marochka
22/08/2009, 07:26
قرنان على ولادة داروين (1809 ـ 1882)
جـدل العلـم والديـن (1) جريدة السفير 15/8/2009
هاني فحص
قرأت كتيباً لأحد رجال الدين، ينقد مبكرا وبالتفصيل رواية سلمان رشدي (آيات شيطانية) قبل ترجمتها إلى العربية، والرجل صديقي وأحبه، لا يحسن من الإنكليزية أكثر مما يلزم لطلب الماء أو الطعام!
وقد سمعت قراء ناقدين لرواية رشدي، يقولون إنه لم يكن من الموضوعية أن تختزل روايته بما كان ولا يزال من حق المتدينين وغيرهم، أن يعتبروه مساً غير مقبول أو غير علمي، بمسلمات سبق أن تم التعاطي معها ومع غيرها بالمساءلة، بناء على ما ورد من نصوص حول موضوعاتها في كتب معتبرة، وغير معصومة بالطبع، لأن الرواية فيها أمور أخرى.
وعلى تقديرنا لحيوية السيد جمال الدين الأفغاني الفكرية واهتماماته الحوارية والسجالية المتنوعة، فإننا لا نعرف بأي لغة كان قد قرأ (داروين) عندما رد عليه متخطيا إياه إلى تيارات الشك والإلحاد في عصره، ولا ندري لماذا بقي هذا الكتاب (الرد على الدهريين) محدود التداول حتى الآن؟ إنني بعد استقراء نسبي، لاحظت أن أكثر العرب والمسلمين، الذين ناقشوا في نظرية داروين، إنما اعتمدوا على ملخصات مبسطة في أسطر أو صفحات، ما جعلنا نختزلها في ثقافتنا الشائعة في جملة واحدة (أصل الإنسان قرد) وكفى!
وبالتدقيق تبين للدارسين أن داروين لم يقل ذلك، وإن كان كلامه في أصل الأنواع، لا يمنع من تحميله مسؤولية التأسيس لهذه الفكرة، بالتأويل العلمي الذي وصل به إلى نهايته ماديون متطرفون في ماديتهم، فغيروا من كلام داروين عن الأعضاء الأثرية، وسيلة لنفي الغاية والحكمة من الخلق فأنكروا رواية الكتب السماوية عن (الخلق الدفعي المباشر)...
لقد فتحت كتب (تشارلس داروين 1809 ـ 1882) جدلا علميا في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، بعد رحلته حول العالم (1831 ـ 1836) وكتابه «أصل الأنواع عن طريق حفظ الأجناس المنفصلة في الصراع من أجل الحياة» (1859) وكتابه «تنوع الحيوانات والنباتات في ظل عملية الاستئناس»، ( 1868 ) وكتابه «سلالة الإنسان والانتخاب بالنسبة للجنس» (1871) وقدم نفسه مفكرا جدليا ماديا، ما جعل الأغلبية تصنفه في الملحدين، بينما نقل عنه أنه أجاب مفكرا معاصرا له، بأنه ليس قليل العقل حتى لا يكون مؤمنا بالله.
إن تطور الكائنات، موضوعة داروين الأساس، لم تكن بدعا في تاريخ الفكر الإنساني، وقد قرأ كثيرون إشارات عليها في آثار اليوناني (أنيكسا ماندر) والقديس (أوغسطينوس)، أما إشارة ابن خلدون فهي واضحة في استيعابها للفكرة وتوقفها على ما يقرره المناطقة من الفرق بين الإمكان العقلي والإمكان العملي. (ابن خلدون ـ المقدمة ـ دار الهلال ص 529 ـ 530).
لقد انقسم الرأي العلمي على نظريات داروين المركبة وغير الجاهزة للتبسيط وتحويلها الى مادة دعوية. انقسم على المسألة أكاديميون علمانيون ولاهوتيون أيدوا أو فندوا، أي انه لم يتم التعامل مع المسألة بخفة، أو من خلال أفكار أو شعارات اختزالية، تستند في المألوف والموروث، الى عادة مستقرة من المناداة بالويل والثبور وعظائم الأمور خوفا على الله عز وجل! وذاته وصفاته من أي متحول علمي أو سؤال معرفي يتحلى بالقلق المبدع، ويفتح على أسئلة عميقة، راكمها الكبت وانتظرت من يشعلها (من غاليليو إلى الاستنساخ الخ).
هذا وقد استفز داروين في عصره كثيرا من العلماء الماديين الملحدين رفضوا قناعته بأن أصل الحياة نفخة بقدرة خالق.
إن عالما وموضوعا كداروين ونظريته، وخصوصا منها الحيز الموصول بالموقف الديني من مسألة الخلق وسيرورة المخلوق (خلقت قبل آدمكم هذا مئة ألف آدم كما في المأثور) أو تماميته.
في الخلق الأول (أحسن تقويم) تقتضي إيقاظ الذاكرة المعرفية على السخونة والحيوية التي عرفتها هذه المسألة في عقود أو قرون سابقة، ثم لم تلبث أن تراجعت سخونتها نظرا لاتساع الفضاء الإشكالي في المجال العلمي العام والديني الخاص، مشفوعا بانتكاسة أو انكشاف النظرية المادية الجدلية على (مادية فيورباخ) والمادية التاريخية مبنية عليها في المنظومة الماركسية، والتي اعتبر كثير من الباحثين أنها كانت استكمالا لرؤية داروين الجدلية في العلوم الطبيعية، وكأن انكشاف المكمل قد مس بأهمية المؤسس ومصداقيته. وأنا غير متحمس تماما لهذا الكلام.. ذلك أن الداروينية والماركسية، كما غيرهما من الأطروحات، إذا ما فصلنا في عمارتها بين الثابت والمتغير، بين النظري والتجريبي، بين النظام المعرفي وأدوات التحليل والتشغيل السياسي، يبقى منها ما هو ضروري لإعادة البحث.
إني كرجل دين مهموم ومنهمك، على قلق متزايد، على إيقاع الإيغال في إيقاظ الهويات الفرعية، بما تستدعي من استدعاءات ماضوية يتم تضخيمها لتساعد على اختلاق فواصل أخرى بين الجماعات، التي تتحول الخرافة في حالة استفزازها وتوترها في غياب الدولة الحاضنة، الى عامل حاسم وضروري في تجديد العصبية وتوجيهها ضد كل اختلاف أو مختلف... إني معني ومصر على تحقيق شروطي المدنية، من أجل الدين والمدنية، في العلم المدني والمجتمع المدني والدولة المدنية والدين المدني. والمدينة المؤمنة.
لا يهمني.. أو لا يهمني كثيرا، أن تتوقف الاشتباكات المعرفية بين الديني والعلماني، وأبحث عن الديني في العلماني والعلماني في الديني وعن الروحي في المادي والمادي في الروحي، وعن المقدس في التاريخ وعن التاريخي في المقدس... لأن التوقف يؤول إلى إفقار العلم من كثير من حوافزه ومستفزاته، وإفقار الدين أو الديني من القلق المعرفي الذي يؤمن للإيمان مصدرا عظيما من مصادر نُسغه وأسباب تجديده واستوائه على حال ضرورة تكوينية، أولى من تفاصيل الدين أو كثير من هذه التفاصيل، التي ان لم نتعامل معها بنسبية متحركة، حولناها إلى متراكم عشوائي يستأصل الدين وطقوسه وغائيته وشرط الحرية الذي يحفظه فينا ويحفظنا فيه، ويتيح للمؤمن أو العارف حفظ المطلق بالنسبي، من خلال التبصر الدائم بالمستجد المعرفي والحياتي والاجتماعي الذي يتيح إعادة قراءة النص قراءة مختلفة من دون أن تكون مخالفة لمقاصده التي يتقدس بها، وتتبدل قداسته بتبدلها، تبعا لمركز الإنسان في الكون والحياة الدنيا والآخرة، تفريعا على مركزية الخالق.. حيث لا فصال ولا تناقض، بل ان كلا من المركزين هو مجال تحقق للآخر.. ما يهمني في مسألة الخلق والمخلوق والخالق هو هذه المركزية المتكاملة وفي الحديث القدسي عن الله تعالى:
«كنت كنزاً مخفياً فخلقت الخلق لكي أُعْرف».
جـدل العلـم والديـن (2) جريدة السفير السبت 22/8/2009
هاني فحص
اخترت النسبية منهجاً في الرؤية والمعتقد، من دون نية أو قدرة لدي على المس بإطلاقية المطلق، الله، التي تؤكدها محدودية المخلوق والكون والتاريخ، هذه المحدودية التي تجعل المخلوق عرضة للتطور من أجله ومن أجل استمرارية حكم الخالق في المخلوق... هذا مع العلم أن إطلاقية الله او الخالق، إنما يتم التوصل إليها، تصوراً وتصديقاً، بمعرفة متغيرة في الزمان والمكان والحال، إذن فهي غير مطلقة، هي معرفة بشرية بغير البشري ولكنه يتجلى في البشر، وإلا عدمنا الدليل الشافي والوافي على وجود المدبر وحسن التدبير... كما أكد ابن رشد في نقاشه مع الغزالي على الدليل الفلسفي والدليل التدبيري في النظام او نواظم المخلوقات ونسب الاختلاف بينها، ما يؤدي إلى عدالة المشهد أي انسجامه حسب افلاطون وجماله في تعدده، واجداً في كلام كثير من علماء المسلمين التوفيق بين النظرة الدينية والداروينية في نظرية التطور التاريخي للعالم العضوي، واجدا ًفي هذا الكلام الكثير عن محطات متعددة في سياق الخلق الإلهي المتكرر للكائنات من دون قطيعة تامة او تطابق تام بين محطة أخرى، حلاً للإشكالية غايته طمأنة العامة الى دينها حتى لا تهجره فتفقد أهم نواظمها ونوابضها.
أؤكد أن آخر ما يهمّني في هذه النظريات الطمــوحة على الرغم من سلبية التعميم العقــدي التي تعتورها آخر ما يهمني هو كونــها حقا مطلقا او باطلا مطلقا... وفيها نــسبة من الحـق والباطل بالضــرورة، ذلك ان جمالية ما في حركة إنتـاج المعرفة هي المتــحقق من دون نقــاش او ضـرر، وهــذا أمر لا يمر بالحــق والبــاطل، تمــاما كــما هي المســألة في الفن الذي لا يحكمه الحق من خارج العملية الإبداعية، بل هناك حق فني هو الجمال، يحكم الفن والعمل الفني.. وهذا يضيف مساحة غير المشروع او غير الحلال في العلم والفن لحساب مساحة المشروع التي هي الأوسع ودائما.
موصولاً بابن خلدون وقبله (أنيكساماندر اليوناني) وحتى القديس أوغسطينوس كما مر بسهم داروين في زعزعة الأسس النظرية او التسويقية للجمودية الأرسطية التي هيمنت على العلم الكنسي والعلوم الاسلامية، مرتكزة الى الرواية التوراتية في سفر التكوين، والتي تغري باعتبار المروي أقرب الى الميتولوجيا منه الى الواقع التاريخي. ان التـحولية في قراءة الوجود والموجود التي آلت إليها نظرية دارون من شأنها اذا ما عدنا اليها كجزء من مرجعياتنا. الرؤية ان تعمق وعينا وترشّد تعاملنا مع النظريات العنصرية التي تحول البشر إلى أنماط حضارية متكررة ومغلقة ومتفاضلة على أساس ثوابت غير ثابتة بالمعنى العلمي، معطلة للتغير ومبطلة للمتغير الذي يضارع التطور الذي يضارع الضرورة ويلائم منهجيا بينها وبين الحرية حتى نبطل مظالم الإلغاء والإنـهاء من قوم لقوم ودين لدين ومذهب لمذهب من أستراليا إلى كردستان والكلدان والأمازيغ دفعاً لأي التباس قد يؤدي الى تكفيري، لسهولة التكفير هذه الأيام حرمانــا للناس من نعمة الإيمان التي تنتهي إلى حرمانهم من نعمة الحياة بالقـتل رصاصاً أو ذبحاً.. أقول: في رغبتي التي لا أنفـرد بها، في التفــريق بين العلم والدين، او العلم بالدين، إنما أريد أن أعطي الغيب أساس الدين، عمقه حتى لا تتعرض المنظومة العقدية إلى انهــيار عند أي زلزال علمي او فيضان معرفي محتمل دائما، كما هو في المشهد الآن من المعلوماتية الى خارطة الجينات الى استيلاد الحيمن من الخلايا الجذعـية، أما الذين يخلطون بين الغيب والعيان او الشهود، بين سر الخــلق وتمظهراته، بين الخلق وتجليات الخالق في المخلوق.. ويرفعون الشهود او العيان إلى مستوى الغيب، (الســياسة الغيبية او الغيب السيــاسي مثلا) وولاية الفقيه أي إلهية او تأليه البشري ألخ.
فإنهم يبتذلون الغيب، ويعرضـونه الى جدل من خارج حقيقته وتعريفه.. ولعل هذا ما يمكن تسميته إضافة غير المقدس الى المقدس وعلى حسابه.
لا بد من الاتفاق على حدود مرنة غير رخوة على مساحة مقدسة في المعتقد أما في معرفة ما نعتقد به فالتقديس تدنيس للعارف والمعروف.. وفي كل فإن تقديس غير المقدس هو تدنيس للمقدس. وتحويل الشهود إلى غيب يؤول إلى نقض الغيب او تقويضه.
ختاما إننا نلغي الدين بالعلم عندما نلغي العلم بالدين، وإذا كان الدين خلافياً، وذلك مصدر من مصادر حيوية وسعة فضائه الذي يسع الجميع، فإن العلم خلافي، حقل معرفي خلافي بالنسبة إلى حقول المعرفة الأخرى، والحقل الديني تحديداً، فلماذا خلافية الدين لا تبطله، بينما نريد إبطال العلم بالخلاف.. ومن دون اختلاف وخلاف كيف يبقى العلم علماً؟.. وتمتد عملية الإلغاء لتطال كل الثنائيات التي نقصرها متعسفين على الإلغاء المتبادل السماء والأرض، الدنيا والآخرة، الدولة والمجتمع، المرأة والرجل المحلي والكوني الخ..
كفانا إلغاء وكفانا خوفاً على الله ومكانته في نظام الكون من كل سؤال او ظاهرة علمية. كفانا صراطية دينية تعسفية مفرطة في الدين لا تلبث أن تصبح واقعية مفرطـة بالدين وممجوجة بعد استقــرار الواقعــة وتحولها إلى ظاهرة، فنذهب إلى لي عنق النص الديني مرة ثانية، لنغطي انكشافنا حتى نكاد نكسر رقبة الدين، لولا أنــه أقوى من مكابراتنا ورقابنا
جـدل العلـم والديـن (1) جريدة السفير 15/8/2009
هاني فحص
قرأت كتيباً لأحد رجال الدين، ينقد مبكرا وبالتفصيل رواية سلمان رشدي (آيات شيطانية) قبل ترجمتها إلى العربية، والرجل صديقي وأحبه، لا يحسن من الإنكليزية أكثر مما يلزم لطلب الماء أو الطعام!
وقد سمعت قراء ناقدين لرواية رشدي، يقولون إنه لم يكن من الموضوعية أن تختزل روايته بما كان ولا يزال من حق المتدينين وغيرهم، أن يعتبروه مساً غير مقبول أو غير علمي، بمسلمات سبق أن تم التعاطي معها ومع غيرها بالمساءلة، بناء على ما ورد من نصوص حول موضوعاتها في كتب معتبرة، وغير معصومة بالطبع، لأن الرواية فيها أمور أخرى.
وعلى تقديرنا لحيوية السيد جمال الدين الأفغاني الفكرية واهتماماته الحوارية والسجالية المتنوعة، فإننا لا نعرف بأي لغة كان قد قرأ (داروين) عندما رد عليه متخطيا إياه إلى تيارات الشك والإلحاد في عصره، ولا ندري لماذا بقي هذا الكتاب (الرد على الدهريين) محدود التداول حتى الآن؟ إنني بعد استقراء نسبي، لاحظت أن أكثر العرب والمسلمين، الذين ناقشوا في نظرية داروين، إنما اعتمدوا على ملخصات مبسطة في أسطر أو صفحات، ما جعلنا نختزلها في ثقافتنا الشائعة في جملة واحدة (أصل الإنسان قرد) وكفى!
وبالتدقيق تبين للدارسين أن داروين لم يقل ذلك، وإن كان كلامه في أصل الأنواع، لا يمنع من تحميله مسؤولية التأسيس لهذه الفكرة، بالتأويل العلمي الذي وصل به إلى نهايته ماديون متطرفون في ماديتهم، فغيروا من كلام داروين عن الأعضاء الأثرية، وسيلة لنفي الغاية والحكمة من الخلق فأنكروا رواية الكتب السماوية عن (الخلق الدفعي المباشر)...
لقد فتحت كتب (تشارلس داروين 1809 ـ 1882) جدلا علميا في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، بعد رحلته حول العالم (1831 ـ 1836) وكتابه «أصل الأنواع عن طريق حفظ الأجناس المنفصلة في الصراع من أجل الحياة» (1859) وكتابه «تنوع الحيوانات والنباتات في ظل عملية الاستئناس»، ( 1868 ) وكتابه «سلالة الإنسان والانتخاب بالنسبة للجنس» (1871) وقدم نفسه مفكرا جدليا ماديا، ما جعل الأغلبية تصنفه في الملحدين، بينما نقل عنه أنه أجاب مفكرا معاصرا له، بأنه ليس قليل العقل حتى لا يكون مؤمنا بالله.
إن تطور الكائنات، موضوعة داروين الأساس، لم تكن بدعا في تاريخ الفكر الإنساني، وقد قرأ كثيرون إشارات عليها في آثار اليوناني (أنيكسا ماندر) والقديس (أوغسطينوس)، أما إشارة ابن خلدون فهي واضحة في استيعابها للفكرة وتوقفها على ما يقرره المناطقة من الفرق بين الإمكان العقلي والإمكان العملي. (ابن خلدون ـ المقدمة ـ دار الهلال ص 529 ـ 530).
لقد انقسم الرأي العلمي على نظريات داروين المركبة وغير الجاهزة للتبسيط وتحويلها الى مادة دعوية. انقسم على المسألة أكاديميون علمانيون ولاهوتيون أيدوا أو فندوا، أي انه لم يتم التعامل مع المسألة بخفة، أو من خلال أفكار أو شعارات اختزالية، تستند في المألوف والموروث، الى عادة مستقرة من المناداة بالويل والثبور وعظائم الأمور خوفا على الله عز وجل! وذاته وصفاته من أي متحول علمي أو سؤال معرفي يتحلى بالقلق المبدع، ويفتح على أسئلة عميقة، راكمها الكبت وانتظرت من يشعلها (من غاليليو إلى الاستنساخ الخ).
هذا وقد استفز داروين في عصره كثيرا من العلماء الماديين الملحدين رفضوا قناعته بأن أصل الحياة نفخة بقدرة خالق.
إن عالما وموضوعا كداروين ونظريته، وخصوصا منها الحيز الموصول بالموقف الديني من مسألة الخلق وسيرورة المخلوق (خلقت قبل آدمكم هذا مئة ألف آدم كما في المأثور) أو تماميته.
في الخلق الأول (أحسن تقويم) تقتضي إيقاظ الذاكرة المعرفية على السخونة والحيوية التي عرفتها هذه المسألة في عقود أو قرون سابقة، ثم لم تلبث أن تراجعت سخونتها نظرا لاتساع الفضاء الإشكالي في المجال العلمي العام والديني الخاص، مشفوعا بانتكاسة أو انكشاف النظرية المادية الجدلية على (مادية فيورباخ) والمادية التاريخية مبنية عليها في المنظومة الماركسية، والتي اعتبر كثير من الباحثين أنها كانت استكمالا لرؤية داروين الجدلية في العلوم الطبيعية، وكأن انكشاف المكمل قد مس بأهمية المؤسس ومصداقيته. وأنا غير متحمس تماما لهذا الكلام.. ذلك أن الداروينية والماركسية، كما غيرهما من الأطروحات، إذا ما فصلنا في عمارتها بين الثابت والمتغير، بين النظري والتجريبي، بين النظام المعرفي وأدوات التحليل والتشغيل السياسي، يبقى منها ما هو ضروري لإعادة البحث.
إني كرجل دين مهموم ومنهمك، على قلق متزايد، على إيقاع الإيغال في إيقاظ الهويات الفرعية، بما تستدعي من استدعاءات ماضوية يتم تضخيمها لتساعد على اختلاق فواصل أخرى بين الجماعات، التي تتحول الخرافة في حالة استفزازها وتوترها في غياب الدولة الحاضنة، الى عامل حاسم وضروري في تجديد العصبية وتوجيهها ضد كل اختلاف أو مختلف... إني معني ومصر على تحقيق شروطي المدنية، من أجل الدين والمدنية، في العلم المدني والمجتمع المدني والدولة المدنية والدين المدني. والمدينة المؤمنة.
لا يهمني.. أو لا يهمني كثيرا، أن تتوقف الاشتباكات المعرفية بين الديني والعلماني، وأبحث عن الديني في العلماني والعلماني في الديني وعن الروحي في المادي والمادي في الروحي، وعن المقدس في التاريخ وعن التاريخي في المقدس... لأن التوقف يؤول إلى إفقار العلم من كثير من حوافزه ومستفزاته، وإفقار الدين أو الديني من القلق المعرفي الذي يؤمن للإيمان مصدرا عظيما من مصادر نُسغه وأسباب تجديده واستوائه على حال ضرورة تكوينية، أولى من تفاصيل الدين أو كثير من هذه التفاصيل، التي ان لم نتعامل معها بنسبية متحركة، حولناها إلى متراكم عشوائي يستأصل الدين وطقوسه وغائيته وشرط الحرية الذي يحفظه فينا ويحفظنا فيه، ويتيح للمؤمن أو العارف حفظ المطلق بالنسبي، من خلال التبصر الدائم بالمستجد المعرفي والحياتي والاجتماعي الذي يتيح إعادة قراءة النص قراءة مختلفة من دون أن تكون مخالفة لمقاصده التي يتقدس بها، وتتبدل قداسته بتبدلها، تبعا لمركز الإنسان في الكون والحياة الدنيا والآخرة، تفريعا على مركزية الخالق.. حيث لا فصال ولا تناقض، بل ان كلا من المركزين هو مجال تحقق للآخر.. ما يهمني في مسألة الخلق والمخلوق والخالق هو هذه المركزية المتكاملة وفي الحديث القدسي عن الله تعالى:
«كنت كنزاً مخفياً فخلقت الخلق لكي أُعْرف».
جـدل العلـم والديـن (2) جريدة السفير السبت 22/8/2009
هاني فحص
اخترت النسبية منهجاً في الرؤية والمعتقد، من دون نية أو قدرة لدي على المس بإطلاقية المطلق، الله، التي تؤكدها محدودية المخلوق والكون والتاريخ، هذه المحدودية التي تجعل المخلوق عرضة للتطور من أجله ومن أجل استمرارية حكم الخالق في المخلوق... هذا مع العلم أن إطلاقية الله او الخالق، إنما يتم التوصل إليها، تصوراً وتصديقاً، بمعرفة متغيرة في الزمان والمكان والحال، إذن فهي غير مطلقة، هي معرفة بشرية بغير البشري ولكنه يتجلى في البشر، وإلا عدمنا الدليل الشافي والوافي على وجود المدبر وحسن التدبير... كما أكد ابن رشد في نقاشه مع الغزالي على الدليل الفلسفي والدليل التدبيري في النظام او نواظم المخلوقات ونسب الاختلاف بينها، ما يؤدي إلى عدالة المشهد أي انسجامه حسب افلاطون وجماله في تعدده، واجداً في كلام كثير من علماء المسلمين التوفيق بين النظرة الدينية والداروينية في نظرية التطور التاريخي للعالم العضوي، واجدا ًفي هذا الكلام الكثير عن محطات متعددة في سياق الخلق الإلهي المتكرر للكائنات من دون قطيعة تامة او تطابق تام بين محطة أخرى، حلاً للإشكالية غايته طمأنة العامة الى دينها حتى لا تهجره فتفقد أهم نواظمها ونوابضها.
أؤكد أن آخر ما يهمّني في هذه النظريات الطمــوحة على الرغم من سلبية التعميم العقــدي التي تعتورها آخر ما يهمني هو كونــها حقا مطلقا او باطلا مطلقا... وفيها نــسبة من الحـق والباطل بالضــرورة، ذلك ان جمالية ما في حركة إنتـاج المعرفة هي المتــحقق من دون نقــاش او ضـرر، وهــذا أمر لا يمر بالحــق والبــاطل، تمــاما كــما هي المســألة في الفن الذي لا يحكمه الحق من خارج العملية الإبداعية، بل هناك حق فني هو الجمال، يحكم الفن والعمل الفني.. وهذا يضيف مساحة غير المشروع او غير الحلال في العلم والفن لحساب مساحة المشروع التي هي الأوسع ودائما.
موصولاً بابن خلدون وقبله (أنيكساماندر اليوناني) وحتى القديس أوغسطينوس كما مر بسهم داروين في زعزعة الأسس النظرية او التسويقية للجمودية الأرسطية التي هيمنت على العلم الكنسي والعلوم الاسلامية، مرتكزة الى الرواية التوراتية في سفر التكوين، والتي تغري باعتبار المروي أقرب الى الميتولوجيا منه الى الواقع التاريخي. ان التـحولية في قراءة الوجود والموجود التي آلت إليها نظرية دارون من شأنها اذا ما عدنا اليها كجزء من مرجعياتنا. الرؤية ان تعمق وعينا وترشّد تعاملنا مع النظريات العنصرية التي تحول البشر إلى أنماط حضارية متكررة ومغلقة ومتفاضلة على أساس ثوابت غير ثابتة بالمعنى العلمي، معطلة للتغير ومبطلة للمتغير الذي يضارع التطور الذي يضارع الضرورة ويلائم منهجيا بينها وبين الحرية حتى نبطل مظالم الإلغاء والإنـهاء من قوم لقوم ودين لدين ومذهب لمذهب من أستراليا إلى كردستان والكلدان والأمازيغ دفعاً لأي التباس قد يؤدي الى تكفيري، لسهولة التكفير هذه الأيام حرمانــا للناس من نعمة الإيمان التي تنتهي إلى حرمانهم من نعمة الحياة بالقـتل رصاصاً أو ذبحاً.. أقول: في رغبتي التي لا أنفـرد بها، في التفــريق بين العلم والدين، او العلم بالدين، إنما أريد أن أعطي الغيب أساس الدين، عمقه حتى لا تتعرض المنظومة العقدية إلى انهــيار عند أي زلزال علمي او فيضان معرفي محتمل دائما، كما هو في المشهد الآن من المعلوماتية الى خارطة الجينات الى استيلاد الحيمن من الخلايا الجذعـية، أما الذين يخلطون بين الغيب والعيان او الشهود، بين سر الخــلق وتمظهراته، بين الخلق وتجليات الخالق في المخلوق.. ويرفعون الشهود او العيان إلى مستوى الغيب، (الســياسة الغيبية او الغيب السيــاسي مثلا) وولاية الفقيه أي إلهية او تأليه البشري ألخ.
فإنهم يبتذلون الغيب، ويعرضـونه الى جدل من خارج حقيقته وتعريفه.. ولعل هذا ما يمكن تسميته إضافة غير المقدس الى المقدس وعلى حسابه.
لا بد من الاتفاق على حدود مرنة غير رخوة على مساحة مقدسة في المعتقد أما في معرفة ما نعتقد به فالتقديس تدنيس للعارف والمعروف.. وفي كل فإن تقديس غير المقدس هو تدنيس للمقدس. وتحويل الشهود إلى غيب يؤول إلى نقض الغيب او تقويضه.
ختاما إننا نلغي الدين بالعلم عندما نلغي العلم بالدين، وإذا كان الدين خلافياً، وذلك مصدر من مصادر حيوية وسعة فضائه الذي يسع الجميع، فإن العلم خلافي، حقل معرفي خلافي بالنسبة إلى حقول المعرفة الأخرى، والحقل الديني تحديداً، فلماذا خلافية الدين لا تبطله، بينما نريد إبطال العلم بالخلاف.. ومن دون اختلاف وخلاف كيف يبقى العلم علماً؟.. وتمتد عملية الإلغاء لتطال كل الثنائيات التي نقصرها متعسفين على الإلغاء المتبادل السماء والأرض، الدنيا والآخرة، الدولة والمجتمع، المرأة والرجل المحلي والكوني الخ..
كفانا إلغاء وكفانا خوفاً على الله ومكانته في نظام الكون من كل سؤال او ظاهرة علمية. كفانا صراطية دينية تعسفية مفرطة في الدين لا تلبث أن تصبح واقعية مفرطـة بالدين وممجوجة بعد استقــرار الواقعــة وتحولها إلى ظاهرة، فنذهب إلى لي عنق النص الديني مرة ثانية، لنغطي انكشافنا حتى نكاد نكسر رقبة الدين، لولا أنــه أقوى من مكابراتنا ورقابنا