sheldi
06/08/2009, 00:18
يعتبر النقد بكل أنواعه علامة صحية، ودليل النضج في أي مجتمع من المجتمعات قديما وحديثا، فالنقد ليس محصورا فقط في الأدب والفلسفة، بل هو يشمل كل مظاهر الحياة؛ وبالتالي، فهو ضرورة وليس مجرد بذخ؛ ولا يعني التعرض "باستعمال لهجة القدح" لأعراض الناس وإنما يعني القيام بالتفكير من أجل تجاوز المشكلات التي تعترض المجتمعات والسعي لإيجاد حلول لها. ومن هنا، فإننا نجد كلا من عصري النهضة والتنوير في أوروبا كثيرا ما يعدان رديفين للنقد. بمعنى أنه من المستحيل أن تتحقق النهضة وأن يتجسد التنوير بدون وجود النقد كفاعلية تمس الثقافة، والاقتصاد، والسياسة إلخ.
وهكذا، فقد اضطلع النقد ولا يزال يضطلع بالبناء الحضاري في جميع التجارب الإنسانية الناجحة، وهنا، فإنه ينبغي التوضيح بكل جلاء بأن النقد علم وليس مماحكات، وأشكالا من القول السطحي. وبناء على ما تقدم، فإن حياتنا في حاجة إلى الفكر النقدي.
أنماط النقد:
هنالك نوعان من النقد الاجتماعي والسياسي ويمكن تفريعهما إلى عدة فروع: هنالك نقد الظواهر والحالات اليومية التي تطفو إلى السطح ويجمع عليها الناس بأنها تنغص حياتهم.
وهنالك نقد البنيات المادية، والأفكار، والأيديولوجيات، والمواقف الثقافية، والسياسية الكبرى. ومما لا شك فيه أن ثمة تلازما وتأثيرا متبادلا بين الظواهر والحالات اليومية وبين البنيات بكل تعقيداتها وتشابكها، غير أن هذا التلازم ليس دائما واضحا من جهة، وليس تزامنيا بالضرورة من جهة أخرى. إن وجود فساد إداري في ولاية ما أو بلدية ما في بلد مثل فرنسا لا يعني أن البنيات والأفكار والأسس الثقافية للدولة الفرنسية فاسدة كلية بالضرورة وبحتمية ميكانيكية؛ إن أهم ما يميز المجتمعات المتطورة هو القدرة الذاتية على التمييز بين فساد البنيات أو تعطل بعضها وبين الظواهر الشاذة أو المنحرفة. وبناء على ذلك فإن النقد في الفضاءات الأكثر تحديثا وحداثة ووعيا سياسيا وأسسا مادية واجتماعية وثقافية وتعليمية له شروط وأخلاقيات.
في هذه البلدان تلعب مؤسسات التعليم بكافة أنواعها ومستوياتها دور إعداد الإنسان المدرك لمجتمعه، والشخصية الحرة النقدية والفاعلة والقادرة على المبادرة وتفعيلها إبداعيا، كما تلعب فيها المعارضات السياسية دور الرقيب الإيجابي، وتعمل ليل نهار من أجل جعل العمل السياسي فعلا حضاريا.
وفيها أيضا نجد المجتمع المدني المستقل بجمعياته، وروابطه، وإعلامه، وتنظيماته، ومنظماته متوغلا في العمق الشعبي الذي يسنده ويتفاعل معه، وبالتأكيد فإن هذا النمط من المجتمع المدني ليس موجودا ببلداننا إلى حد الآن، ويمثل هذا النقص ثغرة كبيرة في حياتنا السياسية والاجتماعية والمهنية والثقافية والتربوية والاقتصادية.
أعود إلى التقسيم الذي بدأت به لكي أوضح أن مهام كل فريق تختلف عن الفريق الآخر في الأسلوب وفي المحتوى. إن ما أسميه بحراس الجوهر المحرك للمجتمع من فلسفة وعلوم وآداب ومعمار واقتصاد وقوانين وتعليم هم الذين يمارسون النقد من أجل تغيير الذهنيات، والمسارات الحضارية الكبرى، وبالتالي فهم المسؤولون تاريخيا عن تأسيس المنعطفات الفكرية والأخلاقيات والنقلات العقائدية، وعلى بناء الثقافة الجديدة التي تصبح المنوال الذي ينسج الإنسان المراد تشكيله ليكون الصورة الجديدة للمجتمع.
عندما ألجأ إلى هذا النوع من التقسيم فإنني لا أعني خلق فواصل بين الشعب في عمومه وعامته وبين الانتلجنسيا المفكرة على تجاوز ردود الفعل والرفض الانفعالي إلى التحليل والتركيب وبالتالي إلى رسم البدائل، كل ما أريد قوله هو أن لكل فريق اختصاصاته ومهامه؛ إن هذا يجب أن يكون واضحا حتى لا تختلط الأوراق كما هو الوضع في بلداننا مع الأسف الشديد والمؤلم.
ابن رشد وجان بول سارتر:
سأعطي هنا مجموعة من الأمثلة حتى أبرز ما أقصده، إن الفيلسوف ابن رشد لم نقرأ له نصا تحدث فيه نقديا عن تنظيف الشوارع المتسخة، أو تحدث فيه عن مشكلة أزمة السكن، أو عن الطرائق المثلى لتربية الدجاج أو الماشية، فابن رشد كان معنيا أساسا بالحوار مع الفكر الفلسفي اليوناني مدشنا مع من سبقه ومع من لحقه استراتيجية المثاقفة والحوار مع الغرب المتمثل آنذاك في اليونان. كما أنه كان مشغولا بدفع الاجتهاد في الفكر الإسلامي إلى الأمام بعيدا عن صنمية التحجر الفكري والديني.
بمعنى أن ابن رشد أراد أن يوسع من رقعة حرية التفكير داخل الثقافة الإسلامية. وبالتالي فإنه انتصر للتأويل على حساب الاجماع الزجري المنغلق، ولذلك فإن ابن رشد في كتابه "فصل المقام..." يصنف الناس إلى جمهور، وجدليين، وعلماء، ويرى أن لكل مهمته ولا ينبغي الخلط في ذلك.
لنأخذ مفكرا غربيا وهو جان بول سارتر الذي يمكن تقسيم فكره إلى ثلاثة حقول: حقل أبرز فيه اهتمامه بالحرية الفردية والمسؤولية، وحقل أكد فيه على ضرورة إنهاء الاستعمار بما في ذلك استعمار بلاده فرنسا، وحقل آخر ركز فيه جهده من أجل نقد الرأسمالية على ضوء اشتراكية خاصة به والتي هي موضع جدل خلافي حتى يومنا هذا.
سقت هذين النموذجين لأصل إلى نتيجة أن المهام النقدية للانتلجنسيا المفكرة تختلف عن مهام العامة التي تصب اهتمامها على الظواهر اليومية في المجتمع مثل المواصلات، ومشاكل المرور، والرشوة، وفساد الوزراء، والولاة، ورؤساء البلديات، والمقاولين وهلم جرا، مهمة الطليعة المثقفة المفكرة تتمثل أساسا في إعادة بناء النفسيات، والذهنيات، والأنماط الثقافية، والأخلاقيات والبنيات التي تفرز كل هذه العناصر وتتبادل فيما بينها على نحو معقد جدا لا بد من الاشارة إلى ضرورة تجنب منح الأسبقية لهذه على حساب تلك.
أعجبني ابن خلدون في كتابه "المقدمة" عندما تحدث بتركيز شديد على الروابط الاجتماعية في أي مجتمع، فهو يقول مثلا بأن رغيف الخبز الذي نتناوله كغذاء يأتي إلينا أو نذهب إليه مذاهب شتى. فالقمح يمر بمراحل لكي ينتج، فهو يحتاج إلى فلاح وإلى من يحصده وإلى من يطحنه، وإلى تاجر يبيعه؛ فالتخصص سمة من سمات الحضارة والمدنية والعمران بالتعبير الخلدوني، لنسحب هذا على النقد الاجتماعي والسياسي.
النقد المعماري والنقد السياسي:
ولنتوقف هنا عند بعض النماذج فقط، لنأخذ أولا النقد المعماري الذي تخلو منه مجلاتنا وصحفنا في الغالب. إنه لا يمكن لصحفي نال شهادة التخرج من الجامعة في اختصاص تغطية أعمال اجتماعات البرلمان، او اختصاص متابعة أخبار آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية أن يمارس النقد المعماري. إن نقد المعمار تخصص قائم بذاته، ويحتاج إلى تكوين وتجربة ودراية.
كما أنه يحتاج إلى استشارات يوفرها المعماريون الذين أثبتوا قدراتهم الابداعية من جهة، والذين يتمتعون بالدراية في مجال العلاقة المتبادلة بين المحيط المعماري وبين النفسية البشرية في اطار ثقافة وتقاليد معينة. إن الصحفي الذي تسند إليه مهمة متابعة وتحليل ونقد القوانين التي تسنها الدولة مفترض فيه أن يكون متخصصا في هذا الميدان حتى يستطيع أن يمارس نقدها بغية إحلال أخرى محلها أو تعديلها. إن الدعوة إلى التخصص في ميدان النقد الاجتماعي ضروري كما أن التخصص في مجال النقد السياسي شرط أساسي لتطوير الممارسة والنظرية السياسية معا.
ان أغلب النقد السياسي المتداول في بلداننا يدخل إما في اطار المدح والتقريض والتبرير، أو في إطار الشتم والقذف والتحرير إذا كانت السياسة هي فنّ الحكم فإن النقد السياسي هو علم يدقق في ذلك الفن.
ففي الكتابات التي تأخذ الطابع السياسي ببلداننا نلاحظ فيها الشكوى من هشاشة الديمقراطية فيها حينا ومن غيابها أحيانا. ولكن نادرا ما نقرأ نصوصا في صورة مقالات أو دراسات تقدم مشاريع واضحة وعلمية للهندسة الديمقراطية لمجتمعاتنا. كيف يمكن مثلا أن نتصور ديمقراطية سياسية في غياب الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعرفية والقانونية؟.
فالمظلة الاجتماعية التي توفرها دولة الرعاية الاجتماعية تمثل شرطا إجباريا للديمقراطية السياسية. كيف يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية في ظل شبح الأمية الذي يطارد نسبة ما لا يقل عن 50 بالمائة من مواطنينا ومواطناتنا؟ وكيف يمكن أن ندعو إلى التعددية الحزبية في ظل مجتمع بطريريكي يسيطر فيه الرجل على المرأة؟ كيف يمكن أن نطالب الحاكم أن يعدل في الوقت الذي تخلو فيه العلاقات داخل الأسرة وعلى المستوى الشعبي من العدالة؟ إذا كانت الديمقراطية تنظيما للحريات فهل يمكن أن تكون الأولى في غياب الثانية؟.
أعود إلى موضوع نقد الظواهر اليومية التي تطفو إلى السطح، وأرى أن الاضطلاع بها من مسؤولية وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية، والمجتمع المدني، وما أسميه بالوازع المدني للمجتمع كله، نعم هنالك حجر على حرية التعبير والنقد ببلداننا وتضييق لمساحة الرأي المخالف والمختلف، ولكن أليس دور المفكرين والنقاد هو توسيع هذه المساحة والتضحية من أجل إنجاز ذلك؟.
ففي تقديري فإن النقد بشكل عام ليس مجرد اصطياد الأخطاء، أو ممارسة المعارضة لهذه الفكرة، أو لذلك المشروع فقط؛ فالنقد الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي أو الفكري أو الفني وهلم جرا، هو ظاهرة بناء وتحويل، وتغيير. فالنقد في معناه الفلسفي هو التأسيس، أي تأسيس فكر محض وفكر عملي يشجعان على استخدام العقل الفاعل المستقل، وعلى الخروج من الوصاية مهما كانت، ومهما كان مصدرها.
أزراج عمر
وهكذا، فقد اضطلع النقد ولا يزال يضطلع بالبناء الحضاري في جميع التجارب الإنسانية الناجحة، وهنا، فإنه ينبغي التوضيح بكل جلاء بأن النقد علم وليس مماحكات، وأشكالا من القول السطحي. وبناء على ما تقدم، فإن حياتنا في حاجة إلى الفكر النقدي.
أنماط النقد:
هنالك نوعان من النقد الاجتماعي والسياسي ويمكن تفريعهما إلى عدة فروع: هنالك نقد الظواهر والحالات اليومية التي تطفو إلى السطح ويجمع عليها الناس بأنها تنغص حياتهم.
وهنالك نقد البنيات المادية، والأفكار، والأيديولوجيات، والمواقف الثقافية، والسياسية الكبرى. ومما لا شك فيه أن ثمة تلازما وتأثيرا متبادلا بين الظواهر والحالات اليومية وبين البنيات بكل تعقيداتها وتشابكها، غير أن هذا التلازم ليس دائما واضحا من جهة، وليس تزامنيا بالضرورة من جهة أخرى. إن وجود فساد إداري في ولاية ما أو بلدية ما في بلد مثل فرنسا لا يعني أن البنيات والأفكار والأسس الثقافية للدولة الفرنسية فاسدة كلية بالضرورة وبحتمية ميكانيكية؛ إن أهم ما يميز المجتمعات المتطورة هو القدرة الذاتية على التمييز بين فساد البنيات أو تعطل بعضها وبين الظواهر الشاذة أو المنحرفة. وبناء على ذلك فإن النقد في الفضاءات الأكثر تحديثا وحداثة ووعيا سياسيا وأسسا مادية واجتماعية وثقافية وتعليمية له شروط وأخلاقيات.
في هذه البلدان تلعب مؤسسات التعليم بكافة أنواعها ومستوياتها دور إعداد الإنسان المدرك لمجتمعه، والشخصية الحرة النقدية والفاعلة والقادرة على المبادرة وتفعيلها إبداعيا، كما تلعب فيها المعارضات السياسية دور الرقيب الإيجابي، وتعمل ليل نهار من أجل جعل العمل السياسي فعلا حضاريا.
وفيها أيضا نجد المجتمع المدني المستقل بجمعياته، وروابطه، وإعلامه، وتنظيماته، ومنظماته متوغلا في العمق الشعبي الذي يسنده ويتفاعل معه، وبالتأكيد فإن هذا النمط من المجتمع المدني ليس موجودا ببلداننا إلى حد الآن، ويمثل هذا النقص ثغرة كبيرة في حياتنا السياسية والاجتماعية والمهنية والثقافية والتربوية والاقتصادية.
أعود إلى التقسيم الذي بدأت به لكي أوضح أن مهام كل فريق تختلف عن الفريق الآخر في الأسلوب وفي المحتوى. إن ما أسميه بحراس الجوهر المحرك للمجتمع من فلسفة وعلوم وآداب ومعمار واقتصاد وقوانين وتعليم هم الذين يمارسون النقد من أجل تغيير الذهنيات، والمسارات الحضارية الكبرى، وبالتالي فهم المسؤولون تاريخيا عن تأسيس المنعطفات الفكرية والأخلاقيات والنقلات العقائدية، وعلى بناء الثقافة الجديدة التي تصبح المنوال الذي ينسج الإنسان المراد تشكيله ليكون الصورة الجديدة للمجتمع.
عندما ألجأ إلى هذا النوع من التقسيم فإنني لا أعني خلق فواصل بين الشعب في عمومه وعامته وبين الانتلجنسيا المفكرة على تجاوز ردود الفعل والرفض الانفعالي إلى التحليل والتركيب وبالتالي إلى رسم البدائل، كل ما أريد قوله هو أن لكل فريق اختصاصاته ومهامه؛ إن هذا يجب أن يكون واضحا حتى لا تختلط الأوراق كما هو الوضع في بلداننا مع الأسف الشديد والمؤلم.
ابن رشد وجان بول سارتر:
سأعطي هنا مجموعة من الأمثلة حتى أبرز ما أقصده، إن الفيلسوف ابن رشد لم نقرأ له نصا تحدث فيه نقديا عن تنظيف الشوارع المتسخة، أو تحدث فيه عن مشكلة أزمة السكن، أو عن الطرائق المثلى لتربية الدجاج أو الماشية، فابن رشد كان معنيا أساسا بالحوار مع الفكر الفلسفي اليوناني مدشنا مع من سبقه ومع من لحقه استراتيجية المثاقفة والحوار مع الغرب المتمثل آنذاك في اليونان. كما أنه كان مشغولا بدفع الاجتهاد في الفكر الإسلامي إلى الأمام بعيدا عن صنمية التحجر الفكري والديني.
بمعنى أن ابن رشد أراد أن يوسع من رقعة حرية التفكير داخل الثقافة الإسلامية. وبالتالي فإنه انتصر للتأويل على حساب الاجماع الزجري المنغلق، ولذلك فإن ابن رشد في كتابه "فصل المقام..." يصنف الناس إلى جمهور، وجدليين، وعلماء، ويرى أن لكل مهمته ولا ينبغي الخلط في ذلك.
لنأخذ مفكرا غربيا وهو جان بول سارتر الذي يمكن تقسيم فكره إلى ثلاثة حقول: حقل أبرز فيه اهتمامه بالحرية الفردية والمسؤولية، وحقل أكد فيه على ضرورة إنهاء الاستعمار بما في ذلك استعمار بلاده فرنسا، وحقل آخر ركز فيه جهده من أجل نقد الرأسمالية على ضوء اشتراكية خاصة به والتي هي موضع جدل خلافي حتى يومنا هذا.
سقت هذين النموذجين لأصل إلى نتيجة أن المهام النقدية للانتلجنسيا المفكرة تختلف عن مهام العامة التي تصب اهتمامها على الظواهر اليومية في المجتمع مثل المواصلات، ومشاكل المرور، والرشوة، وفساد الوزراء، والولاة، ورؤساء البلديات، والمقاولين وهلم جرا، مهمة الطليعة المثقفة المفكرة تتمثل أساسا في إعادة بناء النفسيات، والذهنيات، والأنماط الثقافية، والأخلاقيات والبنيات التي تفرز كل هذه العناصر وتتبادل فيما بينها على نحو معقد جدا لا بد من الاشارة إلى ضرورة تجنب منح الأسبقية لهذه على حساب تلك.
أعجبني ابن خلدون في كتابه "المقدمة" عندما تحدث بتركيز شديد على الروابط الاجتماعية في أي مجتمع، فهو يقول مثلا بأن رغيف الخبز الذي نتناوله كغذاء يأتي إلينا أو نذهب إليه مذاهب شتى. فالقمح يمر بمراحل لكي ينتج، فهو يحتاج إلى فلاح وإلى من يحصده وإلى من يطحنه، وإلى تاجر يبيعه؛ فالتخصص سمة من سمات الحضارة والمدنية والعمران بالتعبير الخلدوني، لنسحب هذا على النقد الاجتماعي والسياسي.
النقد المعماري والنقد السياسي:
ولنتوقف هنا عند بعض النماذج فقط، لنأخذ أولا النقد المعماري الذي تخلو منه مجلاتنا وصحفنا في الغالب. إنه لا يمكن لصحفي نال شهادة التخرج من الجامعة في اختصاص تغطية أعمال اجتماعات البرلمان، او اختصاص متابعة أخبار آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية أن يمارس النقد المعماري. إن نقد المعمار تخصص قائم بذاته، ويحتاج إلى تكوين وتجربة ودراية.
كما أنه يحتاج إلى استشارات يوفرها المعماريون الذين أثبتوا قدراتهم الابداعية من جهة، والذين يتمتعون بالدراية في مجال العلاقة المتبادلة بين المحيط المعماري وبين النفسية البشرية في اطار ثقافة وتقاليد معينة. إن الصحفي الذي تسند إليه مهمة متابعة وتحليل ونقد القوانين التي تسنها الدولة مفترض فيه أن يكون متخصصا في هذا الميدان حتى يستطيع أن يمارس نقدها بغية إحلال أخرى محلها أو تعديلها. إن الدعوة إلى التخصص في ميدان النقد الاجتماعي ضروري كما أن التخصص في مجال النقد السياسي شرط أساسي لتطوير الممارسة والنظرية السياسية معا.
ان أغلب النقد السياسي المتداول في بلداننا يدخل إما في اطار المدح والتقريض والتبرير، أو في إطار الشتم والقذف والتحرير إذا كانت السياسة هي فنّ الحكم فإن النقد السياسي هو علم يدقق في ذلك الفن.
ففي الكتابات التي تأخذ الطابع السياسي ببلداننا نلاحظ فيها الشكوى من هشاشة الديمقراطية فيها حينا ومن غيابها أحيانا. ولكن نادرا ما نقرأ نصوصا في صورة مقالات أو دراسات تقدم مشاريع واضحة وعلمية للهندسة الديمقراطية لمجتمعاتنا. كيف يمكن مثلا أن نتصور ديمقراطية سياسية في غياب الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعرفية والقانونية؟.
فالمظلة الاجتماعية التي توفرها دولة الرعاية الاجتماعية تمثل شرطا إجباريا للديمقراطية السياسية. كيف يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية في ظل شبح الأمية الذي يطارد نسبة ما لا يقل عن 50 بالمائة من مواطنينا ومواطناتنا؟ وكيف يمكن أن ندعو إلى التعددية الحزبية في ظل مجتمع بطريريكي يسيطر فيه الرجل على المرأة؟ كيف يمكن أن نطالب الحاكم أن يعدل في الوقت الذي تخلو فيه العلاقات داخل الأسرة وعلى المستوى الشعبي من العدالة؟ إذا كانت الديمقراطية تنظيما للحريات فهل يمكن أن تكون الأولى في غياب الثانية؟.
أعود إلى موضوع نقد الظواهر اليومية التي تطفو إلى السطح، وأرى أن الاضطلاع بها من مسؤولية وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية، والمجتمع المدني، وما أسميه بالوازع المدني للمجتمع كله، نعم هنالك حجر على حرية التعبير والنقد ببلداننا وتضييق لمساحة الرأي المخالف والمختلف، ولكن أليس دور المفكرين والنقاد هو توسيع هذه المساحة والتضحية من أجل إنجاز ذلك؟.
ففي تقديري فإن النقد بشكل عام ليس مجرد اصطياد الأخطاء، أو ممارسة المعارضة لهذه الفكرة، أو لذلك المشروع فقط؛ فالنقد الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي أو الفكري أو الفني وهلم جرا، هو ظاهرة بناء وتحويل، وتغيير. فالنقد في معناه الفلسفي هو التأسيس، أي تأسيس فكر محض وفكر عملي يشجعان على استخدام العقل الفاعل المستقل، وعلى الخروج من الوصاية مهما كانت، ومهما كان مصدرها.
أزراج عمر