-
دخول

عرض كامل الموضوع : حارس السجن وحارس البستان


sheldi
04/09/2009, 15:13
كأنهما توأمان، أرابيسك الفن الإسلامي، وبحور الشعر العربي. الفن الإسلامي، قفز كما يقول القائل فوق الجغرافيا، وأخفى في جيبه أسماء البلدان، وتوطن في كل الأماكن من دون أساس عرقي أو قومي، وأصبح اسمه في فارس وتركيا وغيرها الفن الإسلامي وهو اسمه ذاته في مصر والشام وفي سواهما، على خلاف ما كان في فترات ما قبل الإسلام، وفترات ما سيكون بعده. والشعر العربي قفز وأخفى وتوطن في كل الأماكن من دون أساس عرقي أو قومي، وأصبح اسمه في العراق أو في الحجاز الشعر العربي، وهو اسمه ذاته في مصر وفي لبنان، على خلاف ما كان في فترة ما قبل استتباب البحور العربية، وعلى خلاف ما سيكون في فترة ما بعد ارتجاجها والاعتراض على سلطتها. تلك الفترة يسميها البعض فترة قصيدة النثر، حيث تعود معها سليقة التمييز، شعر مصري وشعر لبناني وشعر يمني...
كأنهما توأمان، أرابيسك الفن الإسلامي، وبحور الشعر العربي. الفن الإسلامي احتفل بالإيقاع. وجعل الانتظام والتكرار آيته الكبرى، والشعر العربي احتفل بالايقاع: والآية هي الآية، الفن الاسلامي بزخارفه الهندسية لا يطلب من الناظر اليه، من زائره، انجاز أي فعل، حتى الصلاة، لا تحثه الزخارف عليها، إنها تتطلب من ذلك الزائر محض التوقف من أجل الانطواء على نفسه، من اجل أن يصبح فرداً واحداً أحداً ضمن ملكوت يتسع لأفراد آحاد لا نهاية لعددهم. الزخارف الهندسية أشكال، الأصيل منها لا يقود الإنسان خارج ذاته، لا يقوده إلى عوالم أخرى، يكفي أن يقوده إلى نفسه. الزخارف لا تتحمل مسؤولية توجيه الاشارات والرسائل الايمانية، وإذا وجدت الاشارات، فهي في المرتبة الأدنى، أما المرتبة الأعلى فلإشاعة الرضا والحب والمتعة بما فيها المتعة الحسية. على الأخص المتعة الحسية، والشعر العربي بزخارفه الوزنية، لا يطلب من الساعي خلفه إنجاز أي فعل، حتى الشرح والتفسير لا تحثه الأوزان عليهما، انها تتطلب من ذلك القارئ محض التوقف من أجل الانطواء على النفس، من اجل أن يصبح فرداً واحداً أحداً... إلى آخر العبارة حيث المرتبة الأعلى لإشاعة الرضا والحب والمتعة الحسية، والغضب والثورة والتمرد والوحشية، أيها أو كلها سيأتي في إطار الرضا والقبول.
انهما توأمان، الفن الإسلامي والشعر العربي. كلاهما فن يكتسب قيمة كبرى وجاذبية كونية لأنه قد تحرر من عوارض الوقت وعوارض المحل وعوارض اللغة. تكرار الارابيسك هو تكرار الشعر، هو الايقونة التي تجعل ما هو صلب يذوب في الهواء، تكرار الارابيسك، ومثله تكرار الشعر يمسك بزنبرك الايقاع ويديره نحو الجهة الأصفى أو نحو الجهة الأصعب، نحو المتنبي وشوقي وسعيد عقل ومسجد السلطان حسن، أو نحو أبي العلاء وأبي تمام ومسجد السلطان أحمد.
في القاهرة فاجأني الشاعر بهاء جاهين البدين كأبيه، النقي كأبيه، الحالم أيضا كأبيه، والشاعر على غرار نفسه فقط، فاجأني بآراء أراد فيها أن ينصف إيقاع قصيدة النثر، فوضعها تحت المقصلة، تحت مظلة الشعر الموزون، لأنه دخل من باب ظن أنه باب الوزن، ولم ينتبه إلى حقيقة أنه باب الفراغ. اختار بهاء ثلاثة اسطر من قصيدة نثر انتقاها، وعلى سندان الوزن وبمطرقته قام بتقطيعها، وكتابة تفعيلاتها، فعلن ومستفعلن وفاعلن وفعولن... ولأن سطورها الثلاثة قبلت التقطيع، أوهمنا بهاء وأوهم نفسه قبلنا، أنها مسكونة بالإيقاع، انها مسحورة، وهو يعلم أن كل الكلام، كل الكتابة، قابل للتقطيع، قابل لفعلن وفعولن ومستفعلن، حتى مقالات الصحف، وبيانات التأبين والتهاني. الوزن لا يأتي من قابلية الخضوع للتقطيع، الوزن يأتي من الانتظام والتكرار، وهذه بدهية دارجة، والاثنان، الانتظام والتكرار، ليسا عيباً، أحدهما أو كلاهما قد يكون من مداميك الفنون، ومن عناصرها الأولى، فالفن تكرار في شكل ما، تكرار يدفع إلى الطرف الآخر، إلى المغايرة.
التكرار هو العمى المبصر، لأن الإبصار الكامل مثل العمى الكامل، عتلة تعمل ضد الفن. إيقاع الارابيسك الإسلامي مثل إيقاع قائم على العمى المبصر، انه بقدر احساسنا يتجلى كأنه ليس له أحياناً معنى غير ما هو عليه، أما البحث العسير عن إيقاع قصيدة النثر تحت مظلة الوزن بهدف تبريرها، بهدف إدخالها وإخراجها من والى المنطقة المضمونة الآمنة في منطقة الشعر الموزون. فهو فضلاً عن أنه بحث ذكوري ينظر إلى المرأة كمخلوق أقل فيلجأ إلى احتوائها، هو أيضاً مطلب خاسر لشذوذه واستهتاره. انه هيمنة تكمن في جوهرها استهانة أشد قسوة من عداء حجازي لقصيدة النثر. ثم إن هذا البحث في النهاية مطلب سابق لأوانه، إذ إن قصيدة النثر، على رغم انتشارها وكثرة تداولها وشبهة سيادتها وانتصارها، لم تستطع بعد أن تتعرف على نفسها، فكل معارفها سرعان ما تتشظى، سرعان ما تفجرها مياه جديدة ورياح نشطة، سرعان ما تصبح - أعني معارفها - حبات حصى صغيرة تتطاير، بعضها يعلق بالحلق ويسده، بعضها يدخل العين ويغمضها، ويصبح الحل في الخلاص من الحصى. قد تكون هذه المعرفة الضائعة واحدة من ميزات قصيدة النثر وامتيازاتها، لكنها وباللسان الطويل لم تتعرف بعد الى نفسها.
في كل أشكال الكتابة الأخرى، القصة والرواية والمسرح والمقالة والبحث، يمكن الكاتب أن يستعين بمصحح لغوي، بل غالباً ما يفعل، في ما عدا الشعر أيام كان موزوناً، لأن الكلمات فيه ليست محض معان، إنها معان وأصوات، والمصحح غالباً لا يضع أذنه على فم اللغة، إنه يضبط معناها، إنه ماكيير وليس عاشقاً.
ولم يكن هناك شخص سوى الشاعر يستطيع تصحيح قصيدته والانتباه إلى رفرفة جناحيها، الصوت والمعنى، القلب والقالب. المصحح غالباً ما تحكمه أدوات محددة لا تسمح له بالشتات، غالباً ما تحكمه طريقة واحدة لا تسمح له بالتأويلات والاحتمالات الأخرى. كأنه في علاقة بنصوصه التي يضبطها ذكر الخرتيت، ذكر وحيد القرن. كان الشاعر وحده ودون غيره ممن يكتبون هو حارس اللغة، الجدير بأن يخرج عليها، ويطعن في أخلاقها، ما دام يعرفها، وما دام لا يحلم إلا بها، وما دامت اللغة وطنه قبل كل أرض وكل سماء. كان الشاعر بالضبط هو الطاغية مثلما هو الحامية، هو الغالب مثلما هو الراهب، اللص مثلما الحارس. لكنّ الشاعر التالي، شاعر قصيدة النثر، وبخاصة في بعض أطوارها الأخيرة، تخلى عن هيامه باللغة، واعتبر ذلك الهيام آفة عصور خوال، ما أدى إلى ضمور خلايا الصوت في الكلمات إلى ضمور خلايا أخرى في الظن والخيال، إلى ورم في خلايا المعنى. وأصبح الشعر مثله مثل كل أنواع الكتابة الأخرى، يمكنك أن تستعين عليه بمصحح لغوي. فاللغة هنا استخدامية، أدائية، بعدما كانت فاتحة الوجود وعصية. اختفى إذاً الشاعر حارس اللغة، أعني حارس البستان، واستقام المصحح حارس اللغة، أعني حارس السجن الذي لا يعرف الهذيان، فيما القصيدة هذيان، لا يعرف وحده الكتابة المتماسكة التي لا شقوق فيها، والتي ينفجر تأثيرها منها كلها لا من أجزائها، والتي سردها ووصفها، واستطرادها يحدث من دون غايات زمنية، فيما القصيدة كل ذلك.
كان المصحح يخاف من شعراء قصيدة النثر الأوائل، لأنهم متناقضون مؤمنون وكفار في آن واحد، خرجوا من الوزن كفراً، ودخلوا في اللغة إيماناً. هجروا المعبد لأنه مسقوف وأقاموا صلواتهم في الخلاء. جعلوا حاجتهم إلى الحرية تفوق كل حاجة وعشقهم للغة يفوق كل عشق. تعلموا أن الشاعر يأتي قبل القارئ ولأن العالم المقصود هو من صنعه، والشاعر أعلم به وبأدواته، ولا يستطيع الشاعر أن يركن ويرتاح إلى الجاهز منها، تكفيه مؤونة الهدم والبحث والخلق. شعراء قصيدة النثر الأوائل فضلوا الولاء للغة وكفروا بشروط الاتصال بها ومعانقتها، كفروا بشروط الوزن ولم يتخلوا عن العمل كبستانيين، غرسوا في أشجارها ثمارهم جراثيم فتكت بالأجسام الشعرية الهزيلة، وزادت حصانة الأجسام الشعرية الأصيلة.
مصحح اللغة ما زال يذكر هؤلاء، وكيف مروا أمامه مثل البارود الأصفر المشتعل، تسأله عن أسمائهم فيتلجلج: أنسي الحاج وتوفيق صايغ وشوقي أبو شقرا والماغوط وأدونيس وأسماء قليلين آخرين من أجيال تالية. وحول المصحح، وحول الشعراء الجدد الذين فوضوه بالتصحيح كثرت المزاعم، ومنها مزاعم قصيدة النثر. إنها تلاعب أبدي، إنها صدفة وفوضى وصمت وإرهاق ومشاركة وغياب وتشتيت وكناية ومزج، إنها ضد التأويل، إنها قراءة مغلوطة، إنها دال ومفارقة ساخرة وفصام ورغبة استحالة تحديد. كثرت المزاعم، وعلى الرغم منها كانت قصيدة النثر الأخيرة تفصح اكثر مما ينبغي. تقول ما يقال اكثر مما ينبغي، وإذا كانت الفجوة بين ثقافة قصيدة الوزن وثقافة قارئها تستقر حول أنها قصيدة جذور وتأويل ولغة وبراعة وميتافيزيقا وهوس، تستقر حول أنها لا تقول هكذا صراحة، ربما ترغب في ألا تقول، فإن الفجوة بين ثقافة قصيدة النثر وثقافة قارئها تشذ عن المألوف. فالقصيدة تطمح أن تقول ما يمكن أن يقوله القارئ، تطمح في ثلاثة أصول (الشاعر والقارئ والقصيدة)، وفي صورة واحدة لكل هؤلاء على اعتبار أن المطابقة الكاملة لا تختلف عن الانفصال الكامل. ومع ذلك، فإن قصيدة النثر التي بكت كثيراً على الاتصال الضائع بسبب شعر الحياة الذي سبقها، أصبحت تعاني من الاتصال الأكثر ضياعاً بسببها، وتصر على عدم الاعتراف بأن الشعر لا يشبه الغبار، وانه اصطفائي وليس عمومياً، منبوذ وليس حاكماً، ملعون وليس لاعناً، فرد وليس جماعات. وها هو ذا بهاء جاهين، يقود عربته التي تشبه عربة إطفاء لا تميز بين حرائق الروح وحرائق الشمعدانات. اختار بهاء قصيدة جميلة ثم أجلسها على المقعد الخاطئ الذي اعتاده زواره واعتاد هو أن يستضيف الشعر عليه. ليت بهاء يستطيع أن ينظر في عيني أنسي الحاج، ليرى الدهشة التي هي حليفة نفسها وحليفتنا، التي هي مصير نفسها ومصيرنا، التي هي قصيدة يكتبها الشعراء المرضى، ولا يكتبها هؤلاء الأصحاء، التي هي ما ننتظره في قصائد قادمة، ومن شعراء قادمين، قصائد نثر تنسينا المعارك التي بلا حصاد، تنسينا اللغو الفارغ، تنسينا صيد المريدين والأعوان والأعداء وترويضهم وتدريبهم على حضور العشاء الأخير، مع العلم أن بهاء جاهين لا يشبه المسيح أبداً، وأيضاً لا يشبه سعيد مهران. الخوف أن يذهب بهاء إلى أنسي، فيجده نائماً ورأسه على حضن الأمير ميشكين وقدماه في حضن اللغة ذاتها، الخوف أن ينصرف بها قبل أن يصحو أنسي.

عبدالمنعم رمضان