-
عرض كامل الموضوع : إيران.. حليف إستراتيجي ضمن شروط موضوعية
د. محمد السعيد إدريس (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////*)
تشكل إيران إشكالية شديدة التعقيد في الإدراك السياسي العربي، لأنها بقدر ما يمكن التعامل معها على أنها مصدر أكيد أو محتمل للتهديد بالنسبة للعرب، فإنها أيضاً تبقى شريكاً إن لم تكن حليفاً ثقافياً وسياسياً بل وحضارياً، ويبقى الاستثناء محدوداً في الإدراك السياسي الذي يرى أن إيران مصدر كامل للتهديد ولا يمكن أن تكون حليفاً، أو الذي يرى أن إيران حليف بالمطلق ولا يمكن أن تكون مصدراً للتهديد.
علاقات الدول وإدراك التهديد
سبب هذه الإشكالية يرتكز على عاملين رئيسيين: العامل الأول، يتعلق بخصوصية مسألة إدراك التهديد وتعقد العوامل التي يمكن أن ينشأ معها الوعي أو الإدراك لمثل هذا التهديد. والعامل الثاني، يخص السياسة الإيرانية التي تميل إلى المزج بين ما يمكن اعتباره تهديداً وما يمكن النظر إليه على أنه سياسات تعاونية.
فبالنسبة للعامل الأول الخاص بالتعقيدات الشديدة التي تحيط بعملية إدراك التهديد، يمكن إرجاعه إلى الدور شديد الأهمية الذي يلعبه التهديد أو بمعنى أصح إدراك التهديد في تحديد أنماط التفاعل بين الدول، هل هي أنماط تفاعل تعاونية أم صراعية أم هي تفاعلات تقع على مسافات متباينة بين التعاون والصراع، وبناءً على هذا الإدراك تتحدد رؤية دولة ما لدولة أخرى ولطبيعة العلاقات معها، وما إذا كانت تقوم على الصداقة أم العداوة أم التنافس؟ ويتوقف إدراك دولة ما للتهديد من دولة أخرى على عوامل كثيرة، بعضها يخص الدولة المعنية ذاته، ومن ذلك نوع وثقافة القيادات المسؤولة عن قرارات السياسة الخارجية والأمن الوطني، وخبراتها السابقة بسلوك الدولة الأخرى مصدر التهديد.
كما تلعب الأصول الاجتماعية والاقتصادية لهؤلاء القادة، والطريقة التي وصلوا بها إلى السلطة، وديمقراطية أو شمولية نظام الحكم، وبالتحديد ما يتعلق بمدى شرعية الحكم وتداول السلطة، والحالة العامة للأوضاع السياسية داخل الدولة من ناحية الاستقرار أو عدم الاستقرار، أدواراً كبيرة في مستوى وكيفية إدراك التهديد.
كما تتوقف عملية إدراك التهديد أيضاً على عوامل كثيرة تخص الدولة مصدر التهديد وأنشطتها المختلفة، منها نوع الحكم في تلك الدولة ومدى تجانسه أو تعارضه مع نظام الحكم في الدولة المعنية المعرضة للتهديد، ومدى قوة هذه الدولة وأنواع القوة التي تمتلكها عسكرية أم اقتصادية أم ثقافية، وكيفية إدارتها لهذه القوة، هل اعتادت توظيفها بشكل عدائي أم تعاوني، كما تتوقف أيضاً على مدى وجود نزاعات حدودية أو تاريخية، وعلى ميل الدولة مصدر التهديد إلى تشكيل تحالفات عسكرية مع دولة أو دول أخرى صديقة أو معادية للدولة المعنية، ويتوقف أيضاً على لجوء أو عدم لجوء قيادات تلك الدولة إلى إطلاق تصريحات عدائية مباشرة وممارسة أنشطة عدائية صريحة.
كذلك يتوقف إدراك التهديد وكيفية الرد عليه ونوعية الوسائل التي يمكن أن تستخدم في مواجهة هذا النوع من التهديد، وتكتسب التهديدات أولوياتها حسب تدرجها في نوع ومستوى الخطر الذي توحي به: هل هي تهديدات عسكرية أم سياسية أم اقتصادية أم ثقافية أم اجتماعية، أم هي خليط متنوع من بعض أو كل هذه الأنواع من التهديد مجتمعة. وهنا تلعب خصوصية نظام الحكم في الدولة المعنية، أي المعرضة للتهديد، من ناحية كونه ديمقراطياً أم شمولياً، وحالة الاستقرار أو عدم الاستقرار السياسي، ومستوى إدراك النظام لشرعيته، دوراً مهماً في الاستجابة أو عدم الاستجابة للتهديدات التي تواجهه، وفى إدراك أو عدم إدراك تلك الأنواع المختلفة من التهديدات. نريد أن نقول هنا أن الدول لديها حساسيات مختلفة تجاه أنواع معينة من التهديد، وتكون أكثر تهيؤاً واستعداداً للتفاعل السريع معها حسب الخصوصيات التي أشرنا إليها. فعلى سبيل المثال تكتسب التهديدات السياسية والثقافية أولوية عند دول تشعر فيها النخب الحاكمة بانخفاض مستوى شرعية سيطرتها على الحكم، وزيادة درجة عدم الاستقرار السياسي.
فكلما كانت الشرعية منخفضة وحالة عدم الاستقرار طاغية كانت النخب الحاكمة شديدة الحساسية وسريعة الإدراك، وربما المبالغة فيه، تجاه التهديدات السياسية والثقافية التي تنال من شرعيتها وتهدد الاستقرار السياسي.
._
_____________
رئيس وحدة دراسات الخليج رئيس تحرير مجلة "مختارات إيرانية" بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
لكن بشكل عام تبقى التهديدات العسكرية هي الأوضح في إثارة الاهتمام لدى الدولة في علاقتها بالدولة أو الدول الأخرى مصدر التهديد. وتوجد ثلاث حالات أو تطورات محددة يمكن تصنيفها على أنها تهديدات عسكرية هي: النزاعات الإقليمية وخاصة إثارة وتجديد هذه النزاعات، تأسيس صناعة عسكرية أو الحصول على أسلحة عسكرية متطورة، الحصول على أسلحة ومعدات عسكرية متطورة مع إحداث تطويرات ملحوظة في قواتها المسلحة.
ونستطيع أن نقدم الكثير من أصناف المواقف التي تتعلق بأنواع التهديد الأخرى، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وهى كلها أنواع من التهديدات أردنا أن نؤكد من خلالها على مجموعة من الحقائق أهمها: 1- إن إدراك التهديد عملية معقدة وتراكمية ولا تنشأ من فراغ.
2- إنها لا تتوقف على عوامل تخص الدولة مصدر التهديد بقدر ما تتعلق أيضاً بعوامل تخص الدولة المعرضة للتهديد.
3- أن التهديدات لا تكتسب أهميتها إلا بإدراكها، فقد يكون التهديد موجوداً، لكنه لا يدرك من جانب النخب الحاكمة لأسباب كثيرة سبقت الإشارة إليها، الأمر الذي يعنى أن إدراك التهديد من جانب هذه النخب هو الذي يعطى أو لا يعطى للتهديد أهميته، بما يعنى أن الإدراك يمكن أن يكون مفتعلاً من جانب النخب الحاكمة لأسباب تخص هذه النخب ذاتها، فقد تسعى بعض النخب إلى افتعال التهديد أو التضخيم منه لدوافع وأسباب تتعلق بها هي ولأغراض تريدها سواء كانت داخلية أوإقليمية ودولية، حيث تسعى إلى توظيف التهديد لخدمة هذه الأغراض.
4- إن إدراك التهديد عملية متغيرة ومتطورة، أي أنها غير ثابتة، فقد يتصاعد إدراك التهديد وقد يتراجع بسبب حدوث تغير في كل أو بعض من العوامل التي أشرنا إليها، وقد يفرض تهديد جديد وطارئ نفسه ويدفع إلى تراجع تهديد سابق، بل قد يفرض على الدولتين المتصارعتين أو المتنافستين بسبب ذلك التهديد السابق الاتجاه نحو التعاون لمواجهة التهديد الجديد إذا كان يفوق في مخاطره التهديد السابق، وإذا كان يهدد مصالح مشتركة ولها الأولوية بالنسبة لهاتين الدولتين المعنيتين. الخلافات التي كانت مثارة مثلاً بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي سواء حول الحدود أو غيرها من الأسباب، وكذلك الخلافات بين بعض هذه الدول وإيران، تراجعت فجأة أولويتها عند قيام العراق بغزو الكويت. فالخطر العراقي الجديد دفع كل دول مجلس التعاون الخليجي أن تتعامل معه على أنه خطر مباشر لها وليس فقط للكويت، ولذلك سعت كل من هذه الدول وإيران إلى البحث عن فرص للتعاون لمواجهة الخطر الجديد والتوقف، ولو مرحلياً، عن المضي في الخلافات القائمة.
وعلى الرغم من كل هذه العوامل الداخلية والإقليمية التي تتحكم في عملية إدراك التهديد بالنسبة لدولة من الدول في علاقاتها مع دولة أو دول أخرى، فإن العامل الخارجي، أو ما يسمى بدور القوى الخارجية يلعب دوراً أساسياً ومؤثراً جداً في إدراك دولة ما للتهديد من دولة أخرى في الإقليم الذي تنتمي إليه أو من خارجه. فكما هو معروف فإن شؤون النظم الإقليمية وتفاعلاتها ليست حكراً على الدول ذات العضوية المباشرة بها، فهناك دول من خارج الإقليم لها نفوذ وتأثير قد يفوق نفوذ وتأثير أي دولة من أعضاء النظام.
ويزداد ميل القوى الأجنبية للتدخل في شؤون الأقاليم وفى أنماط التفاعلات التي تحدث داخلها كلما كانت هناك العديد من القوى الكبرى أو العظمى الساعية للهيمنة على النظام العالمي، وكلما زادت حدة المنافسة بين هذه القوى على المصالح القومية الإستراتيجية والاقتصادية الممتدة داخل الأقاليم في العالم.
كما أن ميل القوى الأجنبية للتدخل في شؤون الأقاليم يزداد أيضاً كلما زادت كثافة التنافس الإقليمي بين الدول، حيث تتجه أي من هذه الدول أو بعضها إلى طلب التدخل من قوة أجنبية صديقة أو حليفة لموازنة طغيان قوة إقليمية، أو الحد من توجهات الهيمنة والسيطرة عند هذه القوة الإقليمية.
وبالنسبة للعامل الثاني الخاص بإيران، فإن سياسة الجمهورية الإسلامية الخارجية التي تتأسس على ركيزتي المصلحة الوطنية والأيديولوجية الإسلامية داخل إطار من الإرث التاريخي الإمبراطوري ضمن أفق من التطلع للقيام بدور الدولة الإقليمية المهيمنة، تجعل من الصعب التعامل مع إيران كمصدر للتهديد بالمطلق أو النظر إليها كحليف بالمطلق، نظراً لأن التزام إيران بسياسة الموالاة للمستضعفين والعداء للمستكبرين (مبدأ البراء والولاء) يدفعها إلى التورط في سياسات ومواقف عدائية أحياناً ويجعلها أيضاً حريصة على مد جسور المودة والتعاون في الوقت نفسه، الأمر الذي يحدث قدراً لا بأس به من الإرباك في الإدراك السياسي العربي لإيران: هل هي قوة إسلامية مضافة أم هي قوة طائفية تعبر عن التطلع للتمدد والهيمنة؟، هل هي قوة معادية للغرب والصهيونية، أم أنها يمكن أن تكون حليفاً محتملاً لهذه الأطراف ضمن صفقة تاريخية يدفع ثمنها العرب؟.
إلى جانب هذا كله هناك أسباب أخرى كثيرة بعضها تاريخي لم تزل آثاره ممتدة وتكشف عن نفسها في كل فرصة سانحة تسمح بذلك كما هو الحال بالنسبة للخلاف حول اسم الخليج هل هو خليج عربي أم خليج فارسي، لكن البعض الآخر وهو الأهم نابع من خصوصيات عربية، وأخرى إيرانية، ناهيك عن تأثير ذلك التغلغل الدولي العميق وخاصة الأمريكي في شؤون إقليم الشرق الأوسط والجزء الخليجي منه على وجه الخصوص، وتأثير التداخل المتزايد بين الخليج وتطوراته ونظام الصراع العربي – الإسرائيلي وتحدياته خصوصاً منذ حرب الخليج الثانية (حرب عاصفة الصحراء عام 1991)، حيث تم إقحام دول مجلس التعاون الخليجي في مؤتمر مدريد للسلام ، وتحديدا منذ الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003، إذ أضحى الوجود الإسرائيلي أمراً واقعاً، ولم يعد الإسرائيليون مستعدين للقبول بالفصل بين أمن الخليج وأمن المشرق العربي حيث يرون أنفسهم طرفاً فاعلاً ومؤثراً فيه.
لكل هذه الأسباب بات مستبعداً الحديث عن إدراك عربي واحد لإيران وما تمثله بالنسبة للعرب والنظام العربي، بل أضحى ضرورياً الحديث عن إدراكات عربية متعددة لإيران، إدراكات ليست فقط متعددة بل ومتباينة وأحياناً متناقضة تمتد بين ما هو أقصى عداوة وتمتد إلى ما هو أقصى صداقة وفقاً للنموذج الذي صاغه بارى بوزان Barry Buzan الذي تحدث فيه عن محور "العداوة – الصداقة" Emites – Aamuty Axis فيما يشبه تدرج ألوان الطيف على النحو الذي تحدث عنه كل من كانتورى وشبيجل ووصفاه بـ "طيف العلاقات" The Spectrum of Relations.
هذه الإدراكات العربية المتعددة والمتباينة لإيران لا تقتصر فقط على مستوى إدراك الدول العربية بل تمتد إلى إدراك النخب العربية وإدراك الرأي العام أيضا. ففي الوقت الذي ترى فيه حكومات عربية أن إيران مصدر للتهديد، ترى فيه نخب عربية أن إيران على العكس هي دولة صديقة بل وشقيقة للعرب، وقد تتنوع مواقف الرأي العام بين هذين الإدراكين. الأكثر من ذلك أن التعدد في الإدراكات يأخذ أحياناً تنوعاً في الإدراك الواحد، بمعنى أن دولة عربية قد ترى أن سياسة إيرانية ما تعتبر تهديداً في حين لا ترى في سياسة إيرانية أخرى تهديداً. فعلى سبيل المثال قد ترى دولة عربية أن استمرار احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث يمثل تهديدا في حين لا ترى أن المسعى الإيراني لامتلاك برنامج نووي يعتبر تهديداً. كذلك ينقسم الإدراك العربي للدور الإيراني في العراق وفى لبنان، لكن من يرفض الدور الإيراني في العراق قد يؤيد الدور الإيراني في لبنان، وهناك من يرفض إيران بالمطلق، ولعل في دراسة مستقلة للإدراك العراقي واللبناني والفلسطيني لإيران يمكن أن نقدم نموذجاً مهماً لمستوى التعقيد الذي يتعلق بهذا الإدراك خصوصاً إذا أخذت مثل هذه الدراسة بتحليل مقارن لهذا الإدراك على مستوى النخب الحاكمة، ومستوى النخب المثقفة، ومستوى الرأي العام. فمثل هذه الدراسة ستقدم لنا خليطاً متنوعاً من الإدراكات التي قد تبدو شديدة الغرابة بسبب التباين الشديد في الرؤى ليس فقط بين المستويات التحليلية الثلاث بل وأيضاً داخل كل مستوى من هذه المستويات.
هذا التعدد والتنوع في الإدراك العربي لإيران الذي يمتد بين أقصى عداوة وأقصى صداقة يفرض نفسه في الوقت الراهن كواقع، أو كأمر واقع لأسباب أخرى كثيرة منها: 1- أن واقع التقسيم والتجزئة للوطن العربي الذي فرض وجود 22 دولة عربية تحظى بعضوية النظام العربي ومنظمته الإقليمية (جامعة الدول العربية) حال دون وجود إدراك عربي واحد لإيران في ظل تنوع المصالح بين الدول العربية إلى درجة التباين وأحياناً التناقض، وتعدد وتباين التحالفات والعلاقات بين هذه الدول وإيران، وبين هذه الدول والقوى الدولية والإقليمية التي تتشابك في صراعات مع إيران.
2- هذا الانقسام الذي حال دون وجود إدراك عربي واحد للأمن القومي العربي ومصادر تهديد هذا الأمن قام بدور مهم في تباين إدراك الدول العربية لإيران، فقد كشفت دراسة حديثة بعنوان "تهديدات الأمن القومي العربي" أن الوطن العربي ينقسم إلى خمسة أقاليم فرعية لكل منها بيئتها الجيوستراتيجية الخاصة التي تؤثر بقوة على رؤيتها الأمنية وإدراكاتها لمصادر التهديد هي: إقليم المشرق العربي، وإقليم الخليج، وإقليم البحر الأحمر ووادي النيل، وإقليم القرن الأفريقي، وإقليم شمال أفريقيا. كما كشفت هذه الدراسة أن تنوع وتباين البيئة الجيوستراتيجية لكل نظام أمني فرعى عربي أفرز تنوعاً وتبايناً في إدراك مصادر التهديد لكل نظام فرعي من هذه الأنظمة الخمسة. ومن بين هذه الإدراكات المتنوعة لمصادر التهديد، تباين إدراكات كل نظام أمنى فرعى عربي لإيران كمصدر للتهديد. فإيران تحتل المرتبة الثالثة كمصدر للتهديد في إقليم المشرق العربي بعد الإرهاب وأدواته، وتهديد الاختراق الإمبريالي المتمثل بالوجود الأمريكي الاحتلالي في العراق، والحضور الأمني في الخليج، وبعد إيران تأتى إسرائيل، ثم التهديد البيئي وأخيراً التهديدات الداخلية. وفى إقليم الخليج جاءت إيران في المرتبة الأولى وخاصة برنامجها النووي، وبعدها التهديد الناجم عن تفاقم الوضع في العراق، ثم الإرهاب في المرتبة الثالثة، وبعده، التهديد الناجم عن الوجود العسكري الأمريكي وعن الصراع الأمريكي – الإيرانى على النفوذ في الخليج، وأخيراً التهديد الناجم عن الهجرة الأجنبية في الخليج. وهنا نلحظ، حسب الدراسة، غياب إسرائيل كمصدر للتهديد بالنسبة لإقليم الخليج. أما إقليم وادي النيل والبحر الأحمر فإن إيران لم ترد كمصدر للتهديد حيث ضمت مصادر التهديد لهذا الإقليم أربعة مصادر هي على الترتيب: التهديد الذي يعانى منه السلم الأهلي والوحدة الوطنية (السودان والصومال نموذجان)، ثم التهديد الناجم عن التدخل الخارجي في الخيارات الوطنية (الأمريكي على وجه التحديد)، ثم التهديد الإسرائيلي، وأخيراً طموحات أثيوبيا المثيرة للقلق. أما مصادر التهديد لإقليم شمال أفريقيا فتتركز في التهديد الإرهابي والتهديد الموجه للسلم الأهلي. وهنا نلاحظ غياب إدراك إيران كمصدر للتهديد، كما غابت إسرائيل هي الأخرى كمصدر للتهديد.
3- اشتباك إيران مع العرب بحزمة متنوعة من القضايا الخلافية التي تحول دون وجود إدراك محدد بعينه لإيران وتفرض الالتباس في الإمساك بمثل هذا الإدراك حيث تفرض إيران نفسها أحياناً كمصدر للتهديد (في العراق والخليج) وحيث تفرض نفسها أحياناً كدولة صديقة بل وحليفة (العلاقة الإيرانية مع حزب الله والعداء الإيراني لإسرائيل).
4- تفاقم حالة الاستقطاب العربي بسبب حالة التبعية العربية غير المسبوقة للولايات المتحدة في وقت تخوض فيه الولايات المتحدة صراعاً مريراً ضد إيران وتدفع الدول العربية للدخول كطرف أساسي فيه. فالمشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد الذي كشفت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، ثم لقائها في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، كان بداية لفرض استقطاب إقليمي جديد بين محور للاعتدال يضم الدول العربية الست الصديقة للولايات المتحدة وبالتحديد (دول مجموعة 6+2)، ومحور آخر للشر يضم إيران وسوريا وحزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
هذا الاستقطاب الذي أرادته واشنطن كشف الرئيس الأمريكي جورج بوش عن قاعدة الفرز الأساسية فيه وهى: التحالف أو الشراكة مع إسرائيل والعداء لإيران. بوش طالب الدول العربية الالتزام بهذا التوجه أثناء زيارته للمنطقة في يناير 2008 وجدد هذا الطلب في زيارته لها مرة أخرى في مايو 2008 على هامش مشاركته في ما سمى بـ "العيد الستيني لتأسيس دولة إسرائيل"، حيث ركز على وصف إيران بأنها المصدر الأساسي للإرهاب ولدعم الإرهاب في العالم. فقد وصف بوش إيران بأنها "أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم" وقال أن "السماح لها باكتساب أكثر أسلحة العالم فتكاً سيكون خيانة للأجيال في المستقبل لا يمكن غفرانها".
الدور الأمريكي
ذكرت مصادر في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، حسب إذاعة الجيش الإسرائيلي، أن زيارة بوش لإسرائيل (مايو 2008) أفضت إلى "نتيجة محورية" تتمثل في "التوافق على ضرورة القيام بعمل ملموس" ضد إيران، وفي هذا السياق ذكر بوش أنه "يتوجب معالجة جذرية لمشكلة إيران وأن يكون لهذه المعالجة انعكاسات إيجابية على المنطقة برمتها وتؤدى إلى تغير في نمط أداء حزب الله وحماس".
خلفيات هذا التوجه الأمريكي كشف عنها سيمور هيرش الصحفي الأمريكي المرموق الذي سبق أن كشف حقيقة التورط الأمريكي في الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في صيف 2006. هيرش كشف هذه الخلفيات في محاضرة مهمة له في القاهرة بدعوة من مؤسسة محمد حسنين هيكل، ثم عاد ونشر ما قاله في دراسة مهمة بمجلة نيويوركر، أعادت صحيفة السفير اليبروتية نشرها كاملة في 26 فبراير 2008.
جوهر هذا التوجه أن الولايات المتحدة وضعت إستراتيجية جديدة للمنطقة انطلقت من إعادة تقييمها لما شهدته من تطورات ، واستخلص منها المحللون الأمريكيون أنهم يواجهون خطرين أحدهما يهدد استمرار الهيمنة الأمريكية على النفط العراقي، كما يؤثر على نفوذها في العالم العربي، والثاني يهدد الحسابات الإسرائيلية ويخل بتوازن القوى في المنطقة.
واعتبر أولئك المحللون أن إيران هي المصدر الأساسي للخطرين، وبالتالي فإن هدف السياسة الجديدة هو توجيه ضربة لها تستهدف إضعافها وتركيعها من خلال الإستراتيجية التي أطلق عليها اسم "إعادة التوجه"، أو "إعادة النظر في الأهداف"، وتم الانتهاء منها في أواخر عام 2006، ووصفها مستشار حكومي أمريكي له علاقات وثيقة مع إسرائيل بأنها، أي هذه الإستراتيجية الأمريكية الجديدة "تعتبر تحولاً رئيسياً في السياسة الأمريكية.. إنها بحر من التغييرات"، لكن أهم ما في هذه الإستراتيجية هو تلك الإدراكات الأمريكية الجديدة لإيران كمصدر للتهديد كما نقلها هيرش وما قاله بأن دولاً عربية ليست فقط على اتفاق كامل مع الأمريكيين في هذا الإدراك بل إنها تدفع به وتغذيه.
هذا الإدراك يقول أولاً أن إيران أصبحت أشد خطراً على المنطقة من إسرائيل وأن التهديد الإيراني، بما قد يصحبه من انبعاث شيعي، يفوق ما يمثله المتطرفون من أهل السنة الذين هم الأعداء الأقل شأناً (تنظيم القاعدة). هذا يعنى أن الإرهاب والحرب الدائرة ضده لم تعد بالأساس ضد تنظيم القاعدة وحلفائه بل ضد إيران والانبعاث الشيعي.
ويقول ثانياً إن مواجهة هذا الانبعاث أو "الخطر الشيعي" وما أخذ يعرف بـ "الهلال الشيعي" يجب أن يواجه بتأسيس "هلال سني" يتسع لضم دولاً عربية إقليمية سنية مثل تركيا وباكستان إلى جانب دول "مجموعة 6+2" العربية أي دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والأردن.
الملفت للانتباه هنا، أن إسرائيل دخلت على الخط وأعلنت على لسان وزيرة خارجيتها تسيبي ليفنى أنها تسعى للتحالف مع الدول السنية في المنطقة لمواجهة الخطر الإيراني.
مجمل هذه التوجهات الأمريكية – الإسرائيلية بمشاركة أطراف عربية أخذت تدفع بفرض حالة جديدة من الاستقطاب الإقليمي بين محوري ما يسمى بمحوريالاعتدال والشر، حيث أضحت إيران هي المعنية بالشر بصفة أساسية وهى المقصودة بالعداء.
لقد انخرطت دول عربية في هذه التوجهات التي أخذت تتحول إلى سياسات ولكن بدرجات مختلفة في حين حرصت دول أخرى على أن تبقى متوازنة في علاقاتها مع إيران، بينما أكدت أطراف ثالثة تحالفها مع إيران، وهى الأطراف المتهمة بعضوية محور الشر مع إيران خاصة سوريا وحزب الله وحركة حماس.
هذه المواقف الثلاث من تلك التوجهات الأمريكية الجديدة هي أولاً تعبير عن درجة انخراط دول عربية في المشروع الأمريكي الجديد في الوطن العربي، وهى ثانياً تقدم تصنيفاً دقيقاً لإدراكات الدول العربية لإيران بين موقف يرى إيران مصدراً للتهديد وموقف آخر يراها حليفاً استراتيجياً، أو على الأقل صديق يعتمد عليه، وموقف ثالث متوازن بين إدراك إيران كعدو أو كمصدر للتهديد، وإدراكها كحليف أو صديق. ونستطيع أن نقول أن هذا الموقف الثالث يكاد يكون الموقف الأصدق في إدراكه لإيران، فهو يمثل القطاع الشعبي العريض أولاً، ويمثل مواقف دول عربية ومؤسسات، لكنه، وهذا هو الأهم القاسم المشترك لكل المواقف العربية، بمعنى أن الدول العربية التي تدرك أن إيران مصدر للتهديد لا تلجأ في العادة إلى تعميم هذا الإدراك لكنها ترى أن إيران مصدر للتهديد في قضايا معينة، وأنها طرف صديق أو محايد على الأقل في قضايا أخرى.
بمعنى أن الإدراكات غير ثابتة، فهي متحركة بين محوري "العداوة – الصداقة"، وأن القضايا الخلافية والمتنازع عليها هي العامل الحاسم، أي أن الإدراك يتعلق بسياسات إيران إزاء قضايا معينة أكثر من كونه إدراكاً لإيران نفسها التي تحظى بمكانة مهمة في الإدراك العربي ممتدة في أعماق التاريخ العربي الإسلامي.
الثوابت الحضارية
وهكذا نستطيع أن نقول أن إيران ستظل تمثل إشكالية في الوعي السياسي العربي وفى الإدراك السياسي العربي إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، أي إذا ما ظل الموقف العربي منقسماً داخلياً وخاضعاً لضغوط فرض الاستقطاب التي تقوم بها الولايات المتحدة، وإذا استمر الصدام الإيراني – الأمريكي، وإذا بقيت إيران مترددة في توظيف تفوقها في القوة بشكل تكافلي في إدارة علاقاتها الإقليمية وخاصة مع الدول العربية الخليجية، وإذا ما استمرت في حرصها على فرض نفوذها داخل العراق والانحياز لطرف عراقي دون الآخر. ولكن بشكل عام فإن المسؤولية تفرض الالتزام بثوابت حضارية وإستراتيجية في التعامل العربي مع إيران.
فإيران تبقى مع تركيا أهم ركائز نهضة الحضارة العربية الإسلامية، لقد قامت هذه الحضارة على تلك الركائز الثلاث: العرب والفرس والأتراك، ويبقى التطلع إلى مستقبل حضاري واعد مرهوناً بتحقيق ذلك التعاون بين هذه الدوائر الثلاث. ولن يتحقق ذلك في ظل الغياب العربي عن إدارة موازين القوى الإقليمية، فالنظام الإقليمي للشرق الأوسط يضم الآن ثلاثة قوى إقليمية أساسية هي: إسرائيل وتركيا وإيران، في ظل غيبة عربية مفزعة. ويمكن النظر إلى هيكلية النظام الشرق الأوسطي الآن على النحو التالي: 1- إسرائيل هي القوة الإقليمية الساعية للهيمنة.
2- إيران هي القوة المناوئة التي تتولى الصدام مع تلك القوة الساعية للهيمنة.
3- تركيا هي القوة التي تلعب دور الموازن.
وفى غياب القوة العربية التي تعبر عن مشروع نهضوي عربي، سيبقى الأمر على ما هو عليه وسيبقى الإدراك العربي لإيران ملتبساً في ظل توجه عربي مفرط نحو الغرب وحرص على العلاقات مع الدولة الصهيونية.
إن عودة العرب مجدداً إلى موازين القوى الإقليمية هو الشرط الموضوعي لعودة التوازن إلى الإدراك العربي في علاقته مع إيران، وعندها ستكون إيران حليفاً أو على الأقل ستكون منافساً، لكنها لن تكون ويجب ألا تكون أبداً عدواً
أنا معك بما قلته جملة وتفصيلا
والله يعطيك العافية وألف شكرا على هالمعلومات المهمة
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة