ayhamm26
03/07/2009, 00:19
تتقاطع، في عالمنا العربي، نظرات تزداد تنوعاً إلى الشؤون العامة، نجدها بصورة خاصة عند النخب السياسية والحاكمة، التي لطالما آمنت بمركزية السلطة وبكونها التعبير الوحيد عن الإرادة الوطنية الجامعة.
مع استعصاء الطريق الرأسمالي الليبرالي، وبروز تحديات مست وجود الأمة، على رأسها تحد مكّن مئات آلاف اليهود، الغرباء عن المنطقة، من احتلال فلسطين، قلب العالم العربي الاستراتيجي، رغم تفوق العرب العددي الكاسح نيف ومائة مليون، برزت الحاجة إلى دولة مسلحة، تعمل في بيئة وطنية تقبل ما يصدر عنها بوصفها أداة الدفاع عن الوطن والأمة، التي ستعيد بناءهما في إطار العصر، بطريقة تردم هوة التأخر، وقد فصلت العرب عن عالم متقدم نجح في كسر شوكتهم طيلة قرون، وحان وقت إدراكه حماية أنفسهم منه، بقوة الدولة العصرية القوية، التي تعد مناط الأمل والغاية التي لن يتحقق شيء من دونها، ولا بد أن يسلم الجميع بضرورتها، وبأولية ما يصدر عنها، وأن يعيشوا لها لأنهم سيعيشون منها وبفضلها.
هذه الدولة، التي انفردت بالمجال العام واعتبرت محرك النهضة وباعثها، امتلكت سلطة شبه مطلقة في داخلها الوطني، بيد أن تعثرها في مجالي القوة والتنمية الدفاع والنهضة أجبرها على التأقلم مع واقع كانت قد أعلنت رفضها له، ودفعها إلى التخلي التدريجي عن وعودها، أيديولوجية الطابع، وإلى إعادة إنتاج نفسها في إطار المتاح والممكن، حتى انتهى بها الأمر إلى مراعاة علاقات وتوازنات خارجية كانت قد وعدت أن تحل محلها علاقات وتوازنات تعكس ثقل العرب ومصالحهم، في وطنهم والعالم. أما الحدث الكاشف، الذي حفز هذا التحول، فكان الفشل الجديد أمام عدوان “إسرائيلي” واسع ومدبر، وقع في شهر حزيران من عام،1967 وبدا كلحظة حقيقة كشفت منطويات الواقع العربي، وخيارات وممارسات نخبه الحاكمة، التي هالتها الهزيمة وأفزعتها نتائجها وجعلتها تنقل أولياتها من الخارج إلى الداخل، وتركز جهودها على تطور يحكم قبضتها على الدولة والمجتمع.
بعد حزيران، تخلق واقع عربي جديد، أسسته سلطة أعادت إنتاج نفسها في حاضنة تناقضات وتوازنات وضعتها فوق المجتمع، وبمنأى عنه، مع أن نخبها كانت قد وصلت إلى الحكم وهي تعد تأسيس نموذج يضمها إلى مجتمعاتها ليصيرا كتلة واحدة، تواجه الخارج، الذي سيشكل الجانب الآخر، المعادي، الذي لا بد من التحرر منه.
بما أن إنتاج المجتمع من فوق يصعّب وجود توافق حقيقي بينهما، وبما أن تحديث المجتمع بجهده الخاص بدا مسألة مستعصية، لأسباب منها تخلفه وضعف خبرته السياسية وتبعثره واحتجازه السياسي، فقد بدا تهميشه حتمياً، كي لا ينقل تأخره وانقساماته إلى الحداثة الموعودة، لكن استبعاده جعل السلطة تعمل دون حامل مجتمعي، وتبرر عملها بضرورة إنشاء وحدة عضوية بين مصالحها ومصالح الشعب والدولة العليا. نعرف جميعاً ما ترتب على هذا النهج من نتائج سلبية بالنسبة إلى القانون وحقوق وحريات المواطنين، وإلى إدارة السلطة ذاتها.
هذا النهج، الذي عرفته السنوات الخمسون المنصرمة، فقد شرعيته والكثير من فاعليته مع انهيار النظام السوفييتي، الذي كان قد أنتجه وعممه. ومع أننا نجده اليوم في دول عربية عديدة، فإنه شرع يترك مكانه لنموذج جديد، يتسلل ببطء إلى العلاقات العربية العربية، إلى المجال القومي، الذي يبدو أن أطرافاً فيه أخذت تسلم بضرورة إقامة نمط علاقات تفاعلية ترفض فكرة المركز والمحيط، وتتلمس بديلا له ينهض على مصالح تكاملية ويتسم بالندية، تسنده مشتركات جزئية (اقتصادية، سياسية.. الخ)، أو عامة (ثقافية، لغوية، دينية، مجتمعية، تاريخية، فضلاً عن المشتركات الاقتصادية والسياسية).
هذه النقلة في سياسات النظم العربية، التي ما زالت غامضة وفي بداياتها الأولى، تتفق مع ميلها إلى المحافظة على أوضاعها القائمة، فهي تجمعها بعد فرقة، وهي لا تزج بعضها ضد بعضها الآخر، في حاضر غابت عنه الفكرة الوحدوية الموجهة، التي كانت تدعو إلى ذوبان الدول في بعضها، ولا ترى وحدة لعرب بغير إقامة دولة واحدة ووحيدة لهم. لقد بدأ الابتعاد عن هذا النمط من الفهم والوعي، وشرع يتخلق مفهوم عربي تكاملي يشق طريقه بصعوبة وبطء، سيكون، إن هو استمر ونجح، أكثر قدرة على الحد من التناحر والصراع في المجال القومي، وعلى وقف المعارك، الكلامية والحقيقية، التي كثيراً ما فرقت العرب وبددت جهودهم، وشحنت علاقاتهم بمواقف تماثل تلك التي تطبقها النظم في مجالها الداخلي.
ثمة، أخيراً، نقطة جوهرية يجب الوقوف عندها، يعبر عنها السؤال التالي: ألا يضعف استبعاد الشعوب من المشاركة في الشأن العام فرص سياسات عربية جديدة تقوم تحديداً على المشاركة؟. وهل يمكن أن تنجح سياسات تكيل بمكيالين متناقضين، واحد خارجي يتسم بطابع واقعي ديمقراطي، وآخر داخلي، طابعه المميز أيديولوجي واستبعادي؟. إن الوعد القديم ببناء دول قوية وحديثة، يمكن أن يستعاد ويتحقق، إذا ما تعاملت النظم، من الآن فصاعداً، مع داخلها وفق القواعد المنفتحة، التي أخذ بعضها يعتمدها في مجاله القومي الخاص، ونأمل أن تمتد في أقصر وقت إلى المجال القومي العام، لتطبعه بطابعها المبارك.
ميشيل كيلو, صحيفة الخليج الاماراتية
مع استعصاء الطريق الرأسمالي الليبرالي، وبروز تحديات مست وجود الأمة، على رأسها تحد مكّن مئات آلاف اليهود، الغرباء عن المنطقة، من احتلال فلسطين، قلب العالم العربي الاستراتيجي، رغم تفوق العرب العددي الكاسح نيف ومائة مليون، برزت الحاجة إلى دولة مسلحة، تعمل في بيئة وطنية تقبل ما يصدر عنها بوصفها أداة الدفاع عن الوطن والأمة، التي ستعيد بناءهما في إطار العصر، بطريقة تردم هوة التأخر، وقد فصلت العرب عن عالم متقدم نجح في كسر شوكتهم طيلة قرون، وحان وقت إدراكه حماية أنفسهم منه، بقوة الدولة العصرية القوية، التي تعد مناط الأمل والغاية التي لن يتحقق شيء من دونها، ولا بد أن يسلم الجميع بضرورتها، وبأولية ما يصدر عنها، وأن يعيشوا لها لأنهم سيعيشون منها وبفضلها.
هذه الدولة، التي انفردت بالمجال العام واعتبرت محرك النهضة وباعثها، امتلكت سلطة شبه مطلقة في داخلها الوطني، بيد أن تعثرها في مجالي القوة والتنمية الدفاع والنهضة أجبرها على التأقلم مع واقع كانت قد أعلنت رفضها له، ودفعها إلى التخلي التدريجي عن وعودها، أيديولوجية الطابع، وإلى إعادة إنتاج نفسها في إطار المتاح والممكن، حتى انتهى بها الأمر إلى مراعاة علاقات وتوازنات خارجية كانت قد وعدت أن تحل محلها علاقات وتوازنات تعكس ثقل العرب ومصالحهم، في وطنهم والعالم. أما الحدث الكاشف، الذي حفز هذا التحول، فكان الفشل الجديد أمام عدوان “إسرائيلي” واسع ومدبر، وقع في شهر حزيران من عام،1967 وبدا كلحظة حقيقة كشفت منطويات الواقع العربي، وخيارات وممارسات نخبه الحاكمة، التي هالتها الهزيمة وأفزعتها نتائجها وجعلتها تنقل أولياتها من الخارج إلى الداخل، وتركز جهودها على تطور يحكم قبضتها على الدولة والمجتمع.
بعد حزيران، تخلق واقع عربي جديد، أسسته سلطة أعادت إنتاج نفسها في حاضنة تناقضات وتوازنات وضعتها فوق المجتمع، وبمنأى عنه، مع أن نخبها كانت قد وصلت إلى الحكم وهي تعد تأسيس نموذج يضمها إلى مجتمعاتها ليصيرا كتلة واحدة، تواجه الخارج، الذي سيشكل الجانب الآخر، المعادي، الذي لا بد من التحرر منه.
بما أن إنتاج المجتمع من فوق يصعّب وجود توافق حقيقي بينهما، وبما أن تحديث المجتمع بجهده الخاص بدا مسألة مستعصية، لأسباب منها تخلفه وضعف خبرته السياسية وتبعثره واحتجازه السياسي، فقد بدا تهميشه حتمياً، كي لا ينقل تأخره وانقساماته إلى الحداثة الموعودة، لكن استبعاده جعل السلطة تعمل دون حامل مجتمعي، وتبرر عملها بضرورة إنشاء وحدة عضوية بين مصالحها ومصالح الشعب والدولة العليا. نعرف جميعاً ما ترتب على هذا النهج من نتائج سلبية بالنسبة إلى القانون وحقوق وحريات المواطنين، وإلى إدارة السلطة ذاتها.
هذا النهج، الذي عرفته السنوات الخمسون المنصرمة، فقد شرعيته والكثير من فاعليته مع انهيار النظام السوفييتي، الذي كان قد أنتجه وعممه. ومع أننا نجده اليوم في دول عربية عديدة، فإنه شرع يترك مكانه لنموذج جديد، يتسلل ببطء إلى العلاقات العربية العربية، إلى المجال القومي، الذي يبدو أن أطرافاً فيه أخذت تسلم بضرورة إقامة نمط علاقات تفاعلية ترفض فكرة المركز والمحيط، وتتلمس بديلا له ينهض على مصالح تكاملية ويتسم بالندية، تسنده مشتركات جزئية (اقتصادية، سياسية.. الخ)، أو عامة (ثقافية، لغوية، دينية، مجتمعية، تاريخية، فضلاً عن المشتركات الاقتصادية والسياسية).
هذه النقلة في سياسات النظم العربية، التي ما زالت غامضة وفي بداياتها الأولى، تتفق مع ميلها إلى المحافظة على أوضاعها القائمة، فهي تجمعها بعد فرقة، وهي لا تزج بعضها ضد بعضها الآخر، في حاضر غابت عنه الفكرة الوحدوية الموجهة، التي كانت تدعو إلى ذوبان الدول في بعضها، ولا ترى وحدة لعرب بغير إقامة دولة واحدة ووحيدة لهم. لقد بدأ الابتعاد عن هذا النمط من الفهم والوعي، وشرع يتخلق مفهوم عربي تكاملي يشق طريقه بصعوبة وبطء، سيكون، إن هو استمر ونجح، أكثر قدرة على الحد من التناحر والصراع في المجال القومي، وعلى وقف المعارك، الكلامية والحقيقية، التي كثيراً ما فرقت العرب وبددت جهودهم، وشحنت علاقاتهم بمواقف تماثل تلك التي تطبقها النظم في مجالها الداخلي.
ثمة، أخيراً، نقطة جوهرية يجب الوقوف عندها، يعبر عنها السؤال التالي: ألا يضعف استبعاد الشعوب من المشاركة في الشأن العام فرص سياسات عربية جديدة تقوم تحديداً على المشاركة؟. وهل يمكن أن تنجح سياسات تكيل بمكيالين متناقضين، واحد خارجي يتسم بطابع واقعي ديمقراطي، وآخر داخلي، طابعه المميز أيديولوجي واستبعادي؟. إن الوعد القديم ببناء دول قوية وحديثة، يمكن أن يستعاد ويتحقق، إذا ما تعاملت النظم، من الآن فصاعداً، مع داخلها وفق القواعد المنفتحة، التي أخذ بعضها يعتمدها في مجاله القومي الخاص، ونأمل أن تمتد في أقصر وقت إلى المجال القومي العام، لتطبعه بطابعها المبارك.
ميشيل كيلو, صحيفة الخليج الاماراتية