-
دخول

عرض كامل الموضوع : حرب حزب اللّه الأخيرة


sheldi
16/08/2009, 10:11
غيّر الأداء العسكري لحزب اللّه خلال حرب تمّوز النظرة إلى استراتيجيّة الحزب العسكريّة التي اعتمدت على دمج الأساليب غير التقليديّة في القتال بأساليب الجيوش النظامية. كما أدّت نتائج حرب الـ33 يوماً إلى تطوير عمل حزب اللّه الذي بات مضطرّاً إلى تعديل عقيدته الدفاعيّة، ليدخل إليها عناصر هجوميّة. ولعلّ هذا ما سيشكّل المفاجأة في أيّ حرب مقبلة بين لبنان وإسرائيل، حرب قد تكون نتيجتها إنهاء مرحلة «الحرب المفتوحة»

أمل سعد* ـ لعلّ إحدى أبرز عِبَر حرب تموز أن المفهوم الحديث للحرب غير المتماثلة، الذي برز في الولايات المتحدة في أواخر التسعينيات، قد أصبح في حاجة ماسة إلى المراجعة. فأداء حزب الله العسكري خلال الحرب أظهر أنه لم يعد ممكناً بعد الآن تحديد الحرب غير المتماثلة فقط بحرب فاعلين سياسيّين يعتمدون أساليب «غير تقليدية تختلف إلى حد كبير عن النمط العادي الذي يلجأ إليه الخصم في إجراء العمليات»، وفق تحديد الجيش الأميركي. فقد أظهرت حرب الـ33 يوماً أن حزب الله لم يطوّر حرب العصابات فحسب، بل تجاوزها ليضع أيضاً نموذجاً حربياً جديداً يصهر الأساليب «غير التقليدية» بـ«نمط العمليات العادي» الذي تجريه الجيوش التقليدية.
في مقدّمة الذين يشرّحون هذا النمط القتالي الجديد استراتيجيّون عسكريّون أميركيّون يخشون أن يؤسّس لعدوى «حرب هجينة» بين الفاعلين المعارضين للولايات المتحدة، سواء كانوا دولاً أو غير دول، إذ إن نموذج المقاومة الذي وضعه حزب الله سيؤدي، بالنسبة إلى هؤلاء الفاعلين، دور الوسيلة لموازنة انعدام تماثل القوة. وتتنبّأ التوقّعات بأن يحاكي أخصام الولايات المتحدة من غير الدول النواحي التقليدية للنموذج الهجين الذي قدّمه حزب الله، فيما تستعير الدول العدوّة الأساليب غير التقليدية التي اعتمدها. وردّاً على مثل هذا التوقّع، يحثّ العديد من مخطّطي الدفاع في وزارة الدفاع الأميركية المنادين بإعادة تموضع القوات المسلحة الأميركية لمواجهة الحرب غير النظامية والتمرّد، إلى التخلي عن هذه الاستراتيجية والتركيز مجدداً على الأساليب التقليدية الأكثر ملاءمة لمحاربة «التهديدات الهجينة» المتوقعة. وهكذا، فيما كانت الولايات المتحدة وإسرائيل منشغلتَين بأقلمة جيشيهما التقليديين لمواجهة تهديدات غير تقليدية، كان حزب الله يعمل بفعالية على إضفاء صبغة تقليدية على عقيدته وتكتيكاته وأسلحته الحربية وجعل قواه المسلحة نظامية.
لقد أشار السيد نصر الله إلى هذا التحوّل في النموذج بعد مرور أيام فقط على اغتيال الاستراتيجي العسكري البارز في المقاومة عماد مغنية. فكما فصّل السيد، لقد خضعت المقاومة لعملية تطوير تألفت من مراحل ثلاث، بدءاً بالمقاومة المسلحة التي حاربت جنباً إلى جنب مع مقاومة شعبية كبيرة عفوية، إلى «النهج المقاوم المسلّح المنظّم المركّز» الذي أدّى إلى مرحلة أخيرة قادت إلى «مدرسة قتالية جديدة لم يسبق لها مثيل تقع ما بين الجيش النظامي وحرب العصابات». بهذا التوليف، يبدو أنّ حزب الله قد حقّق توازناً بارعاً بين التقليدي وغير التقليدي في استراتيجيته وتكتيكاته وأسلحته وتنظيمه على الصعيد العسكري، مشيراً إلى انتقاله من حركة مقاومة إلى جيش مقاومة.
على المستوى الاستراتيجي، تحوّلت مقاومة حزب الله من مجموعة كلاسيكية تخوض حرب عصابات أجبرت إسرائيل على الانسحاب من طرف واحد من جنوب لبنان عام 2000، بعد حرب استنزاف طويلة، إلى «قوة قتالية شبه تقليدية» منعت القوات الإسرائيلية من إعادة احتلال الأرض. وشرح السيد نصر الله ابتعاد حزب الله الجذري عن الاستراتيجية المعتمدة عادة في حرب العصابات من خلال الإشارة إلى الفوارق بين الاستراتيجيات التي ينطوي عليها نمطا الحرب: «ألفت إلى الفارق الاستراتيجي بين مقاومة تقاتل جيشاً نظامياً يحتل الأرض فتشن عليه عمليات من داخل الأرض في حرب عصابات استنزافية، وبين مقاومة تقف في وجه عدوان يريد أن يحتل الأرض فتمنعه من الاحتلال وتلحق به الهزيمة... فالمقاومات تحرر الأرض ولكن مقاومات تمنع عدواناً على بلد فهذا أمر جديد».
حتى عام 2000، كان مفهوم المقاومة لدى حزب الله يتوافق مع الاستخدام التقليدي لهذه المقاومة، وهو يعني نضالاً تحريرياً شعبياً ضد الاحتلال الأجنبي، تقضي مهمته الوحيدة بطرد المحتلّ. أما في المرحلة التي أعقبت الانسحاب وبدأت سنة 2000، فقد راجع حزب الله عقيدته الحربية لتتحول من عقيدة تتمحور حول تحرير الأرض إلى أخرى تسعى إلى منع إسرائيل من مهاجمة لبنان، وتدافع عن البلاد من العدوان الإسرائيلي إذا فشلت هذه الاستراتيجية. وبالتالي، كان تحديد المقاومة يتوسع ليشمل ردّ أي اجتياح، أو، بكلمات أخرى، مقاومة التهديد بالاحتلال. وعبر إعادة بناء مفهوم المقاومة بهذه الطريقة، أخذ حزب الله على عاتقه مهمة الدفاع عن الأراضي اللبنانية ضد أي هجوم، وهو دور تلعبه تقليدياً جيوش الدول.
يقول المنطق الكامن وراء استراتيجية حزب الله التي أُعيد تحديدها إن إسرائيل سوف «تنتقم للهزيمة والذلّ اللذين لحقا بها في حزيران/ يونيو 2000». فما إن تم التحرير حتى بدأ مغنية مباشرة بالتحضير للحرب المقبلة كادحاً «في الليل والنهار». وتثبت التقارير الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين صحة هذه المزاعم، إذ تكشف أن المقاومة بنت دفاعاتها المعدّة قبل سنوات من حرب تموز/ يوليو، في بداية سنة 2000 على الأرجح. وقد أشار ضابط إسرائيلي رفيع المستوى إلى هذه النقطة بالقول: «وجدنا عدوّاً كان يتحضّر للمعركة منذ أمد بعيد. إنه عدو موطّد العزم وحسن التجهيز، يتمتع بالمهارة ويعمل بتنسيق، على عكس ما واجهنا في غزة والضفة الغربية». وأصابت دهشةٌ مماثلة من تحضيرات حزب الله مراقبي قوات اليونيفيل الذين بدوا وكأنهم لم يكونوا على علم بما جرى تحتهم من أعمال بناء، كما قال أحد الضباط: «لم نرَهم أبداً يبنون أيّ شيء. لا بدّ أنهم أحضروا الإسمنت بكميات ضئيلة، كما لو بالملعقة».
فيما يُعتبر مثل هذا التخطيط والتحضير المتطورين مألوفَين لدى الجيوش التقليدية، «أعدّ» حزب الله «بجهد أعمالاً دفاعية» يشيع وجودها ضمن التحضيرات التي يقوم بها جيش نظامي لصدّ اجتياح ما، أكثر مما يشيع ضمن خطط حرب العصابات الهادفة إلى الإعداد لهجوم واحتواء الهجوم المضاد المتوقع. فشبكة الغرف المحصنة تحت الأرض، التي صمّمتها المقاومة تصميماً معقداً، ومواقع إطلاق الصواريخ المخفية والحسنة التمويه (التي يسمّيها الإسرائيليون «محميات طبيعية»)، ومواقع إطلاق النار المحمية ووسائل الاتصال التي يمكن الذود عنها، كل ذلك كوّن بنية عسكرية تحتية مذهلة شُيّدت من أجل الهدف الواضح القاضي بالحفاظ على حملة دفاع مستدامة.
وبالتالي يجب أن يُنظر إلى اعتماد حزب الله تنظيماً وتكتيكات وأسلحة تقليدية وغير تقليدية في آن معاً ضمن إطار هذه الاستراتيجية الدفاعية المستمرة، وضمن الحدود التي تفرضها طبيعة النزاع غير المتماثلة. وبما يتناقض مع استراتيجية التحرير التي اعتمدها حزب الله سابقاً والتي قامت على تكتيكات حرب العصابات المعيارية المصمّمة لإنهاك عدوّ على امتداد فترة من الزمن، كان لا بدّ من تطبيق استراتيجية الدفاع التقليدية التي اعتمدها حزب الله بسرعة، من أجل صدّ أي اجتياح قبل أن تتسنى له فرصة التحول إلى احتلال، ضمن الموارد والإمكانات المحدودة التي يمتلكها. بترجمة عملية، عنى ذلك أن الحزب كان يستطيع أن يستخدم، جزئياً فقط، الوسائل التي تستعملها الجيوش التقليدية في تطبيقها استراتيجياتها الدفاعية، كما توجب عليه الاعتماد على وسائل غير تقليدية صُمِّمت أساساً من أجل حرب استنزاف ضد قوات الاحتلال على نمط حرب العصابات.
على الصعيد التكتيكي، إن الطابع السرّي للعمل الذي يتشاطره حزب الله مع قوى غير نظامية أخرى كان فعّالاً أيضاً في تحقيق أهدافه الاستراتيجية، إذ إنه لم يكشف للعدو أهدافاً مثل ثكنات ودبابات، ولا خلّف وراءه «أثراً لوجستياً» يمكن أن يُستهدف. وقد استخدمت قوات المقاومة تكتيكات مختلطة تقضي بأن «تصمد في بعض الأماكن فيما تتراجع من أخرى، وتقوم بهجومات مضادة في مواقع معينة ولكنها تنسحب من أخرى»، كما فصّل أحد التقارير العسكرية الأميركية. من جهة، وزّعت المقاومة قواتها على شكل خلايا صغيرة التزمت بتكتيكات قتالية متحركة وهجومات فجائية، بالإضافة إلى فاعلين عسكريين غير تقليديين. ومن جهة ثانية، اعتمدت تكتيكات تستخدمها عادة الجيوش التقليدية. فبما يتناقض مع العمليات التي تقوم بها العصابات وتستخدم مبدأ «الضرب والهرب»، خاض مقاتلو حزب اللّه أيضاً حرب مواقع، فصمدوا في مواقعهم فترات طويلة ورفضوا تسليم الأرض لقوات إسرائيل المتقدمة. ثم إن مقاتلي المقاومة، على الرغم من أنهم يمثّلون جزءاً لا يتجزأ من السكان المدنيين، شأنهم شأن معظم المقاتلين غير النظاميين، أحجموا عن الاختلاط بهؤلاء السكان كما تفعل مجموعات حرب العصابات. فعلى غرار الجيوش التقليدية الكلاسيكية، اتّخذ مقاتلو المقاومة لأنفسهم بزّات عسكرية ليتمايزوا عن المدنيين، واحتجبوا في ثكنات.
وعكست أيضاً المجموعةُ الواسعة من الأسلحة التي استخدمها حزب الله مزاوجته الأساليب الحربية غير التقليدية بالتقليدية، إذ إنها قرنت الأسلحة البدائية، التي يسهل على معظم مجموعات حرب العصابات الحصول عليها، بأنظمة الأسلحة المتطوّرة التي نافست حتى أسلحة بعض الدول. بيد أن هذا الجمع بين البالي والحديث ليس الشاهد الوحيد على المساهمة الفريدة التي قدّمها حزب الله للعمليات الحربية، بل تمثّل العنصر الأكثر تعبيراً عنها بمهارته في تحويل بدائية هذه الأسلحة لمصلحته، فيما استخدم أسلحة أكثر تطوّراً استخداماً خلاّقاً. فقد نجح حزب الله في شلّ شمال إسرائيل بفعالية بواسطة دفعات أطلقها يومياً من صواريخ الكاتيوشا القصيرة المدى غير الموجهة، التي أفلتت من نظام الاعتراض الصاروخي الذي تشكّله دروع الدفاع الصاروخية العالية التقنية التي تمتلكها إسرائيل، ما مكّن الحزب من استخراج قيمة استراتيجية كبيرة من هذا السلاح غير المجدي تكتيكياً. كما أطلق الحزب أيضاً صواريخ مدفعية تقليدية متوسطة المدى ضد مدن وبلدات إسرائيلية أخرى كانت تقع سابقاً خارج مرمى صواريخه، ما أعطى أساساً لتهديده بقصف تل أبيب إذا تعرضت بيروت لاعتداء إسرائيلي. وتجسّد العمل الذي تجاوزت براعته كل ما سبق بالضربة المفاجئة التي وجهها حزب الله لسفينة حربية إسرائيلية بواسطة صاروخ طواف مضاد للسفن موجه برادار، يبدو أنه نسخة معدلة إيرانية عن الصاروخ الصيني «سي 802». وبموازاة تهجين الصواريخ الذي أجراه حزب الله، استخدمت المقاومة صواريخ مضادة للدبابات روسية الصنع أقدم عهداً موجهة سلكياً، مثل صاروخ آي تي ساغير وآي تي 4 سبايغوت وآي تي 5 سباندريل، وأخرى أكثر تطوراً مثل آي تي 14 كورنيت وآي تي 13 ماتيس أم وصاروخ آر بي جي 29. وفي الواقع، ألحقت المقاومة العدد الأكبر من الإصابات الإسرائيلية بواسطة هذه الأسلحة المضادة للدبابات عبر استهداف دبابات وجنود وأي منازل وملاجئ وسيارات استخدمتها قوات الدفاع الإسرائيلية، الأمر الذي عكس الحيلة الواسعة التي يمتلكها حزب الله في القتال.

وفي مجال الحرب الإلكترونية أيضاً، شلّ حزب الله تفوّق إسرائيل التكنولوجي بـ«البساطة» وفق تعبير السيد نصر الله. فمن خلال الاعتماد على الخطوط الأرضية المصنوعة من الألياف البصرية بدل الإشارات اللاسلكية الأكثر تطوراً في شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة، حصّن الحزب هذه الشبكة من محاولات إسرائيل القيام بتعطيل إلكتروني. وبهذه الطريقة، استطاع أن يلتف على النظام الحربي الإلكتروني الذي تمتلكه إسرائيل وتتبجح به عالياً وحافظ، طوال مدة الحرب، على منظومته، منظومة القيادة والسيطرة. وتمكّن حزب الله، في الوقت عينه، من اختراق الأجهزة الحربية الإلكترونية الإسرائيلية بإمكاناته الاستخباراتية الخاصة المتقدمة المعنية بجمع المعلومات. فبالإضافة إلى طائرات الاستطلاع مرصاد 1 التي أرسلها فوق المجال الجوي الإسرائيلي منذ 2004، حصل على تقنية مراقبة أخرى تتضمن أجهزة تنصت إلكترونية استخدمها من أجل مراقبة المحادثات التي يجريها بالعبرية جنودُ الاحتياط الإسرائيليون مع عائلاتهم عبر الهواتف الخلوية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ إن حزب الله، من خلال استخدام أجهزة وتقنيات أخرى، اعترض الاتصالات الإسرائيلية اللاسلكية وفكّك رموزها، ما مكّنه من تعقّب تحركات الدبابات الإسرائيلية ومراقبة تقارير الإصابات وطرق الإمدادات أيضاً.
من زاوية التنظيم، تتميز مقاومة حزب الله بخصائص عديدة خاصة بالقوات غير النظامية. فكحزب يشكل مجتمعُه قاعدته، تتألف قوات حزب الله القتالية من مجموعة محورية نخبوية قوامها ألف مقاتل محترف تقريباً، بالإضافة إلى عدد غير محدد من القرويين الذين يؤدون دور الاحتياط. كما تُعتبَر القيادة غير المركزية وبنية السيطرة، المرفقتَان بسرية تنظيمية لا يمكن اختراقها عملياً، أيضاً من المميزات النموذجية التي تتصف بها مجموعات حرب العصابات. ولكن هذه المواصفات يوازنها الانضباط الصارم والتنسيق الوثيق بين المقاتلين، وهو أمر يسم القوات المسلحة التقليدية. زِد على ذلك أن تهديد السيد نصر الله بإطلاق «عشرات آلاف» المقاتلين «المدربين والمجهزين» على القوات الإسرائيلية، إذا أعدّت للقيام باجتياح أرضي، يُلمح إلى احتمال قيام الحزب بتحويل الاحتياط لديه إلى قوة قتالية محترفة. وما ورد من تقارير تحدثت عن إطلاق حزب الله «عملية تجنيد وتدريب شاملة»، بعد أشهر من حرب تموز/ يوليو، أضفى بعض المصداقية على مثل هذه الاستنتاجات.
ولكن على الرغم من النجاح المثبت لنموذج حزب الله الحربي، أعاد الحزب تقييم أدائه القتالي وحاول أن يستبق خطة العمليات التي تعدّها إسرائيل للحرب المقبلة على أساس معرفة هذه الأخيرة نقاط ضعفها الخاصة. وعليه، إن هذه الحسابات هي التي سوف تتحكّم باستراتيجية الحزب وبتكتيكاته المستقبلية كما أكّد السيد نصر الله: «تعلمنا من تجربة حرب تموز وعملنا التقييم المطلوب واكتشفنا نقاط القوة ونقاط الضعف عندنا، ونقاط القوة ونقاط الضعف عند العدو وعملنا عليها». وهذه العملية بالتحديد، المتمثلة بالتقييم الذاتي والتكيّف مع الظروف والحاجات، هي الأساس لنجاح نموذج المقاومة الذي وضعه حزب الله. فبدل الالتزام باستراتيجية عسكرية متصلبة، مهما أثبتت نجاحها في الماضي، تعيد المقاومة باستمرار التأقلم مع بيئة سياسية وعسكرية متغيرة.
وهكذا تكمن قوة حزب الله في اعتماده عقيدة عسكرية ليست نظرية غير عملية. قد يعني هذا فعلياً أن المقاومة ستراجع استراتيجيتها العسكرية للحرب المقبلة، وتحوّلها من عقيدة دفاعية صرفة إلى عقيدة تقوم على الدفاع في جزء منها، وعلى شنّ هجمات مضادة في الجزء الآخر؛ بتعابير أخرى، عقيدة تبقى دفاعية في الجوهر ولكنها تُطعَّم بجرعة عالية من القدرة الهجومية. بالإضافة إلى ذلك، ثمة احتمال قوي بأن يُدخل الحزب تكتيكات جديدة تخدم أهدافه الاستراتيجية الأوسع. وقد لمّح إلى هذا الاحتمال تهديدُ السيد نصر الله الشهير بإطلاق «مفاجأة كبرى» إذا شنّت إسرائيل حرباً على لبنان.
اعتقد معظم المراقبون بداية أن مفاجأة السيد نصر الله هي امتلاك المقاومة صواريخ مضادة للطائرات سوف تستخدمها ضد طائرات إسرائيلية تخترق المجال الجوي اللبناني. وبينما يُعرف عن حزب الله امتلاكه صواريخ أس آي 7، ويُفترض أنه حصل على طائرات أس آي 18 الأكثر تطوراً عام 2002، ظهر العديد من التقارير سنة 2008 ليشير إلى امتلاكه نظام الدفاع الجوي الصاروخي المتحرك المتطور آس آي 8. ولكن على الرغم من أن الحزب سيستخدم صواريخ سام المتطورة إذا ثبتت صحة هذه التقارير، من المشكوك بأمره أن تكون تلك هي المفاجأة التي أشار إليها السيد نصر الله الآن بعدما هدّد صراحة بإنزال طائرات إسرائيلية بواسطة هذه الصواريخ، ما يجرّد استخدامها من عنصر المفاجأة. أما الفرضية الأجدر بالتصديق فتقول إن مفاجأة السيد نصر الله تلمح إلى اعتماد المقاومة استراتيجية وتكتيكات عسكرية جديدة، كما يوحي بذلك تهديده اللاحق لإسرائيل بأن جيش العدو سيشهد أسلوباً قتالياً غير مسبوق لم يره منذ قيام كيانه الغاصب.
قد تتضمن هذه التكتيكات عمليات داخل الأراضي الإسرائيلية كما أشار تلميحاً مقاتلو المقاومة الذين قابلهم الصحافي نيكولاس بلاندفورد: «قال أحد القادة المحليين في جنوب لبنان إن حزب الله خاض حرباً دفاعية عام 2006»، وأضاف: «في المرة المقبلة، سنكون هجوميين وستكون حرب من نوع مختلف تماماً». يقول جواد (وهو مقاتل محلي) إن الحرب في المرة المقبلة ستُخاض «في إسرائيل أكثر مما تُخاض من لبنان»، وما هذا إلاّ تعليق من بين تعليقات كثيرة أدلى بها مقاتلون متعددون يوحون بأن حزب الله يخطط لعمليات فدائية داخل شمال إسرائيل. ومع أن هذه الأقاويل يمكن أن تُفسّر بأنها جزء من حرب نفسية، تتحضر المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية لسيناريو مفاده أن فرقاً فدائية من المقاومة قد تتسلّل إلى القرى والبلدات الواقعة عند الحدود الشمالية وتقتل إسرائيليين.
بغض النظر عن التكتيك الذي سيُستخدم، يجب أن يضمن حزب الله أنه سيحقق «وعد» السيد نصر الله بتوجيه ضربة حاسمة إلى إسرائيل. فكما ردّد قائد حزب الله عام 2007، إن المفاجأة التي يُعدّها لإسرائيل تتمتع بالقدرة على تغيير مجرى الحرب وخارطة المنطقة، وعلى تحقيق «الانتصار التاريخي الحاسم». وقد كرّر السيد نصر الله كلامه بعد سنة قائلاً: «سيكون نصرنا الآتي، إن شاء الله، نصراً حاسماً واضحاً جازماً لا لبس فيه»، إذ سوف «يدمّر» حزب الله الفرق الخمس التي هدّد باراك بنشرها في لبنان. ويشير تنبّؤ السيد نصر الله إلى النتيجة المتوقعة من الحرب المقبلة من خلال كلامه على «التدمير» المحتمل لـ«الدولة الغاصبة»، تدمير سيكون نتيجة هزيمة إسرائيل التي يُتنبّأ بها.
من المجدي هنا مقارنة خطاب السيد نصر الله ما بعد الحرب مع أهداف حزب الله المعلنة في خلال حرب تموز. ففي عام 2006، لم يحدّد الحزب أيّ هدف عسكري باستثناء الدفاع عن لبنان من العدوان الإسرائيلي ومنع أعدائه من احتلال الأرض. وعلى هذا الأساس، تمكّن حزب الله من إعلان النصر، أقله بالمعنى التكتيكي القائل إنه ربح تلك المعركة المعينة، عندما عمل على الدفاع عن النفس وحرم خصمه من النصر، إذ إن قواته اضطرت إلى الانسحاب من دون تحقيق هدف واحد من الأهداف التي أعلنتها حكومته. ولكن حزب الله حدّد لنفسه أهدافاً استراتيجية كبيرة جداً في الجولة التالية من الحرب، فبعدما تلفّظ بتعبير «نصر حاسم» مع تبعات إقليمية عميقة كهدف جديد له، سوف يضطر إلى أن يضمن تحقيقه نصراً استراتيجياً في المعركة التالية مع إسرائيل. ويتحتم على مثل هذا النصر أن ينهي، مرة واحدة وأخيرة، حالة «الحرب المفتوحة» التي تقوم بين العدوَّين، والأهم، أن يشلّ نهائياً التهديد الدائم الذي تمثّله إسرائيل بالنسبة إلى المنطقة. ووفقاً لذلك، إن أيّ حرب مقبلة مع إسرائيل ينبغي أن تكون حتماً الحرب الأخيرة بالنسبة إلى حزب الله.
* باحثة لبنانيّة
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)

butterfly
16/08/2009, 20:35
من قرأت لك
:mimo: