-
دخول

عرض كامل الموضوع : تجارة الأعضاء, أو عندما تفترس الحاجة الأخلاق


yass
04/06/2009, 00:53
لا أعتقد أن يختلف اثنان على أن تطوّر العلوم الطبية و التقنيات التشخيصية و العلاجية (الدوائية منها و الجراحية) هي من النقاط الشديدة اللمعان في سجل تطوّر الصنف البشري و أحد محركات الحداثة بمعناها الراقي الذي يعنى بالحياة الإنسانية و جودتها, و لو عملنا على وضع خط بياني للتطورات الطبية خلال المائة عام الأخيرة فلا شك أننا سنشعر ببعض الدوار عند ملاحظة التطور السريع و الهائل على جميع الأصعدة الاختصاصية, و تقنية زرع الأعضاء كانت إحدى هذه الإنجازات العلمية الرائعة, و التي ساهمت إلى الآن في إنقاذ حياة الملايين و إعطاء فرصة حياتية جديدة و مديدة لمن كان مرضه يحكم عليه بالموت حتماً منذ عقود قليلة جداً.

قد يكون من الظريف الآن أن نعيد قراءة تلك النصوص المبتهجة التي كتبت عندما نجح كريستيان برنار في زرع قلب لمريض في جنوب أفريقيا و عاش المريض بعدها شهراً واحداً, فاليوم يقدّر أن العمر الافتراضي الأقصى لقلب مزروع يمكن أن يصل إلى 29 عاماً بشكل وسطي, لكننا مع ذلك ننظر إلى كرستيان برنار كما ننظر إلى المستكشفين الأوائل الذين سخّروا سنين طويلة من حياتهم للقيام برحلة استكشافية نستطيع اليوم أن ننجزها خلال ساعات قليلة بالطائرة.

نميّز في زراعة الأعضاء نوعين أساسيين: زراعة من شخص حي إلى المريض (كلية, قطعة من الكبد) أو زراعة من ميّت إلى حي (القلب, الرئة) و من الأساسي أن يكون هناك نسبة مئوية عالية من التطابق النسيجي و الخلوي و الذي يتحدد بمقاييس فيزيولوجية و كيميائية دقيقة, و مع مرور السنين تظهر تقنيات جديدة قادرة على إنجاح عمليات زرع بتطابق أقل, فمنذ سنوات كنا نحتاج لتطابق يكاد يكون كاملاً, و اليوم يمكن إنجاح عمليات بتطابق أقل, و مع دوران عجلة التطوّر إلى الأمام ستزداد التسهيلات بطبيعة الحال.

من الطبيعي أيضاً, مع كل تطور علمي و تكنولوجي, أن تظهر بموازاته إشكالات يمكن أن تشكّل معضلات حقيقية أمام الفلسفة العلمية و الأخلاق, فكل تقدّم علمي, أياً يكن, هو سلاح ذو حدين, و هذا لا يجب أن يكون مانعاً للسير في طريق التطوّر العلمي إنما هو تحدّ يجب مواجهته بإيجاد الحلول المنطقية و الأخلاقية التي تكفل استخدام هذا العلم في سبيل خير الإنسان و حياته و رفاهيته. و في حالة زراعة الأعضاء تظهر معضلة هي بحد ذاتها نتيجة للتطوّر العلمي أيضاً, فمع تطوّر الطب قلّت أيضاً حالات الوفاة بين الشباب لأسباب مرضية (أمراض محددة لا تؤذي الأعضاء التي سوف يتم التبرع بها) أو بسبب حوادث, و بنفس الوقت فقد ازداد عدد الأمراض التي يمكن علاجها بعملية زرع عضو, و بالتالي نجد - باستخدام المصطلحات التجارية, مجازاً- طلباً كبيراً مقابل عرض قليل, و هذا الفرق بين العرض و الطلب ساهم بظهور و ازدهار تجارة الأعضاء البشرية التي تستغل حالات الفقر و الحاجة القصوى في دول العالم الثالث بالإضافة إلى عجز قانوني و أمني في هذه الدول عن ضبط هذه الحالات الإجرامية, و تقدّر الدراسات أن عدد عمليات زراعة الأعضاء في العالم هو 100000 عملية سنوياً, و من هذا العدد الكبير هناك على الأقل واحداً من كل عشرة أعضاء يأتي من التجارة غير الشرعية.

بما يخص حالات التبرّع من حي تأخذ حالات زراعة الكلية نصيب الأسد, و في هذا المجال تعتبر باكستان جنّة مافيا تجارة الأعضاء, فالوضع الاقتصادي السيئ لملايين أبناء الريف الباكستاني بالإضافة إلى ضعف سلطة القانون و الفساد يسمح بأن تكون هذه التجارة علنية و منتشرة, بل أن هناك مستشفيات متخصصة في هذا المجال تقوم بعرض كامل للمريض على طراز الشركات السياحية من سفر بالطائرة بالدرجة الأولى مع خدمة توصيل من و إلى المطار و حجوزات فندقية للمرافقين و البحث عن متبّرع متطابق نسيجياً مقابل 15000 إلى 20000 ألف دولار, و تشير الدراسات أيضاً إلى أن المتبرّع لا يتلقى أكثر من 1700 دولار مقابل كليته, و عليه بالإضافة أن يتكفّل بمصاريف عملية نزع العضو و العناية الطبية ما بعد العمل الجراحي, و هذه الأمور تكلّفه حوالي 400 إلى 500 دولار, و هكذا نجد أنه يبيع كليته مقابل 1200 دولار فقط, و لا تقدّم أي ضمانات صحّية و طبية لهذا المسكين و لا يتم التأكد من حالته الصحية و قدرته على مواصلة الحياة بكلية واحدة, مما يجعل معدّل الوفيات بين المتبرعين عالٍ جداً في الشهور التالية لنزع الكلية بسبب غياب المتابعة الطبية.

ليست باكستان الدولة الوحيدة التي يسهل فيها شراء عضو, فهناك الكثير من الدول الأخرى مثل الهند و بورما و بعض دول أميركا اللاتينية و أفريقيا, و في الدول العربية تحتل مصر الصدارة في هذا المجال حيث يشير تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2008 إلى أن بيع الأعضاء قد أصبح عادةً منتشرة في القطاعات الفقيرة الواسعة جداً في مصر, و من الطبيعي أن نجد في الصحافة الورقية و الالكترونية إعلانات لأشخاص يطلبون كلية أو يعرضون بيعها, و وجدت بعملية بحث بسيطة أكثر من عشرة أمثلة لن أنشرها احتراماً لحاجة و لهفة أصحابها, و لكن بإمكان القراء أن يجربوا البحث و سيجدون هذه الأمثلة.

تشير التقارير أيضاً إلى أن الإسرائيليين هم من كبار زبائن تجارة الأعضاء, و هذا يعود إلى المستوى الاقتصادي العالي لديهم بالإضافة إلى أن أغلب التيارات الدينية تمنع اليهود من التبرّع إن كان حيّاً أو ميتاً, فيحتاجون إلى البحث عن العضو خارجاً.

أما بما يخص الأعضاء التي لا يمكن الحصول عليها إلا من متوفى كالقلب أو الرئة فيحصل عليها عن طريق تعامل المافيا الدولية مع كبار ضباط دول عسكرية عديدة في آسيا و منها بورما و الصين, حيث يتاجر هؤلاء الضباط بأعضاء المحكومين بالإعدام دون أي قيد قانوني بطبيعة الحال.

تحاول أغلب دول العالم تشديد القوانين الناظمة لزرع الأعضاء بشدة و حصر تنظيمها بيد السلطات الصحية الحكومية و بشروط دقيقة جداً, و لكن هذا التشديد و للأسف يشبه محاولة إحاطة الصحراء الكبرى بسياج, ففي هذا الزمن حيث أصبح العالم كله بمتناول الكف لا يمكن تقييد هذه الأمور بسهولة, فما دام هناك من يبيع و هناك من يقوم بالعمل الجراحي فسيكون هناك من يشتري, حتى لو اضطر الأمر لعبور القارات.

لا شك أننا نواجه معضلة أخلاقية كبيرة, فمن السهل القول بأن هذه التجارة غير أخلاقية و كفى, لكن هذه النتيجة أعتقد أنها "الحل الذي ليس حلاً", ففي هذه المشكلة نجد طرفين محتاجين: المريض الذي يحتاج لعضو كي ينقذ حياته, و علينا أن نقدّر مشاعره و مشاعر أهله و أن نفهم (وافقنا ذلك أم لا) أنهم في حال استطاعوا دفع كلفة شراء العضو فسوف يشترونه دون أن يسألوا عن مدى قانونية المصدر, و في الطرف الآخر نجد الفقير المسكين الذي يقوم ببيع أحد أعضاءه ربما ليأكل و ليطعم أولاده, ففي هذا العالم المتفاوت نجد و للأسف أن هناك من لا يجد ثمن كسرة خبز لأبنائه, و لا أجرؤ على انتقاد كلا الطرفين سابقي الذكر لأنني لا أملك حلاً بديلاً للمآسى التي يعانونها. لكن هناك من يكسب الملايين سنوياً مقابل القيام بدور الوسيط بشكل غير قانوني و غير إنساني حتى, فهؤلاء يتحرّكون بالمال و لأجل المال, دون أن يحرّكهم أمر آخر.

يبقى أملنا و رجاؤنا في أن يتطوّر العلم في السنوات المقبلة و يجد حلاً لهذه المعضلة أيضاً بنفس الطريقة التي أوجد آلاف الحلول لآلاف المعضلات الأخرى التي واجهتنا عبر التاريخ.

و ختاماً... نسأل الله الصحة و العافية, لكم و لنا و لجميع بني البشر



Yass

ورده بغداد
04/06/2009, 15:12
موضوووع مميز

شكرا لك