * *
أمشي في شوارع المدينة، إنه شهر آب، والناس تظهر من بيوتها بعد المغيب الأخير، حين تبدأ المنارات ببث أذان العشاء، وصلت إلى ركن الدين، وهو حي يكثر فيه الأكراد، ويمتد ليصعد على كتف قاسيون حيث تزداد كثافتهم وتزداد حريتهم في استعمال لغتهم وتقاليدهم، لا يمكنهم فعل ذلك في الأسفل.
قرب جامع (عثمان آغا) التركي، رأيت شاشة عرض عملاقة، عليها صورة متحركة لشيخ بلحية طويلة تصل إلى منتصف صدره، يتحدث بانفعال، لم أعرف لماذا هو منفعل من المسافة التي التقطت عيناي عبرها الشاشة، اقتربت، بدأ الصوت يتضح أكثر فأكثر...(إخوانكم في إندونيسيا ...إخوانكم في أفغانستان...أهلنا في الشيشان ..) عرفت على الفور أن الرجل يحاول قول شيء ما عن الاضطهاد والثورة وغير ذلك، لم أكترث ومضيت في طريقي مبتعداً عن المكان، ولكن مهلاً هذا الصوت أعرفه..وحتى الصورة ليست غريبة عني، أعرف هذا الرجل ...ولكن من هو ؟! ومتى كان لدي الوقت للقاء مثل هؤلاء؟!
التفتُّ عائداً ...وصلت إلى حيث جلس مئات الأشخاص على الأرض، خارج الجامع الذي امتلأ تماماً ..سألت أحدهم : من هذا الشيخ؟! قال: إنه أبو المحجن...
ـ من أبو المحجن ؟
ـ الدكتور أبو المحجن ،أقوى داعية في بلاد الشام،خطبته تبكّي الحجر!!
ـ ولكن ما اسمه ؟! بلا أبو كذا...
ـ اسمه محمد شوق نيازي
ـ محمد شوق نيازي...أعرفه ..
ـ كيف تعرفه ؟! كلنا نعرفه..إنه أشهر من نار على علم.
ـ شكراً ...
ـ هل لديك مشكلة ؟
ـ لا ..لا شيء...سلام.
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
* * *
3.
أنهيت اليوم تبييض هذه القصيدة ، ليست عبقرية كفاية كي أعتقد أنني أنجز شيئاً على مستوى النص الشعري المتطور، ولكنني أكاد أكون متمسكاً بفكرة أنني شاعر، كهوية متحولة، ولكن راسخة وذهبية، ولا استعداد لدي للتخلي عنها، تعطيك الكتابة الشعرية أكثر مما تتصور يا إخاد تشبه تعاويذك ورقاك، هل تريد أن أقرأها عليك؟! اسمع:
قصائد ... في بيت أسامة بن لادن
(كتبت هذه الكلمات في بيت أسامة بن لادن يوماً ما بعد11/9 )
ما الذي تسمعه الآن ؟
وما الذي تشعر أنه ينهار خلف كتفك اليسرى ؟
برج ؟
تمثال لبوذا ؟
تل من الكومبيوترات المكومة على تراب قندهارْ ..؟
دم وأشلاء ونارْ...
وقافزون من الأعلى إلى الأعلى ؟
ما الذي تسمعه الآن ؟
في هذا المكان البارد ...حيث طيرٌ أسود يدور على رؤوس الموجودين ويقف عند صورة الطفل الذي صار شيخاً ، وعند أشيائه ...وعدة الصيد على جبل الأقرع ..والحدود السورية التركية ، كمن ينسج في الظلام سجادة أيامه القادمة ، تنظر في المكان ...رائحة الموت ...ورائحة الفراديس المعتمة ... والأرض تلمع كأن رخامها معدٌّ لمن سيذهب نحو البحر ..نحو المكان الأبعد حيث تنهار التفاصيل وتنهار الشمس ، والكواكب ، والشيفرة البشرية واللغات ....خلف البحر الكبير ...كان يرى المدى ويعرف أنه سيخطو نحوه يوماً يقول : متى تدفعني الأمواج إلى أقدام تمثال ...؟..متى أصل مانهاتن ؟...ويعود لصيد الطيور البرية في غابات الشمال حيث الخفر التركي والمنزلقات وحواف الصخر والأفاعي الصغيرة عند رجليه بين الأعشاب وأعشاش العقارب .
تدور الجماعات في موسيقى آسيوية ، وتنخلط اللغات مع الثياب ..لحى ملونة بالحناء في(كابول) ...ويجلسون حول النار ...كريشنا يحضر مجلسهم ..والمعلم بوذا يطل من خلف الجبال ....نساء مضطربات ينبضن تحت الأكياس الثقيلة ....هنا ماذا يوجد الآن ...؟...امرأة تسألني ألا أعرض صورتها بلا حجاب على أسامة ...!! وآخرون يدخّنون ويخبئون السجائر عن الكاميرا ...رجل يبلع ريقه قبل أن يوجه الحديث إلى (أبو عبد الله ) وصور في المكان وسيوف .. وورد صناعي ....مدار آخر ....
(في الخرطوم ..كان يوقظني لصلاة الفجر ) قالت ليلى ....كنا نشاهد التليفزيون معاً ....الآن لا يفعلون ذلك ......شيخ بلحية وظل آدمي يلاحق تنفسي المتسارع ...وهواء البحر لا يقترب من البيت ...كأننا لسنا على البحر ..,كأن البحر يأخذنا من هنا إلى هناك ....إلى أحد المنافي والمخابئ والكهوف ....
وأنت ما الذي تفعله هنا ؟..
كلّمتُ ظلّي ...
لم يجبْ ...
كنا نرصد الموت ...وندوّن وقع خطواته .....وصوت حربته الذهب ، وهو يجرّها على الرخام ......
الموت صديق الشيخ ....
والشيخ صديق الموت ....
طائرات في آخر الليل ...
وما ينهار ينهار وحده ... .....
لغةٌ للمعرفة ...وتكوينٌ معماري ....وهندسةُ أفكارٍ
تحمل الريح ما ينهار ...
وتترجم المشهد ....
هذا الحفر لن يوصل إلى قبر الفرعون
ولن يوصل إلى المخرج الآخر تحت الهرم البشري ...
قلت ذلك ....
وفي المكان الغامض ...
في بيت قرب المتوسط ....
حيث عُلّقتْ على الحائط صورة الشيخ ...قبل اللحية ...وبعدها ...وحيث يظل صمته يسبح في هواء البيت .....
وأنا من حتى أدخل في بيت المختبئ في تورا بورا ؟
وأنا من حتى أحتمل كل تلك الأسئلة ...؟
ابنتي رام تأخذ لعبةً من المرأة في بيت أسامة ....
"جويل سوليه " يصوّر الطريق إلى المبنى ...من باب السيارة
أجلس قرب الفنجان وأنتظر أن تبرد القهوة ...بينما تتنهد المرأة وهي تنظر إلى صورة الشيخ ...تعض على شفتها السفلى ..تظن أنني لا أراقبها ...
مكان للجنون ....
ماذا يفعل مكانٌ كهذا هنا ؟...
وماذا أفعل في هذا المكان ؟
(لا تصورني بلا حجاب ............ولا أريد أن أضع حجاباً !! )
قالت ليلى من جديد .......
حسناً ...لن نظهر وجه ليلى ....
الكاميرا تلتقط حركة الأصابع....
وأنا أحاور ليلى...بلا حجاب...وبلا صورة.
* * *
سور مرتفع، بلا أية تفاصيل، تعلوه شرفة من خشب قديم ومليء بخرائط الأرضة، يتوسط السور باب، يعلوه المندلون، وبين الباب والمندلون تظهر النجمة،تحتها الكلمات العبرانية، ولكن البيت حيّ ولا يشبه بيوت المهاجرين، لم لا يحمل إخاد مفتاحاً ، يضرب بكفه على خشب الباب ذي المسامير النحاسية، لحظات طويلة..دقائق ..وإخاد يبتسم محرجاً ، ولا أحد يجيبنا،ربما لا يوجد أحد ... لم أقل ذلك، ولكن إخاد توقع أنني أفكر في تلك الكلمات، فأجابني على الفور :لا إنهما هنا ..الأختان لا تخرجان أبداً.
بالفعل، لم يكد يغلق فمه حتى أطلت إحدى الأختين من فوق، من الشرفة، وهي عابسة، كنت حتى تلك اللحظة لم أقترب إلى هذه الدرجة من وجه قبيح كهذا، بيني وبينها أقل من مترين ارتفاعاً وهي فوقي تماماً، ترتدي فستاناً أكثر قبحاً منها، ألوان قاتمة ومنفرة، كيف أصف وجهها؟! ربما علي أن أكون أكثر وفاءاً لصديقي الجديد، أنف معقوف ومجعد في نفس الوقت،عينان صغيرتان، تحيط بهما دوائر متكسرة من الجلد العتيق، جبين ضيق وخدان غائران بين الأنف والآذان..أف ...وفوق ذلك تعبس كرأس الشيطان ..من هذه يا إخاد ؟! لم أسأله أيضاً ...المرأة هي التي أجابت هذه المرة:
مين هاد أخي ؟! وكانت تمط الكلمات والحروف وتطيلها كعادة يهود دمشق .
* * *
سحبت ليندا وأخرجتها بسرعة من مدخل البيت، واختبأنا في ليل الحارة، لم يرنا أحد، ماذا أفعل ؟ هل آخذها إلى غرفتي ؟ لا ..قد يغضب أبو غازي صاحب البيت، لا يوجد حل آخر، لنذهب إلى هناك إذاً..إلى هناك التي أستعملها تختلف عن (إلى هناك) الخاصة بإخاد، كل شيء سيكون بخير بعد قليل حين نصل عبر الحارات الضيقة والمتعرجة..نقترب من منتصف الليل.
صرنا نمشي كسائحين، أو كمستشرقين، هي تطوق خاصرتي بذراعها اليسرى، وأنا ألف كتفها الأيمن.
كانت تحت تأثير ما لم أعرفه لحظتها، ولكنها لم تكن طبيعية، كنت أفكر بأبي غازي، وبتجهيزات غرفتي، لا يوجد شيء للأكل، ولا يوجد مكان للجلوس سوى السرير القديم، حتى الكتب لم تجد لها موضعاً أفضل من الأرضية الرطبة للغرفة، قالت ليندا بأنها تشعر لأول مرة أنها في دمشق، وقلت بأنها ليست الآن في أي مكان، إنها معي فقط، وهذا يكفي.ولكن يبدو أنه لم كافياً لنا نحن الاثنين.
* * *
دخلت إلى جامع(عثمان آغا)...
حشد كبير من ذوي الجلابيات البيضاء القصيرة، واللحى الطويلة والشوارب المحفوفة..وفي صدر المكان ، على مقربة من المنبر ، يجلس (أبو المحجن)..مثلما قالوا لي لحيته تغطي صدره تماماً، وأنفه الحاد والمنخفض إلى ما فوق شفتيه، يتحرك كقرن وحيدٍ حسب حركة رأسه الذي بدوره يتحرك حسب غليان الخطبة.
عرفني أبو المحجن على الفور حين رآني واقفاً بين كل الجالسين، أشار إلي كي أقترب منه، اقتربت، وأنا في ذهول أمشي مشية النائم، أفسح لي مكاناً قربه بإشارة واحدة من يده وهو يتكلم، وقف وعانقني وأشار إلي من جديد كي أجلس ريثما ينتهي
* * *
كيف اكتشفتُ أسرار بيتنا ؟! لن تصدّق، حصلت على أوراق كنتَ أنت قد تركتها في غرفتك في بيت أبو غازي، وكانت أول شيء أقرأه لك، كانت تلك الكتابة عن بيت العابد، هولو باشا العابد، هل تذكر ؟
لا ؟...بلى أنت تذكر ذلك جيداً، كان بيت العابد أول قصر لرئيس الدولة السورية في العصر الحديث، وقد كان وقتها محمد علي بك العابد، كان البيت لأهله، أنت كتبت ريبورتاجاً عن البيت وعن الحريق الذي شب فيه..ما بك ؟! آآآآ أنت لست معي الآن، تفكر بليندا ؟! بيني وبينك تستحق التفكير والشوق والتأمل وكل ذلك...يا أخي هذه الفتاة ليست من هذا العالم
* * *
كان عناق محمد شوق نيازي لي، صدمة حقيقية للحاضرين في الجامع، فقد سمعت على الفور همهمات وهمسات (من هذا الذي يجلس قرب الشيخ؟)..(هل رأيت كيف عانقه؟) ...(ربما كان من إخواننا في إحدى الجبهات !!).
بعد ذلك بدأت نظرات الإعجاب والاستحسان تزداد في عيون الجالسين، وأخذ مشهد الأكفّ التي توضع على الصدر، علامة على الترحيب، يكثر بين كل مترين ويوجه لي شخصياً، ولم أكن قادراً على فهم شيء حتى اللحظة.
عاد محمد شوق إلى خطبته( ولهذا أفتيت بوجوب الجهاد منذ البلوغ، قبل الزواج، وقبل برّ الوالدين.........) .
* * *
ذهبتُ أمس إلى الحارة للبحث عن أشياء جديدة، قال لي ِأحد الفلسطينيين هناك، إن الشيخ(يوسف تركية) قد مات وشبع موتاً، أسفت كثيراً على رحيله دون أن أكتفي من الجلوس معه أكثر، وبيته الآن خاو ومهجور.
كنت قد شربت أربعة أقداح فودكا، تتمكن ببساطة من دفعي بهدوء إلى حارة اليهود.
* * *
رفعت ليندا يديها إلى الأعلى كطفلة، تريد أن تعيد مشهد معانقتها لي من جديد،في الغرفة هذه المرة، الغرفة التي لا يمكن الدخول إليها إلا من وسطها، هناك درج والدرج يدور إلى الأعلى، ثم ينتهي فجأة في وسط أرض الغرفة التي لا تزيد مساحتها عن عشرة أمتار مربعة،تنتهي من الدرجات وإذا بك واقف منتصب في المكان، وإلى جانبك ليندا، التي أخذت تتوهج في العتمة،وتنفسها يزداد تسارعاً، بينما أنا بدأت بالخمود ،لم أكن أحب رائحة بيت أبو غازي الذي كان، يتعمد التخفيف من النظافة من أجل التخفيف من التكاليف، والتخفيف من النظافة سيعني التخفيف من استهلاك المياه والصابون وأعواد المكنسة، ولكن غرفتي كانت تُنظّف باستمرار، ويشرف على تجديدها يومياً زوار صباحيون، يرفرفون قرب سريري قبل أن أستيقظ لأجد المكان يلمع وتبرق تفاصيله. أحياناً يأتون ويذهبون دون أن أعرف من هم، وأحياناً يبقون حتى أستيقظ، لأعثر على وجوههم فوق رأسي تنظر في عمق عيني المغمضتين، وكان كل شيء في الظل الصباحي في دمشق القديمة، يزيد من غرابة المغامرة ويزيد من خطرها، خاصة بعد أن يقرر أحد طلاب الجامعة مشاركتي السكن في الغرفة ودفع الإيجار مناصفة .
* * *
حين اختلينا أنا ومحمد شوق ، أحسست أن كان يريد لقاء شخص يعرفه كما هو ، دون تلك الأجهزة التي يحملها ، (لحية وثوب قصير سحنة أفغانية ورائحة بخور وطيب ووإلخ) .
ـ ما هذا ؟
ـ أنت تجعلني أضحك ....لماذا تندهش من رؤيتي هكذا ؟...
سألته وكان جوابه الواثق والراسخ أقوى من سؤالي الساخر ، لم يمض قرن على حياتنا المشتركة في تلك الغرفة في دمشق القديمة عند أبو غازي ،كنت أشرب النبيذ، بينما كان يقرأ في صحيح البخاري ، وكنت أكتب بالحبر الصيني على جسد ليندا في الظلام وهو يصعد الدرجات مردداً أدعية الدخول إلى المنزل ، وكان أقصى طموحاته أن يخصّوه بمسجد صغير في إحدى القرى النائية كي يقوم بواجبه تجاه الدين والدنيا معاً.
لحيتي أطول من لحيتك يا محمد،كنت أقول له،وكان يضحك ويقول :لو أنك حرصت على زياراتك لبيت الله الحرام لكانت هذه اللحية الآن لحية داعية، أما أنا فمازلت أبدأ ، ولا داعي للتطرّف .
وحين أقرر استيقافه عند حكم شرعي أو تفصيل تأويلي كان يسارع إلى مجاراتي وكأنه ينتظر تلك اللحظة، في الحديث عن الصوفية كان يصغي إلي وكأنني شيخه ، وكنت أذهب بعيداً في صعودي إلى المقامات ووصف الأحوال، ولكنه كان يتوتر حين أصل إلى الحلاج. يقول إن هذا الرجل لم يكن مسلماً وأنه أخذ علومه عن الوثنيين وعبّاد الشمس والمهرطقين، كنت أقول : من يعرف كيف يخاطب الرحمن هكذا :
فأيُّ الأرضِ تخلو منكَ حتّى تعالَوا يطلبونكَ في السماء ؟
فهو مؤمن ومسلم،فحيثما توليتم فثمّ وجه الله،أليس كذلك يا محمد شوق ؟!
لم يكن يزده ذلك إلا نفوراً من سيرة الحلاج، يقول إنه لو كان على حق لما ألقى بنفسه إلى التهلكة، وكنت أقول إنه كان يعرف مصيره من قبل موته بزمان طويل ، حين يرى النيروز واحتفالات الناس ، كان يتحسّر ويقول (متى ننورز ؟....فيقول له مريده : كيف يا سيدي ؟
...يقول : متى أُصلب ؟! )
رافقني إلى زيارة ابن عربي ، وكان يظهر له إمارات التبجيل ولكنه في الوقت ذاته ، كان يميل إلى عدم الاقتراب من ضريح الشيخ الأكبر سلطان الأولياء والعارفين، كنا ننزل الدرجات ببطء، أنتبه إلى أصابع يد محمد شوق اليمنى التي يمررها على الكتابة النافرة على الجدار المفضي إلى المقام (أنا خاتم الأولياء) ...
ـ كل شوق ينتهي بالوصل لا يعوّل عليه ....أليست هذه كلمات صاحبك ابن عربي ؟ تبدو غير مرتاح لهذا الوصل ....
أيقظني من إغماءتي السريعة بسؤاله،
ـ نعم ... وهل اقتنعت بآراء الشيخ محيي الدين أخيراً ؟
ـ صار وصرنا في مقام بعيد ...
ـ ألن تقول لي ما سرّ كل هذه الأوضاع ؟...كيف صرت هكذا ؟..والناس من حولك؟..ماذا حصل ؟! هل نزل عليك وحي أو شيء آخر ؟!
ـ سنتحدث على طاولة العشاء ..ألن تسمح لي بدعوتك إلى العشاء ؟!
ـ لا بأس ...موافق
* * *
لن يعتقد إبراهيم أنني من أولئك الذين يتخيلهم العرب عادة، أنفي ليس معقوفاً ، وليست لدي حدبة خلف رقبتي ، كما أنني لا أتكلم بصوت يشبه الفحيح ، أنا طبيعي ، وربما اكثر من ذلك، قليلون يحزرون أنني يهودي، ولكن مع الأسف هناك من يكتشف ذلك بسرعة، لا أعرف كيف يعرفون ، ولكنهم سرعان ما يبدؤون بالنظر إلي من خلف زجاج واق، وكأنني سلاح قد ينفجر في أية لحظة،ويحرصون على استخدام كلمات مقتضبة ومحددة وكأنهم متفقون عليها .
إبراهيم لم يتصرف معي هكذا، كان يبدو عليه الرغبة باكتشافي، وأنا على كل حال أستحق وصفاً من هذا النوع ، لأنني لست عادياً ، فلو كنت عادياً لكنت الآن، هناك، ولدي مزرعة تروى خضرواتها بالتنقيط وعبر شبكة حسابات ومعادلات يجهزها الكومبيوتر، ولدي أيضاً شمعدانات نحاسية، هنا وهناك، وطاولات عليها أغطية مصنوعة في القدس،وعليها الخاتم المسدس إياه.وسور إليكتروني يحميني من المتطفلين والمخربين .
إذاً أنا موضوع للاكتشاف، وهو الآن يحاول فهم ما سأقوله له دون أية أفكار مسبقة كما يبدو لي،يتصرف معي أحياناً وكـأننا أقارب بشكل وبآخر ،ولا تكون ردود أفعاله كما يفعل الغريب.
الآن هو ينظر إليّ، وينتظر أن أريه أسرار البيت، ما الذي يتوقعه؟ ولماذا أصبح مهتماً إلى هذه الدرجة؟
لا بأس ...يمكن أن أتفهّم تلهّفه الآن ...وسأروي له ما كتمته عن الآخرين، لن أخسر سوى الصمت...
* * *
4.
بعد تخرجي من كلية الشريعة، كان علي أن أنهي خدمتي العسكرية في إحدى ثكنات الأرياف، هناك عوملت معاملة حسنة ولم يطلب مني ضابط الأمن حلاقة ذقني، أو القيام بأية تدريبات مع الجنود، بل على العكس من ذلك كنت شيخ المعسكر، وكانوا يهتمون براحتي ومعرفة كل ما يدور بيني وبين كل من يستفتيني في شؤون دينه ودنياه.
ـ نعم..
ـ نعم ...وهكذا أنهيت السنتين وأنا شبه مدني، بعد ذلك عيّنت إماماً لأحد المساجد في قرية قرب حمص، وكنت أقضي معظم الوقت في إجراء إصلاحات أقوم بها بنفسي لسقف المسجد وجدرانه المهترئة...تفضل ...جرّب الكوردون بلو ....ألا تعجبك ؟...هل نطلب أنواعاً أخرى؟
ـ لا ...شكراً ..أعرف الكوردون بلو من زمان ..أنا مرتاح للطعام ...كمّل كلامك ...
ـ صحة وهنا ...جعله الله شفاء وهناء ...
ـ شكراً ..
ـ إيه يا سيّدنا ...أمضيتُ سنة وشهرين تقريباً في المسجد ...وبدأ العديدون يلتفون حولي ...رأوا شاباً متواضعاً ..لا يعقّد أمور الدين ..وكذلك لم أكن طامعاً في شيء من وسخ الدنيا ...حتى كانت ليلة القدر في السابع والعشرين من رمضان تلك السنة .
حين صلى خلفي في صلاة التراويح وقيام الليل عدد كبير من المصلين ..كنت الإمام وكنت أقرأ القرآن بصوتي المتهدج، كانوا يجهشون بالبكاء كلما تلفظتُ بلفظ الجلالة، وكلما دعوت بين الركعات وكلما قلت يارب...
ـ نعم ..
ـ بعد أن انتهينا ...والتفت خلفي ...وتصفحت وجوه المصلين ...بينما كنت أعد التسبيحات على أصابع يديّ العشر، اقترب مني رجل مسن يرتدي ثياباً بيضاء بالكامل ، وكأنه قد خرج من سطل حليب ...
ـ من هذا ؟..هل هو أحد الملائكة ؟
ـ ما زلت متهكماً ..وكأنك لا تقتنع بشيء ..دعني أكمل ..وأكمل أنت طعامك ..صحيح ماذا تريد أن تشرب ؟...
ـ بيرة ...
ـ بيرة ؟...طيب ...جرسون
* * *
راحيل تحضر القهوة، وأنا مازلت في عبوري ذلك السديم، الذي يلفّ داخلي حارة اليهود، ضبابٌ غير مرئي، ورائحةُ باردة، وأصواتٌ خافتة، همهماتٌ ...من كل مكان ..من شقوق الجدران ..من النوافذ الصغيرة ...من خلف الأبواب ..من السطوح الخشبية ....
إخاد يقرّب مني كرسيّه الصغير ، الذي يبدو كحجرٍ صغير في حوضِ سمك، نجلس في أرض الدار ...بينما ترفض زينب النزول من الأعلى..تبقى فوق.
ـ هذا المكان ..ليس كما تراه ...هل تذكر بيت العابد؟ هنا ستعثر على أكثر بكثير مما عثرت عليه هناك ...
ـ يبدو البيت مهملاً ..رغم أنكم تعيشون فيه ..لم لا تقومون بترميمه؟ ..أعني ترتيبه قليلاً ...
ـ أنت لا تعرف شيئاً ...هل أنت جاد حقاً ؟...ألا تعرف أننا لا نستطيع المساس بأي شيء هنا؟..ممنوع ....ممنوع يا صديقي ...
ـ ممنوع ؟..من يمنعكم ...
ـ هذا بند من قائمة الممنوعات ، لا مشكلة ...هكذا أفضل ، تخيّل لو أنهم يقررون الإشراف على ترميم دمشق ، ..يااااه ...ستصيب الكارثة المكان كله ...الزلزال أرحم ..
تتكلم راحيل فجأة ..
ـ هل أنت واثق من هذا الرجل يا إخاد ..حتى تفتح له بيتنا ؟...
ـ ولماذا تسألينني أمامه ؟...عيب ..
ـ لا مشكلة يا إخاد ...آنسة راحيل ..لا أريد شيئاً ...ولا داعي لفحوصات الثقة ..أنا هنا فقط للفرجة ...و..
ـ أنا ما حكيت معك ...أنا أكلّم أخي إخاد ...
هممت بالنهوض، ولكن إخاد أمسك بكمّي، وأجلسني معتذراً بابتسامة مريحة.
ـ لا مشكلة إخاد،لا أريد التسبب بإحراجك،يبدو أن الوقت غير مناسب..
ـ لا الوقت مناسب ..وقد لا أتمكن من إقناعك في المرة القادمة بالحضور معي
* * *
5 .
ليندا في ضوء ساطع ...والكتابة على جسدها اليوم، ستكون حقل متعة لا حدود له، هي من أقنعني بهذا العمل المجنون، تقول إنها حفيدة جدّة أندلسية، كانت ترسم كل يوم على جسدها بأحبار الجوز، وتغيّر ما ترسمه في اليوم التالي ...كتبتْ على فخذيها بحروف الثلث قصائد لابن زيدون ...والمعتمد ابن عباد..
ولذلك فإن حفيدتها اليوم تريد أن تعيد أندلس جسدها من جديد ..
من جهتي لم أكن أفضل قصائد ابن زيدون على قصائدي ، ولذلك فقد كنت أفكّر بالقصيدة ، وأتخيّلها، وأؤلفها على الفور ..وأنا أكتب على الجلد المشدود كلاماً طازجاً ...ناصعاً ..كلوحة زيت يرسمها الرسام في هذه اللحظة.
تعلمت استخدام القصبة من صديقي الخطاط خالد الساعي،الذي كان يمدّني بالحبر الصيني والقصبات التي يصنعها في بيته العجيب في دمر البلد.
لم يكن يعرف أنني سأكتب ما يطيب لي على جسد ليندا ، كان يظن أنني أتدرب على فنون الحرف العربي ...
كتبتُ:
طائران يغزلان الكلام
في جوّ غنائهما
والطيران
في الإغماض الخفيف
في الالتفاف البطيء حول الآخر ...
في الاقتراب والابتعاد ...
خطُّ الثلث يسحر من يكتب به، النقطة أساسُ الكون ..ومنها سالت الألف، أمدّ الألف على طول الذراع ...ثم انثنتْ فصنعتْ الباء ووقفت في الفضاء تحتها ....الجيم في الرحيل ...والميم في الضم والدوران .....
فوق السرّة ، كان الكلام يمتدّ مرةً ، وينعطف صاعداً إلى النهدين ...ومرةً يدور حول خصر ليندا ..لتنتصف الواو فوق وركيها ...على امتداد سلسلة الظهر...ومرةً يهبط إلى القدمين الصغيرتين عبر الساقين الملتفتين كفخّار حيّ
* * *
جلس الرجل ذو الثياب البيضاء بالقرب مني، وسلّم عليّ، ثم قبّل يده كي يأخذ البركة من الإمام، قال إنه تاجر وأنه يوشك على إنهاء مهمته وواجبه تجاه أبنائه، علمهم مهناً ومصالح كثيرة كما يقول، وأعطاهم من ماله ما يكفيهم، ويعيّشهم مستورين، وأنه راضٍ عنهم واحداً واحداً، ولكنْ....
ـ ولكنْ ماذا يا عم ؟
سألته ..وعندما سمع كلمة (عم) ابتسم وكأنه قد نال مراده، لم أفهم ما يريد، ولكنه لم يتركني أيضاً رهناً للتخمينات..
ـ بقيتْ عندي بنتٌ واحدة ...
ـ ستر الله عليها وجعلها من الصالحات ...وسخّر لها نصيباً طيّباً ..
ـ الله يسلمك يا شيخ محمد...ولهذا جئتك ...بصراحة أنا أسمع عن ورعك وصلاحك وإيمانك منذ مدة، وقد تعمّدت أن أصلي خلفك عدة مرات وأنا ألفّ رأسي بالشال كي لا تنتبه إلى وجودي كغريب بين أهل القرية...جئتك من مكان بعيد ...وأريد أن أخطبك لابنتي ...فماذا تقول؟
* * *
تعال ..سأريك سراديب البيت
* * *
لوهلة تصوّرتُ أنني سأكون توما الكبوشي الجديد، وأن هذا اليهودي قاتلي دون ريب، ولكن ما الذي لفت نظره إليّ، دوناً عن خلق الله ؟
إنه يجرّني تقريباً من يدي، ويأخذني عبر أعماق بيت أبيه الكبير....
ننزل الدرجات..برودة الحجر القديم وسواده تحملانني وكأنني بلا وزن، طائراً فوق الأرض أمشي على الهواء وأنا أعبر نزولاً نزولاً ....مائة درجة تنحني كل عشرين منها وتلفّ هابطةً ...والهواء يأتي من الأسفل ..إذاً هناك فتحة ما في آخر الهبوط ...ولكني أثق بإخاد، كيف؟ لا أعرف ...بالكاد أعرفه ..منذ ساعات فقط ، ولكنه ليس مثيراً للريبة.
ـ إلى أين نذهب ؟
ـ إلى مكان لا تعرفه ..
ـ ولكن أصبحنا على عمق كبير تحت الأرض ...
يبتسم إخاد ...
ـ أنت تقول ذلك ....ربما نكون الآن في حالة صعود لا هبوط ....
الأدراج مضاءة بالفوانيس النحاسية القديمة ..فوانيس الكاز ...وكأنه كان قد أعدّ المكان لزيارتي ...
ـ هل كنت تخطط لجلبي إلى هنا يا إخاد ؟
ـ لا ...آآآآ ..تقصد الفوانيس...؟ أنا أوقدها باستمرار ..لا تنطفئ أبداً ..
ثم نتابع انحدارنا ....الأرض المرصوفة بالحجر الأسود، تبدو ممسوحة بالزيت، لمعانها الذي يعكس ضوء الفوانيس يجعلها تبدو كأحجار كريمة ...أو كسبحات العنبر والدهن ... يجب أن أنتبه ..فهذا الحذاء قد يزلق بي إذا قرر الاحتكاك اللطيف مع الحجر ....ولكن متى نصل ؟ وإلى أين؟
* * *
العرق وحده هو الذي يتمكن من محو ما أكتبه على جسد ليندا، والكلمات تبقى تلتمع وتلتمع،حتى تنضحها القطرات الصغيرة التي تنزّ من بشرتها، قطرات الملح الذهبية، حينها تبدأ الحروف بالتغيّر ...والعبارات بالتحوّل ...والمعاني بالولادات الجديدة ... شعرٌ يصبح سرداً.. ونثرٌ يأتلف من جديد وكأن جسمها يردّ لي صوتي ...
وهي ترقص السماح الأندلسي، تريد موسيقى مغربية، وتريد عزفاً منفرداً على القانون ..وتريد دفقات من وتريات العود .....
تدور وتنثني كما في الموشّحات، كالموشحّات ...وأصابعها الطويلة تعزف على أوتار غير مرئية في هواء الغرفة الصغيرة ...
الليلة طويلة هكذا ...ولا تنتهي ....والعبث الأندلسي يعلو
* * *
بعد ستة أشهر، ينتقل عمي إلى جوار ربّه، وترث ابنته عدة ملايين، وهي ما تزال بعد في شهرها الخامس من الحمل ..كانت الثروة تنتظر محجن وهو جنين .وأمه ابنة التسعة عشر ربيعاً ..ترى العالم كلّه يمرّ من تحت بطني وأنا راكع ...وقرب جبيني في سجودي ...
ـ يعني ورثت أنت ؟
ـ ورثت ...وأصبح لدي ما يكفيني لأعمارٍ قادمة ..ولكنني لم أكن أفكّر في عَرَض الدنيا، كانت الدعوة إلى الله سبيلي الذي اختطته قدماي منذ اللحظة التي اقترب مني فيها الرجل الأبيض في مسجد القرية ذي السقف المثقّب بآلاف الثقوب
* * *
يتوقف إخاد في وسط الأدراج الهابطة، ويلتفت إليّ..
ـ في بيت هولو باشا العابد كان عليك أن تكتشف أسراراً دفنها الورثة، ولكنك هنا ستأخذ ما أقدّمه لك، هناك كانت الجدران تخفي عنك ما وراءها، هنا ستنفتح لك الأبواب ، كي تكتب وتدوّن ما تراه، لأنك إذا لم تفعل فقد لا يحصل ذلك لغيرك ، وقد ينطمر كل شيء في لحظة واحدة.
ـ كيف تعرف كل ذلك عن بيت العابد ؟..الريبورتاج الذي كتبته لم ينشر حتى !!
ـ وكيف خطر على بالك أن أحداً سيوافق على نشر معلومات كهذه عن أول قصر رئاسي في سوريا ؟ الذي هو بيت تيمور لنك حين دخل دمشق غازياً ..والذي أصبح فيما بعد منزل كاتب السلطان العثماني ...والمدرسة الأمريكانية في دمشق ..ثم المحفل الماسوني فيها ؟ هل كنت تتوقع أنهم سيجرؤون على نشر كلام كهذا ؟
ـ كان البيت يحترق وقرّرتُ أن السوريين يجب أن يعرفوا شيئاً عن قيمة ثمينة موجودة في قلب سوق ساروجة...هذا كل شيء ...ولكن جميع الصحف اعتذرت عن النشر ...
ـ نعم ...مع أنهم كانوا يأخذون منك الأوراق التي كتبتها والصور ...
ـ صحيح ..كيف عرفت ؟
ـ لا تسألني ...
يكلمني إخاد، وأنا أذهب إلى بيت العابد في ساروجة، حيث عثرتُ على سيوف أموية ، وأوانٍ زجاجية من أيام تيمور لنك، و حيث اكتشفت الطابق الثاني الذي لا باب له ولا نافذة ..طابق أرضي حول أرض الدار والمدخل ..ثم درج يصعد...ثم طابق ثالث ...بين الطابقين مكانٌ مكتوم لا يمكن الدخول إليه...تكشطُ الكلس الأبيض على الجدران، فترى زمناً آخر ..تكشط الزمن الذي تراه ..فترى زماناً قبله .....كل شيء جاهز للحرق والإتلاف ....في ليلة رأس السنة ...
ـ وصلنا...
ـ هه..
انتبهت ...وصلنا ؟...انتهت الأدراج ..ونحن الآن في فناء مسقوف..ومضاء بالفوانيس ...أصبح لون الحجر خلفية لما يشعّ في داخل الساحة...شعاع ذهبي ينبعث من كل شيء ...قطع أثاث ..أرائك ...طاولات متناثرة، كراسي صغيرة بأذرع خشبية محفورة.مكتبة موزّعة هنا وهناك وأعمدة من الكتب الثقيلة الضخمة ترتفع حتى السقف المشكّل من أقواس متقاطعة ..رومانية وإسلامية وذات عقد نصفية ...
ـ أين نحن ؟
* * *
أما موسى بن ميمون...
فقد عاش في المحيط العربي والإسلامي ، بعد فيلون بستة قرون ، فقد وُلِد في قرطبة سنة 1135، وتوفى في القاهرة سنة 1204 للميلاد، واشتهر بأنه أهم شخصية يهودية خلال العصور الوسطى، كما اشتهر كتابه (دلالة الحائرين) بأنه واحدٌ من أهم الكتب التي دوَّنها اليهود.
كان ابن ميمون قد تلقَّى العلم على يد ثلاثةٍ من العلماء المسلمين، فتلقَّى مباشرةً من ابن الأفلح ومن أحد تلاميذ ابن الصائغ .. وتلقى من ابن رشد بشكلٍ غير مباشر ، حين عكف ـ كما يذكر ابن ميمون نفسه ـ على دراسة مؤلفات ابن رشد طيلة ثلاثة عشر سنة.
وحين ألَّف إسرائيل ولفنسون كتابه موسى بن ميمون حياته ومصنفاته وهو الكتابُ المنشور بالعربية في القاهرة سنـة 1936 كتب الشيخ مصطفى عبد الرزاق مقدمة الكتاب فقال فيها : إن موسى ابن ميمون يعدُّ من الفلاسفة المسلمين! ثم ذكر العديد من الأدلة المؤيدة لذلك .. وفى مقدمة تحقيقه لكتاب " دلالة الحائرين" يقول حسين آتاي: إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الشهرستانى قد عدَّ حنين بن إسحاق النصراني ، فيلسوفاً إسلاميّاً ؛ فإنه لا وجهَ للتفرقة بينه وبين موسى بن ميمون الإسرائيلي .. وكما يعتبر الفلاسفة اليهود المشاركين في الفلسفة الغربية ـ يقصد أمثال: اسبينوزا وكارل ماركس وبرجسون ـ في بلاد الغرب ، فلاسفةً غربيين؛ فإن الفلاسفة اليهود والنصارى الذين شاركوا في الفلسفة الإسلامية وعاشوا في العالم الإسلامي آنذاك يعتبرون فلاسفةً إسلاميين، فمحمد أبو بكر بن زكريا الرازي مع أنه كان لا يعتنق ديناً ما، فقد اعتُبر من بين فلاسفة المسلمين. وعلى ذلك، فالفلاسفة أمثال موسى بن ميمون لا يعتبرون فلاسفةً من ناحية الشكل فحسب، لمجرد انتسابهم للمجتمع الإسلامي، بل لمشاركتهم في ثقافةِ ذلك المجتمع أيضاً، لذلك فموسى بن ميمون فيلسوف إسلامي من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع، لأنه نشأ في ذلك المناخ الفكري، فساهم فيه وأضاف إليه بقدر ما أخذ منه . وقولنا إنه فيلسوفٌ إسلامي، لا يعنى أننا نرمى إلى القول بأنه مسلمٌ آمن بالإسلام ديناً ـ كان موسى بن ميمون قد أشهر إسلامه وهو في المغرب ثم ارتد في مصرـ بل هو فيلسوفٌ إسلامي بالمعنى الثقافي الحضاري فحسب .. والدارس للثقافة الإسلامية ولا يزال الكلام هنا للدكتور آتاى حين يقرأ كتابه "دلالة الحائرين" يرى أن موسى بن ميمون حتى في مناقشاته لنصوص التوراة، إنما يصدر عن فكرٍ وثقافةٍ إسلامية، وأنه عندما ينتقد المتكلمين المسلمين يكون نقدُه لهم بأسلوبٍ خالٍ من الشدة التي ينتقد بها المتكلمون المسلمون بعضهم بعضاً، وأنه ينقد بني دينه بشكلٍ أشد .. إذن، فأبن ميمون يُعتبر فيلسوفاً إسلاميّاً.
ـ ولكنك يا محمد تعرف أن ابن ميمون كتب في الإسرائيليات، وكنت قبل سنوات قليلة ترفض الاعتراف بمفكرين مسلمين، الآن أجدك تنفتح على ابن ميمون ؟! لست معترضاً ولكنني أراقب تغيّراتك...ما مناسبةُ الحديث عن ابن ميمون ؟!
ـ لا شيء...أردت أن تعرف أنني لست متعصباً..منذ لقائنا الماضي وأنت تتربص بي يا إبراهيم..أحاول أن أستعيد صداقتك وأنت تبحث عن أخطاء وشكوك وظنون....كان بإمكاني تجاهل علاقتنا ونسيان تلك الأيام....
ـ إذاً أنت تعتبر نفسك قد بذلت جهداً كبيراً من أجل صداقتنا ؟! يا أخي أنا أعفيك من هدر هذا الجهد...لا مشكلة..أنا ماشي...
ـ لحظة..لا تزعل ...لم أقصد ...خلاص ..ولكن حاول أن تفهمني أرجوك..أنا أؤسس لفكرٍ دعويٍّ جديد!!....
* * *
لا أفهم لماذا يحاول محمد شوق نيازي التقرّب مني، بعد لقائنا الأول الجديد، أخذ يتصل بي ويدعوني كل مرة للعشاء ولتدخين الأركيلة في مناطق مختلفة من المدينة، وكان لا يظهر إلا في الليل ..في النهار يكون نائماً...ولا أعرف متى كان يصلّي بأتباعه ...أو حتى متى كان يصلّي أصلاً ..كان مصرّاً على أن نلتقي باستمرار ...ويسترسل بإلقاء محاضراته عليّ وكأنه يكتب أو يقرأ من كتاب ...
* * *
(ـ ماذا يعني لكَ يا مومو أن تكون يهودياً؟
ـ حسناً، لا أعرف.. إنه يعني بالنسبة لأبي أن تكون مكتئباً طوال النهار.. أما بالنسبة لي. . . فهو مجرد شيء يمنعني من أن أكون أي شئ آخر.)
ـ هذه محاورة بين إبراهيم ومومو من رواية السيد إبراهيم وأزهار القرآن لإيريك إيمانويل شميت.... يا سيّد إبراهيم ..
ـ هل قرأتِ الرواية ؟!
ـ نعم ..قرأتُها ...وشاهدتُ الفيلم أيضاً ...
ـ أنت تسحرينني ...
ـ أذكّركَ بأحدٍ ما ...صديقة قديمة مثلاً .
ـ ......ربما ....لا ..لا أعتقد ...
ـ بلى ..أشعر بذلك ...أنتَ تغازلني وكأننا نعرف بعضنا البعض مذ زمن طويل ...
ـ أنتِ جذابة ...وبتُّ أشعر أنه من أصول اللياقة أن أغازلكِ...هذا حقّ للجميلات ...
ـ عموماً ...انهضْ ...يجب أن نذهب إلى موعدنا ..ألم نتأخر ؟
ـ فعلاً ...لم يبق سوى نصف ساعة ...أرجو ألا يكون الطريق مزدحماً ..
ـ يلّلا قوم ...غازلني عالطريق ...
* * *
6.
ـ هذا هو المكان السري ...الذي دلّني عليه والدي المرحوم ...عادةً لا أقول مرحوم...هذا مكان الصلاة الخاص ...والقراءة الخاصة...وهو المكان الذي نُحِـرَ فيه توما الكبوشي ...وصُفّي دمُه ...طبعاً نحن أبرياء من ذلك ..لا علاقة لوالدي، أو لي، بأي خرافاتٍ من هذا النوع ...كان الحاخام موسى هو المسؤول عن كل العملية ....
ـ موسى أبو العافية ..
ـ نعم هو ..موسى أبو العافية ..أو ..محمد المسلماني كما سمّى نفسه فيما بعد أمام القاضي العثماني ...حين أعلن اعتناقه للإسلام...
ـ وخلع الرداء الأسود ولبس محلّه جبّة بيضاء ...
ـ كل هذه القصة غير مهمة ...المهم أن المكان ما يزال موجوداً...أردت أن أعرف لماذا اختار الرجال السبعة عشر هذه الباحة المخفية لتنفيذ طقسهم...ماذا يوجد هنا ؟! قرأتُ كل الكتب ...والمخطوطات ...ودرستُ كل الإشارات ..وعلامات الجدران والأرضية ..
ـ كان يوجد في بيت العابد مكان مثل هذا المكان..لم أكتب عنه في أوراقي...
ـ حقاً ...؟ وكيف كان ؟!
ـ قاعة في الطابق الثالث ...جدرانها من خشبٍ ملبّس بالعجمي ...وعليه حفرت أسماء الأنبياء والخلفاء الراشدين ...وأحاديث نبوية هنا وهناك...كتب ومناضد من خشب مزخرف ...حتى أن زاوية منها كانت تضم الفاترينا التي أُهديتْ للرئيس العابد وكُتب عليها (تقدمة لدولة الرئيس محمد علي بك العابد).
ـ بالمناسبة ..من هم آل العابد؟!
ـ آل العابد انحدروا من عشيرة الموالي المشارفة. و قد استوطن جدّهم محمد بن الأمير قانص في حي الميدان بدمشق عام 1700. حيث عمل أفراد الأسرة بتجارة الحبوب و المواشي و أصبح لهم نفوذ واسع في حي الميدان.
كان أول من برز في دمشق من رجال هذا البيت عمر آغا العابد الذي أجار مسيحيي حي باب مصلّى، و أوقف بفضل نفوذه سكان الميدان من مهاجمة حي باب توما و المشاركة بأعمال الشغب في صيف العام1860..
أعاد هولو باشا تشييد هذه الدار التي عرفت باسمه في سوق ساروجة،وهي دار واسعة تمتد بين حارتي القولي و المفتي، و لما تولى محمد علي العابد ـ حفيده ـ رئاسة الدولة السورية عام 1932 م جعل قسماً منها مقراً مؤقتاً للرئاسة لعدة أشهر، انتقل بعدها إلى قصر مصطفى باشا العابد في حي المهاجرين. و في مطلع خمسينات القرن العشرين قام سليم اليازجي بشراء هذا المبنى و أنشأ فيه المدرسة الثانوية الأهلية،بعد أن كان اسمها المدرسة الأميركية.
من أولاد هولو أحمد عزت باشا الذي مات سنة 1924، الذي درس في المكاتب الإسلامية في الميدان, ثم تابع تحصيله العلمي في مدرسة البطريركية في بيروت. عين كاتباً في مجلس إدارة الولاية, و ما لبث أن تولى رئاسة محكمة التجارة في دمشق. و في سبعينات القرن التاسع عشر عمل رئيساً لتحرير مجلة سورية الرسمية و في العام 1878 أصدر جريدة دمشق، ثم تولى تفتيش العدلية في دمشق ثم في سالونيك, و نقل منها إلى رئاسة المحاكم التجارية المختلطة في استانبول، و من ثم أصبح واحداً من أقرب المقربين إلى السلطان عبد الحميد الثاني حيث عُيّن عضواً في مجلس شورى الدولة و أصبح ثاني أمناء السر للسلطان.
كان لأحمد عزت باشا الفضل في تحقيق عدد من المشاريع في بلاد الشام. وأهم هذه المشاريع, بلا شك, هو مدُّ الخط الحديدي الحجازي حيث أقنع السلطان بأهمية هذا المشروع، و أنفق عليه من ماله الخاص. و كذلك مشروع إنشاء خط الترام في دمشق و إنارة مدينة دمشق بالكهرباء. كما أنه قام بشراء دار الحكومة القديمة في ساحة المرجة و هدمها و أقام مكانها بناء على الطراز الأوروبي ليكون فندقاً، وما زال هذا البناء يحمل اسمه إلى اليوم.
أما ولده محمد علي العابد الذي ولد في العام 1867 ورحل في سنة 1939 فقد تلقى تعليمه في استانبول و درس الحقوق في باريس ثم عُين سفيراً للدولة العثمانية في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1905-1908. وبعد الحرب العامة الأولى، و وقوع سورية تحت الانتداب الفرنسي، عين وزيراً للمالية فيها، ثم انتخب أول رئيس للدولة السورية بين الأعوام 1932-1936.
أما نازك العابد فقد أتقنت العربية و التركية وشاركت في الحياة السياسية و طالبت و عملت على تحرير المرأة من الأمية والجهل والتقاليد المتخلفة. و أنشأت أول جمعية نسائية عام 1914 دعتها (نور الفيحاء) ثم تعاونت مع عدد من سيدات دمشق وفتياتها و أسّسن مدرسة (بنات الشهداء العربيات). وعملت في الصحافة أيضاً، فكانت لها مجلتها التي أصدرتها في العام 1920 باسم (نور الفيحاء) أيضاً وكانت المجلة نسائية أخلاقية أدبية, صدر منها تسعة أعداد. ومن جانب آخر فقد شاركت في إقامة فرع للصليب الأحمر الدولي في سورية، وكانت أول رئيسة له، و قد تندهش إذا عرفت أنها شاركت بمعركة ميسلون و حاولت إنقاذ حياة يوسف العظمة، قائد الجيش السوري المستقيل...هل سمعت عنه؟
ـ من؟...يوسف العظمة؟
ـ نعم
ـ طبعاً...أكمل كلامك عن تلك السيدة...
ـ منحها الملك فيصل ملك سوريا،مرتبة فخرية، كنقيب في الجيش السوري.. و بعد انتقالها للعيش في بيروت مع زوجها قامت بتأسيس عصبة المرأة العاملة هناك.
ـ حسناً ...يبدو أنك لم تنس شيئاً عن هذه العائلة ...
ـ لا ..ولن أنسى أيضاً بقية تفاصيل القاعة العجمية في البيت الكبير ..
ـ هل هناك تفاصيل أخرى ؟
ـ نعم والأكثر إثارة ...
ـ كيف؟
ـ اكتشفتُ أن المكان عبارة عن مسجدٍ صغير في الطابق الثالث ...مسجد للصلاة ...وفيه محراب ...وكل شيء طبيعي ..
ـ طيّب ..؟
ـ لا ...حين تنتبه جيداً ستكتشف أن محراب المسجد لا يتجه إلى القبلة..إلى مكة والجنوب ...والكعبة ...
ـ نعم ؟
ـ نعم ..المحراب يتجه إلى الشمال ... إلى استانبول !!
* * *
وصلنا إلى معادلة معقدة ، ليندا وأنا، فهي لا تستطيع أن تتجاهل أنها يهودية محترفة، وفي الوقت نفسه تعتبر أنني مسلم، فائق، ومتطور، وأنا أظن أنها لم تكن يهودية كفاية، بل كانت مزيجاً من صبايا الأندلس المخلّطات بمذاهب عدّة وثقافاتٍ مختلفة.
تعرفُ أنني سأبقى في المدار ذاته..أحب وأشرب وأكتب وأرسم ما أكتبه، وتعرف أيضاً كل ما أفكر فيه، ولكن دهاءها الفطري لم يساعدها على الإمساك بمفتاح الذهب الذي يعمل على جميع انفعالاتي.
صارت تحلم بزواجٍ عاصف، وبحياة مميزة وفاتنة، كما كنا نعيش فوق في تلك الغرفة عند أبو غازي، وكنت أبحث عن المزيد من ذلك الذي يحدث فوق، في آخر أدراج غرفة أبو غازي،المزيد من الكتابة الجديدة وقصيدة النثر التي لم يكتب مثلها في البلاد.
تهديدها بتركي جعلني أفزع، وأتصرف على عكس ما كانت تتوقع..فقد ظنّتْ أنني سأزداد التصاقاً بها ...بينما كنت أتصرف كفارسٍ بلا فرس، ماذا يفعل ...؟ ليس له سوى الركض إلى البعيد ....ولم أبحثْ عنها ...
أخبرني إخاد بأنها صارت هناك ....في كريات شمونه.
* * *
إنسان الشرق الأوسط الجديد، يجب أن يكون يهودياً ، ربما تبدو هذه الفكرة عنصرية، ولكن ببعض التفكير المتأني، ستقودك الملاحظات إلى إسحق لوريا و الحلولية الكمونية الواحدية وهي رؤيتنا للواقع، نحن نرى أن الإله قد حل في العالم وتوحد معه حتى أصبح غير متجاوز له، ومن ثم أصبح الإله والإنسان والطبيعة شيئاً واحدا، وتم إلغاء ثنائيات(الخالق والمخلوق، الإنسان والطبيعة، الكل والجزء، العام والخاص) لتظهر الواحدية الكونية المادية، واحدية تؤمن بذاتها أي بما هو كامن فيها ولا تؤمن بشيء خارج عنها متجاوز لها.
و هذا النموذج في مقابل نموذج (التوحيد والتجاوز)، وتصبح العقائد الوثنية محاولة إنزالٍ للآلهة من السماء إلى الأرض (وإدخالها في نطاق المرجعية المادية الكامنة)، بحيث تخضع لقوانين الأرض الطبيعية المادية. ومن ثم يخضع الإنسانُ هو الآخر لهذه القوانين، إذ كيف يمكنه تجاوزها إذا كانت الآلهة ذاتها خاضعة لها، مستوعبة تماماً في الواحدية المادية الكونية؟
لسنا وثنيين، ولكن النـزعة الوثنية لا تختلف في هذا عن النزعة العلمانية المادية الطبيعية التي تُرجع كلّ شيء إلى الطبيعة ـ المادة، وتُنكر أي إمكانية للتجاوز الإنساني.
أما الديانات التوحيدية، فهي نوعٌ من محاولة الصعود بالإنسان إلى الإله في السماء (وإدخاله في نطاق المرجعية المتجاوزة). فالإنسان بما فيه من رغبة التجاوز له قانونٌ خاص، ووجود مستقل عن المادة وعن الطبيعة.
كان ذلك يتطوّر بسرعة حتى سيطرتْ (القبّالاه). أي الاتجاه الصوفي اليهودي اللورياني خصوصاً، نسبة إلى الحاخام إسحق لوريا. ونموذج (الحلولية الكمونية الواحدية) مكمّلٌ ومتداخلٌ مع النموذج الأول، فيمكن القول بأن (العلمانية الشاملة) هي وحدة الوجود المادية التي لا تختلف عن وحدة الوجود الروحية إلا في تسمية المبدأ الواحد الكامن.
فبينما نسمي هذا المبدأ (الإله) في وحدة الوجود الروحية، فهو يُسمّى (الطبيعة ـ المادة) في (وحدة الوجود المادية).
هل انتبهتَ يا إبراهيم ؟...نحن لا نميّز كثيراً بين أن تكون من سلالة أو لا..الصوفية اليهودية انفتحت الآن كدعوةٍ كبرى...هل تعرف مَن آخرُ من اعتنق مذهبنا؟..إنها مادونا ..المغنية الأميركية ..الأيقونة ...وقد غنّت منذ فترة قصيدة للوريا ...
تبقى مشكلتنا نحن يهود الشرق الأوسط...اليهود العرب كما يسموننا هناك، ألم تقرأ ما كتبه بن درور يميني السنة الماضية؟...قال بالحرف الواحد ،وهو يصفنا( إنهم يعلمون أن العالم العربي غارق في تخلف فظيع ورهيب، خاصة بسبب المشاكل المتعلقة بالقمع الداخلي، وبالتحريض المحلي، وبفساد السلطة، وبقهر المرأة وما إلى ذلك).
سامي شالوم شطريت وحده يقبل أن يصف نفسه بأنه يهودي عربي، وهو يكتب ضد الثورة الأشكنازية البشعة، لعله يشعر بذلك لأنه من المغرب، أبعد قليلاً عن الشرق الأوسط وهو ما يزال يتمتع بثقافة أندلسية بشكل أو بآخر ..
أعرف كل ما يدور هناك دون أن أذهب، هذه الأرض مقدسة عندي أيضاً كما قلت لك سابقاً، وعمّا قريب سيصبح الكوكب كله أرضَ الرب الكبرى، قرأت لمائير بوزجلو وهو مشرقي أيضاً، يتساءل بوزجلو...هل العربي الذي يهتم بالموسيقى الكلاسيكية الغربية ويفضّل شكسبير على عمر الخيام،أقل عروبة من غيره؟ وعلى نفس المنوال، فالشرقي الذي يعتبر نفسه عربياً، سواء أخطأ في هذا أم لا، لا يمكن أن يعتبر نفسه غير عربي لمجرد تبنّيه لقيم متحضرة... ولن يحدث ذلك إلا إذا أصبح التخلف مرادفاً للعروبة. هذه نظرة عنصرية بكل ما تعنيه الكلمة.
لا حلّ لذلك يا إبراهيم ...سوى في أن يتبنّى العرب قيماً متحضرة،مثل حريّة التعبير وما شابه ذلك، وألا يتركوا الهُوية العربية حكراً على المتعصّبين.
هذا يثبت نظريتي حول وجود ثقافة يهودية عربية مشتركة، تضم في طياتها أفضل الشعراء، من الحاخام يهودا هاليفي الذي يعرف باسم أبو الحسن اللاوي وهو شاعر يهودي عاش في الأندلس، وقد كتب في مختلف أغراض الشعر...ألست مولعاً بالأندلس؟...على الأقل تذكّرك بليندا..بالمناسبة سمعت بأنها بعد استقرارها هناك اعتادت على قضاء عدة شهور في غرناطة وقرطبة، حاول أن تتصل بها..وإذا أردتَ أستطيع العثور لك على عناوينها ..إيميل أو أي شيء ..لنعد إلى حديثنا هناك أيضاً، الحاخام شالوم شبازي، الذي يعدّ من كبار شعراء يهود اليمن، عاش في القرن السابع عشر، و معظم أشعاره أصبحت ضمن كتب الصلوات الخاصة بيهود اليمن، ويحظى حتى اليوم بالاستحسان.. ناهيك عن أن معظم الديانة اليهودية مكتوبة بالآرامية والعربية، وليس باللاتينية أو الألمانية،واليهودية نفسها عربية أكثر من كونها غربية.
ومع ذلك فإن بن درور يعود دائماً ويختم كلامه بالعبارة التالية في معاريف:
(إذا كانت العروبة هي التيار الذي ضاق بخداع الذات، وبالقهر..فإن عبدكم المخلص يعلن أنه يفخر بأنه عربي)...
* * *
من هو غير الطبيعي؟.. إخاد أم محمد شوق أم ليندا أم أنا ؟ هناك أيضاً صديقتي الصحفية نور التي تشبه ميغ رايان، وهناك المزيد ...المزيد.
* * *
هذا الفجر .. أستيقظُ كوحيدٍ في دمشق، الهواء البارد يدور حولي ويأخذني إلى حيث يجب أن أذهب.
الطريق إلى الأربعين، يجب أن تمرّ من حارة التغالبة، قرب الشيخ محيي الدين ابن عربي، ثم ترتفع قليلاً إلى فوق على ضلع قاسيون، ثم تختفي البيوت ويبدأ الدرج العاري بين الصخور، حيث أن التفاتة واحدة إلى الخلف ستجعلك تعدل عن إكمال مشوارك، سترى الشام كما هي، قبل أن ترتفع السحابة اليومية من الدخان والكربون ..لتجعل كل شيء رمادياً.
إذا جلست على صخرةٍ ما، لتدخّن سيجارة ستراقب ما يحدث قرب فندق الشام، وستتذكر كيف جعل أحمد معلا ، مقهاه القديم، مرسماً للوحاتٍ يصنعها من الورق المجعد والقهوة، في طريقه إلى الشهرة ..
وسترى المثلثات فوق الجامع الأموي، وقوس باب توما، وسور دمشق الذي تسلّم عليه كلما عبرتَ قربه وتلمس أحجاره الحية، وستلمح ما يطير من سنونوات فوق مدرسة التجهيز قرب حديقة فكتوريا، والتكية السليمانية ومآذنها وقبابها الصغيرة،والجامعة، ولن تحتاج إلى عدسات مكبرة لتقرأ ما كتب على قبور موتى المدينة، من معاوية بن أبي سفيان إلى نزار قباني وابن قيم الجوزية والرئيس شكري القوتلي وصلاح الدين الأيوبي.
لن يسبقك أحد إلى الأربعين...الآن،تحتك، سيظهر مقام الشيخ خالد ذي الجناحين..النقشبندي الكبير الأول ...والشيخ إبراهيم الناريّ: اللهم صلّ صلاةً كاملة وسلّم سلاماً تاماً على سيدنا محمد الذي تنحل به العقد وتنفرج به الكرب وتقضى به الحوائج وتنال به الرغائب وحسن الخواتيم، ويستسقى الغمام بوجهه الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين في كل لمحة ونفَس، وعدد كل ما هو في علم الله وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين...الصلاة النارية التي اخترعها الشيخ إبراهيم ...
حين ستتذكر ذلك...ستتذكر معه أولياء الصالحية، وظهوراتهم في الليالي، بين الناس، أمرٌ عاديّ ومألوفٌ ولا يتوقف عنده أحد..أن يقول لكَ أحدُ سكان الصالحية أنه رأى ليلة الأمس شيخاً يطير من سطح إلى سطح، وآخر يعبر حافة جدار شاهق في ذهابه إلى العتمة...يروون ذلك وهم يتناولون الفول مع خبز الصاج ...وينتقلون إلى مواضيع أخرى ...
يرن الموبايل ـ لم أعد أذكر هل كنت أملك جهاز موبايل وقتها أم لا ـ على كل حال، سيرن الموبايل ...أنظر إلى الرقم ..إنه إخاد ...لن أجيب..ماذا يريد في السادسة صباحاً ؟...
المهم أنه أخرجني من تأملي..سأتابع الصعود إلى الأربعين ...يرن الموبايل مرة أخرى ...لن أجيب ...سأرى من المتصل لابد أنه إخاد ..لا ...رقم جديد...قد يكون اتصل من رقمٍ آخر كي يتمكن من الإيقاع بي..يهوديّ...لن أجيب ...أكاد أصل ...ها هو المقام يقترب، والدرجات انتهت..أصبح عليّ أن أمشي فوق أنبوب الماء الذي يأتي من الأعلى من الأربعين ...وزلة قدمٍ واحدة ستهوي بي إلى الأسفل إلى حضن المدينة التي أتعشّقها.
* * *
ـ نور ستتكفل بكل شيء لا ينشغل بالك...
ـ هل اتفقتِ معها على ذلك ؟
ـ نعم ..وهي تنتظرنا قرب باب المتحف..
ـ لماذا تنتظرنا ؟..لم لا تدخل قبلنا ..
ـ لا أعرف...هي فضّلت ذلك مع أني أخبرتها بأنك تعرف الطريق إلى دورا أوروبوس...
* * *
اسمع إخاد ...لطالما شدّني سؤال حول يهود الشرق، وفكّرت كثيراً بأناس مثل شحاته هارون ولد شحاتة هارون آ..لا تعرفه ؟! ولد في القاهرة لأبوين مصريين يهوديين، أصوله سورية، وجاء أجداده لمصر في القرن التاسع عشر، وعمل والده (الخواجة هارون) ـ كما كان يطلق المصريون على اليهود في أوائل القرن العشرين ـ بائعا في محل (شيكوريل) لأزياء الملابس.
بعد ذلك أرسله والده إلى مدرسة (الفرير الكاثوليكية)، ولما وجده لا يعرف أصول الديانة اليهودية أحضر له حاخاما لتعليمه، ثم حين لاحظ ضعفه في اللغة العربية، أحضر له شيخا أزهريا ليعلمه قواعد النحو والصرف، حتى أنه يقول عن نفسه: (إن الديانات الثلاث قد أثرت بشكل أو بآخر في تكوين فكري).
ـ أعرفه يا صديقي دعني أتابع لك كيف سارت حياته، درس الحقوق في جامعة (فؤاد الأول)، وانضم إلى التنظيمات الشيوعية التي ماجت بها القاهرة في الأربعينيات، وتم القبض عليه سنة 1946..
عندما بدأ ترحيل اليهود المصريين، رفض شحاتة السفر، وتمسك بجنسيته المصرية، وكان قد اشترك مع القوى اليسارية في تكوين (الرابطة الإسرائيلية للكفاح ضد الصهيونية) في نيسان سنة47، ووقّع بيانها خمسة من اليهود اليساريين، وكان يقول: لن أترك مصر، ولو قطعوا رقبتي، إنها وطني.
عمل في المحاماة وتخصّص في تسجيل ورعاية براءات الاختراع، وتعرض مكتبه لفرض الحراسة من الدولة عام 56، واعتقل عدة مرات عام 67 و75، بسبب الشك في ولائه لمصر، وفي الـ 79 بسبب معارضته لاتفاقية كامب ديفيد، وكان مطلوبًا في أحداث سبتمبر 81 وفق قرارات التحفظ على القوى الوطنية في مصر.
ـ ولكن أنت لا تنصف الرجل .. لم لا تكمل إخاد.. عن ما كان يفعله شحاته هارون؟ ...في العام 1967 فتحت نقابة المحامين المصرية باب التطوع لمساندة القوات المسلحة، فكتب شحاتة إلى النقيب أحمد الخواجة يقول:
(عزيزي أحمد، تحية كفاح أبعثها إليك مع استمارة التطوع.. تاركًا لك اختيار المكان الذي أستطيع فيه أن أؤدي حقي وواجبي في المعركة، إذ أعتبر مجلس النقابة قيادة لي)
أو رسالته إلى محمود درويش عندما خرج من حيفا التي قال له فيها(تحية من القاهرة، صخرتي التي لن أبيعها باللآلئ.. حبيبتي التي لن أهجرها.. أنت وأنا الأمل.. لو عدت أنت لحيفا، وصمدت أنا في القاهرة)..
ـ هه ...هذه رومانسيات ....لن يفيد الانخراط في النسيج العربي المتخلف...ولكن المهم خلق فكرة جديدة للأطراف كلها..كان أبي يعرفه..حتى أن بيننا صلة قرابة ما ..
ـ رومانسيات !!!
ـ نعم رومانسيات ..وتطهّر ...واغتسال من دنس مسبق في الذهن....ليس هذا ما أريده ..
ـ سأروي لك المزيد عن شحاته ...كان له ثلاث بنات: منى ونادية وماجدة، ولم تعرف نادية وماجدة بحكاية أختهن الكبرى إلا بعد أن كانت صغراهما في الخامسة عشرة، لأن منى ماتت وهي صغيرة، وكان شحاتة يمزق كل الصور الخاصة بها، لأنه لا يريد أن يتذكرها أبدًا.
أصيبت منى في الخمسينيات بمرض في الدم، وكان لا بد أن يتوجه إلى باريس لعلاجها.. فتقدم بطلب التأشيرة، ولكن السلطات أبلغته بأنه إذا سافر فلن يعود إلى مصر أبداً..
وبعد جدال طويل قرر أن يبقى في مصر، حتى لو كان هذا يعني أن يفقد ابنته الكبرى، وهذا ما حدث في ظل الإمكانات الطبية المتاحة بمصر آنذاك، وقد حزن عليها كثيرًا، وأحرق كل الصور الخاصة بها، لأنه يريد أن ينسى الأمر.
وحينما زار (إيجال بادين) نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي القاهرة عام 79 ذهب للصلاة في الكنيس اليهودي بالقاهرة، فدخل شحاتة بعد تعرضه لتفتيش دقيق، وقال له: إنني كمصري أرى أن المعاهدة مهينة بحق كرامة شعب مصر، فما كان من قوات الأمن إلا أن حاصرته وأخرجته، لأنه يعبر عن رأيه ورأي حزبه اليساري التوجه (حزب التجمع المصري) الذي كان عضوًا مؤسسًا فيه.
تمكّن منه الزهايمر في آخر عمره، ولم يعد يستطيع التعايش والتواصل مع من حوله. تزوجت ابنتاه، ماجدة من طبيب كاثوليكي إيطالي الأصل، وتزوجت نادية من مصري مسلم، مما جعل بيته الذي كان يسميه أصدقاؤه (محطة مصر) ـ نظرًا لكثرة زواره ـ أكثر البيوت في العالم احتفالا بمناسبات دينية.
ومثلما كانت حياة هارون مثيرة للجدل كانت كذلك وفاته فقد رفضت عائلته عندما توفي في آذار سنة 2001 أن يصلي عليه السفير الإسرائيلي بالقاهرة، واستأجرت حاخامًا من فرنسا للصلاة عليه، حتى لا يحضر حاخام من إسرائيل التي ظلّ طوال حياته يهاجم وجودها ويرفضه.
وتحيّرت أسرته في نعيه الذي كان ينبغي أن يُنشر في الجريدة، لأنها لا تستطيع نشر آية من التوراة مثلما يفعل المسلمون مع القرآن والمسيحيون مع الإنجيل، فنشروا كلمة تلخِّص فلسفته في الحياة، كان قد أوردها في كتابه الوحيد (يهودي في القاهرة).. قال فيها:
(لكل إنسان أكثر من هوية، وأنا إنسان مصري حين يُضطهد المصريون.. أسود حين يُضطهد السود.. يهودي حين يُضطهد اليهود.. فلسطيني حين يُضطهد الفلسطينيون).
ـ كما قلت...رومانسيات...مجرّد رومانسيات.
* * *
7.
دخلت المتحف، بعد انتظار دام ساعة كاملة للآنسة نور التي لم تأت، توقعت أنها تحضّر مفاجأة ..تركت صديقتي في الخارج...بعد أن أوصيتها بالمزيد من الانتظار لئلا تصل نور ولا تجدنا...قلت إنني سأتفقدها في الداخل..
توجّهتُ مباشرة إلى المدخل، تحت باب قصر الحير الأموي، ومن ثم يساراً نحو الطريق الضيق إلى دورا أوروبوس ..الكنيس اليهودي الأقدم والذي يختبئ في إحدى زوايا متحف مدينة دمشق ...بكامل جدرانه ورسوماته وحتى الحصر التي كانت توضع للمصلين داخله، والمحراب الخشبي ....والمذبح....تم تفكيك كل ذلك ونقله إلى العاصمة حيث سيراه فقط سياح أجانب يدخلون ويصلون سراً دون أن يعلم أحد أنهم من يهود العالم .
ولكن في هذا الوقت من السنة لن يأتي أحد من خارج القارة السورية الموحشة، ولذلك فإن المكان سيكون خالياً تماماً...
* * *
ـ إلى أين تأخذني؟
ـ أين سآخذكِ وأنت تنامين على بعد مليمتر واحد مني..على فراش واحد.؟
ـ إبراهيم ....هل ستبقى معي إلى الأبد ؟
ـ نحن الآن لسنا في الأبد ..نحنا هنا ليندا....أمام صدرك العاري..والوهج الذي يشع من جسمكِ.... ....
ـ والنار التي تشعلني بها حين تلمسني..
ـ وصوتك المتكسر المهتز...كأوتار البزق ...
ـ و جسمك الذي يشبه ملائكة التوراة ....
ـ لا تشبهين الحور العين ..
ـ بل أشبههن ...
ـ لا ...لستِ من هذا العالم ...لا من بدايته ولا من نهايته ...
ـ من أين ..؟
ـ من عالمي
* * *
شهد القرن التاسع عشر نهضة عمرانية لبيوت اليهود في دمشق، من أشهرها قصر يوسف أفندي عنبر في حي مئذنة الشحم، وكان هو الثاني من حيث المساحة والأناقة بعد قصر العظم، وظل يعرف حتى الآن بمكتب عنبر، وكانت الدولة العثمانية وضعت يدها عليه، نظراً لعجز صاحبه عن سداد ديونه، وحوّلته إلى مدرسة ثانوية.. وقام يهود آخرون ببناء بيوت فخمة،كبيت الخواجة إسلامبولي، وبيت شمعايا، وبيت لزبونا.
أنا الآن في ذلك القرن التاسع عشر ما غيره ...ولكنْ لستُ في مكتب عنبر..بل بباب الأربعين في جبل الأربعين على ضلع قاسيون ...
قررت أنه لم يكن لدي موبايل..ولذلك فلن يزعجني أحد..لا إخاد ولا غيره ..وغيّرت القرن بأجمعه..لم يكن إخاد قد خُلق بعد لا هو و لا أبوه ولا جده ...
العثمانيون قدّسوا هذا المكان ...حيث ينفتح في داخله كهف قابيل الذي حمّله الخطيئة هو ونسله، تستقر صخرة نيزكية ...يقول لكَ خادم المقام..جرّبْ أن تحمل الصخرة...ماذا يعني أن أحمل الصخرة؟..صخرة بحجم بطيخة متوسطة الحجم ...رأس ملفوف حجري..احملها ...جرّبْ...حسناً ..ها أنا أحملها ...إنها ثقيلة جداً ...نعم ..يقول خادم المقام ..هذا لأنها تحمل خطايا البشر مذ أن هشّم بها قابيل رأس أخيه هابيل ..أنظر كيف يشهق الجبل ..هذا فمه ...ونقاط الماء التي تنهمر إنما هي دموع الجبل...وهذه آثار كفّ جبرائيل حين منع الجبل من الانقضاض على الأخ الخائن ...القاتل ..جدّنا قابيل ...
محرابٌ لإبراهيم خليل الرحمن.. ومحراب للخضر ....المتجوّل في الزمان والمكان ...فوق محاريب أربعينَ وليّ من أولياء الله الصالحين..دخلوا الكهف ولم يخرجوا منه ...هؤلاء أبدال الشام الذين قال عنهم النبي..
(إن في جبل الشام أربعين ولياً من أولياء الله الصالحين ...يحمي الله بهم الشام وتشفّع فيهم الخلائق...كلما مات واحدٌ منهم أبدلهم الله واحداً..يبقون إلى آخر الزمان ...أولئك الأبدال).
* * *
في الرابعة صباحاً من ليلة شتائية من العام 2005 ، أستيقظُ على صوت الدق على باب البيت.
إنهم شبابٌ ممن يرافقون محمد شوق نيازي ...
ـ ما الأمر ؟!
ـ الدكتور يريدك ...
ـ الآن ؟!
ـ نعم يقول إن الأمر طارئ جداً...وهناك خطورة إذا لم تحضر..
ـ هل أصابه مكروه؟
ـ لا نعرف ...إنه ينتظرك
ـ أين ؟
ـ ستعرف أستاذ..لو سمحت ارتدِ ثيابك بسرعة...نحن ننتظر ..
* * *
لم أكن أنوي انتظارهما هناك، على باب المتحف..أريد أن أستفرد به...
هنا ...لا أحد سيأتي ..ولا أحد سيقطع علينا الصورة ..
الآن ..ها قد أتى ...
سأضمه إلى صدري..وسأغرز أظافري في ظهره المشدود كلوح ثلج ..أو كصدر الغيتار ...لن يرفض ..حتى لو كان يحبّها..ولكنه الآن معي، ولن أتركه يفارقني.. هنا في دورا أوروبوس لن يفلت من رغبتي .
* * *
يفتح إخاد باباً سرياً من حديد يتمدد على أرضية الحجر في القاعة ..أول ما أسمعه هو صوت الماء.. ماءٌ يتدفق بسرعة تحت الباب السري..
أنظر في عميق الفتحة..بردى..أو ما تبقى منه تحت البيت..على عمق كبير ...
ـ من هنا أُلقيتْ قطعُ توما الكبوشي ...
ـ أنت تمزح ..!!
ـ لا ...
ـ وأنت الآن في المكان الذي صنع فيه الفطير ..فطير صهيون ...
إن المشهد كله الآن يثير اشمئزازي ..أتراجع ...
ـ ما بك ؟
ـ لماذا أنت مهتم إلى هذا الحد ؟! هل توافق على فعل كهذا ؟
ـ لا ..إطلاقاً...ولكن أردتُ أن أريك أسرار المكان ...وأردتك أن تعرف كم صنفاً نحن ...العالم اليهودي المتنوع المتعدد..كما عندكم خيبر عندهم دير ياسين و صبرا وشاتيلا وتوما الكبوشي ...أطيافٌ تتصارع.
* * *
دكتوراه في مكان ما من العالم...كي يكمل محمد شوق هندامه التبشيري...ولكن ما الذي حدث حتى يطلبني في وقت كهذا ؟!...
ما به ؟!
هل شرب شيئاً في إحدى جلساته المتسامحة ؟!
هل دخّن سيجارة بالخطأ ؟!..أو ربما هي الأركيلة التي يحبها ...ربما وضع له أحدهم شيئاً ما فيها ؟!
السيارة تعبر بي في شوارع المدينة الموحشة...حتى الأضواء تتجمد ويتجمد بخارها من برودة الطقس ...نتجه إلى مكان لا أعرفه ..وحين أسأل يقولون : لا تهتم نكاد نصل ...ولكننا لا نصل ..نحن نخرج من المدينة...يا شباب ..إلى أين نذهب؟ ..
ـ الشيخ ينتظرك على طريق حلب ...
ـ ولماذا على طريق حلب ؟
ـ هو قال ذلك ...
ـ هل هناك بيت أو أي مطعم أو ...؟
ـ سنصل أستاذ..لا ينشغل بالك ..
ونخرج ...ونصعد جبال القلمون، نقترب من أحد الجسور، لتتوقف السيارة الأميركية الصنع التي نقلوني بها ...
بعد ثوان تصل سيارة أخرى، لا تقل فخامة عن سابقتها...يقولون لي تفضل ...الشيخ ينتظرك في السيارة الثانية ..
أنزل وأتوجه إلى السيارة الثانية بخطوات بدأت تكون بطيئة وتشويقية..مادام الموقف كله هكذا .... لم لا أتصرف بطريقة بوليسية أنا أيضاً ؟!
* * *
الحصير العبراني ينطبع على ردف نور، آثاره وخطوطه... خطوط حمراء متعرجة على ساحة بيضاء وردية ...كأنه صنع على هذا المكان مثل سيجار كوبي يلفّ على فخذ فتاة كاكاو هناك...
لم يزعجنا أحد، فقط أغلقتُ الباب الخشبي واستدرت إليها، كانت تنزع الشال الملفوف على رقبتها بسرعة وتفكك أزرار قميصها الخفيف...هل انتظرت طويلاً قبل أن تختلي بي ؟..نحن لا نعرف بعضنا البعض، مجرد لقاءين سريعين قبل الآن.
هذه الفتاة لا تملك خصراً..يمكنني أن أصل إلى خاصرتها الأخرى باستدارة خفيفة من ذراعي، ثم يأتي التكوّر الخيالي بعد ذلك، ثم ينهض الفخذان والساق التي نحتت ببراعة، لن أتمكن من تعريتها تماماً هنا، ولكن الرسومات البدائية على الجدران ..قصة العبور وموسى وإبراهيم الذي يميل نحو المحراب الواطئ ...ورائحة البخور القديم ..كلّ ذلك سيأخذني منها ومن المكان...إلى صورة الرجل الذي قدّم لي تعويذة الألفية الجديدة كما قال ...على ضفة محطة سكة حديد الحجاز..في اليوم الأول من الألفية .
* * *
تحت هذه المدينة توجد مدن أخرى..قال إخاد ذلك وهو يشعل سيجارته الغريبة ..
ـ ماذا تدخّن ؟
ـ سيجرانو ..دخان أرمني ..الفيلتر أطول من السيجارة وهكذا لا أدخن كثيراً ..كنت أقول هناك مدن أخرى تحت ..
يشير إخاد إلى ما تحت الحجر الأسود الذي رصفتْ به أرضية بيته الكبير، وكان يتحدث بثقة وتوتر.
ـ أعرف أن طبقات من الحضارات موجودة تحت ...أعرف ذلك ...ولكن كيف سنصل إليها؟
ـ سنصل ...لا تقلق ..
ـ عندما حفروا نفقاً للسيارات أمام باب شرقي، قبل وصول البابا الكاثوليكي جون بول الثاني، ظهر في طريقهم برج ..
ـ نعم ولكنه برج أيوبي ..ليس قديما كفاية ...هناك ما هو أقدم ..في الأعماق ....هل تساعدني؟
ـ أساعدك كيف ؟ تريد أن تحفر ؟
ـ نعم ..أريد أن أحفر ...تحت بيت أبي ..هنا..
وأشار بإصبعه إلى الأسفل وكأنه يحدد موقعاً يعرفه جيداً .
* * *
لم أر محمد شوق بهذا القلق من قبل، كان يتصبّب عرقاً وعيناه تبحثان عن شيء ما في المكان ...لا شيء ولكنه يبحث بذعر وهو يجلس قربي في المقعد الخلفي للسيارة ...السائق يعبر بنا في ليل الطريق السريع ...
ـ هل سمعت الأخبار ؟
ـ أية أخبار ؟
ـ أخبار العراق ...الأخبار الجديدة ..
ـ نعم ..اسمعها كل يوم ..ما الجديد ؟
ـ الجديد هو أن الجيش الأميركي والحكومة المؤقتة ..يبحثون عني
ـ يبحثون عنك أنت ؟!!
ـ نعم ...و...أنا لا أعرف كيف سأتصرّف ...
ـ وكيف عرفت أنهم يبحثون عنك ؟
ـ أعلنوا ذلك ...وأعلنوا أن من يدعم الجماعات المسلحة في العراق، من الحدود السورية هو الشيخ أبو المحجن ....ونشروا صورتي مع أحد الذين القوا القبض عليهم هناك....
ـ ياااه ...كل هذا ...وماذا قالوا أيضاً ..؟
ـ قالوا إنهم سيتقدمون بطلب للحكومة السورية كي يتم تسليمي لهم ...
كان حديثه خاطفاً ولا يحتمل التعليق ....بماذا سأعلق على كلام كهذا ؟
ـ وهل أنت تدعم المقاتلين هناك؟
ـ لا ...نعم ...أقصد ...إن لي أصدقاء هناك..من المجاهدين في سبيل الله ..منهم من ظِفرُ إصبع قدمه يساوي عندي الملايين..
ـ الله أكبر !!!.
* * *
ـ أسمع عبد الحليم ...(سواح ...وجبار ...وموعود...) كان يمثّل السيرة الفردية لرومانسي أنيق ووسيم ووحيد ..وانتهى كأيقونة كمّلها الوقوع الحاد والارتطام الجارح لجسد الأيقونة الأخرى السندريللا سعاد حسني...حياتنا تتحطّم كما في تلك اللحظة، حين وصل الجسد الساحر إلى صلابة الأرض البريطانية ...أفكّر طيلة الوقت بآخر شهقة في آخر جزء من الثانية حين وصلت إلى الأرض ...
حين تظهر واحةٌ في أفق حياتي ...امرأة..أو فكرة جديدة ...أعود إلى مشاهدة نفسي في المرآة ...هل أنا أيضاً بطل رومانسي؟
ـ إي ...صحيح ..أنت لست رومانسياً..مع أنك تبدو بارداً وخطراً ...كمافيا ...ولست تلقائياً ..وشعبياً ...وصاخباً ..
ـ ولكنني أعتبر نفسي رومانسياً وهذا يكفيني..
ـ حسناً..والآن ..هل سنمشي تحت المطر ؟..
ـ هل مازال هناك من يعتبر المشي تحت المطر من إشارات الحب العنيف...؟
ـ أنا ..نور.
ـ وأنا ...إبراهيم .
* * *
ـ ماذا الآن ؟
ـ لا اعرف !
ـ كيف ستتصرف ؟!
ـ ولماذا تعتقد أنني طلبتك ؟...أريدك أن تقول لي كيف أتصرّف ..
ـ اسمع محمد ..لست مختصاً بشؤون الإرهاب ..وأنت لم تسألني حين قمتَ بما قمتَ به ..يا رجل ..هل أنت مجنون ؟...لم تكن ولا كلمة من كلماتك في الماضي تشير إلى أنك من الممكن أن تتورّط في أعمال كهذه ..
ـ هذا ما حصل ...
ـ يعني ..أنت متورط ؟
ـ نعم ...
ـ رجال ..سلاح ...؟
ـ وأموال ....
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله ....أين أصبحنا الآن ؟
ـ لا أعرف السائق يقود ..وين صرنا يا أبو علي ؟...
* * *
هل تعرف معنى هذه الكلمات؟...(البئر المعطّلة تصبح قصراً مشيداً )...لا أعرف كيف يترجمونها هكذا ..ولكن أفهم من ذلك أنني يجب أن لا أكون بئراً معطلة حتى لا أصبح قصراً مشيداً في الوهم...ولكنك لا تسألني...كيف سأتمكن من ذلك ؟ ببساطة يجب أن أؤمن بأن الحياة أقل صعوبة مما يظن الآخرون ،وعليه فإن قدراتي يجب أن تكون أعلى، حتى أستطيع تخيّل عناء الناس وهم يكابدون ما يظنّونه مستحيلاً.
سأقترح عليك اقتراحاً إبراهيم، لم لا تقرأ شيئاً من تاريخ إنشاء تلك الـ (هناك) التي لا أشعر أنها تخصني؟! هناك ما هو مثير حقاً..يعتقدون بأنهم فاتحون، وقدموا إلى تلك الأرض ليزيّنوها للرب. والقتل زينة، واكتمالٌ لصفات المؤمن، وفي الوقت نفسه قرآنكم يلوم أجدادي لأنهم لم يقاتلوا مع موسى، كيف أفهم إذاً ؟..غضبَ الرب عليهم لأنهم قعدوا عن القتال وقال لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون...وعاقبهم الرب ..و الآن تلومونهم لأنهم يقاتلون!!! ما الذي اختلف ؟! غيّرنا قليلاً في زمن الاستجابة للأوردرات الإلهية ..لم لا تضحك ..؟
* * *
والحل الآن ؟
ماذا سأقول له ؟! أمامي رجل يشعر أنه في ورطة كبرى، وهو لم يكن لينزلق إليها لولا إغواءات الجهاد والاستشهاد وغيرها، ولكن لم هو قلق مادام ينوي أصلاً الذهاب إلى الجنة عن طريق الجهاد؟
ـ وماذا ستفعل ؟!
ـ لا أعرف
ـ هل قدّمتَ شيئاً لهؤلاء الذين يفجّرون أنفسهم في العراق ؟!
ـ نعم ..
ـ طيب ...كيف أساعدك ؟
ـ لا أعرف ..لا أستطيع مناقشة أحد بالموضوع أنت الآن محطّ ثقتي الوحيد ...
ـ الآن ؟...ولم تصنع صداقات طيلة السنوات الماضية ؟
ـ لا ...الجميع كانوا أتباعاً
ـ أتباع !!
ـ أتباع ..مريدون ..سمّهم ما شئت ...المهم هؤلاء يمشون بطواعية خلفي ..ولكنهم لا يقفون إلى جانبي ...كيف يمكن أن يتقدموا ويقفوا إلى جانبي وهم يصلّون خلفي ؟ ...خلفي ...هل تفهم ؟
ـ أفهم ...
ـ إذاً لابد أن تساعدني الآن ...
ـ يعني أنت الآن مطلوب ...
يهز رأسه إلى الأسفل ، بهدوء وبطء ....وينظر إلى الليل الأسود من زجاج السيارة التي مازالت تتحرك بنا وقد صرنا قرب تدمر ...
كان رأسي يفكر بسرعة، لمَ عليّ أن أساعد هذا الرجل ؟..بأي مسوّغ؟..ولكن لمَ لا أساعده؟..هل لدي موقفٌ من الذين يفجرون أنفسهم وسط الأماكن العامة ؟...نعم بعضهم يضغطون على زر التفجير بين الأطفال والنساء ...ولكن آخرين منهم يقومون بذلك بين الجنود الأمريكيين والبريطانيين .. أنا لا أحب القتل ...ولا الموت .
ـ محمد ..هل قتلتَ أحداً من قبل ؟..
لا يجيب ...ولكنه ينظر في عيني، وكأنه يقرأ ما أفكر به، أكرر سؤالي بكلمات أخرى وبالهدوء ذاته ..
ـ هل سبق لك وأن أنهيت حياة أحدٍ بيديك ...؟
ـ لا ...وحتى لو حصل ذلك ..فهل تتوقع أنني سأخبرك الآن ؟
ـ طبعاً لا ...لن تفعل ...حسناً اسمع ...عثرتُ على فكرة ...ولكن لا تقاطعني، ولا تستعجل بالاستنتاج...
* * *
ليس سهلاً أن تقوم بسرد ما يحصل معك، وكأنه حصل فعلاً ، ثم ستظن أنه لم يحصل ، ولكنه فعل يقع ويكون له دلائله من حياتك، ويومياتك، أشخاص تلتقي بهم وجدران تلمسها كتفاك وأنت تمشي في المسافة الدمشقية، بين الوقت والوقت، وبين المكان والآخر في المسافة الدمشقية، تقول إنك وهميّ، ولكنك حقيقي، كان من الأفضل لو أن ما حدث طيلة سنوات مرّتْ هو مجرد وهم، وكان من الأفضل لو أنه حلم أو رواية يكتبها خيالك ويرسمها تدبيرك .
الليل في دمشق حياة أخرى ودمشق أخرى والنهار مدنٌ جديدة تولد كل صباح مع رائحة القهوة المذابة في ماء الفيجة ..لها رائحة لا تشبه أية قهوة أخرى، في الصباح البارد صيفا شتاء ....بعد ساعات ستتغير رائحة القهوة ..مع أنها مذوبة في ماء الفيجة ذاته ولكنها الآن ذات رائحة أخرى ...تبدأ الأرواح بالدخول إلى ركوة القهوة ..وتغلي فيها وتتفاور في الماء مع السكر الخفيف والبن الذي يأتي من سفح المهاجرين ...
لابد لك من أن تروي...فأنت ابنُ هذا المكان ..وهو سردٌ طويل ودقيق وفائق ومذهل...وهو حكاياتٌ معمارية ...وهو إيماناتٌ معقدة ومتداخلة، تختزلها تلك اللهجة الممطوطة ...لهجة الشام...
المقرنصات في أعلى أبواب الجوامع الدمشقية... نهاياتها تنتهي إلى الأسفل..تتجه نحو الأرض ..وكأنها تؤدي مهمتها السماوية بجمع طاقات السموات وتوجيهها إلى الأسفل ..حيث أجهزة الاستقبال البشرية..حيث أهل الشام ...مرة فكّر أحد المعماريين الشباب بقلب المقرنصة ...وتوجيه نهايتها نحو السماء ..لم يلبث أن فقد حياته في حادث سير ...بسيارته المسرعة بين مسقط رأسه ودمشق ...لم تقبل المدينة أن تقلب لها نهاياتها...ولو كنتَ تصمّم مخططاً لمبنى على حواف المدينة بعد ركن الدين ..لأنه أراد تفكيكَ شيفرات المدينة ...وتركيبها من جديد ...هازئاً بقوة الشيفرة وضرورة الحساب .
* * *
ـ اسمع ...الأميركيون يفكرون بطريقة معقدة...ولذلك فهم لا يفهمون معادلة بسيطة من نوع أن فلاناً من الناس بريء أو مذنب ..هذه معادلة بسيطة ...ولذلك يجب أن تعقّد لهم المعادلات حتى يبدأ ذهنهم بقبول أفكارك..أو حتى بالاستمتاع في الإصغاء إلى أفكارك ومراقبتك ...وأنت الآن لا تحتاج إلى أن يحكموا عليك حكماً بسيطاً ...وببعدين اثنين فقط..عقّدْ لهم المسألة يا صديقي..
ـ كيف ؟...
ـ أنا أقول لك ...أولاً ..ماذا يريدون هم ؟!
ـ يريدون رأسي ..
ـ رائع ..
ـ رائع؟!
ـ أقصد رائع أننا نسير في الاتجاه الصحيح ...حسناً هم يريدون رأسك..ولذلك فسنفعل لهم ما يريدون ...
ـ هل تريد أن تسلمني لهم ؟
ـ أسلّمك نعم ...ولكن ليس لهم ..يجب أن نسلم (أبو المحجن) للمجهول..للفراغ ....للعدم ..
ـ للمجهول ؟! للفراغ ؟!
ـ و للعدم أيضاً ...
ـ لم أفهم ...
ـ ستفهم ...يجب أولاً التخلص، وإلى، الأبد من (أبومحجن)... يجب أن يختفي ..وليعثروا عليه إذا قدروا على ذلك ...
* * *
بقي محمد بعدها ..نصف ساعة ..وهو يفكّر ...لم أعرف بماذا يفكر..ولكنه كان شارد الذهن وينظر إلى الليل ...ينظر نحو الفراغ والمجهول والعدم ..وكأنه لم يفهم ما قلته جيداً ولكنني كنت أفكر بطريقة سريعة وشيطانية، وكأنني في فيلم أميركي ..لم لا ؟...هي فرصة للعب..وأنا أحب اللعب ...أفهمته أننا يجب أن نمسح عن الشاشة صورة الإرهابي (أبو المحجن) إلى الأبد ..وهذا لا يحصل بإبقائه حياً...تغييرات بسيطة ولكنها مذهلة ستحقق لي ما أردت ...لنبدأ باللحية ...ستصبح بلا لحية يا شيخ ..ثم هذا الشعر الحليق كرؤوس طالبان والقاعدة ..يجب أن نطوله قليلاً ثم نختار له تسريحة خاصة ..
وهذه الثياب التي تبدو وكأنه جاءت من القرن الأول الهجري، سروال فضفاض وعمامة وألوان باهتة...!! يجب أن تتحول إلى بدلة أنيقة لتكن من تصميم بيير كاردان أو أي لعينٍ من أنحاء العالم ...أوكي ؟..
ويجب أن تكتسب عادات جديدة ..بدلاً من البيوت القديمة والأماكن المعتمة التي كنت تجتمع فيها بأصدقائك ، ستتواجد الآن في الفنادق الفخمة ..وأماكن النجوم الخمسة ...كل شيء سيتغير ...وبسرعة ...هكذا نكون قد أرسلنا (أبو المحجن) إلى المجهول ..لم نقتله ولم نسلمه للأميركيين ..ثم هناك مهمات أخرى سأقولها لك في وقت آخر ..الآن أريد أن أنام ..عودوا بي إلى البيت ...أين وصلنا ؟!
* * *
8.
تجاوزت بي نور حد التحمل، وأصبحتْ تفهم جيداً كيف يسحرني المكان، ولذلك كانت لا تتعرى إلا في زوايا تفجّر روحي في العمق، غرفة في القيمرية ...قبو في باب شرقي ...سطح دار في ساروجة..حتى وصلنا إلى حارة اليهود ..هي تريد ذلك، ولكنني لم أعرف إلى أين سآخذها...إلى بيت إخاد ؟...والكارثتان هناك ؟ إلى بيت الساحر جاك ؟! بيت قذر ولا يليق بها ولا بي ...إلى بيت الطبيب المهجور ؟...سيكون هناك كائنات مخيفة تسكن في قاع البيت ..وفوضى، وشعور غير مريح ..
ـ لماذا تريدين حارات اليهود ؟!
ـ لأجلك أنت ..
ـ لم أقل لكِ شيئاً عن ذلك ..
ـ ولكنك في دورا أوروبوس كنت مذهلاً ..
ـ يعني لم أكن مذهلاً في مرات أخرى ..
ـ لا ..كنت دائماً تسحرني ..ولكن في دورا أوروبوس ..شعرتُ أنك تحاول افتتاح عالم مجهول وجديد ...عالم من الأساطير والأفكار والتفاصيل والألغاز ...حدثتني عن علم القبال ..وعن الحروف والأرقام ..وقلت لي كيف يقرأ اليهود المستقبل، وكيف يحسبون ما كُتبَ على لوح الأيام.
ـ أنت تشعرين بذلك ؟
ـ أشعر أنك تبحث عن جرّة ...أحياناً أظن أنها مخبأة في مكان ما من أماكن يهود الشام، وأحياناً أشعر انك لا تراها وهي بالقرب منك ..ولكن..كأنها جرة قديمة تحتوي على شيء ما ...جرّة روحانية ربما ..
ـ لا تثيرني روحانية اليهود ..ولكن أهتم بعقلانيتهم ..أصلاً لا أعتبر أن اليهود روحانيون ..هم يفكرون في كل شيء ..ويقضون حياتهم في التفكير، دون أن يسترخوا لحظة واحدة .
ـ لنذهب من هنا ..لن تعثر على أي مكان هنا ، هل تشرب النبيذ ؟..أنا أعزمك ..
ـ لا ..هنا الفودكا أطيب ..
ـ فودكا فودكا ...ولكن لا تشرب كثيراً ..حتى لا تجعلني أدفع كل ما معي ..
* * *
تظهر ليندا بعد كل تلك السنوات، أعثر عليها في عيادة طبيب الأعصاب، قرب المشفى الفرنسي بالقصاع، ماذا تفعلين هنا ؟
ـ عدتْ..
ـ من أين ؟
ـ من هناك..
ـ كيف؟
ـ لم يعد لديّ ما أفعله هناك..تزوجت من مزارع ..يزرع الزيتون، ولكنه لا يحب النساء ...
ـ لا يحب النساء !!
ـ لا أعرف.. ولا أعرف لم تزوجني أصلاً، ثم إنه يكره اليهود الشرقيين، يظن أننا إرهابيون..
ولكنها تغيّرت..وكبرتْ ...وأصبحت أصابع يديها أكثر حدة من السابق، وجلدها مشدود أكثر إلى عظام سلامياتها، وجهها مليء بالقوة واليأس معاً، وكأنها كانت تقاتل في الصحراء..
تدخن بشراهة، وتسحب الدخان إلى آخر إسفنجة في رئتيها، لم يفاجئها أنني ظهرت أمامها في الثانية بعد الظهر، وكأنها كانت تعرف أنها ستلتقيني.. ولكنها لم تكن فرحة، كانت مستسلمة لكل شيء.. توسّعت عيناها، صارت تشبه أنجلينا جولي أكثر... وشعرها الذهبي المشقّر بالصبغة، يحوّلها إلى كوماندوس بلباس سكرتيرة.
* * *
إخاد لا يتصرف بشكل طبيعي، يظن أنني لا أهتمّ بأفكاره، ولذلك فقد خمدت طاقاته التي بادرني بها عندما التقينا أول مرة، ويريد مني أن أساعده في شحنها من جديد ..
ـ افتح موضوعاً... هل ستبقى ساكتاً هكذا ؟
ـ ماذا أقول ؟
ـ قل أي شيء ...حدثني عن النساء.. عن البيرة ...عن الكتابة...عن الشعر ...عن أي شيء ..
ـ لا رغبة لديّ بالحديث ....
ـ ماذا تريد إذاً ؟
ـ لا أريد شيئاً..
ـ لماذا جئتَ إلى هنا ؟
ـ جئتُ كي أتحدّث مع زينب ...
ـ مع زينب!! عن ماذا ستحدثّها ؟...
ـ موضوع خاص...
ـ حسناً ..سأناديها ..ولكن كن هادئاً لأنها حذرة جداً مع الغرباء.
ـ مع الغرباء؟!..
ويذهب إلى الداخل.. وأبقى مع البيت الكبير ...ماذا سأقول لزينب ؟ لا كلام لدي ، ولا حتى قدرة على اختلاق حوار مجاملات ...الدقائق تمرّ..ببطء ..وبسرعة ...وهم يتحاورون بالعبرية ...أصواتهم بدأت تعلو..إنها تشتمه ..بينما لا يجيب هو ..وتشتمه مرة أخرى ولا يجيب.
* * *
بعد شهر ونصف، جاءتني سيارة ، وأخذني السائق في رحلة طويلة إلى قاسيون.. في الجبل.. حيث كان يقف، رجلٌ طويلٌ يرتدي بدلة زرقاء...ويضع نظارات شمسية من النوع الحديث جداً مثل نظارات بروس ويليس في فيلم (ابن آوى) ..
عرفتُ من يكون ...ابتسمت وأنا أقترب...فتح ذراعيه استعداداً لاستقبالي...وظلّه ينعكس على مرايا المقهى القاسيونيّ العالي الذي يطلّ على المدينة ويراها كقمر صناعي، يغلق أزرار الجاكيت بيدٍ وأصابعَ تتحرّك بثقة...ويبتسم من جديد...وهو يشعر أنني مليءٌ بالرضا الآن..لأنه فعل ما قلت له بدقة ومهارة.
* * *
ندخل إلى الغرفة السرية، حيث المحراب الذي يتجه إلى استانبول..السيوف المحترقة، والخشب الذائب كنحاسٍ يتناثر في كل مكان، الجدران تتقشّر بسبب المياه المندفعة من أنابيب الضخ لرجال الإطفاء الذين تعمّدوا تخريب كل شيء ..
بيت العابد... يحترق.. ولا طابق ينجو من النار والمياه.
* * *
كنت أحضّر لفيلم عن الحياة السرية لأهل المدينة، دمشق، الحياة التي لا يراها من ينظر إلى المدينة الآن، ويراها من زاوية أنها مدينة للتجار والمحافظين، جهّزت بعض الصفحات عن شارع البدويّ الذي كان المرجع الجنسي للمدينة.حيث تصطفّ البيوت في انحناء عجيب يميل من الجنوب إلى الشرق ليلتقي بحارة اليهود قرب ما صار يعرف فيما بعد بمدرسة ابن ميمون.
جاء إخاد وأخذني إلى بيتهم في محاولة جديدة منه لإقناع زينب بالجلوس معي ولو لدقائق ..
وعندما هبطت زينب من عليّتها، كنت قد عرفت أنني سأعثر على مادة جديدة لكتابة شيء ما عن هذا النوع من البشر... هذه ليست امرأة..وربما هي أكثر من ذلك بقليل ...دخلت في الشيخوخة ...وأصاب وجهها العنكبوت الزمني الذي يتغلغل في العروق والخلايا.
جلست وعيناها تتحرّكان بسرعة في كل اتجاه، بينما رأسها ثابت ويداها تفركان الهواء، هي أيضاً ترغب بالحديث معي.. هذا ما أدركته منذ لحظات، ولكنها تبحث عن موضوع.. وعن طرف خيطٍ تبدأ به سلاسل الكلام ...
ـ مازلتِ تريدين الذهاب إلى هناك ؟!
فاجأها السؤال ..وكأنها لم تتوقّع أن تنقطع كل تلك المسافة بثوان معدودات ...
ـ لا.
كانت جازمة، ومصرّة ..وواضحة في تلك الـ (لا).. ولكنها حزينة أيضاً، وكأنني سألتها هل مازلتِ ترغبين بالحياة ؟...
ولكنني قلت هل مازلت تريدين الذهاب إلى هناك ؟..وقالت لا ...
ومن أجل أن تخرج من ألم السؤال، نظرت إلى مدخل السرداب القديم..وإلى الحديد الذي يفصله عن البيت.. والتفتُّ إليها بسرعة ..
ـ وجدت نجيب .
صعقتْ زينب، وكأنها فوجئت بوجودها كلّه في هذه اللحظة.. وكأنها اكتشفت أن العالم يحيط بها لأول مرة منذ سنين طويلة.
كرّرتُ كلماتي ...وجدتُ نجيب ...والتقيته ..قولي لراحيل أنني عثرت على نجيب...
* * *
كان عشقاً مشتركاً بين الأختين.. واحدة تحب الفتى، والأخرى تحب الأرض التي ذهب إليها الفتى.. واحدة تفقد الفتى، والثانية تفقد الأرض التي ذهب إليها الفتى ...ولذلك فقد كانتا شخصاً واحداً... طفلتين سياميّتين..تعيشان منفصلتين.. دماغين مشتركين.. وروحين متعلّقتين بذات الفكرة.
* * *
ـ اذهبْ إلى جوبر يا إبراهيم ...عندما جاء الفرنسي لوران دارفيو ،الذي زار دمشق خلال رحلته الكبرى إلى الشرق الأدنى في العام 1660والتقى وقتها بجدي عزرا، كتب عن جوبر (تقع قرية جوبر على بُعد نصف فرسخٍ من دمشق، ولا يسكنها إلا اليهود دون أي اختلاط بقوم آخرين.
ولديهم هناك مغارة يقولون إن النبي إلياس اختبأ فيها عند هروبه من اضطهاد (إيزابل)، وهذه المغارة موجودة داخل كنيسٍ أثري ما زال قائماً هناك).. إن أحداً من اليهود لم يبق في جوبر منذ سنوات بعيدة، فكل سكانها الآن هم من المسلمين)..
قال إخاد هذه الكلمات.. وهو يحاول أن يدفعني لاكتشاف شيء جديد، ولكن ماذا أفعل بكل ذلك؟ أصبح وزنُ الوثائق أكبرَ من اهتمامي بها، ولستُ متفرغاً لكل هذا الهم.
حين تسلّلتُ قبل سنوات إلى مقبرة اليهود، ورأيت النواويس هناك وصوّرت شواهد القبور، لم يكن يخطر ببالي أن كلّ هذا سيحدث... كنت مهتماً بمعرفة مَن مِن يهود الشام قد تحوّل الآن إلى الإسلام؟.. وتتبعتُ مسارهم وتحولاتهم، لأعرف أن معظم من تحكّموا في مفاصل البلاد افتراتٍ طويلة، هم من يهود دمشق. هذه ليست نظرية مؤامرة، ولكنها وقائع، وتاريخ...حديث وقريب، ولا مشكلة في انتمائهم الدينيّ.. ولكنه ملفتٌ وغريب، ويستحق التوقف.
* * *
في الطريق إلى دير الملائكة في الجبال، حيث الثلج يصل إلى ارتفاع أكثر من متر وربع المتر.. ستسألني راحيل وزينب وإخاد ألف مرة.. لماذا نذهب إلى هناك ؟...ولن أجيب.. سأقول إن هناك ما أريد منهم جميعاً أن يروه.
* * *
غرفة حجرية منعزلة.. الطريق إليها يلتفّ بين المنحنيات الصخرية، وتحجبها الكتل أحياناً، وأحياناً أخرى تظهر عاريةً ككهف قديم.. بابها من خشب المشمش الذي حفره الرهبان بأزاميل الإيمان والمكابدة والزهد،تكاد شمس العصر تميل إلى الغرب أكثر.. أراها أفضلَ من أي وقت مضى على هذا المرتفع الثلجي... والثلج يشعّ ببياض لا يشبه شيئاً..
لا وسيلةَ سوى البغال يمكنها أن تحملنا إلى الأعلى...والثلاثةُ بصبر مفاجئ لي شخصياً..يمتطون تلك الصهوات المتهالكة... وينظرون إلى ما لا يراه الآخرون.
كادت أصوات حوافر البغال تصل إلى الغرفة التي لم تعد تبعد أكثر من عشرين خطوة... والباب المشمشي ينفتح بصريره العميق.. كأنه تنّفس بحّارٍ منهك، يجلس في حانة يخنقها الدخان في آخر العالم.
يظهر الطيفُ الأسود من خلف الباب، خلفه سوادٌ... وصخر وثلج...إنه الأب نجيب سركيس مقدسي.... المتوحّد والمعتزل في هذه الغرفة القديمة، منذ عودته بعد سنة 67 من أرض الرب والحرب والخراب.
* * *
لوهلة ظننت أنني إبراهيم الخليل ..وأنا أسيرُ وخلفي هذا القفلُ العبراني..أعبر بهم سراةَ عسيرٍ... واليردن... لكنني أفقتُ من ذلك الوهم...وعدتُ إلى المشهد بسرعة.
* *
ـ ما رأيكَ بالتغييرات؟!
ـ رائعة... كيف تمكنت من فعل ذلك بهذه السرعة؟
ـ لا تستهنْ بإمكانياتي... حفنةٌ من الليرات تأتي بحفنةٍ من الخبراء..ويصبح الإنسان على هذه الصورة..ليس الأمر معقداً..
ـ حتى أنني لم أعرفك للوهلة الأولى..
ـ هه ...نعم ...مع أنك صاحب الفكرة... الآن.. ماذا تشرب ؟..
ـ آآ ..شاي ..
ـ شاي...
ويشير إلى الرجل الذي يقف خلفه كظلّ حي.. فيذهب الأخير إلى حيث يجبُ أن يذهب.. ونبقى وحيدين.. أنا ورجلي الجديد...
* * *
نور لديها الكثير من النمش على صدرها الواسع... وهو يزداد أكثر كلما ذهبت للسباحة.. وهي تسبح كلّ يوم... في أقصى درجات الحرارة انخفاضاً... وتلعب اللعبة التي طالما سحرتني... الرقص في الماء ..
اليوم قدّمت لي الدعوة لشرب الفودكا في أحد المسابح الشتوية للمدينة، مياه دافئة... وتيارات صناعية.. ولا أحد سواي... أنا الذي أرتدي السواد بثياب ثقيلة... وحذاء من جلد الجاموس، جلبه لي أحد الأصدقاء من البرازيل.. وطاولة صغيرة معدنية، وغطاء أزرق ..وآلةُ (ووكمان) تدوّر أسطوانة موسيقى... ومنفضة.. وكأس من الزجاج الدمشقي الأزرق..أعرف من يصنعه ..أبو أحمد في باب شرقي.. وفودكا نقيّة بورزوي.. إنجليزية... مازالت رائحة سنابل القمح تنبعث من فوهة قنينتها...
على بعد مترين من الرجل الذي هو أنا، والذي يلفّ ساقاً على ساق..تبدأ بركة السباحة ذات الألوان الزجاجية أيضاً.. أزرق وكحلي.. وأخضر...وذهبي... ونور التي ترقص في الماء.. لا أرى رأسها.. تسبح بالمقلوب.. وساقاها تصنعان الزوايا مع الهواء.. وتدوران في الماء.. وفوقه..ثم تختفيان.. ثم تنقلبان.. دون أن يظهر الشعر المبلل بزيت وماء...
مع موسيقى شومان... والفراشات.. تتسارع حركات الفتاة الذهبية..ودورانها المدهش والإيقاعي.. تقف مع سكتات الآلات... والمياه من حولها تخفق.. مع الحركة...
* * *
أصبحتُ أكثر سطوة الآن... جميع شخوصي معي في المشي نحو الخاتمة..ولكن بم يختتم الذي يحدث؟! وهو الذي لا توقّف فيه ولا التفاتات... حركة دائمة وتغيّرٌ دائم... لا يمكنك أن تقطع خطاً مستمراً... حتى أنك لا تستطيع التقاط النقطة وهي ملايين النقاط... فهي خط إذاً.. ومن جديد... ولا خيارات لديك سوى الاستمرار.. كفعل مضارع.
* * *
ـ الآن ما هي الخطوة القادمة يا صديقي...
سألني محمد شوق.. وكان يتلهف لسماع الكلمات التي سأتلفظ بها..
ـ ستغيّر نمط حياتك... لم لا تفعل ما هو أحدث...؟..لا... ما هو أكثر من الحداثة.. وجدتها..(ما بعد الحداثة) ... ...ما بعد الحداثة هي المخرج..ماذا لدينا الآن؟..(بوستموديرنيست تيروريست)... هذه هي اللعبة.
ـ شو يعني ؟
ـ يعني الكثير ...أولاً غيّر لي هذا المكان الموحش...
ـ ولكن أنت تعرف.. حركتي هذه الأيام يجب أن تكون مدروسة... ولا يمكنني الظهور في الأماكن العامة دون حسابات...و..
ـ إلى مرمر ...
ـ مرمر؟
ـ بوب..ومشرب ومرقص في دمشق القديمة...
ـ ولكن.. آآآ.. لحظة..
كنتُ قد نهضتُ ولم يعد لديه مجال للمناقشة والاعتراض...
* * *
الأب نجيب سركيس... وقد أصبح بديناً وطيباً.. وبلحية بيضاء.. وثوب متقشف... وحبل يربطه حول خصره، لا يأكل إلا من صنع يديه..ويشرب النبيذ فقط في الصلاة... لا يمدّ يده إلى الكهرباء وأزرارها.. يوقد شموعه للعذراء والمسيح... وينام على مصطبة من حجر، عليها غطاء خفيف دون فراش.. أمامها طاولة من الخشب القديم.. ملأ الشحم شقوقها واسودّت مساميرها حتى صارت مثل مسامير صليب يسوع العتيقة.
حين رأت راحيل هذا الشبح الواقف بوداعة وسلام.... لم تتغيّر تعابير وجهها.. والعضلات التي تشد الجلد ظلت تشده بالقسوة ذاتها..
إخاد وزينب شهقا، دون أن يفتحا شفاههما... شهقا من الأعماق اليهودية، شهقا من كل ذرّات التراب المقدس...
فقط عينا راحيل أخذت تجوب المتر والستين سنتمتراً التي يحتلها الراهب من هذا الكون... تتفحّص كل ما ظنت به من ظنون.. تتفحص كلّ ليلة حلمتْ بعناقه والنوم معه... وتنشّق رائحته.... تتفحص مَن أرادت أن تبقى معه في أي مكان، وآمنت أن الأرض المقدسة هي الأرض التي تضمّه.
وهو لا يتوقف عن الابتسام و النظر بعينين تبشيريتين... حتى كدتُ أرى الحلقة المضيئة تدور فوق رأسه كما ترسم الأيقوناتُ القديسين.
كان هذا عندما كنا في الخارج، قبل أن ندخل الغرفة الحجرية.. حيث طاولة المسامير والشحم... وحيث كوّةٌ في عمق الغرفة يرتفع فيها صليب من نحاس عليه الفتى الذي قيل له يوماً، هل أنت قلت أنا ملك اليهود؟ فأجاب دون تردد ..أنا هو ...ولكنه كان قد سأل تلاميذه الإثني عشر قبل ساعات من ذلك ..سؤالاً سيبقى يتردّد إلى الأبد:
(من تظنون أنّه أنا ؟)
* * *
لحظة ...وآخذ بيدكِ من كل هذا التعب
أعودُ إلى الشمس التي تشرق فوق جلستنا ..
وإلى الزغب الأشقر خلف رقبتكِ ..
إلى زهور برية, على دفترك.. وعلى فستانكِ..
لحظة... وأعود معكِ..
ولكنني لا أعود أبداً إليكِ.
* * *
في مرمر سيكون منذر مالك المكان في استقبالي.. والضوء المتكسّر كأجساد الراقصين.. والبار الخشبي... والحيطان الخضراء.. والسلكان الكهربائيان العاريان الذين يمتدان في هواء مرمر.. بتحدٍّ لكل من يشرد لحظة عن مغازلة جارته... أو تدوير قطعة الثلج في كأسه... أو الغرق مع الـ (دي جي) الذي يضجّ بموسيقاه المكان ومن فيه...
خلفي يدخل محمد شوق.... وكأنه يدخل الدركَ الأسفل من النار، صبايا وشباب، نساء ومفاتن، ولكنه لا يقطّب حاجبيه... أراقبه جيداً..
نجلس حول أقرب طاولة... وحدنا... طلبت منه أن يُبقي المرافقَ في الخارج، ولكنني انتبهت إلى أن نبضه يتسارع، فقد بدأت قطرات العرق، تنزّ من جبهته.. وأخذ يوسّع قليلاً من دائرة ربطة عنقه حول ياقة القميص.
يأتي النادل.. أشير إليه بأن يحضر البيرة... فيسرع إلى وضع قنينتين ، عاتمتين وقصيرتين ومثلجتين، على الطاولة ...يستنكر محمد شوق بهدوء.. دون أن ينتبه إليه أحد... ولكنني أتجاهل استنكاره..
وأصبّ له من القنينة، في كأس عملاقة، وأتعمّد جعل الرغوة تتصاعد وتتصاعد من الكأس حتى تنسكب على سطح الطاولة..
هذا الرجل مندهشٌ تماماً الآن... ولا يعرف كيف يتصرف.. ولكنه ذكي، ويحافظ على رباطة جأشه وهدوئه، حتى لا ينتبه إلى ارتباكه أحد.
ومضى الوقت ونحن ننجدلُ مع الإيقاع والضوء.. وحركة الأجساد... لم نتحدث.. ولو تحدثنا لما سمع أحد منا ما يقوله الآخر.
* * *
اليوم يبدأ الشتاء الفعلي.. نحن في اليوم الأول من النصف الثاني من كانون الأول.. والخريف ينتهي، لا ورق أصفر أو أحمر، بعدُ في المدينة ولا على مشارفها.. لا زوابع.. ولا شمس حمراء تغرق في الغيوم...
الطير تسكن في الشقوق الخافية، والأصوات تصل في الليل... (كل ليلة وكل يوم ...أسهر لبكرا ..بانتظارك يا حبيبي ... يا حبيبي )
تمشي في ليل المدينة القديمة... رائحة العرق... في الأحياء المسيحية.. ورائحة البخور في الأحياء المسلمة ...رائحة الصمت في حارات اليهود..
(يا ترى ...يا وحشني ... بتفكر في مين ...وعامل إيه الشوق معاك ...وعامل إيه ويّا الحنين...)
الحب والوحشية... يرتبطان هنا.. في نقطة من هذا المكان.. تحت الأرض أو فوقها.. أو في شرخ بين صخرتين من جدار عتيق... العنف والشهوة..الحنين والنفور ...الضجيج والصمت ... الكلام والكتابة..الجنس والقتل ...الإرهاب والطيور ...والمياه الباردة المتفجرة من عروق دمشق.. ولهيب البشر ...
أصوات خافتةٌ من كل مكان.. ولكنك لا تسمع سوى صوت كعبكَ الخشبي..كعب الحذاء البرازيلي.. الذي يمشي على الحجر الأسود..
* * *
ـ أبونا... سنترككما قليلاً ..
ـ هذا أفضل ..
ونخرج أنا وزينب وإخاد... نمشي على الثلج هذه المرة، ونتجنّب الممرات الصخرية في أعلى الجبل... نعرف أن راحيل الآن في وضع لا تحسد عليه..كيف ستكلّم الراهب ؟.. وماذا ستقول له؟ وهل ستحاول لمس أصابع يده؟ هل سيتعانقان؟ هل ستجد من الكلمات ما يجعلها تتجرأ على سؤاله لماذا اختفى طيلة العقود الماضية ؟ ومادام في البلاد...لمَ لمْ يحاول الاتصال بها ؟...
إخاد شارد وزينب في تجهمها المعتاد... وأنا أسير على الثلج كريح خفيفة.. لم أكن أصدّق أن خطواتي لا تترك آثاراً على الثلج حين أسير عليه... انشغلتُ بالنظر إلى الخلف طيلة الوقت.. كي أرى.. هل فعلاً لا تترك خطواتي آثاراً وحفراً صغيرة على مسارٍ يتبعني؟..
* * *
9.
(سهران معاك الليلة ..مهموم وسارح بخيالي ...جربت سنين طويلة ..ما قدرن نشيلك من بالي...
سهران معاك الليلة ...
بنيت الفرحة بعيني وماني فرحان ...سهران معاك الليلة وماني سهران سهران معاك الليلة .......لا موني عليك صحابي ..وزاد كلام الناس..ضيعت معاك شبابي وشاب شعر هالراس ..حالف بعد السهرية نرجع لا باس )..
أغنية من المغرب ...مازلنا في مرمر ...والضباب ..كان يجب أن يخترعوا طريقة لإرفاق الصوت مع الكتب والروايات... كان يمكن لوصفي أن يكون أكثر حسية لو نجح ذلك ...
محمد شوق... بين كل هذا... جاءت صديقة قديمة.. .ممثلة شابة..سلمت عليّ وعانقتني... واقتربتْ كي تسلّم على محمد شوق.. كان سيتخذ وضعية السلام الإسلامي بوضع كفه على صدره.. دلالة على أنه متوضئ... ولكنه تدارك نفسه.. ومد يده بالمصافحة.. قلت لها أن تجلس.. ترددت قليلاً ولكنها نظرت إلى صديقي.. وجلست.. يبدو أنه قد أثار اهتمامها... لا بأس...
* * *
ماذا علي أن أفعل؟...يظنون أنني يهوديّ.. وأنا غير مهتم بكل ذلك.. كانوا يظنوني مسلماً متديناً... وكثيراً ما اعتقدوا أنني قد عُمّدتُ في دير قديم... كل هذا غير مهم... يجب التخلص من الثياب القديمة واستبدالها بالجديد باستمرار... هكذا تتغير الأحوال النفسية...
* * *
(لا يمكن التعبير عن العقيدة إلا في حالة التمكين.. والهيئة الشرعية من ظواهر العقيدة.. ولذلك فإن تبيانها في حالة عدم التمكين هو تعريض لها للأذى والإهانة..)
أصبح محمد شوق يتحدّث هكذا حين يسأله أتباعه عن تغيير هيئته..وصار يفلسف الأمر، وينظّر له.. جيّد.. إنه يلتقط المفتاح... الآن..
انتبهْ... علينا أن ننقلك إلى مربّع آخر في الرقعة، وعليك أن تطلق تصريحات جديدة.. وتظهر نشاطاً جديداً..
ـ كيف؟
ـ الفن..
ـ الفن؟!!..يعني الرقص والمساخر..؟!!
ـ لا ..أقصد الفن ...الفن الحقيقيّ.. وإن كنت أعتبر الرقص ليس من المساخر كما تقول.. ولكن ما عنيتُه أن تتحدّث عن الفن.. وتكتب في ذلك..وتبدي اهتماماً أوسع... يجب أن تنتبه إلى أنك الآن لستَ إرهابياً..أنت رجلٌ عادي.. وشخصٌ جذاب كما يفترض من يراك.. ألم ترَ كيف اندفعت تلك الفتاة باتجاهك؟..
ـ نعم رأيت ..قاتلها الله ..(يقولها بصوت خافت كي لا أسمع)
ـ ماذا !!
ـ لا .. لا شيء ...كنت أتذكر تلك الفتاة .. كانت جميلة حقاً ..
ـ حسناً ..الآن ستعقد لقاءات مع فنانين وممثلين إذاً..وستعرض عليهم دعمك المادي والمعنوي... أنت لست شخصاً عادياً... ثم إنك بحاجة إلى دكتوراه من أي مكان..
ـ إبراهيم... لماذا تفعل كل ذلك ؟.. لماذا تساعدني ..
ـ ألم تطلب مني مساعدتك؟
ـ لا ليس هذا هو السبب... لم تكن متحمساً عندما أخبرتك أول مرة..
ـ بصراحة أعجبتني اللعبة.. تحويل.. وتغيّر... ونتائج غير عادية.. كم مرة برأيك ممكن أن يحصل حدثٌ كهذا في حياة المرء ؟...
ـ معك حق ..
ـ حسناً ..قل لسائقك أن يوصلني الآن.. ونلتقي فيما بعد.
* * *
نور ترقص (باليه المياه)... وترقص من جديد.. ومن أجلي.. تخرج من الحوض، بقطراتها التي تنهمر من كل جسمها الذهبي، إلى كأس الفودكا مباشرة...ثم تعضّ قرص الليمون... وتقترب بشفتيها وبعينين مغمضتين.
* * *
ـ لن أخبر أخَوَيّ...سأخبركَ أنت.. لأنك أنتَ من أعاد لي نجيب...والآن لست بحاجته.. عمري يتجاوز الخمسين بخمس عدات... ولكنني استطعت أن آخذ نطاف الراهب معي... عدتُ بها من هناك.. وليبق هو مع إنجيله...
ـ إلى أين ؟
ـ في الوقت المناسب... إلى هناك.
* * *
ـ أنا من أرسلت لكَ تلك الرسالة ...
ـ أية رسالة؟
ـ الرسالة.. من صفحتين.. ألا تذكر ؟
ـ لا.. لا أذكر ..
ـ حين كتبتَ في جريدة الدومري عن المخلوقات الغريبة التي تخرج من قاع المدينة القديمة..
ـ آآآه ..نعم ..رسالة التهديد!!..
ـ نعم.. كنتَ وقتها تحاول البناء على إشاعةٍ ظهرتْ في الحارات.. أن حيوانات وفطور ورخويات غير عادية، تنمو بأحجام كبيرة تحت قاع المدينة القديمة... بسبب التلوّث.. ولكنك كتبت عن ذلك وضخّمته..وخصصتَ الحوادث في حاراتنا...
ـ وأنت أرسلت لي تهديدات بأنك ستعمل على القضاء عليّ وعلى الجريدة... لأنني أحاول تطفيش ما تبقى من شعبكم.. وإحلال جرذاننا من العرب كما قلت.... كيف تجرؤ على وصفنا بالجرذان...؟
ـ كنت أستفزّك كما تستفزنا ..
ـ لم أقم باستفزاز أحد ...
ـ بلى قمت... كنت أقرأ بين السطور.. كان ذلك واضحاً... ولكنك كتبتَ الريبورتاج بذهن شيطانيّ... هل أنت يهودي يا رجل ؟...
يريد إخاد أن يضحكني...بسؤاله هل أنت يهودي.. ولكنني لا أعرف تماماً من اليهودي الآن.. حين أعددت هذا التقرير، كنت أرغب بتحريك العلاقة بين الشارع الراكد والإعلام الخاص.. وهو ما حدث، حين اكتشفت أن هناك شهود عيان لقصة غير حقيقية، لم يمضِ على نشر خبرٍ عنها سوى أيام.. من جهة أخرى فكّرتُ بأن المكان الذي يشدّني دائماً يجب أن يفعل ذلك، مع آخرين أيضاً، ولكن هناك الكثير من الممنوعات، حسناً.. ولم لا نثيرها جميعاً ؟ تحدثت في ذلك التقرير عن الذين دفنوا النفايات الكيماوية في الأراضي السورية، وأفرغوا حمولات بواخرهم من النفايات في المياه الإقليمية، فعلوا ذلك بجرأة لأنهم أبناء أحد المسؤولين الكبار.الذي انشقّ فيما بعد، وأصبح من المعارضة!! تحدثت عن البيوت المهجورة في الحارات.. وعن درجة التلوث في المدينة القديمة التي بلغت ثلاثمائة بالمئة.
ـ موضوع قديم.. لمَ تفتحه معي الآن ؟
ـ أردت أن أستردك من شرودك.. فيمَ تفكر ؟
ـ نور ....
ـ نور ؟...من نور ...؟
ـ لا أعرف ..أفكّر أيضاً بمحمد شوق..
ـ من محمد شوق هذا أيضاً ؟
ـ وبراحيل وزينب...
ـ راحيل ؟...وزينب ؟...من هؤلاء ؟
نظرتُ في الظلّ الذي يلقيه جسده خلفه على الحائط الحجري.. وقلت كلامي الأخير ..
ـ أفكّر في إخاد..
ـ إخاد!!!
ما كل هذه الأسماء...؟.. هل تعرّفتَ على هؤلاء الناس دون علمي..؟
من إخاد هذا أيضاً ؟... وما هذا الاسم الغريب..إخاد ؟
* * *
يغيب محمد شوق عني ، يختفي ثلاثة أشهر، أسمع خلالها أخباره من الصحف والمحطات الاجنبية، النيويورك تايمز تجري معه مقابلة بعنوان (بوستموديرنيست تيروريست).. هذا التعبير من اختراعي!.. لابد أنه أعطاه لهم، إنه يتحدث عن الإخاء العالمي، والتعايش، والموسيقى، والرقص!!
* * *
أبحث عن ليندا، أنزل الدرجات بسرعة إلى القبو المؤدي إلى عيادة الطبيب قرب المشفى الفرنسي، أفتح الباب في التاسعة صباحاً..
ليندا... إنها تنتظرني..
ـ إمشي..بسرعة
تمسك يدي وتنهض وهي تعلّق حقيبتها على كتفها العارية.
* * *
ـ أعطني سبباً واحداً ...يجعلك غير مهتم بي... سبباً واحداً..
قالت نور ذلك وهي تغلي القهوة، وتحضّر فنجانين من فخار غير مطلي، قالت ذلك وانتظرتْ أن أجيب دون أن تركّز عينيها الذابلتين نحوي، مع أنها لو فعلت لاضطررت للإجابة... ولكنها لا تريدني أن أجيب، تعرف أصلاً أن سؤالها غير مناسب.. من قال أنني غير مهتم بها ؟.. كيف يعني يجب أن تعتبرني مهتماً ؟... ماذا أفعل ؟..
ـ لا أشرب القهوة نور ..
ـ بعرف... والله بعرف.. مو إلك القهوة أصلاً..
ـ لمين ؟
ـ لي أنا... أنا سأشرب فنجانين ورا بعض... منيح ؟.. ارتحت ؟...
أوف.. بدأت المشاكل.. من الرقص تحت المياه حتى القهوة الإلزامية...
ولكنها تترك من يدها الركوة والملعقة، وترمي نفسها إلى صدري... وترتجف كشجيرة كرز وسط عاصفة.
* * *
ـ خذيني إلى بيتك ...
ـ لا ..سنذهب إلى السينما ...
ـ سينما ..!!
ـ فيلم جديد ...يهمّك ..
ـ شو هو ؟
ـ (مملكة السماء ) ..صلاح الدين ..والقدس ...غسان مسعود ...
ـ آآ..ريدلي سكوت ...أفضّل (آلام المسيح) ...
ـ ولكن هذا فيلم قديم الآن ...
ـ لا ليس قديماً .. هل تفهمين ما يقولون دون ترجمة ؟..
ـ لا طبعاً ...يعني قليلاً ..
ـ خلاص.. هذا يعني أننا يجب أن نشاهد الفيلم مرة أخرى.. ومرات ومرات... عندما لا نفهم.. فإن الأمر يعني أن هناك أسراراً يجب أن يكتشفها أحد... لم لا نكتشفها نحن ؟
ـ يا سيدي.. خلاص.. لنكتشف.. أين يعرض الفيلم ؟.. في أي صالة ؟
ـ ولا في أي صالة ..
ـ طيّب !!
ـ عندكِ في البيت ...
ـ يعني مصرّ على البيت...؟... خلاص.. نذهب إلى البيت ..
* * *
في الليل.. وآخره.. أفكّر في أمور كثيرة.. وأقول يجب أن تكتب.. ولكنني لا اكتبها ليلاً.. اللعنة على الكيبورد... نسيت الكتابة بالقلم... لا أكتب بالقلم سوى المقاطع الشعرية، أما السرد والحكايات والمقالات فأعجز عن تدوينها بأول مخلوقات الرب.
حاولت ولكنني لم أنجح، ولذلك فإن معظم ما أكتبه الآن هو ليس سوى جزء صغير مما فكّرت به أمس.. ليلاً.. وقد لا يكون هو ذاته، يأتيني إخاد في منتصف النهار، ليأخذني معه في رحلته الدمشقية، وهو من في النهاية؟ يهودي أشقر ! ماذا يعني ؟ ليس أنتوني هوبكنز ولا بسام كوسا، والحديث معه ليس ممتعاً، وباعتباري غير معاد للسامية، فإنني لا أجد فرقاً بينه وبين أحد آخر.. وفي الوقت ذاته، أنتبه إلى يهوديته... أردت أن ألتقط لحظة واحدة.. واحدة فقط كان فيها غير متيقظ وغير حذر... ولكنني أيضاً عجزت عن ذلك ..
ـ المرهقُ أن تبقى يقظان طيلة الوقت ...
ـ (تنام عيني ..ويبقى قلبي يقظان) ألم يقل نبيّكم محمد هذا الكلام ؟
ـ يا أخي توقف عن التفكير... لم لا تحب الشرب ؟.. أو الرقص ؟..أو الكتابة ؟... أو الحب ذاته ؟.. لم تحدثني عن أية حبيبة مرّت في حياتك!
ـ حقاً ! لم أحدّثك عن أية حبيبة.. ولماذا أحدّثك عن ذلك ؟..أليس أمراً خاصاً ؟...
ـ مدهش ..أنت الآن وفجأة تضع حواجز بيني وبينك ...
ـ ليست حواجز ...إنها خصوصيات ..
ـ ولماذا حدثتك عن ليندا ونور ...وعن كل شيء ..؟
ـ أنت اخترت.. هل طلبت منك ذلك ؟
ـ لا تتكلم عن أي شي ...أصبحتَ مملاً ...لقد قلبتَ علاقتي معك بطريقة يهودية فعلاً.. أنا من يلاحقكَ الآن.. مع أنك كنت تلاحقني..
* * *
ستنفتح كل تلك الحدود، وتعود البربرية... ربما كان تصوّرهم عن العالم الجديد يلتقي مع التصور القديم عن العالم... في آخر الدائرة.. قبائل وأديان وتماثيل.. كلّ ذلك يتجاور.. هذه هي... (التجاور) هو الحل، وهو الشكل الأعلى والأكثر تفوقاً للحياة، كما تتجاور عناصر اللوحة في شاشة ما بعد الحداثة، وفي النص ما بعد الحديث، كما تتجاور التكوينات الإليكترونية في الرقاقة الذكية..
ما هي المشكلة الآن ؟
إنه الصراع على الميراث.. مَن يرثُ الوعد المقدّس؟... من يرثُ ليندا؟.. ونور..؟.. و الأرض؟.. والمدينة القديمة؟... المال غير مهم.. الأهمّ يكمن في الصورة، من يجلس إلى جوار الرب..وعن يمينه ؟
كان هذا كلامي... و محمد شوق مشغول بتأويله..
ـ أنت نبيّ... هل قال لكَ أحدٌ هذا الكلام من قبل ؟
ـ لا... هه... طبعاً لا.. وخاصةً أحدٌ من طرازك ...
ـ لا.. أتكلّم بجد ..
ـ يا رجل... نحن نثرثر...
ـ وحقّ من منحني هذا النّفَس وهذه النّفْس.. أنتَ نبيّ...
ـ ولكنني لم أبلغ الأربعين بعد... ولم أتلقَ أية رسائل من فوق الغيوم!
ـ لا يهم... ليس ضرورياً أن يصدّقكَ الناس.. ولكنك تستطيع أن تعتبر نفسك كذلك من هذه اللحظة.. لطالما أحسستُ أن جدّك إبراهيم الخليل يتقمّصك ... يسكن في ... وأنت تمشي على خطواته..
ـ يا محمد شوق... (أبو المحجن)... لا تعبث معي بالتخاريف.. لنغيّر الموضوع..
ـ لم لا تفعل شيئاً ؟!
ـ كيف؟.. شيئاً مثل ماذا ؟!
ـ لا أعرف.. دعوة.. أو رسالة... أو أي شيء..
ـ أنا ذاهب... يبدو أنكم تهلوسون في مرحلة من عمركم ولكنني لم أتصوّر أن هلوساتك ستأتي مبكرة هكذا..
ـ يا إبراهيم... لم لا تكون نبياً... صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا نبي بعدي) ولكنه لم ينكرْ أنه سيكون هناك أنبياء كذابون..كنْ نبياً كاذباً ...
ـ نبي كاذب!!! هل شربت شيئاً الليلة.. لم أنصحك بالمخدرات والحشيش.. قلنا غيّرْ هيأتك وسلوكك ولم نقل حلّق في سماوات الخيال.
ـ صدقني سنستفيد من ذلك جميعنا... سأجد موضوعاً جديداً... وستصنع ظاهرة.. يمكنك اللجوء إلى الولايات المتحدة أو إلى بريطانيا مثل سلمان رشدي لعنه الله... وبعدها سنجد حلاً...
ـ أنت مجنون أكثر مني... حلْ عن سمانا ياه... نبي كاذب!! باي..
* * *
كان يجب أن أغيّر في أسماء أشخاصي، وكان عليّ أن ألاحق تنفسّهم ونبضاتهم، بعضهم تركته، كما هو.. بانكسار حنجرته، وبعضهم وتّرتُه..وعقّدتُ تكوينه، آخرون كان تدخّلي في حياتهم، مدمّراً.. وكثيرون دفعتُ بهم نحو هاويتهم.
* * *
وماذا تريد مني الآن؟ بعد أن فعلتَ ما فعلتَ.. بكل هيأتك.. وبمقاديرك.. وبأوزان الحديد التي تحمل في كفّتك.
ماذا بعد؟ أنتَ الآن في مدار آخر... والقابالاه تقولُ لك إنّك عائدٌ إلى الحركة، هل الحروف تعرف عنك ما تعرفه الأرقام؟ تعرف جيداً ..أنا متأكد من ذلك... لستَ جوّالاً تعبر على الأحداث والأمكنة...
لكن الطير الأزرق الذي يخفي أجنحته الكبيرة خلف ظهرك، سيفعل ما تأخرتَ في فعله، مثخناً بجراحه، مبلّلٌ ريشه بالماء القديم الراكد، وصيحاته العميقة شهقاتٌ تتكرر بين الثانية والثانية.
* * *
تعود إلى دمشق، كشهابٍ يعبر ليلَها، دون أن يشعر به الآخرون، تعود إلى الظنّ والحركة، وتعود معك الأشياء إلى دورانها في صورة ماكرة، حاملاً سبب التحوّل الدائم، دون أن يتحوّل فيك ما يتحوّل في الآخرين.
أمطرت هذه الليلة... ومحمد شوق الذي بدأ يتحدث عنه الناس في كل مكان، وكأنه مخلوقٌ جديد من مخلوقاتك، يسير على الرسمة التي وضعتها له، إخاد يتكسّر كتمثالٍ من شمع يابس..يتفتّت بين أصابعك..هربتْ أخته بنطاف الراهب.. والأخرى عثر عليها الجيران متكوّمة خلف الجدار المتهاوي في زاوية بيتهم.. والرغوة البيضاء تتفاور من فمها.. سمّمتْ نفسها بسمّ الجرذان الكبيرة التي تحمل طاعون القاع في مدينة الانتظار.
ليندا تضيع بين التشكيل المديني لدمشق، ليستْ يهودية الآن.. وليست أي شيء آخر.. تتوهج في قبو الطبيب.. قرب المشفى الفرنسي في القصاع،تتقمص شخصية الـلاتينا... كأنها قادمة من هناك هذه المرة.. من ريو دي جانيرو... أو من كراكاس..شهيّة ونابضة... وعيناها تتوهجان كل يوم أكثر من ذي قبل.
نور لا تأتي الآن ولا ترقص في الماء... ولا تقلّد لي حركات الشخوص المرسومة على جدران الكنيس في دورا أوروبوس.. لم أبحث عنها.. يكفي أن أعرف أنها في بازلت المدينة... في القطع الصغيرة التي تتجمع وتتفرق لتصنع المتاهات.
* * *
10.
أمضى إخاد يوماً كاملاً في البحث عني... كنت أرى لهاثه في الماء... وأعرف أنه يدوّر عينيه في كل حارة ومقهى.. يمشي كناسك، أو كرحالة أو كمكتشف... يريد أن يراني هذه المرة لسبب جديد.. وطارئ.
* * *
ـ ألو ..
ـ ألو ..
ـ السلام عليكم ..
ـ وعليكم السلام ..
ـ كيف الحال ؟
ـ ماشي ..وأنت ؟
ـ أنا بخير ما دمتم بخير.. لماذا لا تسأل عني ؟
ـ أنت لا تجيب على اتصالاتي... اتصلت بك مرتين ..
ـ كنت محتجزاً...
ـ محتجزاً !!
ـ نعم
ـ أين ؟
ـ عند قوات التحالف.. عند الأميركيين..
ـ ماذا تقول ؟! كرّرْ ما قلت ..
ـ سأرسل لك السيارة.. وأقول لك كل شيء.. أين أنت ؟..
* * *
ـ أنا مضطر للذهاب إلى هناك ..
قال ذلك إخاد، وهو يمسح عرقه عن جبينه.. وتذكّر ...
ـ هذا أيضاً جبين يا جبين.. ولكنه جبين متصبّب.. متفصّد.. كان نبيكم محمد يتفصّد جبينه عرقاً حين يستقبل البث الإلهي.. الوحي ...
ـ إلى أين ستذهب ؟
ـ إلى هناك ...لا أريد ذلك ..ولكن يجب أن أذهب ..هناك ما ينتظرني هناك ...لا أعرف بالتحديد ماذا يجب أن أفعل هناك.. ولكن هناك ما ينبغي أن أفعله..
ـ وهل ستترك دمشق؟
ـ لست أنا من يتركها... هم يبعدونني عنها...
ـ من هم ؟
ـ الجميع..
ـ وماذا تريدني أن أفعل ؟
ـ أنا أعرفك منذ سنوات.. وأنت صديقي الوحيد... أرجو أن تتفهّم ما سأقوله لك.. أريد أن أترك عندك ما لديّ... وديعة... ستعيدها إليّ حين أعود..أولاً..هذا المفتاح ...مفتاح بيتنا ...لن أبيعه ولن أوكّل الجاجاتي رئيس الطائفة به... سأتركه عندك.. بإمكانك أن تسكن في البيت..ويمكنك أن تتركه إذا شئت كما هو حتى يحصل أي شيء.. ولكن لا تسمح لأحد بالدخول إلى البيت والعبث به وبمحتوياته..
ـ وثانياً ؟...
ـ ثانياً ...ستذهب معي لنسدّ الفتحة التي تؤدي إلى السرداب... لم يعد هناك من يعرف بأمرها سوانا... بعد رحيل البنتين...
ـ إخاد.. أنت تعرف أن أمراً كهذا سيجعل مني شخصاً... آآ.. وما الذي سأفعله بحملٍ كهذا ؟ مفتاح بيت يهودي في قلب دمشق... الله الله... زائد... سرٌّ بدفن مخطوطاتٍ وكتب وأدوات في قبو حجري عمره خمسة آلاف عام ؟ هل أنت بوعيك الكامل؟!
ـ وما الذي سيحدث يعني؟ لا شيء... الأمر بيننا.. أنا لن أخبر أحداً وأنت لن تفعل...
ـ وما أدراك أنني لن أفعل...؟... هل تتوقع مني أن أجلس هكذا صامتاً وفي جعبتي حكاية كهذه؟ ... ثم لماذا لم تفعل كما فعل جيرانك.. أغلق الباب وضع له قفلاً كبيراً من الحديد.. وارحلْ.. وافعل ما شئت ببيتك قبل ذلك... أغلق فتحة.. افتح باباً.. هدّم حائطاً... ما ضرورتي في سيناريو من هذا النوع؟
ـ أنا أرى أن الأمر ضرورياً... أرجوك... لبِّ لي هذه الرغبة...أرجوك...
ـ لا تفعل ذلك... لست مضطراً لرجائي... ولكن لا تعتبره سرّاً بيننا..قد يحدث أي شيء وأبوح به بكل بساطة...
ـ حسناً.. أثق بك.. وأثق حتى بخياناتك وأعرفها جيداً.. هيا بنا ..
ـ إلى أين ؟
ـ إلى الحارة ...
* * *
العبقري الآخر ينتظرني في مكان ما... تأخذني السيارة الجديدة من طراز ألتيما، إلى حي شعبي... تدخل في الحارات والشوارع الطينية.. رائحة الفقر تفوح من المكان... وقد أصبحت جدران البيوت بلا طلاء.. مجرّد بلوكات متراصة بشكل فوضوي... أجلس في الخلف.. أدخّن سيجارة ثالثة... والموسيقى التي يضعها السائق هذه المرة هي مقطوعات (ياني) المدهشة!!.
نصل إلى الموقع المطلوب، بيتٌ من ثلاثة طوابق، بمساحة غرفتين فقط، وطابقين يصعدان على ظهره الغرفتين، يقول لي السائق أن أتفضل.. وأدخل قبله من الباب الضيق، نصعد الدرجات إلى الأعلى.. إلى السطح المكشوف المسوّر... أكثر من مائتي شخص يجلسون على الأرض.. وفي صدر المكان يجلس محمد شوق بأناقته حديثة العهد.. وموبايلاته الثلاثة التي يعبث بها على الوسادة التي يضعونها أمامه، ينهض فينهض معه المائتان.. يستقلبني معانقاً، فترتسم الابتسامات على وجوه الجميع.. وانحناءات الرؤوس المحيية، بلحاها التي تتجه إلى الأسفل كالمقرنصات القديمة.... جلست قرب الشيخ البوستموديرنيستي.... تابع حديثه :
(ولذلك أفتيتُ بعدم جواز الاشتراك بالأحداث العراقية... هذا شأن يخصّهم... وجهادنا يكون في مظاهر أخرى من حياتنا...)
رفعتُ حاجبيَّ وأنا أسمع... إنه يغيّر أقواله، لا بأس... لنسمع ما سيقول..
( هل لدى أحدكم أية أسئلة ؟)
ينهض رجلٌ في أواخر الخمسينات من عمره، مستأذناً بطرح سؤال.. يأذن له محمد شوق بإشارة مستخفّة من يده...
( مولانا... ما حُكْمُ التعامل مع الذين كفروا؟ .. سواء من أهل الكتاب.. اليهود والنصارى أو من غيرهم؟)
يقطّب محمد شوق حاجبيه... ويجيب بصوت رخيم دون أن ينظر حتى إلى من طرح السؤال..
( من أنت حتى تقول الذين كفروا؟ من أنت حتى تسمح لنفسك بتكفير الناس؟ ...لا يحقّ لمسلم أن يكفّر مسلماً... ولا يحق أيضاً لأحد أن يتهم الذين أوتوا الكتاب من اليهود أو النصارى بالكفر.... إنهم مثلنا.. ولكنهم على دينهم.... ينحرف بعضهم كما تعلمون... ولكن هناك فئة منهم على المحجّة البيضاء ما زالت...)
قلت في نفسي إن هذا الرجل جنّ بكلّ تأكيد... إنه يتغيّر كليّاً.. ليست هذه طروحاته عندما كان يعرض للمصلين سيديّاتٍ تصوّر كيف يتم تمزيق لحم المسلمين في باتشيه في إندونيسيا... ليس مجنوناً... هذا رجلٌ آخر؟..يتابع كلامه...
( اسمع يا أخي... ورد في الحديث الشريف أن الرحمن بعد أن يحاسب البشر كلّهم... يشفّع في أهل النار الأنبياءَ.. فيُخرج بشفاعتهم من النار أناساً ويدخلهم الجنة، ثم يشفّع الملائكة فيخرج بشفاعتهم أناساً ويدخلهم الجنة... ثم يحثو بيده في النار ثلاث حثوات... ويمكنكم أن تتخيلوا حثوة الرحمن... وهو يدخل يده في رماد جهنم وجمراتها الهائلة.. ويخرج خلقاً ويدخلهم الجنة... يُكتب على جباههم عتقاء الرحمن.. وما أدراكم.. أنه برحمته قد يُخرج البشر كلّهم من النار فلا يبقى فيها أحد؟... كيف تقول كافرين؟ ...استغفر الله يا أخي.. ولا تكفّرْ أحداً )
ليته كان صادقاً... وليت هذا الكلام يقال كل لحظة، إنه ينهض الآن.. ينهضون معه... قومةَ رجل واحد... أنهض أنا أيضاً... نخرج إلى السيارة من جديد... يودّعونه ويودعونني معه دون أن يعرفوا من أكون، نجلس في المقعد الخلفي وينطلق بنا السائق... بعد شوارع قليلة.. يطلب محمد شوق من سائقه أن يذهب إلى بيته.. يقول إنه يودّ أن يقود السيارة بنفسه... نغيّر جلستنا... ونبقى هو وأنا وحدنا...
* * *
أدخل في المدار الخامس... في لون جديد... في منطقة زمنية مختلفة.. في رحلة تبدأ الآن... بلا أية حركة... يبدو الأمر وكأنه تحولٌ.. أو انبثاقٌ جديدٌ لفكرة.. ورغبة... وشكل جديد... قسوة من نوع آخر... أحلام مختلفة... ومعايير مختلفة.. قيم جديدة... هواجس جديدة... كوابيس جديدة... لغة جديدة... كل شيء يتغيّر...
* * *
ـ كنتُ في طريقي إلى شمال إفريقيا، وتوقفتْ طائرتي في إحدى العواصم، لا أريد أن أذكرها لك الآن.. حتى لا تندهش أكثر... وقد....
ـ كيف لا تريد أن تذكرها لي الآن؟ ..وماذا سيحدث إذا ذكرتها؟
ـ حسناً.. حسناً لا تغضب.. إنها الرياض..
ـ ok..
ـ كان التوقف مؤقتاً.. وكنا سنُكمل الرحلة بعد قليل.. ولكنهم أنزلوني من الطائرة وقالوا إنني يجب أن أرى الضابط المسؤول عن أمن المطار.. بعد دقائق جاء الضابط.. وقال.. دكتور محمد شوق.. أرجو أن لا تكون متضايقاً ولكن يجب أن نجري بعض التحقيقات...
ـ ولم تتابع الرحلة..؟
ـ طبعاً لا.. أخذوني إلى أحد المقرّات الأمنية... وهناك عرفتُ أنني على قائمة المطلوبين... وبالتالي فقد وقعتُ.. وانتهى الأمر، نُقلتُ إلى سجن الحاير قرب الرياض.. وقال لي مدير السجن.. يا شيخ.. يجب أن تعلم بشيء حتى لا تتدهور حالتك النفسية.. من يدخل هذه الأيام إلى سجن الحاير... لا يخرج سوى إلى أحد مكانين اثنين فقط... قلت وما هما ؟ قال إلى قبره....أو .. إلى غوانتانامو!!
* * *
إنه ابنُ الشيطان... كما أنه أيضاً ابنُ الإنسان... وما الذي قد يفيده خياره ذاك أو خياره هذا؟
ليست لعبة اختيار... ولكن يتذكر الواحد الفكرة... الشاذلي الكبير...
(كُنْ مع الاختيار واخترْ أن لا تختار )... هذا متعِبٌ جداً ...
متعبٌ... وغير طبيعي.
* * *
موسم جديد من الأفكار.. هذا العام أصبحت اللعبة مختلفة.. ولكنها أكثر إمتاعاً... من نحن حتى نكتفي بما نعرف؟
هذه الليلة سيحدث شيء مثير.... قبل الفجر... قبل الشمس.
* * *
إخاد حضّر كل شيء.. لوحاً رخامياً بمساحة مترين... كلس واسمنت ومسامير ضخمة ...أدوات ...وكان أيضاً يتكلم وهو يعمل ...
ـ كان يهود دمشق معتادين على إخفاء مخطوطاتهم ووثائقهم في قبّة في جوبر.. أيام زمان... وكانت القبة مفتوحة من الأعلى فقط ...الآن لا يمكن فعل ذلك.. أصبح الاعتداء على الخصوصيّة عادة مألوفة.
ـ ولكن أين ذهبت مخطوطاتكم التي تقول إنها خبئت في قبة جوبر...؟
ـ لم تذهب إلى أي مكان... موجودة حتى يأتي وقتها..
ـ إخاد... دعني أساعدك.. هذا اللوح الرخامي ثقيل...
ـ نعم... هو وما خلفه الآن...
* * *
ولمّا كان على اليهودي أن يخرج من عالمه المألوف، تراءى له أنه يجري في ممرٍّ قديمٍ بين أحجار قديمة، ولمّا كان عليه أن يترك كل ما لا يمكن حمله إلى هناك، لم يحمل معه سوى مخطوطاته العتيقة التي دوّنوا عليها ما سيحدث هنا وهناك وفي كل الأمكنة.
* * *
دفعتُ اللوح مع إخاد، وأغلقنا النافذة التي تفضي إلى العالم المرصود، الذي سيعودون إليه حين تشاء أقدارهم ومواقيتهم.
* * *
ـ تم استبدالي بأربعة وثلاثين من خيرة المجاهدين..
ـ من الذي استبدلك؟
ـ الطرفان
ـ الطرفان!!
ـ و...عدت.. وها أنا ذا أمامك الآن... والآن؟ ...ماذا سنفعل؟
ـ ماذا سنفعل بماذا؟!
ـ كيف سأصبح نجماً من جديد؟!
* * *
لم أعد أطيق التحضيرات التي اتخذها أبطالي لإغلاق الدائرة، ولا أريد أن أتدخل أكثر، إنهم يسألون عن المصائر، وكأنهم بلا وعود مسبقة، بلا خطة مرسومة، و يسبحون في الماء الذي يروي عنهم ما يروي.
ليندا الوحيدة التي ما زالت تمسك بالورقة التي لا تتمزق، وتفعل أشياء كثيرة وهي تساعد الطبيب في العيادة السفلية، أشمّ رائحة رجالٍ كثيرين كلما اقتربت مني، وأشعر أنها في مسارها تتآكلُ كيهودية تتقدّم بها السنوات، إخاد سيختفي الآن... والشيخ المتحوّل سيختفي هو الآخر في أطوار أخرى... نور لا ترقص على الماء... وليلُ حارة اليهود يزداد هدوءاً ووحشة وتشتعل بيوته القديمة بالأسرار واللعنات.
* * *
11.
أين أنا؟
على بعد خطوة من الغراوند زيرو... نيويورك.. مركز التجارة العالمي..الناس يتجمعون أمام الصور المعلقة على السور الوهمي للمساحة التي كان يعلوها البرجان العملاقان قبل صبيحة 9/11 في العام المشؤوم 2001... مازال الرماد يتصاعد... ومازلت أسمع دوي الانهيارات، أصوّر بكاميرا الفيديو كل ما يمكن أن تقع عليه عيناي.. ماذا تقول العجوز الواقفة هناك؟
ـ نشكر الربّ. .أن هذا المبنى لم يهتزّ.. ولم يتعرض لأي أذى في ذلك اليوم..
ـ أي مبنى؟
ـ هناك.. أنظرْ... ألا ترى ذلك المبنى الذي ينفرد أمامه المقبرة الصغيرة؟
ـ نعم... إنه قديم..
ـ إنه أقدم كنيس في نيويورك.. هنا كان يتأمّل الرئيس..
ـ الرئيس؟
ـ نعم رئيس الولايات المتحدة... عندما كانت العاصمة نيويورك قبل أن يعطوه مقاطعة واشنطن... نشكر الرب..
ـ نعم نشكر الرب!!
* * *
في الغابات التي تحيط بسياتل في أقصى الغرب على الباسيفيك... وبين الجبال الرمادية.. حيث يلتوي الطريق مبتعداً عن مايكروسوفت، يختبئ بيت روبن.. الصوفية التي تجلس أمام نهرها المتسارع وتتأمل في فكرة أننا كنا سنكون في ورطةٍ لو لم يكن هناك طبيعة!! ولو لم تكن هناك أرض!!
روبن تزرع الحبوب.. والبندورة.. خلف سياج صغير وهش.. وتحدثني عن الدبّ الذي يزورها كل ليلة ليعبث في صندوق قمامتها.. إنه يدهس المزروعات بقدميه الضخمتين، والمشكلة تكون أكبر حين يأتي الوعل بقرنين مخيفين...
ـ هل تصلّي معنا ؟
ـ كيف تصلون؟
ـ نمسك بأيدي بعضنا البعض.. ونقول بعض الكلمات.. ثم نغنّي للحياة.
ـ أصلي معكم..
ـ ولكن معنا يهوداً.. ألا يزعجك ذلك ؟
ـ نعم... لا يزعجني... أعرف في لغتي القديمة أن الصلاة هي الدعاء والدعاء هو التمني لا أكثر.. إذاً لا مشكلة...
* * *
في نيويورك... وحدي... على ضفة برودواي... تحت الشاشة الهائلة التي تعرض صوراً لملثّمين من العالم الإسلامي وصورة لأحمدي نجاد، شعرت أن أحداً ما، أعرفه، يسير بالقرب مني...
* * *
طلب مني الرسام الصيني أن أبقى ثابتاً لعدة دقائق كي يتمكن من رسمي بالفحم... وكان بيني وبين أن أعرف من هو الذي أعرفه ويسير خلف كتفي سوى أن التفت بسرعة.. ولكنّي لم أفعل.. أردت أن تكون الخطوط التي يرسمها الصيني بأعلى دقتها.. وأردت أن.. ينبّهني من يسير خلف كتفي ويعرفني... ولكنه لم يفعل.
* * *
من يمكن أن يكون؟
قلت لنفسي، عندما عدتُ إلى غرفتي في فندق الكارلتون في شارع 21، الغرفة 338، غرفة غير مخصصة لمدخنين، ولكنني كنت أدخن، وأفكر في برودواي وعوالمه الفوّارة،من يكون؟...
CIA ؟!
مخابرات سورية ؟!
لا أحد ؟!
من إذاً ؟
* * *
في اليوم التالي قررت أن أعيد رسم يومي السابق من جديد، وكأنّه لم يحدث حتى لا أقع في الخطأ ذاته.. هذه المرة سألتفتُ وأرى من يمر بخفّةٍ خلف كتفي...
أبحث عن الرسام الصيني.. لا أثر له في برودواي.. كيف إذاً ؟
هذا رسام آخر.. ولكنه ليس صينياً.. لا بأس.
بثلاثة دولارات سيعيد معي مشهد البارحة...
ـ من أين أنت؟
ـ from china !!!
ـ من الصين ؟
ـ لا لستُ من الصين... أقول ذلك فقط.. هل أبدو لك صينياً ؟! أنا من نيويورك ...
ـ حسناً ..
ويوقّع أسفل اللوحة...me !!!
إنه يائس.. ويكاد يلهيني عن مهمّتي اليوم... لا أشعر بأحد خلف كتفي.. ولكنني سألتفت..
إخاد ؟!!!!
* * *
وماذا يريدون مني هنا؟ روبن تقول إن العالم يستحق أن نعيشه بحذافيره، وبهدوئه، جيمس غيبلز بلحيته الصغيرة البيضاء،يسألني عن التوراة في الشرق الأوسط، لم يكن يهودياً.. إنه من المسيحيين المتصوفين، يسأل عن (لغة محمد) ومازال يفكّر ما الذي حدث في جوف ليلة الأربعاء الذي تلا وفاة النبي محمد!!
ـ أبراهام.. ولكن.. ما الذي حصل في ليلة الأربعاء.. قبل دفن محمد؟!
ـ كانوا يعدّون لدفن لغة محمد..
ـ كانوا يعدّون لدفن لغة محمد!! وماذا يعني هذا؟! ..
ـ يعني ما نحن فيه جميعاً الآن.
* * *
ـ إخاد ..لا تحاول إقناعي بأي شيء.. هذه ليست صدفة..
ـ ولما تظن أنك الوحيد الذي ستقف مندهشاً.. ما الذي أتى بك أنت إلى هنا؟.. أعرف أنك في دمشق في أحد الأحياء تبحث عن فكرة قديمة أو سرّ ما، كيف تصبح في نيويورك فجأة؟ ..هل ستقول إنها صدفة؟
ـ ليست صدفة.. دعيت إلى هنا و...
ـ نعم... والتقينا في شارع الضوء.. برودواي... أنا وصديقي...!!هذا يحدث في رواية... في فيلم... ولكن ليس في الحياة العادية..
ـ أيها اليهودي الأشقر... لا تقلب الأدوار... أنت تعرف بوجودي هنا.. ولاحقتني.. وظهرت قبل ساعات من مغادرتي الأرض الأميركية.. فسّر لي كل شيء بسرعة ...
ـ حسناً... لنجلس في مكان ما ونتحدث... ثم إنني هنا لا أدعى إخاد..أنا آأرون ...
ـ آأرون !
ـ نعم.. هيا بنا.. الوقت يمرّ بسرعة...
* * *
12.
كتب الذي لم يكن يهودياً، أنه قد يكون كذلك، لولا أن دمشقَ بألفِ لغةٍ تخبره بأنْ لا مهربَ ولا منجى من أبوابها إلا إليها... وأنّ فكرةً حُبستْ ذات يوم في أحشائها ستبقى تتخلّق، حتى يأذن وقتُها لتعود إلى الحركة والفعل، وما الذي يجديه إن كتب؟ ...
* * *
عالمٌ تدور حوله أصابع عجوزٍ يدخّن ويفكّر في شيء ما.. منفضة من حجر... هذا ما يراه في إغماضته الطويلة وهو يجلس كعابدٍ أمام الشاشة.
المدينة تفور كقدر نحاسٍ، وما يحدث داخلها تعلمه هي وحدها، سيعيد تجّارُ الشام السيناريو الذي ألفوه كما ألفوا لغتهم المخلّطة من اليونانية والآرامية...والتي لم تتغيّر يوماً.
سيذهب كل شيء، وتبقى ساقا نور تدور كبجعتين على الماء..
* * *
ـ ليس لدي أي تفسير...
ـ وأنا لم تعد لدي أسئلة يا إخاد.. أقصد يا آأرون.. هل يمكنني أن أذهب الآن ؟
ـ نعم يمكنك الذهاب... سلّم على الشام..
ـ آآ... الشام.. كدت أنسى... هل تريد شيئاً من هناك ؟
ـ هناك.... هل تذكر هذه الكلمة؟ .. في حارة اليهود... حارتنا ..
ـ كنت ترفض الذهاب إلى هناك ، وتصر على البقاء في الشام.. الآن..صرت تسميها هناك !!
ـ كل شيء يتغيّر ...
ـ نعم ...وداعاً ..
ـ إلى اللقاء..أفضل ..
* * *
خرجتُ من البار الذي جلسنا فيه أنا وإخاد.. وكأنني أخرجُ من حلم طويل.. وكأن عالماً يلفظني بصعقة من مائه الهائج... لم أعد أفكّر سوى بالعودة وبسرعة إلى دمشق، إلى بيتي..على ضفة جبل الشيخ.. في الطريق إلى الليل الذي يلفّ دمشق.
* * *
مازلت أرى في أحلامي جلساتٍ مع إخاد، ونور ، وليندا... والشيخ مابعد الحداثي، مازالت زياراتي لحارة اليهود، تجلب لي الأثر ذاته في وعيي ولا وعيي، ومازلت أرى فتياتٍ يجبن الشوارع المرصوفة بالحجر وهن يبحثن عمن يساعدهن في إدخال الخيط في الإبرة.. يوم السبت..
اسمع صوت خطواتي في الشارع المستقيم.. الذي سألني عنه يهود ويسكانسون... الأسرار... الأسرار.. الأسرار تحت المدينة.. تحت الناس.
(لم تنته اليوميات ولكن تدوينها النهائي يكتمل الآن في مكان آخر)
.
butterfly
27/09/2009, 17:34
صار الكتاب بالمكتبة ، مع إضافة رابط تحميل في بداية الموضوع
:mimo:
قرأت البداية ... مشوقة جداً:gem:
وخصيصاً اني ساكن بنفس الحارة يلي هوي منو ... فا استفزني الموضوع:oops:
وحابب كمل قراية الكتاب بس على مهل شوي ... :oops:
ميرسي ناصر :D
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة