ayhamm26
19/05/2009, 21:10
منذ أيام امتثل أمام محكمة الجنايات العسكرية الثانية بدمشق السجين السياسي الدكتور وليد البني القابع في سجن عدرا المركزي لمحاكمته بتهمة «نشر أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة» بناء على وشاية من سجين جنائي يحاكم بجرم قتل. وقبل وليد البني بأيام معدودات أصدرت محكمة الجنايات الأولى بدمشق حكماً سياسياً بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة والتجريد مدنياً والحجر بحق المعارض مشعل التمو، الناطق الرسمي باسم تيار المستقبل الكوردي في سورية، وجرمته المحكمة بتهم «النيل من هيبة الدولة وإضعاف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة»، وقبل وليد البني ومشعل التمو كان القضاء السوري قد وجه اتهامات مماثلة لكل من الكاتب ميشيل كيلو والناشط كمال اللبواني والمحامي أنور البني وغيرهم من المعارضين تتعلق بوهن نفسية الأمة وإضعاف الشعور القومي! ولمن لا يعرف سورية جدياً، أو لم يتسنَ له متابعة أخبارها السياسية، وكيف تتعامل السلطات مع معارضيها، سوف لن يصدق أن قضاء يحترم نفسه يمكنه أن يوجه مثل هذه الاتهامات الدرامية التي تثير الضحك، لا بل ربما تجده يتساءل: وما المقصود «بوهن نفسية الأمة»؟
إنه حقا تساؤل محير، واتهام قضائي غريب، لأن علماء اللغة والسياسة، إضافة إلى خبراء القانون في العالم كله، وفيما لو فكروا في تحليله وفكفكته سياسياً وقضائياً، فإنهم سيصابون بوجع رأس كبير من دون أن يتوصلوا إلى أي نتيجة منطقية. وإذا كانت كلمة «وهن» تعني الضعف أو الإضعاف أو ربما التعب والإتعاب، حسب موقعها قواعدياً في الجملة، فإن كلمة ومصطلح «نفسية الأمة»، هي أكثر صعوبة بكثير، فخلال محاولتنا لفهم الجملة وتحليلها، كان لابد من ربط كلمتي «نفسية» و«الأمة» ببعضهما البعض، لأنه لولا هذا الربط فلن نصل أبداً إلى المغزى والمعنى من هذا الاتهام الغرائبي الكوميدي.
لكن وخلال محاولتنا لفهم الجملة، واجهتنا مشكلة فلسفية سياسية عقائدية، تتعلق بالقصد من كلمة ومصطلح «الأمة»، ففي دولة مثل سورية يحكمها «حزب البعث» يعتبر مفهوم الأمة مفهوماً شاملاً يضم أبناء ومواطني الدول العربية كلهم الذين يرتبطون «باللغة والتاريخ المشترك والآمال الواحدة ويقيمون على جغرافية لا تفصلها موانع طبيعية كالجبال والبحار»، وعليه فإن «حزب البعث» الحاكم في سورية لا يعترف بوجود شيء اسمه «الأمة اللبنانية» أو «الأمة الكويتية» أو «الأمة المصرية» أو «الأمة العراقية» أو «الأمة الجزائرية».
هذا يقودنا إلى أن الحكم على الناشط السياسي بـ«وهن نفسية الأمة» يقصد به أن الناشط أو المعارض السوري قام بإضعاف ووهن الأمة الواحدة الممتدة دولها من الخليج شرقاً إلى المحيط غرباً، وهو يعني أن المواطن «x» في دولة الكويت مثلاً، شعر فجأة، وفيما هو متمدد على الأريكة يتابع فيلماً مصرياً قديماً بالأسود والابيض، بوهن غريب في قلبه ونفسيته في الوقت ذاته الذي كان فيه الناشط ميشيل كيلو، على سبيل المثال، ينشر مقالته «نعوات طائفية» في إحدى الصحف العربية، وهذا يعني أيضاً أن المواطنة «z» في مدينة طنجة في المغرب، أُصيبت بكآبة وإحباط شديدين حين سمعت أن المحامي أنور البني قد افتتح مركزاً للدفاع عن حقوق الانسان في قلب العاصمة السورية دمشق، لكن خلال هذا التحليل الرياضي القواعدي اللغوي والسوسيولوجي أيضاً، واجهتنا مشكلة تتعلق بالمعارض مشعل التمو، وهو مواطن كردي سوري، يعني أنه ليس عربياً من الناحية القومية والإثنية، وهو الأمر الذي جعلنا في حيرة شديدة، إذ كيف يوهن مشعل التمو، وهو شخص كردي من محافظة الحسكة في سورية، الأمة العربية وما علاقته بنفسية هذه الأمة، أليس هو أقرب إلى هموم «أمته الكردية» الممتدة على دول إقليمية عدة، في تركيا وإيران وسورية والعراق؟ من ناحية أخرى، ثمة مشكلة كبيرة واجهتنا خلال محاولتنا فهم الأسباب التي توهن نفسية الأمة، وقد وجدنا من خلال مطالعاتنا وحوارات عدة أجريناها مع مواطنين عرب أن ما يوهن النفسية العربية مختلف عليه بين دولة وأخرى وشريحة اجتماعية وأخرى، وبين مثقف وآخر ، وما بين امرأة هنا وامرأة هناك.
وعلى سبيل المثال، تبين أن ما يوهن نفسية السوري أكثر من أي شيء آخر، هو شعوره بالخوف والرعب حين يدخل أحد المراكز الأمنية، وشعوره بالدونية حين يتابع أخبار المواطنين في هولندا والسويد والولايات المتحدة وحتى مواطني سيرلانكا والهند وباكستان بسبب ما يتمتعون به من حريات في التعبير، وهو يشعر بالوهن والعطب أكثر حين يضطر لدفع رشاوى إلى شرطي المرور، وحين يطلب منه ابنه، مثلاً، مبلغاً مالياً كبيراً ليرشي به «معلمه» حيث يؤدي خدمة العلم، وهو يشعر بالإحباط والوهن كلما حلقت طائرة إسرائيلية فوق سماء سورية، أما ما يقتله وهناً فهو مرور الأيام والأعوام من دون أن يعود الجولان المحتل إلى سورية.
مواطن سوري آخر، ملتزم دينياً، قال إن ما يوهنه اكثر من أي شيء آخر هو القنوات الفضائية التي تبث مشاهد خليعة للراقصات والممثلات، وهو متأكد أن ما يوهن نفسيته أكثر من أي شيء آخر هو القنوات الفضائية الأوروبية التي تبث أفلاماً جنسية. لكن مواطناً سورياً يسارياً قال إن ما يوهن نفسيته أكثر من أي شيء آخر هو ظاهرة التدين المبالغ بها والمقترنة مع أفكار متطرفة تكفّر الآخر لأتفه الأسباب ولا تعترف به.
وإذا كانت هناك الكثير من الأسباب والعوامل التي توهن نفسية المواطن السوري فإن ما يوهن ويضعف نفسية المواطن اللبناني مختلفة تماماً، فهو يشعر بالوهن والإحباط حينما يسمع أخباراً تتعلق باحتمال عقد الولايات المتحدة صفقة مع سورية على حساب بلده، وهو الأمر الذي يرعبه ويذكره بفترة «الوصاية الأخوية». كما أن أسباب الوهن، تختلف من لبناني إلى آخر، فإذا كان «زيد» يشعر بالوهن من احتمال صفقة سورية أميركية، فإن «عمرو» يشعر بالوهن الشديد من السياسيين اللبنانيين كلهم، ويتمنى اليوم قبل غد أن يحصل على «الفيزا» ويترك «السياسيين يتصارعون مع بعضهم البعض، و«فخار يكسر بعضه»، إن فازت في الانتخابات كتلة فلان أو كتلة فلان.
وتبين معنا، أيضاً، أن ابن قطاع غزة يوهنه الحصار وقلة الدواء وندرة فرص العمل والبعد الإجباري عن الأشقاء والأهل في الضفة الغربية والانقسام الفلسطيني، وتبين كذلك أن ما يوهن نفسية المصري يختلف عما يوهن نفسية المغربي، وما يوهن نفسية المواطن الكويتي يختلف تماماً عما يوهن نفسية السوداني... بالنسبة إليّ وبعد تفكير طويل وعميق وجدت أن ما يوهن نفسيتي أكثر من أي شيء آخر هو القضاء السوري الذي ينخر فيه الفساد وتتدخل في شؤونه وأحكامه أجهزة المخابرات كلها، وما يتعبني ويصيبني بالوهن النفسي والعقلي أكثر من أي شيء آخر، هو عند سماعي بمثل هذا الحكم «وهن نفسية الأمة»، لأنني لا أفهمه ولن أفهمه، رغم أن زوجتي تصفني «بعبقري زماني»، ويبدو أنني سأستمر في سماعه بين الفينة والأخرى.
زين الشامي
صحيفة الراي العام الكويتية
إنه حقا تساؤل محير، واتهام قضائي غريب، لأن علماء اللغة والسياسة، إضافة إلى خبراء القانون في العالم كله، وفيما لو فكروا في تحليله وفكفكته سياسياً وقضائياً، فإنهم سيصابون بوجع رأس كبير من دون أن يتوصلوا إلى أي نتيجة منطقية. وإذا كانت كلمة «وهن» تعني الضعف أو الإضعاف أو ربما التعب والإتعاب، حسب موقعها قواعدياً في الجملة، فإن كلمة ومصطلح «نفسية الأمة»، هي أكثر صعوبة بكثير، فخلال محاولتنا لفهم الجملة وتحليلها، كان لابد من ربط كلمتي «نفسية» و«الأمة» ببعضهما البعض، لأنه لولا هذا الربط فلن نصل أبداً إلى المغزى والمعنى من هذا الاتهام الغرائبي الكوميدي.
لكن وخلال محاولتنا لفهم الجملة، واجهتنا مشكلة فلسفية سياسية عقائدية، تتعلق بالقصد من كلمة ومصطلح «الأمة»، ففي دولة مثل سورية يحكمها «حزب البعث» يعتبر مفهوم الأمة مفهوماً شاملاً يضم أبناء ومواطني الدول العربية كلهم الذين يرتبطون «باللغة والتاريخ المشترك والآمال الواحدة ويقيمون على جغرافية لا تفصلها موانع طبيعية كالجبال والبحار»، وعليه فإن «حزب البعث» الحاكم في سورية لا يعترف بوجود شيء اسمه «الأمة اللبنانية» أو «الأمة الكويتية» أو «الأمة المصرية» أو «الأمة العراقية» أو «الأمة الجزائرية».
هذا يقودنا إلى أن الحكم على الناشط السياسي بـ«وهن نفسية الأمة» يقصد به أن الناشط أو المعارض السوري قام بإضعاف ووهن الأمة الواحدة الممتدة دولها من الخليج شرقاً إلى المحيط غرباً، وهو يعني أن المواطن «x» في دولة الكويت مثلاً، شعر فجأة، وفيما هو متمدد على الأريكة يتابع فيلماً مصرياً قديماً بالأسود والابيض، بوهن غريب في قلبه ونفسيته في الوقت ذاته الذي كان فيه الناشط ميشيل كيلو، على سبيل المثال، ينشر مقالته «نعوات طائفية» في إحدى الصحف العربية، وهذا يعني أيضاً أن المواطنة «z» في مدينة طنجة في المغرب، أُصيبت بكآبة وإحباط شديدين حين سمعت أن المحامي أنور البني قد افتتح مركزاً للدفاع عن حقوق الانسان في قلب العاصمة السورية دمشق، لكن خلال هذا التحليل الرياضي القواعدي اللغوي والسوسيولوجي أيضاً، واجهتنا مشكلة تتعلق بالمعارض مشعل التمو، وهو مواطن كردي سوري، يعني أنه ليس عربياً من الناحية القومية والإثنية، وهو الأمر الذي جعلنا في حيرة شديدة، إذ كيف يوهن مشعل التمو، وهو شخص كردي من محافظة الحسكة في سورية، الأمة العربية وما علاقته بنفسية هذه الأمة، أليس هو أقرب إلى هموم «أمته الكردية» الممتدة على دول إقليمية عدة، في تركيا وإيران وسورية والعراق؟ من ناحية أخرى، ثمة مشكلة كبيرة واجهتنا خلال محاولتنا فهم الأسباب التي توهن نفسية الأمة، وقد وجدنا من خلال مطالعاتنا وحوارات عدة أجريناها مع مواطنين عرب أن ما يوهن النفسية العربية مختلف عليه بين دولة وأخرى وشريحة اجتماعية وأخرى، وبين مثقف وآخر ، وما بين امرأة هنا وامرأة هناك.
وعلى سبيل المثال، تبين أن ما يوهن نفسية السوري أكثر من أي شيء آخر، هو شعوره بالخوف والرعب حين يدخل أحد المراكز الأمنية، وشعوره بالدونية حين يتابع أخبار المواطنين في هولندا والسويد والولايات المتحدة وحتى مواطني سيرلانكا والهند وباكستان بسبب ما يتمتعون به من حريات في التعبير، وهو يشعر بالوهن والعطب أكثر حين يضطر لدفع رشاوى إلى شرطي المرور، وحين يطلب منه ابنه، مثلاً، مبلغاً مالياً كبيراً ليرشي به «معلمه» حيث يؤدي خدمة العلم، وهو يشعر بالإحباط والوهن كلما حلقت طائرة إسرائيلية فوق سماء سورية، أما ما يقتله وهناً فهو مرور الأيام والأعوام من دون أن يعود الجولان المحتل إلى سورية.
مواطن سوري آخر، ملتزم دينياً، قال إن ما يوهنه اكثر من أي شيء آخر هو القنوات الفضائية التي تبث مشاهد خليعة للراقصات والممثلات، وهو متأكد أن ما يوهن نفسيته أكثر من أي شيء آخر هو القنوات الفضائية الأوروبية التي تبث أفلاماً جنسية. لكن مواطناً سورياً يسارياً قال إن ما يوهن نفسيته أكثر من أي شيء آخر هو ظاهرة التدين المبالغ بها والمقترنة مع أفكار متطرفة تكفّر الآخر لأتفه الأسباب ولا تعترف به.
وإذا كانت هناك الكثير من الأسباب والعوامل التي توهن نفسية المواطن السوري فإن ما يوهن ويضعف نفسية المواطن اللبناني مختلفة تماماً، فهو يشعر بالوهن والإحباط حينما يسمع أخباراً تتعلق باحتمال عقد الولايات المتحدة صفقة مع سورية على حساب بلده، وهو الأمر الذي يرعبه ويذكره بفترة «الوصاية الأخوية». كما أن أسباب الوهن، تختلف من لبناني إلى آخر، فإذا كان «زيد» يشعر بالوهن من احتمال صفقة سورية أميركية، فإن «عمرو» يشعر بالوهن الشديد من السياسيين اللبنانيين كلهم، ويتمنى اليوم قبل غد أن يحصل على «الفيزا» ويترك «السياسيين يتصارعون مع بعضهم البعض، و«فخار يكسر بعضه»، إن فازت في الانتخابات كتلة فلان أو كتلة فلان.
وتبين معنا، أيضاً، أن ابن قطاع غزة يوهنه الحصار وقلة الدواء وندرة فرص العمل والبعد الإجباري عن الأشقاء والأهل في الضفة الغربية والانقسام الفلسطيني، وتبين كذلك أن ما يوهن نفسية المصري يختلف عما يوهن نفسية المغربي، وما يوهن نفسية المواطن الكويتي يختلف تماماً عما يوهن نفسية السوداني... بالنسبة إليّ وبعد تفكير طويل وعميق وجدت أن ما يوهن نفسيتي أكثر من أي شيء آخر هو القضاء السوري الذي ينخر فيه الفساد وتتدخل في شؤونه وأحكامه أجهزة المخابرات كلها، وما يتعبني ويصيبني بالوهن النفسي والعقلي أكثر من أي شيء آخر، هو عند سماعي بمثل هذا الحكم «وهن نفسية الأمة»، لأنني لا أفهمه ولن أفهمه، رغم أن زوجتي تصفني «بعبقري زماني»، ويبدو أنني سأستمر في سماعه بين الفينة والأخرى.
زين الشامي
صحيفة الراي العام الكويتية