sona78
14/04/2009, 15:00
هل هذه فعلاً نهاية الليبرالية الجديدة؟
يعتبر دايفيد هارفي، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مدينة نيويورك، من أهمّ المفكّرين الماركسيّين الأميركيّين. وقد دأب على تدريس «رأس المال» لكارل ماركس منذ حوالى 40 عاماً. ومنذ اندلاع الأزمة الماليّة العالميّة أخيراً، قدّم هارفي مساهمات عدّة ترجمت «الأخبار» بعضها. هنا مقالة نشرها هارفي على موقع «زي نت»
دايفيد هارفي
هل تشير هذه الأزمة إلى نهاية الليبرالية الجديدة؟ جوابي أن الأمر منوط بما تعنيه بتعبير الليبرالية الجديدة. فأنا أفسره بأنه مشروع طبقي يتخفّى وراء الكثير من الخطابات الليبرالية الجديدة بشأن حرية الفرد والحرية بالمطلق والمسؤولية الشخصية والخصخصة والسوق الحرة. ولكن كل هذه مثّلت وسائل الغاية منها إعادة السلطة الطبقية وتعزيزها، وقد حقق المشروع الليبرالي الجديد بعض النجاح.
يقضي أحد المبادئ الأساسية التي وُضعت في سبعينات القرن المنصرم بأن تقوم سلطة الدولة بحماية المؤسسات المالية مهما كلف الأمر. وهذا هو المبدأ الذي طُبّق في أزمة مدينة نيويورك في أواسط السبعينات، وحُدِّد للمرة الأولى عالمياً عندما تهدّدت المكسيك بالإفلاس سنة 1982. وإذ كاد ذلك يدمر بنوك الاستثمار في نيويورك، عملت الخزينة الأميركية وصندوق النقد الدولي معاً لإنقاذ المكسيك. ولكنهما فرضا التقشف على الشعب المكسيكي. بكلام آخر، قاما بحماية المصارف وتدمير الشعب، ومنذ ذلك الحين وصندوق النقد الدولي يعتمد هذه الممارسة المعيارية. وليست عملية الإنقاذ الحالية سوى تكرار للقصة القديمة ذاتها، مرة جديدة ولكن على صعيد أكبر.
ما جرى في الولايات المتحدة هو أن ثمانية رجال قدّموا إلينا وثيقة مؤلفة من ثلاث صفحات صوّبت مسدساً نحو الجميع، وقالوا: «أعطونا 700 مليار دولار وإلّا». كان هذا بالنسبة إليّ أشبه بانقلاب مالي ضد حكومة الولايات المتحدة وشعبها، فهو يعني أنكم لن تخرجوا من هذه الأزمة بأزمة للطبقة الرأسمالية؛ بل ستخرجون منها بتعزيز للطبقة الرأسمالية أكبر من ذاك الذي قام في الماضي بأشواط. سينتهي بنا الأمر بقيام أربع أو خمس مؤسسات مصرفية كبرى في الولايات المتحدة ولا شيء سواها. شركات كثيرة تزدهر الآن في وول ستريت، فشركة لازارد المختصة في عمليات الدمج والاستحواذ تحقق أرباحاً طائلة. سوف يحترق البعض، ولكن ما يجري عموماً هو تعزيز للسلطة المالية على نطاق واسع. لقد كتب أندرو ميلون (مصرفي أميركي، وزير خزينة من 1921-1932) جملة مفادها أن الأصول تعود إلى أصحاب الحق بها في الأزمات. فالأزمة المالية تمثّل طريقة لتعقيل ما هو غير عقلاني ـــ فقد أدّى الانهيار الهائل في آسيا بين 1997 و1998 مثلاً إلى نشوء نموذج جديد من التطور الرأسمالي. والتمزقات تقود إلى إعادة تكوين المشهد، إلى شكل جديد من السلطة الطبقية. قد تسوء الأمور من الناحية السياسية، فقد جرى شجار بشأن إنقاذ المصارف داخل مجلس الشيوخ الأميركي، وقد لا تتعاون الطبقة السياسية بسهولة ـــ ربما تضع عقبات على الطريق، ولكنها استسلمت ولم تؤمّم المصارف حتى الآن.
إلّا أنّ ذلك قد يقود إلى نضال سياسي أعمق: فمن المنطقي جداً التساؤل عن السبب الذي يدفعنا إلى منح السلطة إلى الأشخاص الذين أقحمونا في هذه الورطة. وتُطرح أسئلة كثيرة عن اختيار أوباما مستشاريه الاقتصاديين ـــ مثل لاري سامرز الذي كان وزير الخزينة في اللحظة الحاسمة التي بدأت تسوء فيها الأحوال فعلياً في نهاية عهد إدارة كلينتون. فلماذا تعيّنُ الآن هذا العدد الكبير من الشخصيات المؤيدة لوول ستريت، المؤيدة لرأس المال التمويلي، أولئك الذين راهنوا على رأس المال التمويلي حينها؟ لا يُقصد بهذا الكلام أنهم لن يعيدوا تصميم الهندسة المالية، ولكن لمن سيعيدون تصميمها؟ الناس غير راضين بتاتاً عن الفريق الاقتصادي الذي اتخذه أوباما، حتى في وسائل الإعلام الكبرى. تحتاج الدولة إلى هندسة مالية جديدة. لا أعتقد أنه يجب إلغاء كل المؤسسات القائمة، مثل مصرف التسويات الدولية أو حتى صندوق النقد الدولي، بل سنحتاج إليها، إنما ينبغي تغييرها تغييراً ثورياً. والسؤال الكبير هو من سوف يسيطر عليها وكيف ستكون هندستها. سوف نحتاج إلى أشخاص، إلى خبراء يدركون قليلاً كيف تعمل هذه المؤسسات، وكيف يمكنها أن تعمل. وهذا أمر خطير للغاية، لأن الدولة، كما نشهد الآن، عندما تبحث عن الذي يستطيع أن يفهم ماذا يجري في وول ستريت، تعتقد أن شخصاً من الداخل وحده قادر على ذلك.
■ إضعاف القوى العاملة: كفى! كفى!
ما إذا كنا قادرين على الخروج من هذه الأزمة بطريقة مختلفة أو لا، أمرٌ يتوقف كثيراً على ميزان قوى الطبقات، وهو أمر منوط بالمدى الذي يقول فيه الشعب بأكمله «كفى، فلنغيّر النظام». عندما تستعرض ما كان يجري للعمال على مرّ الخمسين سنة الماضية، تدرك أنهم لم يحققوا أي مكاسب تقريباً من هذا النظام، ولكنهم لم ينتفضوا ثائرين. في الولايات المتحدة وخلال السنوات السبع أو الثماني الأخيرة، تدهورت ظروف الطبقات العاملة عموماً، ولم يجرِ أي تحرك جماعي حيال ذلك. يستطيع رأس المال التمويلي أن يتجاوز هذه الأزمة، ولكن الأمر مرهون تماماً بمدى حدوث ثورة شعبية ضد ما يجري، وبدفع حقيقي باتجاه محاولة إعادة صياغة طريقة عمل الاقتصاد.
أحد أبرز الحواجز التي اعترضت تراكم رأس المال المستمر في الستينات وأوائل السبعينات تمثّل في مسألة القوى العاملة. فقد واجهت كل من أوروبا والولايات المتحدة نقصاً في هذه القوى التي كانت حسنة التنظيم وتمتلك نفوذاً سياسياً. فتجسّد أحد أبرز الحواجز أمام تراكم رأس المال في خلال تلك الحقبة بالسؤال التالي: كيف يستطيع رأس المال أن يحصل على مخزون يد عاملة أقل كلفة وأكثر طاعة؟ وأتت الأجوبة متعددة، تمثّل أحدها في التشجيع على المزيد من الهجرة. فأُجريت، في الولايات المتحدة، مراجعة كبيرة لقوانين الهجرة سنة 1965، مراجعة سمحت لها عملياً بالوصول إلى سكان فائضين عن الحاجة عالمياً (قبل ذلك التاريخ، كان الأوروبيون والقوقازيون وحدهم أصحاب هذا الامتياز). وفي أواخر الستينات، كانت فرنسا تدعم استيراد القوى العاملة من المغرب العربي، والألمان يستقدمون الأتراك، والسويديون اليوغوسلافيين، والبريطانيون يسحبون إليهم أبناء إمبراطوريتهم.
الأمر الثاني الذي يمكن أن تلجأ إليه هو التغيير التكنولوجي السريع الذي يُفقد الأشخاص أعمالهم. وعندما فشلت هذه المحاولة، ظهر أشخاص أمثال ريغن وتاتشر وبينوشيه ليسحقوا القوى العاملة المنظمة. وأخيراً ذهب رأس المال إلى حيث توجد القوى العاملة الفائضة من خلال فتح مصانع في الخارج، وقد سهّل هذا الأمر عاملان. أولاً إعادة التنظيم التقنية لأنظمة النقل: فإحدى أكبر الثورات التي شهدتها تلك الحقبة هي النقل بالحاويات الذي سمح لك بأن تصنع قطع سيارات في البرازيل وتشحنها بكلفة متدنية للغاية إلى ديترويت أو سواها. ثانياً أنظمة الاتصالات التي أتاحت التنظيم الدقيق للإنتاج من خلال السلسة السلعية على امتداد الكرة الأرضية.
حلّت كل هذه الأمور مشكلة القوى العاملة بالنسبة إلى رأس المال، فلم يعد هذا الأخير يواجه أي مشكلة من هذه الناحية بحلول عام 1985. قد تطالعه مشاكل محددة في مجالات معينة ولكن قوى عاملة كبيرة أصبحت متوافرة لديه عموماً؛ وقد أضاف الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفياتي والتحول الذي طرأ على جزء كبير من الصين ما يقارب ملياري شخص إلى البروليتاريا العالمية في غضون 20 سنة. وبالتالي لم يعد توافر القوى العاملة مشكلة الآن، والنتيجة أن إضعاف هذه القوى يستمر منذ 30 سنة. ولكن عندما تُضعف القوى العاملة تتدنى الأجور، وإذا خفضتَ الأجور تكون قد حدّدت الأسواق. فبدأ رأس المال يواجه مشاكل مع سوقه، وحدث أمران.
كان الأول أن الهوة بين ما كانت القوى العاملة تكسبه وما كانت تنفقه راح يغطيها ظهور صناعة بطاقة الائتمان وارتفاع مديونية العائلات. ففي الولايات المتحدة كانت العائلة المتوسطة مديونة بحوالى 40000 دولار سنة 1980 فيما أصبح المبلغ يناهز 130000 دولار لكل عائلة الآن، بما فيها الرهونات. إذاً ارتفعت ديون العائلات ارتفاعاً هائلاً، وهذا ما أوصلك إلى اقتصاد التموّل، ويعني ذلك دفع المؤسسات المالية إلى دعم ديون عائلات الطبقة العاملة التي لا تزداد مكاسبها. وتبدأ مع الطبقة العاملة المحترمة، فمع حلول عام 2000 تشهد التداول بالرهونات العقارية المتدنية الجودة. تتطلع إلى إنشاء سوق. ويبدأ رأس المال التمويلي بدعم تمويل الدين للأشخاص الذين لا يحققون أي دخل تقريباً. ولكن لو لم تفعل ذلك، ماذا كان سيحل بمطوّري العقارات الذين يبنون المساكن؟ فتحاول أن تؤمّن استقرار السوق من خلال رصد مبالغ لدفع فوائد تلك المديونية.
■ أزمات قيم الأصول
الأمر الثاني الذي جرى هو أن الأغنياء يزدادون غنى بكثرة منذ الثمانينات، وذلك بسبب تقليص الأجور. يقولون إنهم سيستثمرون في نشاط جديد ولكنهم لا يفعلون بل يبدأ معظمهم الاستثمار في الأصول، أي يوظفون أموالهم في سوق الأوراق المالية، فيرتفع سوق الأوراق المالية، فيعتقدون أنه استثمار جيد ويوظفون المزيد من المال في هذا السوق، فتحدث فقّاعات سوق الأوراق المالية. كأن يرفع الغني قيم الأصول، بما فيها الأسهم والملكية وسوق الفن، وترتبط هذه الاستثمارات باقتصاد التمويل. ولكن مع ارتفاع قيم الأصول، ترتفع الأسعار في الاقتصاد كله، فيصبح السكن في مانهاتن مستحيلاً إلا إذا أغرقت نفسك بالديون. والآن حصل انهيار في قيم الأصول؛ انهار سوق الإسكان، انهار سوق الأوراق المالية.
كثيراً ما قامت مشكلة في العلاقة بين التصور والواقع. فالدين يرتبط بالقيمة المستقبلية المقدّرة للسلع والخدمات، وبالتالي يفترض أن الاقتصاد سيستمر في النمو في خلال الـ20 أو 30 سنة القادمة. ويرتبط دوماً بتخمين يحدده معدل الفائدة الذي يتراجع في المستقبل. ولنمو هذا المجال المالي بعد السبعينات علاقة كبيرة بما أراه مشكلة أساسية أخرى أود أن أسميها مشكلة امتصاص فائض رأس المال. فبحسب ما تخبرنا إياه نظرية الفائض، ينتج الرأسماليون فائضاً، ويجب عليهم بعد ذلك أن يأخذوا حصة منه، فيعيدون تحويلها إلى رأسمال، واستثمارها في التوسع. ما يعني أنه يجب عليهم دوماً أن يجدوا مجالاً آخر للتوسع إليه. في مقالة كتبتها لـ«نيو ليفت ريفيو» بعنوان «الحق في المدينة» Right to the City The أشرت إلى أنه جرى امتصاص قدر هائل من فائض رأس المال في التمدن في الـ30 عاماً الماضية: إعادة هيكلة المدن، والتوسع والمضاربة. كل مدينة أزورها هي ورشة بناء ضخمة لامتصاص فائض رأس المال. والآن طبعاً ينتصب العديد من هذه المشاريع من دون أن تُنجز أعمال بنائه.
هذه الطريقة في امتصاص فائضات رأس المال ازدادت إشكاليةً مع مرور الوقت. ففي عام 1750، كانت قيمة مجموع مخرجات السلع والخدمات تبلغ حوالى 135 مليار دولار، بقيم ثابتة. بحلول عام 1950، بلغت 4 مليارات دولار، وسنة 2000، أصبحت القيمة 40 تريليوناً، وهي تبلغ الآن حوالى 50 تريليوناً. وإذا كان غوردون براون محقّاً، فسوف تتضاعف في خلال الـ20 سنة المقبلة لتصبح 100 تريليون بحلول عام 2030.
على امتداد تاريخ الرأسمالية، كان معدل النمو عموماً يقارب 2.5% سنوياً، على أساس مركب. هذا يعني أنك، في عام 2030، ستحتاج إلى إيجاد منافذ مربحة لـ2.5 تريليون دولار، وهذه مسألة ضخمة جداً. أعتقد أن مشكلة جدية نشأت، ولا سيما منذ 1970، وهي تتعلق بكيفية امتصاص مقادير من الفائضات تزداد ضخامةً في الإنتاج الحقيقي. فالقسم الذي يدخل منها في الإنتاج الحقيقي يقلّ ويقلّ فيما يكبر ويكبر القدر الذي يوظّف في المضاربة على قيم الأصول، وهي المسؤولة عن التواتر والعمق المتزايدين للأزمات المالية التي نتعرض لها منذ عام 1975 تقريباً؛ فكلها أزمات تتعلق بقيم الأصول.
تقول فرضيتي إننا إذا خرجنا من هذه الأزمة في الحال، وحدث تراكم في رأس المال بمعدل نمو يبلغ 3%، فهذا يعني أن مشاكل كثيرة تواجهنا. فالرأسمالية تواجه قيوداً بيئية جدية، وأيضاً قيوداً تتعلق بالسوق وبالربحية. والتحول الأخير نحو اقتصاد التمويل هو تحول حتّمته الضرورات كطريقة للتعامل مع مشكلة الامتصاص؛ ولكنها طريقة لا يمكنها أن تعمل من دون عمليات إنقاد دورية. وهذا ما يجري الآن مع خسارات عدة تريليونات من الدولارات في قيمة الأصول.
ولهذا السبب ليس تعبير «عملية إنقاذ وطنية» مصطلحاً دقيقاً، فهم لا ينقذون كل النظام المالي القائم ـــ بل المصارف والطبقة الرأسمالية بعدما سامحوهما بديونهما، بأخطائهما، أخطائهما وحدهما. يذهب المال إلى المصارف ولكن ليس إلى مالكي البيوت الذين تُحبس رهوناتهم، ما بدأ يثير الغضب. والمصارف لا تستخدم الأموال من أجل إقراض أيّ كان بل لشراء مصارف أخرى. إنهم يعزّزون سلطتهم الطبقية.
يعتبر دايفيد هارفي، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مدينة نيويورك، من أهمّ المفكّرين الماركسيّين الأميركيّين. وقد دأب على تدريس «رأس المال» لكارل ماركس منذ حوالى 40 عاماً. ومنذ اندلاع الأزمة الماليّة العالميّة أخيراً، قدّم هارفي مساهمات عدّة ترجمت «الأخبار» بعضها. هنا مقالة نشرها هارفي على موقع «زي نت»
دايفيد هارفي
هل تشير هذه الأزمة إلى نهاية الليبرالية الجديدة؟ جوابي أن الأمر منوط بما تعنيه بتعبير الليبرالية الجديدة. فأنا أفسره بأنه مشروع طبقي يتخفّى وراء الكثير من الخطابات الليبرالية الجديدة بشأن حرية الفرد والحرية بالمطلق والمسؤولية الشخصية والخصخصة والسوق الحرة. ولكن كل هذه مثّلت وسائل الغاية منها إعادة السلطة الطبقية وتعزيزها، وقد حقق المشروع الليبرالي الجديد بعض النجاح.
يقضي أحد المبادئ الأساسية التي وُضعت في سبعينات القرن المنصرم بأن تقوم سلطة الدولة بحماية المؤسسات المالية مهما كلف الأمر. وهذا هو المبدأ الذي طُبّق في أزمة مدينة نيويورك في أواسط السبعينات، وحُدِّد للمرة الأولى عالمياً عندما تهدّدت المكسيك بالإفلاس سنة 1982. وإذ كاد ذلك يدمر بنوك الاستثمار في نيويورك، عملت الخزينة الأميركية وصندوق النقد الدولي معاً لإنقاذ المكسيك. ولكنهما فرضا التقشف على الشعب المكسيكي. بكلام آخر، قاما بحماية المصارف وتدمير الشعب، ومنذ ذلك الحين وصندوق النقد الدولي يعتمد هذه الممارسة المعيارية. وليست عملية الإنقاذ الحالية سوى تكرار للقصة القديمة ذاتها، مرة جديدة ولكن على صعيد أكبر.
ما جرى في الولايات المتحدة هو أن ثمانية رجال قدّموا إلينا وثيقة مؤلفة من ثلاث صفحات صوّبت مسدساً نحو الجميع، وقالوا: «أعطونا 700 مليار دولار وإلّا». كان هذا بالنسبة إليّ أشبه بانقلاب مالي ضد حكومة الولايات المتحدة وشعبها، فهو يعني أنكم لن تخرجوا من هذه الأزمة بأزمة للطبقة الرأسمالية؛ بل ستخرجون منها بتعزيز للطبقة الرأسمالية أكبر من ذاك الذي قام في الماضي بأشواط. سينتهي بنا الأمر بقيام أربع أو خمس مؤسسات مصرفية كبرى في الولايات المتحدة ولا شيء سواها. شركات كثيرة تزدهر الآن في وول ستريت، فشركة لازارد المختصة في عمليات الدمج والاستحواذ تحقق أرباحاً طائلة. سوف يحترق البعض، ولكن ما يجري عموماً هو تعزيز للسلطة المالية على نطاق واسع. لقد كتب أندرو ميلون (مصرفي أميركي، وزير خزينة من 1921-1932) جملة مفادها أن الأصول تعود إلى أصحاب الحق بها في الأزمات. فالأزمة المالية تمثّل طريقة لتعقيل ما هو غير عقلاني ـــ فقد أدّى الانهيار الهائل في آسيا بين 1997 و1998 مثلاً إلى نشوء نموذج جديد من التطور الرأسمالي. والتمزقات تقود إلى إعادة تكوين المشهد، إلى شكل جديد من السلطة الطبقية. قد تسوء الأمور من الناحية السياسية، فقد جرى شجار بشأن إنقاذ المصارف داخل مجلس الشيوخ الأميركي، وقد لا تتعاون الطبقة السياسية بسهولة ـــ ربما تضع عقبات على الطريق، ولكنها استسلمت ولم تؤمّم المصارف حتى الآن.
إلّا أنّ ذلك قد يقود إلى نضال سياسي أعمق: فمن المنطقي جداً التساؤل عن السبب الذي يدفعنا إلى منح السلطة إلى الأشخاص الذين أقحمونا في هذه الورطة. وتُطرح أسئلة كثيرة عن اختيار أوباما مستشاريه الاقتصاديين ـــ مثل لاري سامرز الذي كان وزير الخزينة في اللحظة الحاسمة التي بدأت تسوء فيها الأحوال فعلياً في نهاية عهد إدارة كلينتون. فلماذا تعيّنُ الآن هذا العدد الكبير من الشخصيات المؤيدة لوول ستريت، المؤيدة لرأس المال التمويلي، أولئك الذين راهنوا على رأس المال التمويلي حينها؟ لا يُقصد بهذا الكلام أنهم لن يعيدوا تصميم الهندسة المالية، ولكن لمن سيعيدون تصميمها؟ الناس غير راضين بتاتاً عن الفريق الاقتصادي الذي اتخذه أوباما، حتى في وسائل الإعلام الكبرى. تحتاج الدولة إلى هندسة مالية جديدة. لا أعتقد أنه يجب إلغاء كل المؤسسات القائمة، مثل مصرف التسويات الدولية أو حتى صندوق النقد الدولي، بل سنحتاج إليها، إنما ينبغي تغييرها تغييراً ثورياً. والسؤال الكبير هو من سوف يسيطر عليها وكيف ستكون هندستها. سوف نحتاج إلى أشخاص، إلى خبراء يدركون قليلاً كيف تعمل هذه المؤسسات، وكيف يمكنها أن تعمل. وهذا أمر خطير للغاية، لأن الدولة، كما نشهد الآن، عندما تبحث عن الذي يستطيع أن يفهم ماذا يجري في وول ستريت، تعتقد أن شخصاً من الداخل وحده قادر على ذلك.
■ إضعاف القوى العاملة: كفى! كفى!
ما إذا كنا قادرين على الخروج من هذه الأزمة بطريقة مختلفة أو لا، أمرٌ يتوقف كثيراً على ميزان قوى الطبقات، وهو أمر منوط بالمدى الذي يقول فيه الشعب بأكمله «كفى، فلنغيّر النظام». عندما تستعرض ما كان يجري للعمال على مرّ الخمسين سنة الماضية، تدرك أنهم لم يحققوا أي مكاسب تقريباً من هذا النظام، ولكنهم لم ينتفضوا ثائرين. في الولايات المتحدة وخلال السنوات السبع أو الثماني الأخيرة، تدهورت ظروف الطبقات العاملة عموماً، ولم يجرِ أي تحرك جماعي حيال ذلك. يستطيع رأس المال التمويلي أن يتجاوز هذه الأزمة، ولكن الأمر مرهون تماماً بمدى حدوث ثورة شعبية ضد ما يجري، وبدفع حقيقي باتجاه محاولة إعادة صياغة طريقة عمل الاقتصاد.
أحد أبرز الحواجز التي اعترضت تراكم رأس المال المستمر في الستينات وأوائل السبعينات تمثّل في مسألة القوى العاملة. فقد واجهت كل من أوروبا والولايات المتحدة نقصاً في هذه القوى التي كانت حسنة التنظيم وتمتلك نفوذاً سياسياً. فتجسّد أحد أبرز الحواجز أمام تراكم رأس المال في خلال تلك الحقبة بالسؤال التالي: كيف يستطيع رأس المال أن يحصل على مخزون يد عاملة أقل كلفة وأكثر طاعة؟ وأتت الأجوبة متعددة، تمثّل أحدها في التشجيع على المزيد من الهجرة. فأُجريت، في الولايات المتحدة، مراجعة كبيرة لقوانين الهجرة سنة 1965، مراجعة سمحت لها عملياً بالوصول إلى سكان فائضين عن الحاجة عالمياً (قبل ذلك التاريخ، كان الأوروبيون والقوقازيون وحدهم أصحاب هذا الامتياز). وفي أواخر الستينات، كانت فرنسا تدعم استيراد القوى العاملة من المغرب العربي، والألمان يستقدمون الأتراك، والسويديون اليوغوسلافيين، والبريطانيون يسحبون إليهم أبناء إمبراطوريتهم.
الأمر الثاني الذي يمكن أن تلجأ إليه هو التغيير التكنولوجي السريع الذي يُفقد الأشخاص أعمالهم. وعندما فشلت هذه المحاولة، ظهر أشخاص أمثال ريغن وتاتشر وبينوشيه ليسحقوا القوى العاملة المنظمة. وأخيراً ذهب رأس المال إلى حيث توجد القوى العاملة الفائضة من خلال فتح مصانع في الخارج، وقد سهّل هذا الأمر عاملان. أولاً إعادة التنظيم التقنية لأنظمة النقل: فإحدى أكبر الثورات التي شهدتها تلك الحقبة هي النقل بالحاويات الذي سمح لك بأن تصنع قطع سيارات في البرازيل وتشحنها بكلفة متدنية للغاية إلى ديترويت أو سواها. ثانياً أنظمة الاتصالات التي أتاحت التنظيم الدقيق للإنتاج من خلال السلسة السلعية على امتداد الكرة الأرضية.
حلّت كل هذه الأمور مشكلة القوى العاملة بالنسبة إلى رأس المال، فلم يعد هذا الأخير يواجه أي مشكلة من هذه الناحية بحلول عام 1985. قد تطالعه مشاكل محددة في مجالات معينة ولكن قوى عاملة كبيرة أصبحت متوافرة لديه عموماً؛ وقد أضاف الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفياتي والتحول الذي طرأ على جزء كبير من الصين ما يقارب ملياري شخص إلى البروليتاريا العالمية في غضون 20 سنة. وبالتالي لم يعد توافر القوى العاملة مشكلة الآن، والنتيجة أن إضعاف هذه القوى يستمر منذ 30 سنة. ولكن عندما تُضعف القوى العاملة تتدنى الأجور، وإذا خفضتَ الأجور تكون قد حدّدت الأسواق. فبدأ رأس المال يواجه مشاكل مع سوقه، وحدث أمران.
كان الأول أن الهوة بين ما كانت القوى العاملة تكسبه وما كانت تنفقه راح يغطيها ظهور صناعة بطاقة الائتمان وارتفاع مديونية العائلات. ففي الولايات المتحدة كانت العائلة المتوسطة مديونة بحوالى 40000 دولار سنة 1980 فيما أصبح المبلغ يناهز 130000 دولار لكل عائلة الآن، بما فيها الرهونات. إذاً ارتفعت ديون العائلات ارتفاعاً هائلاً، وهذا ما أوصلك إلى اقتصاد التموّل، ويعني ذلك دفع المؤسسات المالية إلى دعم ديون عائلات الطبقة العاملة التي لا تزداد مكاسبها. وتبدأ مع الطبقة العاملة المحترمة، فمع حلول عام 2000 تشهد التداول بالرهونات العقارية المتدنية الجودة. تتطلع إلى إنشاء سوق. ويبدأ رأس المال التمويلي بدعم تمويل الدين للأشخاص الذين لا يحققون أي دخل تقريباً. ولكن لو لم تفعل ذلك، ماذا كان سيحل بمطوّري العقارات الذين يبنون المساكن؟ فتحاول أن تؤمّن استقرار السوق من خلال رصد مبالغ لدفع فوائد تلك المديونية.
■ أزمات قيم الأصول
الأمر الثاني الذي جرى هو أن الأغنياء يزدادون غنى بكثرة منذ الثمانينات، وذلك بسبب تقليص الأجور. يقولون إنهم سيستثمرون في نشاط جديد ولكنهم لا يفعلون بل يبدأ معظمهم الاستثمار في الأصول، أي يوظفون أموالهم في سوق الأوراق المالية، فيرتفع سوق الأوراق المالية، فيعتقدون أنه استثمار جيد ويوظفون المزيد من المال في هذا السوق، فتحدث فقّاعات سوق الأوراق المالية. كأن يرفع الغني قيم الأصول، بما فيها الأسهم والملكية وسوق الفن، وترتبط هذه الاستثمارات باقتصاد التمويل. ولكن مع ارتفاع قيم الأصول، ترتفع الأسعار في الاقتصاد كله، فيصبح السكن في مانهاتن مستحيلاً إلا إذا أغرقت نفسك بالديون. والآن حصل انهيار في قيم الأصول؛ انهار سوق الإسكان، انهار سوق الأوراق المالية.
كثيراً ما قامت مشكلة في العلاقة بين التصور والواقع. فالدين يرتبط بالقيمة المستقبلية المقدّرة للسلع والخدمات، وبالتالي يفترض أن الاقتصاد سيستمر في النمو في خلال الـ20 أو 30 سنة القادمة. ويرتبط دوماً بتخمين يحدده معدل الفائدة الذي يتراجع في المستقبل. ولنمو هذا المجال المالي بعد السبعينات علاقة كبيرة بما أراه مشكلة أساسية أخرى أود أن أسميها مشكلة امتصاص فائض رأس المال. فبحسب ما تخبرنا إياه نظرية الفائض، ينتج الرأسماليون فائضاً، ويجب عليهم بعد ذلك أن يأخذوا حصة منه، فيعيدون تحويلها إلى رأسمال، واستثمارها في التوسع. ما يعني أنه يجب عليهم دوماً أن يجدوا مجالاً آخر للتوسع إليه. في مقالة كتبتها لـ«نيو ليفت ريفيو» بعنوان «الحق في المدينة» Right to the City The أشرت إلى أنه جرى امتصاص قدر هائل من فائض رأس المال في التمدن في الـ30 عاماً الماضية: إعادة هيكلة المدن، والتوسع والمضاربة. كل مدينة أزورها هي ورشة بناء ضخمة لامتصاص فائض رأس المال. والآن طبعاً ينتصب العديد من هذه المشاريع من دون أن تُنجز أعمال بنائه.
هذه الطريقة في امتصاص فائضات رأس المال ازدادت إشكاليةً مع مرور الوقت. ففي عام 1750، كانت قيمة مجموع مخرجات السلع والخدمات تبلغ حوالى 135 مليار دولار، بقيم ثابتة. بحلول عام 1950، بلغت 4 مليارات دولار، وسنة 2000، أصبحت القيمة 40 تريليوناً، وهي تبلغ الآن حوالى 50 تريليوناً. وإذا كان غوردون براون محقّاً، فسوف تتضاعف في خلال الـ20 سنة المقبلة لتصبح 100 تريليون بحلول عام 2030.
على امتداد تاريخ الرأسمالية، كان معدل النمو عموماً يقارب 2.5% سنوياً، على أساس مركب. هذا يعني أنك، في عام 2030، ستحتاج إلى إيجاد منافذ مربحة لـ2.5 تريليون دولار، وهذه مسألة ضخمة جداً. أعتقد أن مشكلة جدية نشأت، ولا سيما منذ 1970، وهي تتعلق بكيفية امتصاص مقادير من الفائضات تزداد ضخامةً في الإنتاج الحقيقي. فالقسم الذي يدخل منها في الإنتاج الحقيقي يقلّ ويقلّ فيما يكبر ويكبر القدر الذي يوظّف في المضاربة على قيم الأصول، وهي المسؤولة عن التواتر والعمق المتزايدين للأزمات المالية التي نتعرض لها منذ عام 1975 تقريباً؛ فكلها أزمات تتعلق بقيم الأصول.
تقول فرضيتي إننا إذا خرجنا من هذه الأزمة في الحال، وحدث تراكم في رأس المال بمعدل نمو يبلغ 3%، فهذا يعني أن مشاكل كثيرة تواجهنا. فالرأسمالية تواجه قيوداً بيئية جدية، وأيضاً قيوداً تتعلق بالسوق وبالربحية. والتحول الأخير نحو اقتصاد التمويل هو تحول حتّمته الضرورات كطريقة للتعامل مع مشكلة الامتصاص؛ ولكنها طريقة لا يمكنها أن تعمل من دون عمليات إنقاد دورية. وهذا ما يجري الآن مع خسارات عدة تريليونات من الدولارات في قيمة الأصول.
ولهذا السبب ليس تعبير «عملية إنقاذ وطنية» مصطلحاً دقيقاً، فهم لا ينقذون كل النظام المالي القائم ـــ بل المصارف والطبقة الرأسمالية بعدما سامحوهما بديونهما، بأخطائهما، أخطائهما وحدهما. يذهب المال إلى المصارف ولكن ليس إلى مالكي البيوت الذين تُحبس رهوناتهم، ما بدأ يثير الغضب. والمصارف لا تستخدم الأموال من أجل إقراض أيّ كان بل لشراء مصارف أخرى. إنهم يعزّزون سلطتهم الطبقية.