-
دخول

عرض كامل الموضوع : علامات الزمن العربي الردئ ميشيل كيلو


رجل من ورق
29/07/2009, 14:05
علامات الزمن العربي الرديء!

ميشيل كيلو
28/07/2009

لا يقبل أحد من حكام عالمنا العربي أي نقد جدي للأوضاع التي أنتجها نظامه، أي شخصه. يقول الخطاب السائد: قد يكون هناك هنات في هذا الجانب أو ذاك من السياسات الرسمية، لكن هذه صحيحة بالضرورة، وهي تتفق اتفاقا تاما مع مصالح الدولة والشعب. لذا، فإن أي نقد يستهدفها يلحق أشد الضرر بهذه المصالح، ويعد فعل خيانة.

لا تريد الأسطر التالية توجيه أي نقد لأي نظام. إنها توصيف صرف لما أسميته 'علامات الزمن العربي' الراهن؛ توصيف لا يستهدف التنظير، بل تقديم صورة ملموسة قدر الإمكان لواقع الحال العربي، تخلو من أحكام القيمة والآراء المسبقة، وتعكس ما هو موجود وقائم فعلا.

- لا أعتقد أن أحدا يجادل في وجود التأخر الاقتصادي كعلامة للواقع العربي الراهن، فالدول العربية بملايينها الثلاثمئة ونيف تنتج بالكاد ما ينتجه خمسون مليون إنسان يعيشون في بلد أوروبي متأخر نسبيا هو إسبانيا، يخلو من الثروات الطبيعية والأحواض الصناعية الحديثة، وليس متقدما في أي مجال من مجالات التقانة والمعلوماتية، أو مشهورا بحسن إدارته. إنه بلد زراعي يعرف كيف يستغل أراضيه لإنتاج الغذاء، وشمسه وبحره لاجتذاب ملايين السياح، رغم ما يواجهه من منافسة أوروبية وعالمية، في الزراعة كما في السياحة. ليس هنا مكان الحديث عن أسباب تأخر العرب، يكفي تأكيد وجوده الذي لا يختلف عليه اثنان، مهما اختلفا على أسبابه. العالم العربي يبيع موادا أولية أهمها النفط، وهو لم يدخل بعد عصر الصناعة الكثيفة. أما زراعته فهي متخلفة إلى حد جعله يستورد قسما كبيرا من غذائه، مع أن كتلة سكانية هائلة الحجم من مواطنيه تعيش في الأرياف (تقدر بنصف سكانه!)، ولديه مساحات كبيرة جدا من الأراضي الزراعية، المهملة. بينما تقول الإحصائيات والدراسات المتخصصة إنه يحتل مواقع متأخرة جدا في مجال البحث العلمي واستخدام التقنية والمعلوماتية، وفي الإفادة من مهارات أبنائه وموقعه الفريد وكنوزه السياحية... الخ، وتقول إن إسهامه في التجارة الدولية يتراجع عاما بعد آخر، كما تتضاءل حصته في الناتج العالمي الإجمالي. والمصيبة، أنه لا يفعل شيئا جديا، على المستويين القومي والقطري، للخروج من تخلف يحوله تقدم الآخرين إلى كارثة حقيقية بالنسبة له، تتبدى مظاهرها الملموسة بصورة متزايدة في سائر مجالات وجوده.

ولا أعتقد أن أحدا يجادل في وجود التأخر السياسي كعلامة للزمن العربي الراهن، سواء في مجال العلاقات العربية البينية، أم في علاقات الحاكمين بالمحكومين داخل البلدان العربية. ليست علاقات الدول العربية تكاملية بأي حال وفي أي مجال. إنها بالأحرى علاقات تنابذ وتضاد وعداء، كأن دولنا تنتمي إلى أمم متنازعة لا إلى أمة واحدة. إلى هذا، لم تكن المخاطر الخارجية والتحديات الدولية كافية في أي يوم لجعل شعور عرب الحكم بالخطر مشتركا، ولجعله يعبر عن نفسه في صلات بينية تفاعلية وإيجابية تبطل ما هو قائم من صلات التنافي والتواطؤ والسعي إلى إنزال الضرر بالآخر العربي: الأخ والشقيق. في الداخل، لم تصل علاقات النظم بالشعب إلى المستوى الذي تخلق في العالم قبل نيف وألف عام، فالتأخر هنا بالقرون وليس بالعقود أو السنوات. يفسر هذا لماذا تخلو حياتنا من حكم القانون، والمواطنة، وسيادة الشعب، والمشاركة، وحقوق الإنسان، والمؤسسية، والدولة الحديثة، والمجتمع المدني، والعدالة، والمساواة... الخ، ولم لا تعرف مجتمعاتنا درجة من الترابط والانصهار تحصنها في وجه تحديات خارجية وداخلية متنوعة، وتبدو وكأنها على وشك الانفراط، بينما تكتسب الدولة طابعا سلطويا يجعلها برانية في نظر شعبها، كأنها لا تنتمي إليه بل إلى نمط الدول القهرية، الذي كرسه الاحتلال الأجنبي. فلا غرو أن يحس المواطن بالغربة تجاه دولته، وأن تشده إليها - وبالأحرى تنفره منها - روابط الخوف، وتسكنه الرغبة في التخلص منها. أضف إلى ذلك النقص الفاضح في الاندماج القومي، الذي جعل عربا كثيرين ينكرون وجود أمتهم، والنقص الخطير في الاندماج الوطني، الذي حول الشعب أو كاد يحوله إلى جماعات تبدو وكأنها على وشك الاقتتال، وقلب السلطة من جهة وطنية إلى قوة احتلال داخلي. بينما انحدر وعي غالبية الأمة إلى ما دون مستوى السياسة، إن كان ثمة هنا أي وعي على الإطلاق، وساد اندفاع أعمى نحو الاستهلاك ومتعه، تمارسه طبقة وسطى يفترض أنها منتجة بدائل وحلول لأزمات بلدانها، ومجددة لتجاربها، وأنها مؤهلة لمقاومة السائد وابتكار سبل وطرائق من شأنها رد السياسة إلى المجتمع والمجتمع إلى السياسة. هل يكفي هذا، أم نعرج على ضمور وتلاشي المحاكمة المنطقية لدى المواطن، واقتصار الروح النقدية على نخب ليست اليوم غير قبضات صغيرة مبثوثة في حيز يخلو من أي تفاعل مجتمعي إيجابي معها، مهما بلغ تعاطفه المضمر عموما - مع خطابها!

- ولا أعتقد أن أحدا يماري في وجود التأخر الاجتماعي. مجتمعنا العربي مكون من أجزاء ثلاثة بينها تقاطعات هشة هي الفئة العليا - وهي حاكمة - والفئة الوسطى - وهي تكوينات مركبة ومعقدة جدا، راكبة ومركوبة - والفئات الدنيا، أو هو مكون من الأغنياء ومتوسطي الحال والفقراء، أو من الحاكمين والمسيرين والمحكومين، أو من مالكي السلطة والقوة والثروة، ومالكي بعض المعرفة وشيء من الثروة، ومن لا يملكون شيئا: أكان معرفة أم ثروة أم سلطة أم قوة، أو من الذين يعملون في أعلى سلم المجتمع والدولة، ومن يعملون في الحيز الذي يتوسطهما، ومن لا يجدون عملا في أدنى هذا السلم. إنها أجزاء ثلاثة فقط، لأن مجتمعنا لم يعرف تبدلا جديا في بنيته خلال القرون، وعرف حالات انتقال داخلي محدودة ومسيطر عليها حافظت على تقليديته وجموده، فظل على قوامه عموما، وأن تبدلت بعض مظاهره وأنماط سلوكه، وبعض علاقات أطرافه. هناك من يرد هذا الجمود إلى قوة الدولة، التي قررت وحدها مصير المجتمع ومكوناته، وهيمنت على تطوره، وكبتت الجديد فيه، وحالت دون انتقاله إلى حال مغاير، كي لا تفقد سيطرتها عليه وقدرتها على تحديد أقدراه، وعلى نهب ثرواته ونواتج عمله. بالمقابل، هناك من يرد الجمود إلى سلبية البشر والمجتمعات وانحباسها ضمن بنية تاريخية لم تعرف مفاهيم محفزة للتغيير مثل الفرد والمواطن والإنسان والدولة... الخ. وهناك من يرده إلى الاستعمار وما تركه من تأثير قاتل على التطور العربي، حال بينه وبين بلوغ الحداثة بمعناها الحقيقي، وجعل ما دخل مجتمعاتنا منها حداثة قشرية / سطحية، تأخذ بالتافه وتترك الجوهر، مما غرّب العرب عن عالمهم، وهمشهم، وفوت عليهم فرصة الدخول إلى عصرهم والتوطن فيه. بغض النظر عن اختلاف النظرة إلى أسباب التأخر الاجتماعي العربي، يجمع أصحاب هذه الاجتهادات على حقيقة مؤلمة، هي أن المجتمع العربي ليس حديثا من الناحية الاجتماعية، وأنه أعاد إنتاج تأخره في أشكال عصرية و'حديثة' أبقته على هامش تقدم العالم. هنا أيضا، تكمن مصيبتنا في أننا لا نعي تأخرنا، فإن وعيناه، اعتبرناه جزءا من هويتنا يجب التمسك به والدفاع عنه ضد 'حداثة' تريد تغريبنا عن تاريخنا وديننا ومحددات وجودنا، أي هويتنا. لا حاجة إلى القول: إن هذا الضرب من الوعي هو تعبير فاضح عن انعدام الوعي، وأنه يتكفل بإبقاء الكتلة الكبرى من المواطنين العرب خارج العصر وبمنأى عن مصالحها، ويدخل إلى رأسها مفاهيم مغلوطة لمعنى الوطن، والوطنية، والهوية، والدين، والحرية، والعدالة، والمساواة، والإنسان... الخ، فهو وعي التأخر الذي يضمن إدامته.

ولا اعتقد أن أحدا يجادل في تأخر العرب علميا وفكريا - والأدهى من ذلك بكثير - وروحيا. جامعاتنا في حال لا تحسد عليه، ومدارسنا تخرج أشباه أميين لا يحسنون القراءة والكتابة، ناهيك عن الإفصاح عن ما في دواخلهم وفي العالم المحيط بهم، حتى صارت نسبة الأميين في عالمنا العربي تقارب الأربعين بالمائة. في حين أقلعنا منذ زمن طويل عن إنتاج نظم فكرية، وعجزنا عن استيعاب وفهم ما أنتجته الأمم الأخرى، أو رفضناه، نحن الذين لطالما علمنا العالم ما أنتجته قرائحنا، بعد أن ثقفناها بمعارف العصور المزامنة والسابقة لنا، دون أن نتذرع بما ندعيه اليوم من خطر يضمره فكر الآخر على هويتنا وديننا ووجودنا. روحيا، لسنا في أحسن حالاتنا، فنحن نكثر من الكذب في تعاملنا بعضنا مع بعض، ونعتبر الغش شطارة، والأمانة ' جحشنة 'وننتهك حقوق وكرامة غيرنا، ولا ندافع بما فيه الكفاية عن حريتنا وكرامتنا، ونقيس حياتنا بمعايير مادية، ونجري جري المسعورين وراء الثروة والمنفعة الشخصية، ونغرق أنفسنا أكثر فأكثر في الشهوانية والحسية، ولا مانع لدى معظمنا من تزوير وتشويه حتى النواهي والأوامر الدينية والأخلاقية، حتى صح فينا قول من قال: عندنا إسلام وليس عندنا مسلمون، بينما الأوروبيون مسلمون لا يعرفون الإسلام. هنا، تكمن واحدة من أعظم مصائبنا: إنها الانعدام المتعاظم للطابع الروحي لحياتنا، والتعاظم المتزايد لطابعها المادي، الشخصي، الشهواني البالغ حد الحيوانية، مع أن الإسلام علمنا أن الإنسان هو الكائن الوحيد، الذي خلقه الله ليعيش من - وعلى - قيم روحية ومعنوية.

هذه بعض علامات زماننا العربي، بعض علامات وضعنا كأفراد وكأمة. ثم نجد من يعتقد أنها علامات وضع طبيعي، يخلق بنا قبولها والعيش فيها! أليس هذا بحد ذاته علامة من أسوأ علامات زماننا الراهن؟!


عن موقع اعلان دمشق