sheldi
02/08/2009, 14:36
نوبار ودرويش وكونراد وأن ترى \"العالم أجمع أرضاً غريبة\"
يجبر المنفى المرء على التفكير فيه ويا لها من تجربة فظيعة. انه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الاصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي: فلا يمكن البتة التغلب على ما يولّده من شجن اساسي. واذا ما كان صحيحاً ان الادب والتاريخ يحفلان بحوادث بطولية، ورومانسية، ومجيدة، بل وظافرة حدثت في حياة النفي، الا ان هذه الحوادث لا تعدو ان تكون جهوداً يقصد منها التغلب على اسى الغربة الشالّ. فمآثر المنفى لا يني يقوّضها فقدان شيء ما خلفه المرء وراءه الى الأبد.
ولكن اذا ما كان المنفى الحقيقي حالة فقدان مبرم، فكيف امكن له ان يتحول بتلك السهولة الى حافز قوي، بل ومخصب، من حوافز الثقافة الحديثة؟ لقد اعتدنا النظر الى الحقبة الحديثة على انها حقبة يتيمة ومغتربة روحياً، عصر القلق والغربة. وقد علّمنا نيتشه ألا نشعر بالارتياح للتقاليد، وعلّمنا فرويد ان نعد ألفة العائلة ذلك الوجه اللطيف المرسوم فوق غضبة قتل الآباء وغشيان المحارم. والثقافة الغربية الحديثة هي في جزء كبير منها نتاج المنفيين، والمهاجرين، واللاجئين. والفكر الاكاديمي، والنظري، والجمالي في الولايات المتحدة لم يصل الى ما هو عليه اليوم إلا بفضل اولئك الذين لجأوا اليها هرباً من الفاشية، والشيوعية، وسوى ذلك من الانظمة المجبولة على قمع الخارجين عليها وطردهم. بل ان الامر قد وصل بالناقد جورج شتاينر حد اقتراح اطروحة ثاقبة مفادها ان أدب \"المهجر\" يمثّل جنساً قائماً بذاته بين الاجناس الادبية في القرن العشرين، ادب كتبه المنفيون وعن المنفيين، ويرمز الى عصر اللاجئين. (...) أليس صحيحاً ان النظرة الى المنفى امر دنيوي على نحو لا براء منه وتاريخي بصورة لا تطاق\" وانه من فعل البشر بحق سواهم من البشر\" وانه، شأن الموت انما من غير نعمة الموت الاخيرة، قد اقتلع ملايين البشر من منهل التراث، والأسرة، والجغرافيا؟
ان ترى شاعراً في المنفى يعني - بخلاف قراءة شعر المنفى - ان ترى تناقضات المنفى مجسدة وفاعلة بشدة فريدة. فمنذ سنوات عدة قضيت بعض الوقت مع فايز احمد فايز، اعظم شعراء الاوردية المعاصرين. كان نظام ضياء الحق العسكري قد نفاه من وطنه باكستان، ووجد نوعاً من الترحيب في بيروت التي مزقتها النزاعات. وكان من الطبيعي ان يكون اقرب اصدقائه هناك من الفلسطينيين، غير انني احسست، على رغم مما كان من ألفة روحية بينه وبينهم\" ان ما من شيء كان منسجماً تمام الانسجام، لا اللغة، ولا التقاليد الشعرية، ولا تاريخ الحياة. مرة واحدة فقط، حين جاء إقبال احمد الى بيروت، وهو صديق باكستاني وزميل منفى، بدا على فايز انه قد تغلب على احساسه بالغربة المقيمة. جلسنا نحن الثلاثة في مطعم بيروتي معتم حتى وقت متأخر من احدى الليالي، بينما راح فايز يلقي قصائده. وبعد فترة، توقف هو وإقبال عن ترجمة أشعاره لي، غير ان ذلك لم يعد مهماً مع مرور الوقت. فما كنت ارقبه لم يكن بحاجة الى اية ترجمة: كان ضرباً من الأداء الذي يمثل عودة الى الوطن يعبر عنها من خلال التحدي والخسران، كأنهما يقولان: \"ضياء الحق، نحن هنا\". وبالطبع فإن ضياء الحق هو الذي كان في الوطن فعلاً وهو الذي ما كان ليسمع صوتيهما المتهللين.
راشد حسين مثقف فلسطيني. ترجم بياليك، وهو واحد من اكبر شعراء العبرية الحديثة، الى العربية، وقد بوأته فصاحته في مرحلة ما بعد 1948 سدة الخطابة والوطنية بلا منازع. وكان في البداية قد عمل في الصحافة الناطقة بالعبرية في تل أبيب، وأفلح في إقامة حوار بين كتّاب يهود وعرب، وعلى رغم اعتناقه الناصرية والقومية العربية. وبمرور الوقت، لم يعد بمقدور راشد حسين ان يتحمل ما كان يثقل كاهله من الضغوط، وغادر الى نيويورك. تزوج امرأة يهودية وبدأ يعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة، لكنه لم يكن يكف عن إثارة رؤسائه بأفكاره الخارجة عن المألوف وبلاغته الطوباوية. وفي 1972 عاد الى العالم العربي، لكنه لم يمكث هناك سوى بضعة شهور عاد بعدها الى الولايات المتحدة: فقد شعر بالغربة في سوريا ولبنان، وبالتعاسة في القاهرة. وآوته نيويورك من جديد، انما كذا فعلت فترات متطاولة من السكر والتبطل. كانت حياته خراباً، لكنه ظل من أكرم البشر وأحسنهم ضيافة. ومات بعد ليلة من السكر الثقيل حين امتدت النار من لفافة كان يدخنها في فراشه ووصلت الى مكتبة صغيرة من الأشرطة معظمها لشعراء يلقون قصائدهم. لقد اختنق راشد حسين بدخان الاشرطة. وأُعيد جثمانه الى الوطن لكي يدفن في مصمص، تلك القرية الصغيرة في اسرائيل حيث لا تزال تقيم أسرته.
هؤلاء وسواهم الكثير من الشعراء والكتّاب المنفيين يضفون كرامة على شرط شرّع له ان ينكر الكرامة، وان ينكر هوية الشعب. ومن الواضح من خلال امثال هؤلاء انك كيما تركز على المنفى بوصفه ضرباً من العقاب السياسي المعاصر لا بد ان ترسم خرائط لنطاقات من التجربة تتعدى تلك التي رسمها أدب المنفى ذاته. عليك اولاً ان تضع جانباً كلاً من جويس ونابوكوف وتفكر عوضاً عن ذلك بأعداد لا حصر لها ممن أُنشئت لأجلهم وكالات الأمم المتحدة. عليك ان تفكر باللاجئين الفلاحين الذين لا يحدوهم اي امل بالعودة الى ديارهم، ولا يملكون سوى بطاقة الإعاشة والرقم الذي اعطتهم اياه وكالة ما. وقد تكون باريس عاصمة مشهورة بمنفييها الكوسموبوليتانيين، غير انها ايضاً مدينة قضى فيها الكثير من الرجال والنساء المغمورين سنوات من الوحدة البائسة: فيتناميون، وجزائريون، وكمبوديون، ولبنانيون، وسنغاليون، وبيروفيون. عليك ان تفكر ايضاً بالقاهرة، وبيروت، ومدغشقر، وبانكوك، ومكسيكوسيتي. وكلما بعدت بك المسافة عن العالم الاطلسي، كلما اتسع ذلك القفر المهجور الرهيب: الاعداد الضخمة التي تبعث على اليأس، والبؤس المضاعف الذي يرزح تحته اولئك البشر \"بلا وثائق\" ممن ضاعوا على حين غرة، دونما تاريخ تمكن حكايته. ولكي تتأمل في أمر المسلمين المنفيين من الهند، او الهايتيين في اميركا، او البكينيين في اوقيانيا، او الفلسطينيين في ارجاء العالم العربي لا بد لك من ان تترك الملجأ المتواضع الذي توفره الذاتية وتفزع بدلاً من ذلك الى تجريدات السياسة واسعة النطاق. مفاوضات، وحروب تحرر وطني، وشعوب أُلقيت خارج اوطانها ودفعت، او نقلت، او سيقت الى اراضٍ مسدودة المسالك في مناطق اخرى: ما هي حصيلة مثل هذه التجارب؟ أليس من الواضح ويكاد ان يكون من المتعمد ان ليس ثمة سبيل الى اصلاحها او معالجتها؟
ونأتي الى القومية واقترانها الصميمي بالمنفى. فالقومية هي تأكيد على الانتماء الى مكان، وشعب، وتراث. وهي تؤكد على الوطن الذي خلقته جماعة تتقاسم اللغة، والثقافة، والعادات\" وهي، بفعلها هذا، انما تدرأ النفي، وتقاتل للحيلولة دون ما يجره من خراب. والحق، ان التفاعل بين القومية والمنفى هو اشبه بديالكتيك العبد والسيد عند هيغل، حيث يعمل كل من هذين الضدين على إملاء الآخر وتشكيله. فكل القوميات في مراحلها الاولى تتطور انطلاقاً من حالة الغربة. والكفاحات التي خيضت من اجل نيل اميركا استقلالها، ومن اجل توحيد ألمانيا او ايطاليا، ومن اجل تحرير الجزائر هي كفاحات تلك الجماعات القومية التي أُبعدت - أو نفيت - عما يعتبر طريقتها الملائمة في الحياة. وبذا فإن القومية الظافرة، او المتحققة تبرر، على نحو استعادي ومستقبلي في آنٍ معاً، ذلك التاريخ الذي يخاط معاً بصورة انتقائية في ضرب من الشكل السردي: هكذا يكون للقوميات جميعاً آباؤها المؤسسون، ونصوصها الاساسية شبه الدينية، وبلاغتها الانتمائية، ومعالمها التاريخية والجغرافية، وأعداؤها وأبطالها الرسميون. (...) فمنطقة عدم الانتماء المحفوفة بالمخاطر تقع بعد الحد الفاصل بين\"نا\" وبين \"الخارجيين\" مباشرة: وهي المنطقة التي كان يُطرد اليها البشر في زمنٍ بدائي، والمنطقة التي تتسكع فيها في الحقبة الحديثة تجمعات ضخمة من البشر لاجئين ومهجّرين.
والقوميات امر يتعلق بالجماعات، اما المنفى فهو عزلة تُعاش خارج الجماعة باحساس بالغ الحدة: حيث يشعر بضروب الحرمان لعدم وجود المرء مع الآخرين في الموطن المشترك. فكيف للمرء، اذاً، ان يتجاوز عزلة المنفى دون ان ينزلق الى لغة التفاخر القومي، والعواطف الجمعية، وأهواء الجماعة، تلك اللغة الجامعة والراعدة؟ وما الجدير بانقاذه والتمسك به بين افراطات المنفى من جهة اولى، والتأكيدات الشرسة التي تطلقها القومية من جهة اخرى؟ هل للقومية والمنفى أية صفات ضمنية وجوهرية؟ أهما مجرد تنويهين متصارعين من تنويعات البارانويا؟
هذه اسئلة تتعذر الإجابة عنها اجابة وافية اذ يفترض كل منها ان من الممكن مناقشة المنفى والقومية على نحو محايد ومنفصل، دون ان يحيل أحدهما الى الآخر. والحال، ان ذلك من غير الممكن. فهذان المصطلحان كلاهما يشتملان على كل شيء من أشد العواطف الجمعية جميعة الى أشد الانفعالات الخصوصية خصوصية، بحيث لا يكاد ان يكون ثمة لغة تفي بكليهما. غير ان من المؤكد ان ما من شيء يتعلق بمطامح القومية العامة والشاملة يمس لب ورطة المنفى.
ذلك ان المنفى، بخلاف القومية، هو في جوهره حالة متقطعة من حالات الكينونة. فالمنفيون مجتثون من جذورهم، ومن أرضهم، ومن ماضيهم. وهم عادة بلا جيوش أو دول، مع أنهم غالباً ما يبحثون عنها. ولذا يشعر المنفيون بتلك الحاجة الملحة لاعادة تشكيل حيواتهم المحطمة، وذلك عادة عن طريق اختيارهم ان ينظروا الى انفسهم على انهم جزء من ايديولوجيا ظافرة او شعب متجدد. والشيء الحاسم هو ان حالة النفي الخالية من هذه الايديولوجيا الظافرة - المصممة للم شتات تاريخ المنفى المحطم في كل جديد - هي حالة لا يمكن احتمالها في النهاية، وهي في النهاية حالة مستحيلة في عالم اليوم. انظروا الى مصير اليهود، والفلسطينيين، والأرمن.
يجبر المنفى المرء على التفكير فيه ويا لها من تجربة فظيعة. انه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الاصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي: فلا يمكن البتة التغلب على ما يولّده من شجن اساسي. واذا ما كان صحيحاً ان الادب والتاريخ يحفلان بحوادث بطولية، ورومانسية، ومجيدة، بل وظافرة حدثت في حياة النفي، الا ان هذه الحوادث لا تعدو ان تكون جهوداً يقصد منها التغلب على اسى الغربة الشالّ. فمآثر المنفى لا يني يقوّضها فقدان شيء ما خلفه المرء وراءه الى الأبد.
ولكن اذا ما كان المنفى الحقيقي حالة فقدان مبرم، فكيف امكن له ان يتحول بتلك السهولة الى حافز قوي، بل ومخصب، من حوافز الثقافة الحديثة؟ لقد اعتدنا النظر الى الحقبة الحديثة على انها حقبة يتيمة ومغتربة روحياً، عصر القلق والغربة. وقد علّمنا نيتشه ألا نشعر بالارتياح للتقاليد، وعلّمنا فرويد ان نعد ألفة العائلة ذلك الوجه اللطيف المرسوم فوق غضبة قتل الآباء وغشيان المحارم. والثقافة الغربية الحديثة هي في جزء كبير منها نتاج المنفيين، والمهاجرين، واللاجئين. والفكر الاكاديمي، والنظري، والجمالي في الولايات المتحدة لم يصل الى ما هو عليه اليوم إلا بفضل اولئك الذين لجأوا اليها هرباً من الفاشية، والشيوعية، وسوى ذلك من الانظمة المجبولة على قمع الخارجين عليها وطردهم. بل ان الامر قد وصل بالناقد جورج شتاينر حد اقتراح اطروحة ثاقبة مفادها ان أدب \"المهجر\" يمثّل جنساً قائماً بذاته بين الاجناس الادبية في القرن العشرين، ادب كتبه المنفيون وعن المنفيين، ويرمز الى عصر اللاجئين. (...) أليس صحيحاً ان النظرة الى المنفى امر دنيوي على نحو لا براء منه وتاريخي بصورة لا تطاق\" وانه من فعل البشر بحق سواهم من البشر\" وانه، شأن الموت انما من غير نعمة الموت الاخيرة، قد اقتلع ملايين البشر من منهل التراث، والأسرة، والجغرافيا؟
ان ترى شاعراً في المنفى يعني - بخلاف قراءة شعر المنفى - ان ترى تناقضات المنفى مجسدة وفاعلة بشدة فريدة. فمنذ سنوات عدة قضيت بعض الوقت مع فايز احمد فايز، اعظم شعراء الاوردية المعاصرين. كان نظام ضياء الحق العسكري قد نفاه من وطنه باكستان، ووجد نوعاً من الترحيب في بيروت التي مزقتها النزاعات. وكان من الطبيعي ان يكون اقرب اصدقائه هناك من الفلسطينيين، غير انني احسست، على رغم مما كان من ألفة روحية بينه وبينهم\" ان ما من شيء كان منسجماً تمام الانسجام، لا اللغة، ولا التقاليد الشعرية، ولا تاريخ الحياة. مرة واحدة فقط، حين جاء إقبال احمد الى بيروت، وهو صديق باكستاني وزميل منفى، بدا على فايز انه قد تغلب على احساسه بالغربة المقيمة. جلسنا نحن الثلاثة في مطعم بيروتي معتم حتى وقت متأخر من احدى الليالي، بينما راح فايز يلقي قصائده. وبعد فترة، توقف هو وإقبال عن ترجمة أشعاره لي، غير ان ذلك لم يعد مهماً مع مرور الوقت. فما كنت ارقبه لم يكن بحاجة الى اية ترجمة: كان ضرباً من الأداء الذي يمثل عودة الى الوطن يعبر عنها من خلال التحدي والخسران، كأنهما يقولان: \"ضياء الحق، نحن هنا\". وبالطبع فإن ضياء الحق هو الذي كان في الوطن فعلاً وهو الذي ما كان ليسمع صوتيهما المتهللين.
راشد حسين مثقف فلسطيني. ترجم بياليك، وهو واحد من اكبر شعراء العبرية الحديثة، الى العربية، وقد بوأته فصاحته في مرحلة ما بعد 1948 سدة الخطابة والوطنية بلا منازع. وكان في البداية قد عمل في الصحافة الناطقة بالعبرية في تل أبيب، وأفلح في إقامة حوار بين كتّاب يهود وعرب، وعلى رغم اعتناقه الناصرية والقومية العربية. وبمرور الوقت، لم يعد بمقدور راشد حسين ان يتحمل ما كان يثقل كاهله من الضغوط، وغادر الى نيويورك. تزوج امرأة يهودية وبدأ يعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة، لكنه لم يكن يكف عن إثارة رؤسائه بأفكاره الخارجة عن المألوف وبلاغته الطوباوية. وفي 1972 عاد الى العالم العربي، لكنه لم يمكث هناك سوى بضعة شهور عاد بعدها الى الولايات المتحدة: فقد شعر بالغربة في سوريا ولبنان، وبالتعاسة في القاهرة. وآوته نيويورك من جديد، انما كذا فعلت فترات متطاولة من السكر والتبطل. كانت حياته خراباً، لكنه ظل من أكرم البشر وأحسنهم ضيافة. ومات بعد ليلة من السكر الثقيل حين امتدت النار من لفافة كان يدخنها في فراشه ووصلت الى مكتبة صغيرة من الأشرطة معظمها لشعراء يلقون قصائدهم. لقد اختنق راشد حسين بدخان الاشرطة. وأُعيد جثمانه الى الوطن لكي يدفن في مصمص، تلك القرية الصغيرة في اسرائيل حيث لا تزال تقيم أسرته.
هؤلاء وسواهم الكثير من الشعراء والكتّاب المنفيين يضفون كرامة على شرط شرّع له ان ينكر الكرامة، وان ينكر هوية الشعب. ومن الواضح من خلال امثال هؤلاء انك كيما تركز على المنفى بوصفه ضرباً من العقاب السياسي المعاصر لا بد ان ترسم خرائط لنطاقات من التجربة تتعدى تلك التي رسمها أدب المنفى ذاته. عليك اولاً ان تضع جانباً كلاً من جويس ونابوكوف وتفكر عوضاً عن ذلك بأعداد لا حصر لها ممن أُنشئت لأجلهم وكالات الأمم المتحدة. عليك ان تفكر باللاجئين الفلاحين الذين لا يحدوهم اي امل بالعودة الى ديارهم، ولا يملكون سوى بطاقة الإعاشة والرقم الذي اعطتهم اياه وكالة ما. وقد تكون باريس عاصمة مشهورة بمنفييها الكوسموبوليتانيين، غير انها ايضاً مدينة قضى فيها الكثير من الرجال والنساء المغمورين سنوات من الوحدة البائسة: فيتناميون، وجزائريون، وكمبوديون، ولبنانيون، وسنغاليون، وبيروفيون. عليك ان تفكر ايضاً بالقاهرة، وبيروت، ومدغشقر، وبانكوك، ومكسيكوسيتي. وكلما بعدت بك المسافة عن العالم الاطلسي، كلما اتسع ذلك القفر المهجور الرهيب: الاعداد الضخمة التي تبعث على اليأس، والبؤس المضاعف الذي يرزح تحته اولئك البشر \"بلا وثائق\" ممن ضاعوا على حين غرة، دونما تاريخ تمكن حكايته. ولكي تتأمل في أمر المسلمين المنفيين من الهند، او الهايتيين في اميركا، او البكينيين في اوقيانيا، او الفلسطينيين في ارجاء العالم العربي لا بد لك من ان تترك الملجأ المتواضع الذي توفره الذاتية وتفزع بدلاً من ذلك الى تجريدات السياسة واسعة النطاق. مفاوضات، وحروب تحرر وطني، وشعوب أُلقيت خارج اوطانها ودفعت، او نقلت، او سيقت الى اراضٍ مسدودة المسالك في مناطق اخرى: ما هي حصيلة مثل هذه التجارب؟ أليس من الواضح ويكاد ان يكون من المتعمد ان ليس ثمة سبيل الى اصلاحها او معالجتها؟
ونأتي الى القومية واقترانها الصميمي بالمنفى. فالقومية هي تأكيد على الانتماء الى مكان، وشعب، وتراث. وهي تؤكد على الوطن الذي خلقته جماعة تتقاسم اللغة، والثقافة، والعادات\" وهي، بفعلها هذا، انما تدرأ النفي، وتقاتل للحيلولة دون ما يجره من خراب. والحق، ان التفاعل بين القومية والمنفى هو اشبه بديالكتيك العبد والسيد عند هيغل، حيث يعمل كل من هذين الضدين على إملاء الآخر وتشكيله. فكل القوميات في مراحلها الاولى تتطور انطلاقاً من حالة الغربة. والكفاحات التي خيضت من اجل نيل اميركا استقلالها، ومن اجل توحيد ألمانيا او ايطاليا، ومن اجل تحرير الجزائر هي كفاحات تلك الجماعات القومية التي أُبعدت - أو نفيت - عما يعتبر طريقتها الملائمة في الحياة. وبذا فإن القومية الظافرة، او المتحققة تبرر، على نحو استعادي ومستقبلي في آنٍ معاً، ذلك التاريخ الذي يخاط معاً بصورة انتقائية في ضرب من الشكل السردي: هكذا يكون للقوميات جميعاً آباؤها المؤسسون، ونصوصها الاساسية شبه الدينية، وبلاغتها الانتمائية، ومعالمها التاريخية والجغرافية، وأعداؤها وأبطالها الرسميون. (...) فمنطقة عدم الانتماء المحفوفة بالمخاطر تقع بعد الحد الفاصل بين\"نا\" وبين \"الخارجيين\" مباشرة: وهي المنطقة التي كان يُطرد اليها البشر في زمنٍ بدائي، والمنطقة التي تتسكع فيها في الحقبة الحديثة تجمعات ضخمة من البشر لاجئين ومهجّرين.
والقوميات امر يتعلق بالجماعات، اما المنفى فهو عزلة تُعاش خارج الجماعة باحساس بالغ الحدة: حيث يشعر بضروب الحرمان لعدم وجود المرء مع الآخرين في الموطن المشترك. فكيف للمرء، اذاً، ان يتجاوز عزلة المنفى دون ان ينزلق الى لغة التفاخر القومي، والعواطف الجمعية، وأهواء الجماعة، تلك اللغة الجامعة والراعدة؟ وما الجدير بانقاذه والتمسك به بين افراطات المنفى من جهة اولى، والتأكيدات الشرسة التي تطلقها القومية من جهة اخرى؟ هل للقومية والمنفى أية صفات ضمنية وجوهرية؟ أهما مجرد تنويهين متصارعين من تنويعات البارانويا؟
هذه اسئلة تتعذر الإجابة عنها اجابة وافية اذ يفترض كل منها ان من الممكن مناقشة المنفى والقومية على نحو محايد ومنفصل، دون ان يحيل أحدهما الى الآخر. والحال، ان ذلك من غير الممكن. فهذان المصطلحان كلاهما يشتملان على كل شيء من أشد العواطف الجمعية جميعة الى أشد الانفعالات الخصوصية خصوصية، بحيث لا يكاد ان يكون ثمة لغة تفي بكليهما. غير ان من المؤكد ان ما من شيء يتعلق بمطامح القومية العامة والشاملة يمس لب ورطة المنفى.
ذلك ان المنفى، بخلاف القومية، هو في جوهره حالة متقطعة من حالات الكينونة. فالمنفيون مجتثون من جذورهم، ومن أرضهم، ومن ماضيهم. وهم عادة بلا جيوش أو دول، مع أنهم غالباً ما يبحثون عنها. ولذا يشعر المنفيون بتلك الحاجة الملحة لاعادة تشكيل حيواتهم المحطمة، وذلك عادة عن طريق اختيارهم ان ينظروا الى انفسهم على انهم جزء من ايديولوجيا ظافرة او شعب متجدد. والشيء الحاسم هو ان حالة النفي الخالية من هذه الايديولوجيا الظافرة - المصممة للم شتات تاريخ المنفى المحطم في كل جديد - هي حالة لا يمكن احتمالها في النهاية، وهي في النهاية حالة مستحيلة في عالم اليوم. انظروا الى مصير اليهود، والفلسطينيين، والأرمن.