-
دخول

عرض كامل الموضوع : جدل بين الفكرو الطبيعة


جاد81
21/05/2009, 19:12
الجدل:

كما يرى دعاته ليس مذهبا ً ميتافيزيائيا ً، بقدر ما هو منهج معرفي . و ثمة بين الجدليين ما كان مثاليا ً موضوعيا ً،أو مثاليا ً ذاتيا ً ، ومن كان ماديا ً.وإذا كان الفضل في صوغ أسس ذلك المنهج يعود إلى الفلسفة الكلاسيكية الألمانية (كانت،فيخته،شيلنغ ،هيغل )فإن أصوله تضرب في بواكير الفكر الإنساني ،بل إن ثمة من يرى أن الإنسان لم يخترع الجدل ،و إنما اكتشفه في فاعلية الطبيعة، فالجدل هو إيقاع الوجود كله .
لا يدرس الجدل هذه الظاهرة أو تلك منعزلة ساكنة،و إنما يتتبعها في ارتباطها بوجودها الشامل كله ،و عبر حركتها الدائبة ،فكل ما في الكون متغير لا يثبت على حال…كل شيء هو ذاته و نقيض ذاته في اللحظة عينها ، و هذا التناقض الذي يتفاعل في صميم الأشياء و الظواهر ،هو أول إيقاعات الجدل ،إنه الإيقاع الذي يحفز إلى الصراع و التطور و التخطي .
لكن إيقاعات السيرورة الجدلية لا تقتصر على ثنوية التضاد و إنما تتعداها إلى ايقاعات أخرى كالثالوث و التواتر الدوري .
و يتبدى إيقاع الثالوث في تتبع تجربة الطبيعة عبر تاريخها الطويل ،منذ أن كانت المادة مرتصة و قواها متحدة في كيان ضئيل لا تمايز فيه قبل الإنفجار الأعظم،إلى انفراط عقد القوى و تمايز المادة في عقبه،إلى جيشان في السدم الكونية يولد الأجرام و يضبط حركاتها في إيقاعات تعكس العلاقات التي نشأت بين الكتل المادية،
ثم إلى حركة إبداعية تدفع إلى الوجود بكيانات مادية عضوية ،يتلقفها كوكبنا الأرضي في بكرته ،فتتولد في جنباته تلك الظاهرة العجيبة و الفريدة :الحياة ...

و عبر هذه السيرورة كانت الطبيعة تطرح مشروعها الأولي ،ثم تتخطاه في نفي جدلي ينسخ شيئا ً و يحفظ شيئا ً،ثم تنفي هذا النفي في دور ثلاثي يولـّد على التعاقب ثروة لا تحصى من الكائنات الحية المدهشة ،ما بقي منها و ما اندثر .
و ينظم إيقاع النفي هذا إيقاع الثالوث الشهير :الأطروحة (أو الموضوع ) ،و نقيضها (أو طباقها )،و تركيبهما (أو الصيرورة ).....فما من ظاهرة إلا و تستدعي نقيضها ،و هل من قرار دون جواب في حوار الوجود ؟.. هكذا يتبادل الكائن الحي و الطبيعة حديثا ً يتردد بين التكيـّف و التحدي ،و هكذا تتنازع الكائنات فرصة الوجود حينا ً ،و تتآلف حينا ً،في توازن يحكم التعايش القلق و يهيئ أسباب التطور.

و ليس حوار الموضوع و طباقه ،قراره و جوابه ،دورا ً ساكنا ً مكرورا ً،فهو يجيش بالتناغم و التمايز و الصراع،ليفضي إلى صيرورة تأخذ من هذا و من ذاك،
و ترقى بما أخذت إلى (موضوع ) جديد يستدعي نقيضه فصيرورتهما ،لتكتمل حلقة الإيقاع المثلث ...ثم ترقى ثانية في نقلة جدلية إلى إيقاع مثلث آخر فإلى سواه....و يتواصل اصطراع الأضداد في الحلبة الثلاثية ما لبث الإيقاع .
وإذ يحكم الإيقاع المثلث ( الموضوع و نقيضه و الصيرورة )فاعلية الطبيعة ،وينظم نفي النفي آلية ارتقائها ،فإن محتوى تلك السيرورة موقع على نغم ثلاثي أيضا ًيتمثل في جدل ( الكم و الكيف و المعيار ). ففي صميم كل ظاهرة تناسب إيقاعي بين خصائص كمية و أخرى كيفية ، تتحدان في معيار يجسد ذلك التناسب و يحدُّه....لكنه تناسب قلق ينمو في طياته الكم فيضيق درعا ً بإساره الكيفي فيصطرعان صراعا ً خافتا ً ثم جهيرا ً ، إلى أن يحين الحين ،فيختل التناسب و يتم تخطي المعيار في نقلة جدلية إلى معيار جديد ، لا يلبث أن يلقى مصير سلفه ليتواصل الإيقاع و يتجدد ....
و تنطوي آلية السيرورة الثلاثية هذه ،شأن سابقيها على إيقاع دوري يتواتر منطقيا ً و ليس زمنيا ً ،و تتراتب وفقه الثلاثيات صاعدة من الأدنى إلى الأعلى ومن البسيط إلى المعقد ، لترسم في فضاء الوجود لولبها الجدلي فما يـُنفى قي قرار اللولب يفصح عن ذاته ثانية في جوابه ، ثم في جواب جوابه ، بعد أن يزداد غنىً و ارتقاء ًعبر المسار الجدلي لحركة الوجود .
و منذ أن اكتسب مشروع الإنسان موهبة الوعي ، و امتلك سلاح المعرفة استعارت المعرفة من موضوعها (الطبيعة )آلة الجدل ،فأنارتها بالعقل ،و اتخذت منها منهجا ً لاستكشاف الطبيعة و استلهام عبقريتها في بناء الحضارة الإنسانية .
و على هدي الإيقاع الثلاثي رسمت المعرفة خطاها :فالتأمل يطرح تصورا ً أوليا ً
فتنفيه الممارسة نفيا ً جدليا ً،ثم يعود التأمل فينفي النفي ،لترجع الممارسة من جديد فتعيد الكرة ،إنما في مستوى معرفي أعلى .
ما من نظرية تمتلك الحقيقة كاملة ، قديمة كانت أم جديدة،فالنظرية هي قرار الجدل (أو أطروحته ) و إذ تـُطرح تستدعي جوابها (نقيضها )و يتمثل هذا النقيض ما أنجزته النظرية،لكنه ينمو على ثغراتها ،و يتعارض النقيضان و يتفاعلان ،ليصيرا إلى نظرية جديدة هي تركيب لهما و نقلة إلى درجة معرفية أرفع ....لكن النظرية الجديدة تدخل من ثم في دور جديد ,فالنقيض يترصدها بل لعله يسكنها منذ أن ولدت ،و ينتهي الدور الجديد إلى نقلة أخرى .....و هكذا ترتقي المعرفة و تغتني عبر إيقاع الثالوث الجدلي،و تواتره ، مادام في الوجود،و في دخيلة الإنسان و إبداعه و ما يستحق أن يعرف.


الكاتب و الباحث السوري : كمال علي القنطار

sandra
22/05/2009, 16:47
موضوع مدسم وعالي المستوى فعلا
عجبتني فكرة الثالوث الجدلي
شكراً للنقل
:D

boozy
22/05/2009, 22:23
المقال رائع ويحتاج تركيز... طبعا هذه هي الفلسفة... تحليل وتفصيل وترجمة وتصنيف ماهيات الوجود والحياة الطبيعة رغم تعاملنا معها على اساس الفطرة والاعتياد وعدم الانتباه لفحواها وجوهرها.
" ان كل شيء يحتوي على نقيضه في صميم تكوينه وانه لا يمكن ان يوجد الا حيث يوجد نقيضه معه "
- هيجل-

جاد81
23/05/2009, 01:13
منذ أن إكتسب مشروع الإنسان موهبة الوعي ، بدأ الحوار الخّلاق بين فكره و الطبيعة .
ومن الطبيعة إستعار آلة الجدل ، فأنارها بالعقل و إتخذ منها منهجا ً معرفيا ً لاستكشاف الكون و بناء الحضارةالإنسانية .

يستقرئ الجدل مظاهر الوجود في ترابطها الشامل و حركتها الدائبة ، فكل ما في الكون متغير لا يثبت على حال ...

كل شيء هو ذاته و هو نقيض ذاته في اللحظة عينها . و هذا التناقض الذي يتفاعل في صميم الأشياء و الظواهر ،

هو مصدر الصراع ، و الحافز إلى التطور و التخطي .إنه واحد من أعمق ايقاعات الوجود

توم و جيري
24/05/2009, 04:13
شي رائع ....

تسجيل متابعة ..:D

جاد81
24/05/2009, 16:08
كيف تولدت ظاهرة الحياة ،هذه الطفرة الإستثنائية في تاريخ الكون .و أين مكان الجدل في سيرورتها ؟ و هل من معايير تحكمها ؟
إن صعوبة هذه الأسئلة ترجع إلى أنها تـُطرح بعد مرور مليارات السنين على ظهور الحياة فوق كوكب الأرض ، إذ أن أقدم مستحاثات الكائنات الحية التي اكتشفت حتى الآن ، تعود إلى نحو3،5 مليار سنة . و يعتقد أن المعالم البدائية للحياة قد سبقت زمن هذه المستحاثات بما لا يقل عن نصف مليار عام .
و خلال هذه المليارات الطويلة ، تبدلت شروط الحياة على الأرض و تغيرت أشكالها و تنوعت تنوعا ً يصعب حصره ، بحيث أصبح تصور الظروف البدائية لنشأة الحياة و معالمها الأولى ضربا ً من الظنون .
و على الرغم من ذلك فإننا قادرون على تتبع خط معياري لسيرورة الحياة يبدأ من النقطة التي حققت فيها الطبيعة نقلة كيفية من الكيمياء اللاعضوية إلى الكيمياء العضوية ، و أتاحت فرصة الظهور لتلك المركبات العضوية التي شكلت فيما بعد لبنات الحياة ، كالحموض الأمينية والأسس النووية .
ثم كانت النقلة المعيارية الثانية ،حين نزعت المركبات العضوية الأولى ،أو فصائل منها إلى التجمع في بنى جزيئية أضخم هي البوليمرات( المكثورات )التي سوف تنشأ منها فيما بعد البوليمرات الثلاثة التي تسم ظاهرة الحياة في شكلها الراهن:
( الحمضان النوويان RNA.DNA و البروتين ).
كيف استطاعت تلك العناصر الكيميائية الميتة أن تعبر المعايير الثلاثة لتصير إلى متعضيات حية ؟ و ما هي الشروط البدائية لذلك التحول المبدع ؟ و في أي موطن أخصبت بذور الحياة ؟
ولكن كيف يستطيع الحوار الجدلي بين الكائن الجديد و البيئة أن يحدث تغييرا ً في المظهر يمكن توارثه...و هل سيرورة النشوء و الارتقاء لم تكن سيرورة خطية متصلة و متدرجة فحسب ،و انما كانت جدلا ً جياشا ً بين الإتصال و التقطع ، و أن ظهور الأنواع قد إرتبط إرتباطا ً و ثيقا ً بتحولات معيارية كيفية ،كانت خلاصة حوار متراكم بين الكائن الجديد و شروط البيئة.....

هكذا تدب الحياة على الدوام ، في كل بقعة من بقاع الأرض ، بثروتها التي لا تحد من الإيقاعات المتناغمة و التي تشكل ضمن الحشد العشوائي لأشكال المادة الحية و غير الحية و الاحتمالات اللامتناهية لتفاعل المصادفات و تضاربها ، أقنية بالغة الإنتظام تنسرب في مجاري مستقلة اصطفتها الطبيعة عبر الحوار المعقد لأشكال الحياة و البيئة المتغيرة ، لتولد في تفردها البديع و في اجتماعها الرائع ، سيمفونية الحياة الرائعة ...........