Maher 4x4
22/07/2009, 21:40
.
دخل من باب المطار مسرعا خوفا من أن تفوته الرحلة . توجّه نحو البوابة ، فرأى الناس وقد اصطفّوا عندها وهم يصعدون إلى الطائرة . وكان من عادته أن يتأخر إلى آخر الوقت ، فهو يختار المجازفة على الانتظار . ونحتاج إلى أن نذكر أنه قد وقع عليه النعاس وخدر الجسم منذ ساعات ، فقد قرب وقت السفر ، ولن يزول عنه ما يجده من الإعياء حتى تنتهي الرحلة . وليفهمَ القارئ فإنا نصرّح بأنه يخاف من ركوب الطائرة . والخوف من ركوب الطائرة شائع في الناس ، فواحد من كل ستة يخاف من ركوب الطائرة . هذا مع أنه كثير السفر ، فقد كان يسافر في كل سنة من الست السنين الماضية عشر مرات ، فنضرب عشرة في ستة ، ليكون عددها ستين مرة .
ونقول على سبيل التذكير إنه حين صعِد إلى الطائرة ، ناول المضيفة التي تقف بالباب تذكرة الصعود ، فاطّلعت فيها وردّتها إليه ، ثم أومأت بيدها نحو الممر الذي في الجانب الآخر . فجاوز المطبخ الصغير ، ومشى على رسله في الممر وهو يكرّر النظر إلى تذكرة الصعود وأرقام المقاعد . ثم وقف منتظرا حتى تنحَّ أحد الركاب عن الطريق ، وجلس على مقعد بقرب النافذة . ثم جاء رجل بعده بيسير ، فسلّم وجلس إلى جنبه .
نظر إلى النافذة فرأى في خارج الطائرة المحرّك ، فاستحضر في نفسه صورة المحرّك وهو يحترق ، كما رأى ذلك مرارا في التلفاز ، وكان ذلك من الأسباب التي يكره لأجلها إحدى قنوات الأخبار ، فقد كانت تكثر من عرض برامج حوادث الطيران . لكنه طرد ذلك الوسواس سريعا ، وصرف وجهه عن النافذة ، فإنه لا يجب أن يُلتفت إلى مثل هذه الخطرات . ولن يفكّر كذلك كيف يعمل لينجو لو جاءت طائرة من حيث لا يدري فاصطدمت بالطائرة التي هو فيها . وأظهر التغافل أيضا عن صبي يجلس وراءه ، حاول كسر زجاج النافذة بأن ضربه بسيارته الصغيرة . لقد كان يشعر دائما أن هذا الزجاج سريع الكسر .
دخل على الركاب الطائرةَ امرأةٌ ، امتدت العيون إليها . وكانت مبالغة في اللباس ، حتى كأنها تحضر زفافا . بعض الناس يتزيّن لركوب الطائرة تزيّنا فوق المعهود ، كأن الأمر مناسبة خاصة جدا . قال في نفسه "لا تهلكينا" . وكان يغيظه إذا قيل دعاء السفر أن يُشغل أحد بشيء غيره أو لا يكترث به . أما يرى في أي موضع هُم . أليس ستطير به الطائرة في الهواء . هذا خطأ ومجانب للسُنّة !
سمِع صوت ملّاح الطائرة غير الواضح "كروس تشيك بليز.. كروس تشيك" . لا شك أنه يقصد بذلك أن يتحقّق مضيفٌ من مزلاج الباب الذي كان أغلقه مضيف آخر . عبقري من وضع هذا النظام ، فبهذه الحيلة لن ينفتح باب من أبواب الطائرة فجأة ويتطاير الركاب ، إذا أغفل إغلاقه مضيف متهاون أو لم يغلقه بإحكام ، ولذلك أيضا كان يربط حزام الأمان طول الرحلة . على أنه علِم فيما بعد أن هذا المزلاج إنما هو للحالات الطارئة ، حتى يُفتحَ الباب سريعا ويخرجَ منه الركاب .
حان إقلاع الطائرة ، وهو من أصعب الأشياء عليه ، ربّما لأنه في أول الرحلة . وكذلك أيضا شعر أن الطائرة أثقل من أن تقدر على الطيران ، فلعلّ الربّان أن يكون حاول الارتفاع بالطائرة قبل تمام السرعة . وقد ازداد خوفه بعد قراءته أن حوادث الطيران تكون في الغالب في حال الصعود والهبوط . أخذ طفل رضيع أثناء ذلك في البكاء والعويل ، حتى كأنّ أحدا يعذّبه ، لا يفتر من الصياح ، فزاد ذلك في قلقه واضطرابه . ثم شمّ روائح غير معتادة من فتحات المكيف ، فهجست في صدره خواطر كأنّ تزرقّ وجوه الركاب ويموتوا اختناقا . ثم ارتفعت جلبة وضوضاء . ما هذه الضجة التي يسمع ؟ لا بُدّ أن تكون من الهواء ، ولكن تتابع الأصوات يقلقه . إنه يعرف بطول التجربة أن كل هذا ليس بشيء - في أكثر الأمر - ، ولكنّ انتباهه وتيقظه أكثر مما ينبغي . مثل هذا بعينه يقع إذا سمِع قصة مخيفة أو شاهد فيلما مرعبا ، فمن شدة انتباهه إذا رأى ظل شخصه مثلا خاف منه يظنه شيئا ، وليس هو كذلك ، وأيضا إذا سمِع الخزانة أو التلفاز يقرقعان مع أن مثل هذا يحدث منهما دائما . طمأن ذلك خاطره شيئا .
"تنننن" ، أُطفئت إشارة ربط الأحزمة . أخرج المتحكّم من ذراع الكرسي ، وفتح الشاشة التي أمامه ، ثم وضع قناة البيانات ، من أجل أن يرى على أي ارتفاع تطير الطائرة والوقت الباقي وسرعة الرياح الخلفية . ولا يدري ما معنى سرعة الرياح الخلفية أو الأمامية ، لكنه يشعر أنها تتعلّق بالاضطرابات التي تجري للطائرة ، فكلما كانت شدة هبوبها أقل فهو أفضل .
ارتفع صوت رجل من الركاب بالترنّم ببعض الأصوات . ثم اجتاز به مضيف لم يعبأ به ولا التفت إليه . وكذلك لم يتكلم أحد من الركاب بشيء أو يدعُ المضيف ويطالبه بالتصرف معه . هو يعلم أن مثل هذا الفعل الذميم شائع في وسائل النقل العام ، فقد ركب في طائرة وقطار وحافلة من قبل . ولكن لمَ لم يصنع المضيف شيئا ؟ أليس يحتاج هذا الرجل إلى التأديب والتقريع ؟ أهي سياسة قد اعتمدتها شركة الطيران ، لأن في بلده كثير من الهمج والرعاع ؟ أم أن الشركة لا تعتد بما يجري في الرحلات الداخلية ؟ هَمّ بأن يقول له شيئا مثل "لمَ تنوح ؟" أو أن يبدأه بالشتم .
ولم نجد بُدّا من أن نذكر أن الرجل الذي إلى جنبه جعل يتململ على مقعده ، ومن رآه ظن أنه يجد صداعا أو أنه قد ملّ من الجلوس . تُرى أهو مجهود على الحقيقية أم أنه يظهر التعب والتضجر ليخفيَ شيئا كالقلق والخوف مثلا . فإن كثيرا من الناس إذا ركبوا الطائرة رأيت منهم تغيّرا . وليتفقّد القارئ ما نقوله ، فإنه سيجده فاشيا . ثم إن الرجل سدّ أذنه بإصبعيه ، وجعل يبتلع ريقه ، لتفاوت الضغط . أما هو فما به إلى ذلك حاجة ، لاعتياده ركوب الطائرة ، إنما هو أن يضبط الضغط في أذنيه كلما ارتفعت الطائرة أو انخفضت وقد استقام الأمر . فتح الرجل آخر الأمر المِنْضَدة ، ثم وضع رأسه عليها ونام .
ولن ندّعيَ في هذه القصة أن الطائرة أصابها خلل ، أو أن الطيّار وقع منه خطأ ، أو أن الفضائيين اختطفوها ، على أنهم لا يتراءون إلا في أمريكا . ولكنه يذكر رحلة من رحلاته الستين ، كانت في يوم فيه مطر ، فوقعت صاعقة على الطائرة ، سُمع لها صوت هائل ، فاضطربت الطائرة اضطرابا شديدا حتى خاف الناس أن تسقط ، ووقعت المضيفة أمامه على الأرض ، ووثب الرجل الذي إلى جنبه عن كرسيه ، فنظر هو في النافذة فرآها بيضاء كالثلج من الوميض . جرى كل ذلك في لحظة . لم يسكته الفزع يومه ذاك لكنه ابتسم ، ولا يدري لعلّه أن يكون ما اشتمل عليه ذلك المشهد وكونه صاحبه . ونزول صاعقة على طائرة غير خارج عن العادة ، بل لا تكاد تخلو طائرة من أن تضربها صاعقة مرة في السنة ، فغطاء الطائرة معمول من الألمنيوم ، فمن ثَمّ يجري فيه التيار الكهربائي إذا كان هناك صاعقة ، ثم يخرج في الهواء . وعلت الأصوات بالتسبيح والدعاء ، فأذكره ذلك الآيات العظيمات التي تحكي أمر الناس إذا اشتد الكرب ، مثل الآية "وظنّوا أنهم أُحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين" .
ولعل القارئ يريد أن يسأل عن السبب في تسمية القصة بذلك . والسبب الأول أن رقم هذه الرحلة 1126 . وأما السبب الآخر فهو أنه ما ركب في رحلة أكثر من ركوبه في الرحلة رقم 1126 .
ودعه من أن يأتي فيرى أحدا يجلس في مقعده أو أن يأتيه أحد ويقول له "هذا المقعد لي" . ودعه من تشغيل الجوالات قبل أن تمسّ الأرض عجلات مُقدِّم الطائرة . وإن وضوح معنى الطويلة البيضاء أو الدقيقة السمراء يغني عن الكلام فيه . ودعه من يأتيه أحد رجال الخطوط الصُلْع المحنّكين ويقول له "يا ابني ، ممكن تعمل خير وتروح مقعد تاني" أو نحوا من هذا الكلام ، وإذا جلس إلى جانبه رجل فقد أمِن بذلك الإزعاج وربما المنقصة . ودعه من حبسه بوله ، وأن يأخذه حتى يكاد يأتي على ثيابه ، فلن يُقدِمَ على دخول حمام الطائرة ويعرّضَ نفسه للشفط من قِبَل المرحاض الصغير ، كما حدّثه بعض معارفه المجانين ، وهو يعلم يقينا أن هذا من الكذب الذي يدخل في باب الخرافة ، ولكن يجب الأخذ بالاحتياط .
ومتى صعِدت الطائرة في الجو وسكنت حركتها ، فقد صار كأنه على الأرض ، ورجع إلى نفسه ، إلا إذا عاد الهول فاضطربت الطائرة . غير أنه يجب عليه أن يستعين بأشياء يستهلك بها الوقت ، وتشغله عن المكان الذي هو فيه . ومن أفضل تلك الأشياء مشغّل الأصوات أو الأيبود ، ولا سيّما إذا كانت الرحلة طويلة المدة ، بل هو من الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يقتنيها . وعليه أن يأكل إذا حضر الطعام ، ولو لم يكن جائعا ، فالطعام يُقطع به الوقت . ولن يستفيد من مزية النوم ، لأنه ليس ممن ينام في الطائرة ولا السيارة ولا الفصل . مد يده وتناول الجريدة ، وكان أخذها من المضيفة من قبل . تعمّد أن يطيل ويستمتع ببعض المقالات ، ثم أعاد الجريدة إلى موضعها بعد أن فرغ من قراءتها .
ولمّا كان وقت الوجبة الخفيفة ، قربت منه المضيفة فقالت "تشيكن أور.. " . ظنّها تكلّم أحدا غيره ، فلم يسمع الخيار الآخر ، فسألها "تشيكن أور وت ؟ " . فنظرت إليه كالمستنكرة وأجابت "فيجتبلز" . أما كفاها أن تكرّر ذلك في كل صف مرتين حتى تكرّره في الصف ثلاث مرات . وهو يرى أن المضيفات في الجملة يغضبن سريعا ، ربما لأنه قد عيل صبرهن مما يشاهدن ، فهن إذا لم يعجبهن شيء مثلا حددن النظر ، وقد شاهد غير مرة مضيفة وهي تتشاجر وتثور على راكب . وعلى خلاف ذلك المضيفون ، فهو يرى أنهم في الجملة يتحلَّوْن باللباقة ويحسنون التصرف ، وإن كان في بعضهم أو أكثر شيء من الزهو ، ولا يدري علامَ هو . ولعلّ معترضا أن يعترض على هذا القول ، ولكن هذا ما دل عليه ظاهر الحال في العشر أو العشرين الرحلة الأخيرة ، وعلى أن الأمر لا يبلغ أن يكون قضية ، فهو لا يشاهد مثل هذه الأمور كثيرا . اختار شطيرة الدجاج ، وقد كانت طيبة الطعم جدا . وبينما هو يأكل إذ اضطربت الطائرة ، فوضع الشطيرة من يده ، وسبّح وقرأ شيئا من القرآن إلى أن سكنت نفسه .
وهنا نورد فائدة لُغوية ، لعلّها خطرت بباله مرةً أو قرأها ، فهو شاب معنيٌّ باللغة ، أو ربما لتكون القصة شاملة على الأسلوب الجاحظي . الطائرة والطيّارة كلاهما صحيح ، فالأولى اسم فاعل ، والأخرى مبالغة منه على وزن فعّالة ، ويستخدمان جميعا لاسم الآلة .
وقد أمكنته الرحلات الداخلية من أن يلقى بعض المشاهير ، لأنه ليس للتنقّل في المدن طريقٌ غيرَها . وقد حُظي بأن يجلس إلى جنب بعض كبار المفكّرين والعلماء ، وكانت فرصا لم تصادف كاتب القصة نفسه . وينبغي انتهاز مثل هذه الفرص إذا أمكنت ، سواء كان الرجل من المعدودين المتقدمين فيتعرّف عليه أو يسأله سؤالا ، أو كان من أغثاث الكتّاب فيأخذه بحلقه مثلا .
لعلنا أسهبنا في الكلام ، وخرجنا عن غرض القصة كثيرا . دارت الطائرة ، على كل حال ، مرات في سماء المدينة على العادة ، ربّما ليتفرّج الركاب على المدينة من فوقها أو ليخيفهم الربّان . بدأ الارتفاع في النقصان ، ثم سمع فتاة صغيرة جبانة وهي في جنب أبيها تقول "بابا الطيّارة عم بتميل" . وهو لا يخاف الهبوط كما يخاف الصعود ، فالطائرة وإن كانت لا تزال في الهواء فإنها تدنو من الأرض ، وكذلك هو يرى في الشاشة كيف ينقص الارتفاع نقصانا يبهجه . لن يرتاع بعد قليل من صوت العجلات حين ينزلها الطيّار كما يقع لكثير من الركاب . ويجب عليه أيضا أن يتمثّل أمر المضيفين عند هبوط الطائرة إلى الأرض ، بأن يرفع المنضدة وينتصب في جلسته . فقد كادت عنقه تُكسر مرةً ، حين اصطدمت بالأرض إطارات الطائرة بشدة ، حتى أن بعض الركاب شتم الربّان المتهور .
وقفت الطائرة بعد أن انتظر الملّاح حتى خرجت إحدى الطائرات . ولم يلبث هو أن ذهب عنه الإعياء ، وقام من مقعده بنشاط ..
منقول
دخل من باب المطار مسرعا خوفا من أن تفوته الرحلة . توجّه نحو البوابة ، فرأى الناس وقد اصطفّوا عندها وهم يصعدون إلى الطائرة . وكان من عادته أن يتأخر إلى آخر الوقت ، فهو يختار المجازفة على الانتظار . ونحتاج إلى أن نذكر أنه قد وقع عليه النعاس وخدر الجسم منذ ساعات ، فقد قرب وقت السفر ، ولن يزول عنه ما يجده من الإعياء حتى تنتهي الرحلة . وليفهمَ القارئ فإنا نصرّح بأنه يخاف من ركوب الطائرة . والخوف من ركوب الطائرة شائع في الناس ، فواحد من كل ستة يخاف من ركوب الطائرة . هذا مع أنه كثير السفر ، فقد كان يسافر في كل سنة من الست السنين الماضية عشر مرات ، فنضرب عشرة في ستة ، ليكون عددها ستين مرة .
ونقول على سبيل التذكير إنه حين صعِد إلى الطائرة ، ناول المضيفة التي تقف بالباب تذكرة الصعود ، فاطّلعت فيها وردّتها إليه ، ثم أومأت بيدها نحو الممر الذي في الجانب الآخر . فجاوز المطبخ الصغير ، ومشى على رسله في الممر وهو يكرّر النظر إلى تذكرة الصعود وأرقام المقاعد . ثم وقف منتظرا حتى تنحَّ أحد الركاب عن الطريق ، وجلس على مقعد بقرب النافذة . ثم جاء رجل بعده بيسير ، فسلّم وجلس إلى جنبه .
نظر إلى النافذة فرأى في خارج الطائرة المحرّك ، فاستحضر في نفسه صورة المحرّك وهو يحترق ، كما رأى ذلك مرارا في التلفاز ، وكان ذلك من الأسباب التي يكره لأجلها إحدى قنوات الأخبار ، فقد كانت تكثر من عرض برامج حوادث الطيران . لكنه طرد ذلك الوسواس سريعا ، وصرف وجهه عن النافذة ، فإنه لا يجب أن يُلتفت إلى مثل هذه الخطرات . ولن يفكّر كذلك كيف يعمل لينجو لو جاءت طائرة من حيث لا يدري فاصطدمت بالطائرة التي هو فيها . وأظهر التغافل أيضا عن صبي يجلس وراءه ، حاول كسر زجاج النافذة بأن ضربه بسيارته الصغيرة . لقد كان يشعر دائما أن هذا الزجاج سريع الكسر .
دخل على الركاب الطائرةَ امرأةٌ ، امتدت العيون إليها . وكانت مبالغة في اللباس ، حتى كأنها تحضر زفافا . بعض الناس يتزيّن لركوب الطائرة تزيّنا فوق المعهود ، كأن الأمر مناسبة خاصة جدا . قال في نفسه "لا تهلكينا" . وكان يغيظه إذا قيل دعاء السفر أن يُشغل أحد بشيء غيره أو لا يكترث به . أما يرى في أي موضع هُم . أليس ستطير به الطائرة في الهواء . هذا خطأ ومجانب للسُنّة !
سمِع صوت ملّاح الطائرة غير الواضح "كروس تشيك بليز.. كروس تشيك" . لا شك أنه يقصد بذلك أن يتحقّق مضيفٌ من مزلاج الباب الذي كان أغلقه مضيف آخر . عبقري من وضع هذا النظام ، فبهذه الحيلة لن ينفتح باب من أبواب الطائرة فجأة ويتطاير الركاب ، إذا أغفل إغلاقه مضيف متهاون أو لم يغلقه بإحكام ، ولذلك أيضا كان يربط حزام الأمان طول الرحلة . على أنه علِم فيما بعد أن هذا المزلاج إنما هو للحالات الطارئة ، حتى يُفتحَ الباب سريعا ويخرجَ منه الركاب .
حان إقلاع الطائرة ، وهو من أصعب الأشياء عليه ، ربّما لأنه في أول الرحلة . وكذلك أيضا شعر أن الطائرة أثقل من أن تقدر على الطيران ، فلعلّ الربّان أن يكون حاول الارتفاع بالطائرة قبل تمام السرعة . وقد ازداد خوفه بعد قراءته أن حوادث الطيران تكون في الغالب في حال الصعود والهبوط . أخذ طفل رضيع أثناء ذلك في البكاء والعويل ، حتى كأنّ أحدا يعذّبه ، لا يفتر من الصياح ، فزاد ذلك في قلقه واضطرابه . ثم شمّ روائح غير معتادة من فتحات المكيف ، فهجست في صدره خواطر كأنّ تزرقّ وجوه الركاب ويموتوا اختناقا . ثم ارتفعت جلبة وضوضاء . ما هذه الضجة التي يسمع ؟ لا بُدّ أن تكون من الهواء ، ولكن تتابع الأصوات يقلقه . إنه يعرف بطول التجربة أن كل هذا ليس بشيء - في أكثر الأمر - ، ولكنّ انتباهه وتيقظه أكثر مما ينبغي . مثل هذا بعينه يقع إذا سمِع قصة مخيفة أو شاهد فيلما مرعبا ، فمن شدة انتباهه إذا رأى ظل شخصه مثلا خاف منه يظنه شيئا ، وليس هو كذلك ، وأيضا إذا سمِع الخزانة أو التلفاز يقرقعان مع أن مثل هذا يحدث منهما دائما . طمأن ذلك خاطره شيئا .
"تنننن" ، أُطفئت إشارة ربط الأحزمة . أخرج المتحكّم من ذراع الكرسي ، وفتح الشاشة التي أمامه ، ثم وضع قناة البيانات ، من أجل أن يرى على أي ارتفاع تطير الطائرة والوقت الباقي وسرعة الرياح الخلفية . ولا يدري ما معنى سرعة الرياح الخلفية أو الأمامية ، لكنه يشعر أنها تتعلّق بالاضطرابات التي تجري للطائرة ، فكلما كانت شدة هبوبها أقل فهو أفضل .
ارتفع صوت رجل من الركاب بالترنّم ببعض الأصوات . ثم اجتاز به مضيف لم يعبأ به ولا التفت إليه . وكذلك لم يتكلم أحد من الركاب بشيء أو يدعُ المضيف ويطالبه بالتصرف معه . هو يعلم أن مثل هذا الفعل الذميم شائع في وسائل النقل العام ، فقد ركب في طائرة وقطار وحافلة من قبل . ولكن لمَ لم يصنع المضيف شيئا ؟ أليس يحتاج هذا الرجل إلى التأديب والتقريع ؟ أهي سياسة قد اعتمدتها شركة الطيران ، لأن في بلده كثير من الهمج والرعاع ؟ أم أن الشركة لا تعتد بما يجري في الرحلات الداخلية ؟ هَمّ بأن يقول له شيئا مثل "لمَ تنوح ؟" أو أن يبدأه بالشتم .
ولم نجد بُدّا من أن نذكر أن الرجل الذي إلى جنبه جعل يتململ على مقعده ، ومن رآه ظن أنه يجد صداعا أو أنه قد ملّ من الجلوس . تُرى أهو مجهود على الحقيقية أم أنه يظهر التعب والتضجر ليخفيَ شيئا كالقلق والخوف مثلا . فإن كثيرا من الناس إذا ركبوا الطائرة رأيت منهم تغيّرا . وليتفقّد القارئ ما نقوله ، فإنه سيجده فاشيا . ثم إن الرجل سدّ أذنه بإصبعيه ، وجعل يبتلع ريقه ، لتفاوت الضغط . أما هو فما به إلى ذلك حاجة ، لاعتياده ركوب الطائرة ، إنما هو أن يضبط الضغط في أذنيه كلما ارتفعت الطائرة أو انخفضت وقد استقام الأمر . فتح الرجل آخر الأمر المِنْضَدة ، ثم وضع رأسه عليها ونام .
ولن ندّعيَ في هذه القصة أن الطائرة أصابها خلل ، أو أن الطيّار وقع منه خطأ ، أو أن الفضائيين اختطفوها ، على أنهم لا يتراءون إلا في أمريكا . ولكنه يذكر رحلة من رحلاته الستين ، كانت في يوم فيه مطر ، فوقعت صاعقة على الطائرة ، سُمع لها صوت هائل ، فاضطربت الطائرة اضطرابا شديدا حتى خاف الناس أن تسقط ، ووقعت المضيفة أمامه على الأرض ، ووثب الرجل الذي إلى جنبه عن كرسيه ، فنظر هو في النافذة فرآها بيضاء كالثلج من الوميض . جرى كل ذلك في لحظة . لم يسكته الفزع يومه ذاك لكنه ابتسم ، ولا يدري لعلّه أن يكون ما اشتمل عليه ذلك المشهد وكونه صاحبه . ونزول صاعقة على طائرة غير خارج عن العادة ، بل لا تكاد تخلو طائرة من أن تضربها صاعقة مرة في السنة ، فغطاء الطائرة معمول من الألمنيوم ، فمن ثَمّ يجري فيه التيار الكهربائي إذا كان هناك صاعقة ، ثم يخرج في الهواء . وعلت الأصوات بالتسبيح والدعاء ، فأذكره ذلك الآيات العظيمات التي تحكي أمر الناس إذا اشتد الكرب ، مثل الآية "وظنّوا أنهم أُحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين" .
ولعل القارئ يريد أن يسأل عن السبب في تسمية القصة بذلك . والسبب الأول أن رقم هذه الرحلة 1126 . وأما السبب الآخر فهو أنه ما ركب في رحلة أكثر من ركوبه في الرحلة رقم 1126 .
ودعه من أن يأتي فيرى أحدا يجلس في مقعده أو أن يأتيه أحد ويقول له "هذا المقعد لي" . ودعه من تشغيل الجوالات قبل أن تمسّ الأرض عجلات مُقدِّم الطائرة . وإن وضوح معنى الطويلة البيضاء أو الدقيقة السمراء يغني عن الكلام فيه . ودعه من يأتيه أحد رجال الخطوط الصُلْع المحنّكين ويقول له "يا ابني ، ممكن تعمل خير وتروح مقعد تاني" أو نحوا من هذا الكلام ، وإذا جلس إلى جانبه رجل فقد أمِن بذلك الإزعاج وربما المنقصة . ودعه من حبسه بوله ، وأن يأخذه حتى يكاد يأتي على ثيابه ، فلن يُقدِمَ على دخول حمام الطائرة ويعرّضَ نفسه للشفط من قِبَل المرحاض الصغير ، كما حدّثه بعض معارفه المجانين ، وهو يعلم يقينا أن هذا من الكذب الذي يدخل في باب الخرافة ، ولكن يجب الأخذ بالاحتياط .
ومتى صعِدت الطائرة في الجو وسكنت حركتها ، فقد صار كأنه على الأرض ، ورجع إلى نفسه ، إلا إذا عاد الهول فاضطربت الطائرة . غير أنه يجب عليه أن يستعين بأشياء يستهلك بها الوقت ، وتشغله عن المكان الذي هو فيه . ومن أفضل تلك الأشياء مشغّل الأصوات أو الأيبود ، ولا سيّما إذا كانت الرحلة طويلة المدة ، بل هو من الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يقتنيها . وعليه أن يأكل إذا حضر الطعام ، ولو لم يكن جائعا ، فالطعام يُقطع به الوقت . ولن يستفيد من مزية النوم ، لأنه ليس ممن ينام في الطائرة ولا السيارة ولا الفصل . مد يده وتناول الجريدة ، وكان أخذها من المضيفة من قبل . تعمّد أن يطيل ويستمتع ببعض المقالات ، ثم أعاد الجريدة إلى موضعها بعد أن فرغ من قراءتها .
ولمّا كان وقت الوجبة الخفيفة ، قربت منه المضيفة فقالت "تشيكن أور.. " . ظنّها تكلّم أحدا غيره ، فلم يسمع الخيار الآخر ، فسألها "تشيكن أور وت ؟ " . فنظرت إليه كالمستنكرة وأجابت "فيجتبلز" . أما كفاها أن تكرّر ذلك في كل صف مرتين حتى تكرّره في الصف ثلاث مرات . وهو يرى أن المضيفات في الجملة يغضبن سريعا ، ربما لأنه قد عيل صبرهن مما يشاهدن ، فهن إذا لم يعجبهن شيء مثلا حددن النظر ، وقد شاهد غير مرة مضيفة وهي تتشاجر وتثور على راكب . وعلى خلاف ذلك المضيفون ، فهو يرى أنهم في الجملة يتحلَّوْن باللباقة ويحسنون التصرف ، وإن كان في بعضهم أو أكثر شيء من الزهو ، ولا يدري علامَ هو . ولعلّ معترضا أن يعترض على هذا القول ، ولكن هذا ما دل عليه ظاهر الحال في العشر أو العشرين الرحلة الأخيرة ، وعلى أن الأمر لا يبلغ أن يكون قضية ، فهو لا يشاهد مثل هذه الأمور كثيرا . اختار شطيرة الدجاج ، وقد كانت طيبة الطعم جدا . وبينما هو يأكل إذ اضطربت الطائرة ، فوضع الشطيرة من يده ، وسبّح وقرأ شيئا من القرآن إلى أن سكنت نفسه .
وهنا نورد فائدة لُغوية ، لعلّها خطرت بباله مرةً أو قرأها ، فهو شاب معنيٌّ باللغة ، أو ربما لتكون القصة شاملة على الأسلوب الجاحظي . الطائرة والطيّارة كلاهما صحيح ، فالأولى اسم فاعل ، والأخرى مبالغة منه على وزن فعّالة ، ويستخدمان جميعا لاسم الآلة .
وقد أمكنته الرحلات الداخلية من أن يلقى بعض المشاهير ، لأنه ليس للتنقّل في المدن طريقٌ غيرَها . وقد حُظي بأن يجلس إلى جنب بعض كبار المفكّرين والعلماء ، وكانت فرصا لم تصادف كاتب القصة نفسه . وينبغي انتهاز مثل هذه الفرص إذا أمكنت ، سواء كان الرجل من المعدودين المتقدمين فيتعرّف عليه أو يسأله سؤالا ، أو كان من أغثاث الكتّاب فيأخذه بحلقه مثلا .
لعلنا أسهبنا في الكلام ، وخرجنا عن غرض القصة كثيرا . دارت الطائرة ، على كل حال ، مرات في سماء المدينة على العادة ، ربّما ليتفرّج الركاب على المدينة من فوقها أو ليخيفهم الربّان . بدأ الارتفاع في النقصان ، ثم سمع فتاة صغيرة جبانة وهي في جنب أبيها تقول "بابا الطيّارة عم بتميل" . وهو لا يخاف الهبوط كما يخاف الصعود ، فالطائرة وإن كانت لا تزال في الهواء فإنها تدنو من الأرض ، وكذلك هو يرى في الشاشة كيف ينقص الارتفاع نقصانا يبهجه . لن يرتاع بعد قليل من صوت العجلات حين ينزلها الطيّار كما يقع لكثير من الركاب . ويجب عليه أيضا أن يتمثّل أمر المضيفين عند هبوط الطائرة إلى الأرض ، بأن يرفع المنضدة وينتصب في جلسته . فقد كادت عنقه تُكسر مرةً ، حين اصطدمت بالأرض إطارات الطائرة بشدة ، حتى أن بعض الركاب شتم الربّان المتهور .
وقفت الطائرة بعد أن انتظر الملّاح حتى خرجت إحدى الطائرات . ولم يلبث هو أن ذهب عنه الإعياء ، وقام من مقعده بنشاط ..
منقول