-
دخول

عرض كامل الموضوع : مقالات واسيني الأعرج


stygnuut
01/04/2009, 15:53
دياسبورا
جزائر النسيان والتخلي
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -/////////////// ////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -/////////////// ////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -/////////////// ////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -/////////////// جزائر أخرى تنشأ اليوم، هي جزائر النسيان والتخلي. على الرغم من شيوع هذه الظاهرة في الوطن العربي إلا أن الجزائر تتفرد بخصوصية لا تضاهيها فيها أية دولة عربية أخرى. ماذا نفعل برموزنا الثقافية الذين سخروا كل حياتهم يركضون وراء تحقيق مشاريع ثقافية، أفقرتهم ومرَّضتهم، ولكنهم صدقوا حتى النهاية أنها ستجد يوما من يحتضنها ويسير بها نحو أفقها المطلوب. نعيش حالة نسيان معمّمة وكأننا خرجنا كليا من دورة الزمن. لا نستيقظ إلا عندما تعلن نشرات الأخبار اليومية موت أحد المثقفين وانطفائه نهائيا. ولا غرابة. نهتز للخبر بصدق.
نحزن لربع ساعة ثم ندخل دوامة الحياة وننسى أننا فقدنا رمزا لن يعوض أبدا وأن خسارته ليست مؤقتة، ولكن أبدية، وأننا فقدنا ذاكرة حية لن يمكن تعويضها أو تمريرها للأجيال القادمة التي هي في أمس الحاجة لهذه البدائل لمواجهة عالم لا يرحم. هناك شيء في ثقافتنا متأصل في عدوانيته للثقافة. حتى عندما تكون الإرادات الرسمية نفسها، طيبة وتريد أن تشتغل، توضع في مسالكها كل الضوابط الكاسرة، من داخل المؤسسة البيروقراطية. هناك قوة ما تشبه الجينة، غامضة وحاضرة دوما، مدفونة في عمق الفعل الثقافي نفسه عندنا، معادية له وتعمل على قتله. قد يكون السبب تاريخيا ولكن هناك تفسيرات تحتاج إلى أكثر من التاريخ، إلى أداة يتكاتف فيها التاريخ والأزمات النفسية المتراكمة التي أدت إلى هذه العدوانية تجاه الثقافة والمثقف. لقد أدرك المثقف الجزائري، في وقت مبكر، أن عليه أن يواجه معضلات العصر لوحده في غياب المؤسسة المساندة لجهده ولعمله الثقافي والفكري. على العكس مما يحدث هنا وهناك. لا يمكن تصور إنجاز عمل كبير وجاد يتعلق بمصير أمة لا تشترك فيه فرق بحث يديرها أشخاص هم مسؤولون عنها قانونيا وأخلاقيا.
الفعل الجماعي والمؤسساتي يعطي استمرارية وديمومة للمشروع ويضعه في منأى عن الانكسارات وعن المؤقت والطارئ. الصورة عندنا قاتمة ومؤلمة وتدفع إلى التأمل والحيرة والخوف على المآل النهائي، ليس فقط للجهود الكبيرة التي يصطدم أصحابها بحائط الخيبة والاستحالة بعد سنوات التفاني والعمل، ولكن للمثقفين أنفسهم. المؤسسة عندنا ترى نجاحها في ترديد صورتها وليس في فعل الإنجاز الثقافي والعلمي في فرادته وتمايزه. يدور المثقف الحامل للانشغال الثقافي، داخل هذه الطاحونة البيروقراطية وكأن المسألة شخصية وليست وطنية أو قومية. كذلك فعل مصطفى الأشرف وهو يبحث عن معضلات الثقافة الوطنية. واليوم لم يبق الشيء الكثير من جهده، إلا كتب لا نعرف قيمتها الفعلية. كان سؤاله المركزي هو سؤال الذاكرة التي تموت كل يوم قليلا، وكيفية إخراج الجزائر من ضلال اليقين وظلماته والدخول في الأسئلة التي تضمن تطورها وتقدمها وخروجها من دائرة التخلف. ظلت أبواب أسئلته مشرعة عن آخرها على تأملات لم يتم حسمها في وطن يفاجئنا كل يوم بإشكالية جديدة ومحرجة. الدكتور عبد الله الركيبي، أطال الله في عمره، الذي قدم جهدا عظيما في التأسيس لثقافة وطنية نقدية تتوخى العقل والجهد الفاعل. وتندرج ضمن مشروع كبير مرتبط بالتأسيس لمؤسسة نقدية قادرة على فرض تمايزها عربيا. هل تعمل اليوم المؤسسة الثقافية على المحافظة على جهده وتمريره للأجيال الجديدة التي لم تعد تملك رموزا مرجعية؟ أبو العيد دودو الذي جعل رهانه كله في خلق مدرسة جزائرية للترجمة. أسئلته الكبيرة كلها كانت تفضي نحو هذه الحاجة الضرورية لتقدم البلاد، فالترجمة مرآتها الحقيقية. للأسف، ذهب دودو وفي قلبه شيء من غصة هذا المشروع الذي لم يتم. غياب هذه المؤسسة يربك مشروعنا ويضعنا في حالة الفوضى الترجمية، نترجم كل شيء ولا شيء.
مشروع مصطفى كاتب من أجل مسرح وطني ماذا بقي منه اليوم؟ انطلق مصطفى كاتب في مشروع ضخم لبناء وتكوين مسارح جديدة والدفع بأجيال جديدة نحو المسرح وتحويل ذلك إلى حاجة فنية تنبني على احترافية حقيقية. وجد هذا المشروع من يحمله في جيل ثم انطفأ، علولة، بوقرموح، ابن قطاف، سليمان بن عيسى، وغيرهم، ماذا بقي اليوم من مشروع كبير كهذا؟ حسرة قاسية وخيبات لا توصف. لقد انتفت هذه الجهود وكأنه علينا دائما مثل سيزيف، أن نبدأ من الصفر. بقيت المشاريع والأسئلة الكثيرة معلقة وكأنها تقع خارج الزمن وفعل الاستمرارية. حظ كبير أن يكون بعض هؤلاء أحياء بيننا. المحافظة عليهم أكثر من واجب. لماذا نتخلى عنهم عندما يصبحون فاعلين ومفيدين وترتسم بشكل واضح مؤديات جهودهم الثقافية والعلمية لتكوين جيل آخر يمكن أن يضمن الاستمرارية والحفاظ على جوهر الأسئلة في عالم أصبح اليوم أكثر تعقيدا وغير رحيم، في سياق عولمة لا تحتفي كثيرا بالخصوصية في سياق النموذجية الأمريكية الطاغية؟ المفكرون طاقة فعالة حتى النهاية وليسوا زوائد داخلية، توضع في الركن المظلم، لكي لا تنغص علينا راحتنا الكاذبة.

دياسبورا
1 نجمة، نص العشق المستحيل
هناك نصوص لا تصنع فقط مجدها ومجد أصحابها، ولكنها تصنع أيضا تاريخها واستمراريتها وربما أبديتها. نجمة لكاتب ياسين هو واحد من هذه النصوص الاستثنائية. لقد مر على صدوره أكثر من نصف قرن (1956) وما يزال نصا حيا، لم تزحزحه لا السنوات ولا مئات النصوص التي صدرت بعد ذلك التاريخ ولا عشرات الكتاب الذين احتلوا المشهد الثقافي الجزائري، بعد انسحاب كاتب ياسين إثر مرض عضال (1989) التهم بقايا جسده النحيف، لم تترك العزلة والاضطهاد المؤسساتي، فيه الشيء الكثير. لقد كانت خياراته الحياتية صعبة ولكنه تبناها حتى النهاية وظلت التربة التي عجن فيها هي رهانه الأبدي. مات فقيرا كما انطفأ أبو ذر الغفاري، في أرض قفر، بلا بيت ولا محيط رحيم. مات وهو لا يملك إلا معطفه الرمادي وبيتا في المركز العائلي، لم يكن له، وصديقة فرنسية ثمينة، جاكلين آرنو، استقبلته في الأيام الأشد قبل أن تموت هي كذلك أياما قليلة بعد وصوله، في رحلته الأخيرة إلى فرنسا، وكأن القدر صنع لهما نهاية حميمية مشتركة على الرغم من تراجيديتها. من يقرأ اليوم نجمة كاتب ياسين، يقرأ تاريخا مرتبكا، ووطنا مجروحا في عمقه، ممزقا في أجزائه الحميمية تستحيل لملمتها. فجأة يصاب النص بعدوى وطن. يجتهد بعناء غير مسبوق لابتداع هوية جامعة، هي في طور التكوين. هوية يريدها كاتب ياسين قادرة على تحمل مسؤولية تعدديتها والاعتراف بها، بدل اختزالها وتحويلها إلى هوية قاتلة، كما يقول الروائي أمين معلوف. نجمة رواية تقول ذلك كله، من خلال وسائطها الأدبية، واضعة حدا بينها وبين كل السبل السهلة للخطاب السياسي الجاهز الذي يستند إلى وسائل اختزالية ميالة نحو التنضيد والسهولة، على الرغم من تعقدها الموضوعي. هذا بالضبط ما جعل النص يتجدد من حيث القراءة بديمومة واستمرارية ليصبح مادة يرتبط بها كل جيل بأسئلته الخاصة والحيوية. لم يقطع كاتب ياسين، مع التقاليد الكتابية فقط، التي سار عليها أغلب مجايليه من أمثال مولود فرعون، محمد ديب، ومولود معمري وحتى المتجزئرين كـ: إيمانويل روبليس، وروبير راندو والبير كامي، الذين شكلوا جزءا مهما من ذاكرته، ولكن أيضا مع الأدب الفرنسي نفسه، الذي اخترقه بتجربة خارجية تأثر بها عميقا، وهي تجربة فولكنير، الذي ساعده على قلب كل المعايير الروائية، وجعل من النص المستقر، نصا قابلا للاختراق وتجميع أجزائه مثلما نجمع أجزاء وطن ممزق. قد تكون نجمة التي لملمها كاتب ياسين من شعره هي تعبيره الكبير عن هذه الاستحالة. فقبل أن تكون رواية، كانت عبارة عن قصيدة: نجمة والسكين أو قصائد أخرى موزعة على شخصيات مثل مصطفى ولخضر ونجمة، قبل أن تنتهي إلى نص متكامل، ملحمي وواسع، كان على الناشر الفرنسي أن يخلصه من جزء كبير من تفاصيله الحكائية والشعرية التي أدمجها ياسين في رواية كان يريدها أن تقول كل شيء عن حميميات وطن مخترق بالأسئلة المستعصية، يرفض أن يعترف الأعداء بوجوده التاريخي، ويرفض هو أن يرى نفسه في المرايا. من هنا تصبح دلالة هذا النص في غاية التعقيد والالتباس. قد تكون نجمة هي الحب الطفولي المستحيل الذي تتخفى وراءه تجربة حب انكسرت في منتصفها، زوليخا التي عشقها من أول هزة كانت لغيره، امرأة متزوجة وتكبره سنا. لغزه الصعب. قد تكون نجمة هي الجزائر في معركتها من أجل الوجود والاستمرار. قد تكون هي البحث المستميت عن المعنى الغائب والضائع، الحاضر والماضي والمستقبل مجتمعين في عدم انتظامهم وتعقدهم. قد تكون أيضا هذا وذاك، المرأة-الوطن التي تلتصق بالجلد حتى عندما نريد التخلص منه. ولكنها في النهاية أكثر من ذلك كله، حالة عشق مسروق لم يكن ممكنا توصيله في ظل مؤسسة كل ما تلمسه تقتله بانتشاء. نجمة كانت هي وسيلة ياسين للاستمرار في الحياة في ظل الحرب القاسية، والمستحيلات المنهكة


دْيَاسْبُورَا
2 - نجمة.. جزائر الهوية المستعصية



صدرت نجمة في أتون الحرب الطاحنة المعمية للعقل والمنطق، وبدل أن تغرق في الأحقاد والنزعات الاختزالية السهلة والمبررة، حولت قضية التحرر إلى حالة وجودية تهم شعبا بكامله، فاستحقت بذلك تسمية رواية الجزائر. كتب ياسين لألبير كامي في هذا الصدد يقول: أخي في الوطن. كلانا منفي من المملكة نفسها، نقف وجها لوجه كأخوين عدوين، نتخفى وراء حجاب الكبرياء والتملك، بعدما سلَّمنا في الإرث المشترك لكي نتفادى تقسيمه، وها هو هذا الإرث نفسه يتحول اليوم إلى مكان محموم يسكنه الاغتيال وترتاده أشباح القبيلة. وكل منا على الحافة اللغوية التي يقف عليها، رغم أن اللغة التي تجمعنا واحدة. كان ياسين يعلن بذلك عن ناقوس الخطر الذي دفع بالكاتبين كل نحو خندقه. موقف مثل هذا يضع الرواية على حافة الأسئلة الأكثـر تعقيدا. ولأن ''نجمة'' رواية حداثية بامتياز، فهي لا تهرب من الشطط الذي تثيره حولها. تترصد اللامرئي بقوة وإبداعية خلاقة مما يجعلها صعبة الفهم والتناول. بنيتها المجزأة، وربما الممزقة، تعطيها تفرّدها الخاص. ياسين لا يسعى من وراء ذلك إلى تقديم درس في السياسة والأدبية. ولكنه يضعنا وجها لوجه أمام جزئنا المتخفي الذي نرفض رؤيته، مظهرا صورة عميقة متوغلة في التاريخ، لا يريد الاستعماري المنغلق رؤيتها، ولا الوطني المحصور في دائرة اليقين فهمها، ولا حتى المتنور نسبيا كـ:ألبير كامي استيعابها. رؤية هذا الأخير، كانت ضيقة أيضا، الأمر الذي دفع به إلى القول في البداية إنه يفضل الفوضى على العدالة
injustice Préférer le désordre à l قبل أن يندرج ضمن المنظومة الكولونيالية الواسعة عندما اختار أمه بدل اللا عدالة Choisir ma mère à la justice. كاتب ياسين لا يُجَمِّل التاريخ، حتى ولو كان مجروحا في الصميم، ولكن يعرضه في تمزقه وتعقده الكبيرين. جزائر متعددة، معقدة متناقضة، عنيفة، قديمة، وثنية، يهودية، مسيحية، رومانية، إسلامية، مسالمة ومتوحشة، مثلما هي لا مثلما تريدها الاختزالات السياسية الاستعمارية أو الوطنية. جزائر كلية وليست جزائر منتقاة. صحيح أن ''نجمة'' كُتبت بصفاء لغوي عال وأنيق، ولكن لغتها أيضا لقيطة أو خلاسية، تجتمع فيها الفرنسية العالية والأنيقة إلى درجة الانغلاق، والعربية الشعبية، اللغة التي تقول السمو والعلو والانحطاط والشتيمة بدون ضوابط أخلاقية مسبقة. مثلها في ذلك مثل بقية الموضوعات التي تؤثث النص. كلها مخترقة بما يناقضها ويجعلها مثار أسئلة معقدة وكثيرة. وليست ''نجمة'' المرأة الخلاسية التي تتداخل فيها الأعراق والديانات والأصول، هي البطلة التقليدية كما في النصوص الروائية الكلاسيكية، كـ:آنا كارنين أو مدام بوفاري وغيرهما، ولكنها مساحة من النور المتمادي الذي يظلل الجميع ويظهر طفولتهم وقسوتهم ورقتهم الخفية وتظل هي متخفية. مساحة متناقضة يتداخل فيها الشرف والقبلية واللقاطة، والكذب والصدق القاتل. نجمة هي ابنه القبيلة من أب مجهول، كبلوتية حقيقية، ولكنها تنزلق من أي تعريف لتتماهى في كل شيء، في التربة والتاريخ والبشر. ولدت من علاقة تداخلت فيها جينات كثيرة وغير معلنة، مما يجعلها تنتصر بجمالها المخيف وحسها العميق على كل شيء. تزوج بالقوة من رجل ملتبس، ربما كان أخاها. ابنة امرأة غريبة يهودية من مرسيليا، عشقها سي مختار وغيره من المنافسين الأشداء له. الشخصيات الأربعة: لخضر، مراد، مصطفى ورشيد، ليست إلا هي أو وجهها المتخفي. هي ظلال لها، كل واحد يملك جزءا من تاريخها ولكنه لا يملكها أبدا. المرأة اللعنة La femme fatale التي لا ضامن لمصير من يقربها. الأبطال الأربعة ينتهون نهايات مأساوية: السجن، العمل الشاق عند المعمر، الضياع في دوامة الكحول والحشيش، والمنفى. جزائر كاتب ياسين ليست جزائر الجنة المرجوة. بل هي جزائر نجمة بكل التباساتها وتراجيديتها. وإذن، مَنْ مِنْ مترجمي رواية نجمة (ملك العيسى، قوبعة، بوطاجين) إلى اللغة العربية فكَّ لغز اللغة التي كتب بها ياسين، والتاريخ المبهم والهوية المرتبكة ليتمكن من تأويلها، وترجمتها كما يجب، تلك قصة أعقد، سأعود لها يوما.



دياسبورا
نجمة، عودة النص المؤجلة
ما معنى أن نترجم نصا معينا من لغة إلى أخرى، العديد من المرات؟ هناك احتمالات كثيرة، أهمها أن الترجمة الأولى لم تكن جيدة، ولم توصل النص الأصلي إلى القراء بالشكل المطلوب. لنأخذ أمثلة عالمية. دون كيشوت، ترجمت العديد من المرات بسبب نقائص في الترجمات السابقة. ولكن النص ترجم من جديد قبل سنوات قليلة على يد آلين شولمان، مترجمة خوان غوتيسولو، الكاتب الإسباني المعاصر. كان رهانها لغويا واضحا بحتا: فكل الذين ترجموا دون كيشوت، سابقا تدخلوا في لغة سرفانتس لتقويمها؟ أرجعت شولمان النص إلى لغته الشعبية الأولى، فأعادت له شعبيته المفقودة، مما تطلب جهدا كبيرا دام سنوات عديدة. عوليس Ulysse لجيمس جويس ترجمت مؤخرا من جديد، في دار غاليمار، وكان الرهان هو العودة إلى نص كبير كانت فيه نقائص التأويل مذهلة. فأعادت الترجمة النص إلى ألقه اللغوي ورتبت معانيه الهاربة في الترجمات السابقة. النصوص العظيمة تفرض عودة مستمرة نحوها لوضعها في أفق جديد يربطها بقرائها المعاصرين وتصحيح ما ارتكب من أخطاء سابقة. رواية نجمة لكاتب ياسين، واحدة من هذه النصوص، وإعادة ترجمتها إلى اللغة العربية مبررة. لنتأمل إذن هذه الترجمات عن قرب. الترجمة الأولى كانت لملك أبيض العيسى التي نشرت النص في وزارة الثقافة السورية قبل أن تنشره المؤسسة العربية للدراسات والنشر في الستينات. لم تكن الترجمة عظيمة، ولكنها كانت جهدا كبيرا عبر كاتب ياسين من خلاله إلى القارئ العربي. بفضل هذه الترجمة وصل النص إلى قارئه الحقيقي الذي كان في حاجة إلى معرفة نجمة التي أثارت سجالا عالميا كبيرا. يمكننا أن نقول اليوم، إن النص عرف كيف يصل إلى قارئ الخمسينات والستينات وحتى بداية السبعينات. الترجمة الثانية قام بها محمد قوبعة في الثمانينيات، في ديوان المطبوعات الجامعية والمؤسسة الجزائرية للطباعة. كانت ترجمة جديدة لم تدّع أي هدف لها. فهي خالية من أية مقدمة توضيحية. لم تفترض أي شيء، ولم تنتقد الجهد الذي سبقها. فقد بنيت الترجمة على معرفة جيدة باللغة الفرنسية والعربية، وخبرة ترجمية مهمة. أدت هذه الطبعة غرضا جامعيا مهما ومفيدا. لقد قرأها الكثير من الطلاب الذين تعرفوا على كاتب ياسين في غياب شبه كلي للترجمة الأولى. ابتعدت الرواية كثيرا عن تدخلات ملك أبيض العيسى اللغوية، واكتفت بما يقوله النص في أصله ولو أربك ذلك القارئ من حيث المعنى. الترجمة الثالثة التي تقع عليها مسؤوليتة استعادة نص جزائري إلى حقله الوطني، كانت للصديق، السعيد بوطاجين. صدرت في 2007 عن الاختلاف والدار العربية ببيروت. فقد وضع المترجم مقدمة لكتابه يعترف فيها بتمزق نص نجمة، مما يعقد ترجمته. ويعيد بوطاجين النظر في النقد الذي لم يفهم النص، ولم يتحدث عن جدوى ترجمة جديدة، تنبهنا لمواطن ضعف الترجمات السابقة. الترجمة الجديدة ما تزال تبحث عن قارئها المفترض وهو الكفيل بتقييمها. الملاحظ أنها لم تختلف كثيرا عما أُنجِز سابقا على الرغم من الجهد المبذول فيها. أتساءل عن جدوى الترجمات الجديدة إذا لم يكن ذلك ضرورة قصوى مثلما حدث في المثالين اللذين ذكرتهما؟ الملاحظ في الترجمات الثلاث غياب كلي لشعرية ياسين التي جعلت من نجمة مزيجا من الشعر والتراجيدية. ألم يكن من الأجدى البحث عن كاتب ياسين في نصوصه السابقة نفسها لترجمة نجمة بشكل جديد قريب من نصوصه؟ كاتب ياسين لم يكتب إلا نصا واحدا ظل يعيشه بتمزق بين مختلف الأجناس. قصيدة نجمة والسكين، التي تظهر فيها نجمة بقوة، أو مسرحية الجثة المطوقة التي تحتل فيها نجمة ولخضر ومصطفى حيزا مهما، والأجداد يزدادون ضراوة التي تتحوّل فيها نجمة إلى السيدة المتوحّشة. التقرب من هذه النصوص يسهل الترجمة الجديدة ويضيف لها الكثير، لأنها تكشف عن تمزقات النص العميقة وعن التراجيدية اليونانية التي يستحيل استعادة كاتب ياسين إلى اللغة العربية من دونها. طوبى لكل الجهود التي بذلت، وطوبى لليد الشعرية الناعمة التي ستعيد لنا نجمة الضائعة والمستحيلة؟

stygnuut
01/04/2009, 16:08
دياسبورا
وداعا برينو إيتيان، وداعا أيها الصديق الكبير
توفي منذ أسبوع، أحد أهم عشاق الأمير عبد القادر، ومحبيه ومتابعيه، برينو إيتيان Bruno Etienne. سخر حياته كلها في البحث عن التفاصيل الغائبة في رحلته ومساره. فقد اعتبر الأمير قيمة ثقافية إنسانية نادرة، من بقايا القيم الثقافية الإسلامية السامية المقدرة للآخر، والمحترمة لخصوصيته. خصص له العديد من المؤلفات التي فتحت أمام الباحثين مسالك عديدة لمعرفة عميقة للأمير، ووضع بين أيديهم وثائق لم يكن أحد يحلم بالوصول إليها، ورسائل أصبحت اليوم في متناول محبي الأمير بسهولة. جاب كل الأماكن التي سلكها الأمير من الجزائر، معسكر، وهران، دمشق، تركيا، والمواقع التي عبرها الأمير عندما كان سجينا في فرنسا، والتقى بعائلة الأمير من الأحياء وربط شبكة من العلاقات حتى أصبح مرجعا لا يمكن تجاوزه. نشر عمله الضخم عن حياة الأمير في بيروت وبعدها في الجزائر، وكتابه عن عبد القادر مع فرانسوا بويو François Pouillon في السلسلة الفاخرة التي تصدرها دار غاليمار. ولهذا أستغرب كثيرا كيف لم يثر موته صحافتنا ولا متخصصينا، ولا حتى مؤسسة الأمير عبد القادر العتيدة، الموكول لها مهمة الاهتمام بكل من قال كلمة خير في الأمير؟ وكانت تربطه صداقة كبيرة ببعض أعضائها. الأغرب من ذلك كله، أن آخر كتاب ألفه برينو إتيان كان عن الأمير عبد القادر، وهو واحد من الكتب المثيرة للأسئلة والجدل، يحمل عنوان: عبد القادر والماسونية، متبوعا بالصوفية والماسونية. ربما اختلفنا مع الباحث الكبير في الخلاصات التي توصل إليها من خلال تقصيه وبحثه وتأويلاته، ولكن الرجل كان عالما متتبعا، ولم يذكر موقفا عن الأمير لم يبرره بوثيقة أو برأي أو بوجهة نظر مؤسسة. الكتاب يعتمد بالدرجة الأولى على رسائل الماسونية ووثائقها السرية، وبعض رسائل الأمير عبد القادر إلى محفل هنري الرابع وإجاباته عن أسئلة الانضمام التي قدمت له، ووثائق محفل الشرق الكبير الذي كان على علاقة وثيقة مع الأمير. ومحفل الأهرامات الذي كلف بالإصغاء لإجابات الأمير التعليمية المتعلقة بالماسونية. طبعا ليس هذا وقت مناقشة الكتاب الذي قد أعود له، ولكن الإجحاف في حق رجل هو جزء حي من ثقافتنا ووعينا الجمعي.
ولد برينو إيتيان في سنة 1938، وهو أحد مؤسسي مركز البحوث الإسلامية في فرنسا، ومؤسس مرصد الظاهرة الدينية في معهد الدراسات السياسية في 1992، في مدينة إيكس أوبروفانس Aix-en-Provence. ويعتبر أول من أدرج الظاهرة الإسلامية في مراكز الأبحاث الفرنسية، منذ بداية الثمانينات، حيث لم تكن موضوعا حيويا للبحث السياسي. تعلم اللغة العربية بمعهد بورقيبة للغات، وهو أحد أهم أصدقاء الجزائر، إذ ساهم مباشرة بعد الاستقلال، في إعادة بناء المنظومة التربوية، وذلك من 1962ـ1965، دون الحديث عن الزيارات المتكررة التي لم تنقطع أبدا، مساهما أو مشاركا في كل الفعاليات الخاصة بالأمير عبد القادر وبتاريخه حتى وفاته. قبل أن يستقر في السبعينات، لبضع سنوات في مراكش مدرسا ومحاضرا في جامعتها.
عاد في الثمانينات إلى فرنسا وأسس مركز أبحاث ودراسة المجتمعات الإسلامية. ودافع بقوة عن الإسلام في فرنسا، كجزء من النسيج المجتمعي الفرنسي وليس كعنصر دخيل عليه. فكان من أنصار تغيير قانون 1905 الخاص باللائكية، وطالب بضرورة إصلاحه بحسب معطيات الحاضر التي تجبر الجميع على احترام الأقليات المكونة للمجتمع الفرنسي، وإعطائها حق الوجود والتعبير. لم يُكوِّن برينو إتيان مدرسة خاصة كما فعل الكثير من معاصريه، إذ لم يكن همه تقديم الأجوبة الصارمة، والجاهزة بقدر ما كان يهمه الغوص عميقا في الأسئلة واختبار المسلمات. بموته المبكر، افتقدت الثقافة الإسلامية عموما، والجزائرية تحديدا، صديقا كبيرا، قدم لتاريخها الثقافي الكثير وأماط اللثام عن الكثير من الوثائق ومركز إكس-أون-بروفانس يشهد على ذلك اليوم. ويحتاج أن ترد له الجزائر بعض ما قدمه لها من جهود.
ليس الأمر صعبا ولا مستحيلا أبدا. كالتفكير مثلا في ثلاثة أشياء ممكنة، لا تكلف الدولة الجزائرية أي شيء: 1 ندوة دولية تليق باسمه، حول جهوده العلمية باتجاه تجديد النظرة الأوروبية إلى الإسلام، وليكن محورها الأمير عبد القادر مثلا. 2 إنجاز مجلد موحد يضم كل دراساته وأبحاثه عن الأمير عبد القادر وهي كثيرة يستفيد منها الباحثون والمهتمون بشأن الأمير. 3 ترجمة المجلد نفسه إلى اللغة العربية، ليصبح وثيقة في متناول الجميع. هل هذا كثير؟ تهمنا أعمال برينو إيتيان بالدرجة الأولى في الجزائر قبل غيرنا. ربما كان هذا أضعف ما يمكن أن يقدم لهذا الرجل الذي قد نختلف مع تحليلاته، ولكن لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر جهوده العظيمة، وكشفه الكثير من مغاليق حياة الأمير الصوفية وغيرها.
لقد تعودنا في بلادنا أن لا نتحرك إلا عندما يتحرك الآخرون، لنكن هذه المرة في مقدمة المهتمين برجل لم يكن فقط صديقا للجزائر ولكن مساهما في بنائها الثقافي وباحثا في تاريخها المنسي.

دياسبورا
نيو هولوكوست
ما معنى الهولوكوست في نهاية المطاف إذا لم يكن الإبادة على أساس عرقي وديني لشعب من الشعوب كان يجب عليه أن يكون مثلما حُدِّدَ له أن يكون، لا مثلما هو كائن؟ ما معنى المحرقة كما نفهمها اليوم، وكما قدمها لنا التاريخ، إذا لم تكن جهازا قاتلا، محضرا سلفا للإبادة ويشتغل وفق آلية حددها القتلة النازيون ضد شعب أعزل ذنبه الوحيد أنه كان يهوديا. كل هذا نعرفه جيدا ولا تنسيه المقتلات المتتالية التي تُرتكب كل يوم ضد شعوب عزلاء في شكل جرائم موصوفة. أليست هي نفسها مواصفات الآلة التي تبيد اليوم الشعب الفلسطيني لأنه فلسطيني؟
من الصعب في عالمنا الذي اختلط فيه كل شيء واخترقته الأحقاد في عمقه أن نفرق بين آلموس أووز، ونعوم شومسكي، ورابين وشارون وغيرهم. ومع ذلك علينا أن نحذر ونفرق، قبل أن نمنح ورقة رخيصة للنازية الجديدة ولقتلة التسحال. من الصعب على كل من يفكر أن يدرك كيف يتحول ناس كانوا ضحايا للهولوكوست إلى جلادين بنفس مواصفات قاتليهم؟ هل هو انتقال العدوى من الجلاد إلى الضحية لتصاب هذه الأخيرة بالعمى المعتم؟ قد نسمع الذرائع من هنا وهناك التي تحاول أن تبرر المقتلة، وتضع منطقة بكاملها، بصغيرها وكبيرها، في دائرة الإرهاب وتنسى ببساطة أن الأمر يتعلق أولا بتحرير بلاد استعمرت، دخلها المغامرون من كل الجهات حتى أصبح اليهودي المتأصل في أرض فلسطين بجانب المسلم والمسيحي، غريبا أعزل أمام الموجات المتوافدة من أمريكا ودول أوروبا الشرقية. أي إحساس يحمله دخلاء هذه الأرض غير إحساس المعمر الذي لا يرحم أبناء جلدته، فكيف يرحم العربي الذي ما يزال يطالب بالأرض التي طرد منها؟ لقد قبل الفلسطيني أن يقتسم أرضه مع سارقها، ومع ذلك لم يسمع له. لقد قبل اليهودي الذي يفكر بعيدا، أن يقتسم أرضا سكنها طويلا مع العربي، ومع ذلك لم يسمع له أحد؟ الأحقاد تتواصل وما كان ممكنا البارحة لم يعد اليوم إلا نثار غبار من أحلام رومانسية مندثرة. تبدو الصورة التليفزيونية التي يتنازل فيها باراك لياسر عرفات ليدخل قبله إلى قاعة الاجتماعات مع كلينتون، فيها الكثير من الغرابة ومستحيلة الحدوث الآن. إن الجيل الذي يُبنى اليوم هو جيل الحروب القادمة.
فكل بيت يسقط، وكل روح تزهق ينبت في مكانها حقد وحقول من السكاكين وأسلحة الموت. هل يفكر الإسرائيلي المسلح اليوم ماذا يصنع لغده القادم؟ ألا يعلم أنه يحفر قبرا عميق الهوة لشعبه؟ القتلة اليوم يصنعون انتحاريي واستشهاديي الغد. الإسرائيلي أو الفلسطيني العادي لا يطلب اليوم شيئا سوى العيش الهادئ والعودة إلى زمن لم يكن دائما جميلا، ولكنه كان على الأقل يمنح للجميع حق الحياة والحب من حين لآخر. كيف يستطيع العربي البسيط، المغلوب على أمره، في ظل أنظمة لم تجد ما تقنع به شعوبها، أن ينسى جريمة غزة وغيرها؟ يخطئ من يقول إن ذاكرة النسيان لا تصنع إلا النسيان. لقد أصبح موقع الذين اختاروا الحياة والاستماع إلى الآخر ومحاولة تفهمه بتنازلات قاسية، ولكن لا خيار فيها إلا خيار المستقبل، أصبح ضعيفا ومهتزا. التفكير في مستقبل مسالم أصبح مستحيلا أو شبه مستحيل. لقد نما عصرنا كل الأحقاد الدفينة. وإسرائيل مسؤولة عن كل ما يحدث، ليس فقط لأنها منعت تكوين دولة فلسطينية بكل الوسائل الجهنمية بما في ذلك تقسيم بلد لم تلتئم أطرافه حتى بفعل الجغرافيا، ولكن لأنها تستهل ما سيأتي بعد زمن قد يكون خمسين أو قرنا من الزمن؟ الأرض تتماوج بجنون غير مسبوق ولا أحد يعرف ما ينتظرنا في الزوايا الأكثر ظلمة.
التطرفات مسؤولة أيضا لأنها أعادتنا إلى حرب ظننا في لحظة من اللحظات أنها يمكن أن تصمت قليلا وتتيح فرصة للعقل لكي يتكلم ويتفهم ويناقش ويساجل ويخالف، المهم، أن يظل العقل متسيدا. حتى أصبح كل من يتحدث عن السلام، عربيا كان أو يهوديا، في قائمة خونة الدم والتاريخ وكأنه مقدّر على البشرية أن تظل تعوم في برك الدم لكي تستقيم قيم المواطنة والهوية والأرض. النيو-هولوكوست ليس جريمة فقط، ولكنه أصبح ثقافة خطيرة لن تتيح أي فرصة لغرس سلام حقيقي بين الشعوب. ما يحدث في غزة وحدث في العراق سابقا، مجرد بروفا لما ينتظر عصرنا القادم الذي غاب عنه الرجال العظماء الذين يفكرون في اللحظة التاريخية الحاسمة عن المخرج المؤلم، ولكن الضامن لمستقبل جدير بأن يكون إنسانيا. لقد ذهب ياسر عرفات وترك وطنا يتقاسمه التطرف والتمزق. قتل إسحاق رابين وترك وراءه شارون في عز تطرفه. خرج بيل كلينتون وهو على أبواب تحقيق حلم القرن: الاتفاق على دولتين إسرائيل وفلسطين. وتمزقت حركة السلام الآن التي كانت تحد من مخاطر الانزلاق نحو نقطة اللاعودة. سيقتل التسحال المئات أو الآلاف من الفلسطينيين وسيقدم الفلسطيني على إطلاق آخر طلقة يملكها: جسده، وسيزهو العالم بحربه الضروس ضد الإرهاب متناسيا أن هناك إرهابا أخطر اسمه إرهاب الدولة. وسيزحف الجيش الإسرائيلي نحو غزة وسيقوم بعملية تطهيرية عظيمة، وسيكتشف العالم مرة أخرى وسائل جديدة للإبادة والتقتيل... ثم ماذا بعد؟
دياسبورا
وداعا يا يوسف، لم تكن الدنيا عادلة معك

وداعا يا صديقي، فقد كانت الدنيا ظالمة في حق عمرك وموهبتك...
تشاء الأقدار القاسية أن تأخذك في نفس الشهر الذي منحتك فيه الحياة. أمام الموت نستيقظ دائما متأخرين يا صديقي، ونظن أن الذين نحبهم معصومون من مخاطره ومزالقه. الحظ الذي حالف غيرك من أصدقاء المعاناة، لم يكن معك هذه المرة. لم يسعفك سرطان الكبد المفاجئ، حتى لكتابة روايتك الأخيرة عن مرضك التي بدأتها وأنت على يقين أن المرض ليس أكثر من حالة طارئة، خصوصا بعدما أوصى الأطباء بزرع فص من كبد يتبرع به آخر، لكن الموت كان أسبق من كل شيء، حتى من إجراء العملية الجراحية. أسبق من كل المبادرات ومن احتفالات أعياد الميلاد وأفراحها. لم يتح لك فرصة التمدد على الكرسي القديم، كما هي عادتك الصعيدية، في مقهى الجريون Le Grillon، في عمق القاهرة، في حواشي ساحة طلعت حرب، ومداعبة جرسون المقهى الذي يركض نحوك: شيشة يا معلم، كالعادة؟ شيشة عادة أيه يا ابني؟ يمزح يوسف. قصدي شيشة تفاح يا معلم، يرد الجرسون، أيوه؟ كده بفم مليان، صح، شيشة تفاح وليس شيشة عادة؟ يمزح يوسف.
لقد كانت السخرية والتهكم هما وسيلته للحياة والاستمرار في محيط عربي، سياسي وثقافي، لا يمنح إلا النماذج الممسوخة التي تستحق أن تتحوّل إلى موديلات للضحك والتنكيت.
لم يكن يوسف أبو رية كاتبا يضاف إلى القائمة الطويلة لكتاب الحساسية الجديدة والوريثة الحقيقية لنجيب محفوظ، ولكنه كان وجه مصر الجديد روائيا الذي راهن في كتاباته على شيئين أساسيين: اللّمسة الشعبية للتيمات المختارة، التي تنبض بهموم الحارات والبيوتات الشعبية الضيقة التي تعيش مصائرها بقوة وثبات، على الرغم من اليأس المستشري، والاشتغال على اللغة التي ليست حالة ثابتة. فقد أخرجها يوسف من البلاغة الفجة وذهب بها نحو مكامنها الإنسانية التي تجعل منها لغة غنية تستمد قوتها لا من المعاني الفضفاضة ولكن من إحراجها للمعنى المتداول. ربما ينطبق عليها مصطلح الكيلاسيكية الجديدة Le new classisisme لأنها لم تبن مشروعها على القطيعة النهائية ولكنها تتأسس من رحم الجهد السابق. فرض يوسف اسمه بقوة في السنوات الأخيرة بعد انتباه النقاد العرب لقيمة إنتاجه الروائي والقصصي، وحصوله على مجموعة من الجوائز، كانت آخرها جائزة نجيب محفوظ. الموت لم يسعف يوسف للذهاب بعيدا في تجربته الإبداعية والفنية. فقد توفي في القاهرة بعد شهور من الصراع مع مضاعفات مرض الكبد. ودفن في بلدة ههيا، بمحافظة الشرقية، شمالي القاهرة. ولد يوسف محمد شحاتة أبو رية في الثاني من جانفيي 1954، وتخرج من قسم الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة عام ,1977 وعمل بالصحافة، قبل أن يتفرغ في السنوات الأخيرة للكتابة، فأصبح بفضل جهده الأدبي المميز من بين أبرز مبدعي الرواية، من جيل السبعينيات، وأغزرهم إنتاجا. من بين ما صدر له: ''الضحى العالي'' (قصص)، ''عطش الصبار'' (رواية)، ''تل الهوى'' (رواية) ''وليلة عرس''، الرواية التي فاز بها بجائزة نجيب محفوظ للإبداع الروائي، من الجامعة الأمريكية، بالقاهرة، عام 2005، والتي ترجمت إلى الإنجليزية. منحته جامعة المنيا، في صعيد مصر عام 2003، درعها، في احتفالية: العالم الروائي ليوسف أبو رية، شملت أعماله الروائية والقصصية. زار يوسف أبو رية الجزائر في سنة 2005، بدعوة من ملتقى عبد الحميد بن هدوقة، وتعرف على الوسط الثقافي الجزائري. تحدث يومها عن تجربته الروائية وموقعها على الخارطة الأدبية الوطنية. فاكتشف الجزائريون، طلبة وأساتذة وكتاب، من المشاركين في الندوة، اسما جديدا يضاف إلى ذاكرتهم الأدبية التي توقفت عند حدود الأسماء المتداولة، وإنسانا بشوشا تمر كل ملاحظاته من خلال النكتة والسخرية، التي كان يعتبرها سلاحه لتحمل عالم فج وكاذب من الصعب التأقلم معه.
التهكم كان وسيلته الحياتية ووسيلته الفنية لتمرير خطابه الأدبي الجديد. لم يكن يوسف أبو رية مع القطيعة الأدبية الفجة ولكن مع قطيعة هادئة، تنبع من عمق موروثها الثقافي، مؤسسة على قيم إنسانية وأدبية خالدة. فلا شيء يبدأ من الفراغ إلا الفراغ

stygnuut
01/04/2009, 16:10
دياسبورا
الرواية العربية وهاجس الحرية
بعض الأحداث الثقافية الخاصة والمثيرة، تعيدنا إلى أنفسنا وإلى المستوى الثقافي العربي المتسيّد اليوم. وأهم حدثين طبعا هذه السنة في موسم توزيع الجوائز بالإمارات ومعرض أبو ظبي للكتاب، هما حصول كاتبين من مصر على أعلى جائزتين عربيتين: جائزة الشيخ زايد للآداب، وجائزة البوكر العربية للرواية. الأولى فاز بها جمال الغيطاني على روايته رِنّ، وهي الجزء السادس من دفاتر التدوين، نص سير- ذاتي إلى حد كبير يستعيد فيه الكاتب حياته ومحيطه بالكثير من الصوفية والتأمل في الشأن الحياتي، مدمرا في الوقت نفسه، الشكل الروائي في نظامه السردي المتعارف عليه. والثانية فاز بها الروائي ويوسف زيدان على روايته عزازيل. رواية أسالت مدادا كبيرا وكان يخشى أن تفصل أو أن توضع في البراد بسبب حديثها عن موضوعة حساسة تتعلق بالدين المسيحي إذ أثارت منذ صدورها حفيظة الكنيسة القبطية التي اعتبرتها اعتداء على قداستها. قبل أن تؤكد أن الجائزة باصطفافها بجانب هذا النص، قد أعطته كل مبررات الاعتداء العمدي على الدين. لم تتأثر اللجنة بهذه المسبقات. ماذا في هذه الرواية لتستثار حفيظة رجال الدين، ولم تترك رواد معرض أبو ظبي حياديين تجاه هذا النص؟ يوسف زيدان ليس روائيا محترفا أو على الأقل لم يكن كذلك. فهو باحث بقسم المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، وألف وحقق أكثـر من 30 عملا في تاريخ العلوم والفلسفة والتصوف. الرواية التي دخلها من باب التجريب لم تكن هاجسه الأصلي. وتتكون عزازيل من 31 رقا نظمت في شكل فصول. تتحدث عن ترجمة لمخطوطات قام بها مترجم وهمي، وهي عبارة عن لفائف مكتوبة باللغة السريانية دفنت داخل صندوق خشبي وكتبت في القرن الخامس الميلادي، عثـر عليه في حالة جيدة في منطقة الخرائب، حول محيط قلعة القديس سمعان العمودي قرب حلب. كتبها الراهب هيبا بطلب من عزازيل. وعزازيل هو اسم الشيطان كما يقول البقلاني: إن إبليس قبل أن يرتكب المعصية كان ملكا من الملائكة واسمه عزازيل، وكان أشدهم ذكاء واجتهادا وعلما. وهذه الرواية هي الثانية بعد ظل الأفعى التي ناقشت قداسة الأنوثة في مراحل مبكرة من التاريخ البشري قبل أن تتحول المجتمعات الإنسانية إلى السلطة الذكورية. والكاتب منكب حاليا على رواية جديدة أسماها مؤقتا أيل، وتعني الله. فالجهد متأت إذن من رؤية مسبقة ومشروع تاريخي، وليس وليد صدفة طارئة. المهم من وراء ذلك كله هو أن الرواية كجنس، تضعنا أمام مسألة في غاية الأهمية: جرأة الكاتب في تعامله مع قضايا حساسة ليست في المحصّلة إلا موضوعات للكتابة، وليست بأي حال من الأحوال تاريخا. وتضعنا أيضا في موقع اختبار قدراتنا لاستيعاب حرية الكاتب ومخياله الحر الذي صفعنا بحقائق عن أنفسنا وعن تاريخنا وعن ديننا لا نريد سماعها. في ظل فشل الدراسات التاريخية عن قول الحقيقة لأنها تحت وصاية السلطة. تحتل الرواية اليوم مرتبة مهمة لا تلغي فيها التاريخ ولكنها تتحول إلى مرآته الكاشفة عن ضعفه. فهي ليست تحت أية قوة كيفما كانت، ولا حتى قوة الحاكم الذي ليس من حقه أن يعيد الروائي إلى جادة الصواب؟ لأنه قال كلاما لا يجوز قوله؟ فالرواية في النهاية هي متخيل ومؤسسة رمزية قائمة بذاتها، وتقع خارج دوائر السلطان والأمر والنهي. المتخيّل ضرب من ضروب الجنون كما يعرفه القدامى. وينسى الجميع أن قوة هذا المتخيّل هي الحرية نفسها. فهو من حرر الذهنيات من يقينيات تاريخ ابتأس حتى أصبح بلا جدوى من كثـرة تواطئه. فقد صنع بشكل معلب وجاهز وشرب للأجيال التي اكتشفت عطالته في وقت لاحق. تاريخ لا شيء فيه يصلح إلا صناعة صورة عالية للحاكم، والحاكم نفسه لا يتعظ إذ يكرر أخطاء من سبقوه. التاريخ بهذا المعنى، ليس إلا لحظة مرتبطة بالسلطان أكثر من ارتباطها بالصيرورة. ماذا بقي اليوم من الطغاة الذين دونوا التاريخ مثلما اشتهوه في حياتهم؟ ماذا بقي من الأسماء التي زينوا بها الشوارع في حياتهم والمحطات والمؤسسات والساحات العامة؟ لا شيء. وكأن التاريخ الحقيقي، هو شيء آخر، خزنته الذاكرة، ولا يتحرر إلا مع القراءة التي تضع الرواية اليوم في صف الأجناس التي يقبل عليها الناس بحثا عن هذه الحقيقة الغائبة. يقرأ اليوم القارئ العربي الكتب الممنوعة لأنه يدرك سلفا أن بها شيئا لا يريد السلطان الديني والسياسي والاجتماعي منا أن نعرفه. الذهاب نفسه نحو الرواية دون غيرها، أصبحت له دلالة الثقة في جنس هو وحده القادر على حمل وكشف الأسرار.
دياسبورا
الشاعر وذاكرة المحو


البشير حاج علي. منذ عشرين سنة يوما بيوم، كان هنا. هنا بالضبط حيث كل شيء حي وهادئ، في الزاوية الخلفية من صالون بيته الجميل، الذي تؤثثه الكتب والمصنفات الموسيقية الكثيرة والتاريخية. ينهض ويقوم بشكل دائم. ثم فجأة تخفى وراء المكتبة، وأتاني بحصان خشبي صغير صنعه بيده. هو في الجوهر فرع زيتون متعدد الرؤوس، لبسه بورق السجائر الفضى الداخلي، فبدا الفرع الصغير كأنه حصان أسطوري، بسرج من الفضة، شامخا برأسه إلى الأمام. ثم وضعه بين يدي باسم، ابني ذي الأربع سنوات، وهو يبتسم بخجل: لا شيء أجمل من لعب تصنعها أيادينا. كنت أتأمل حركات الرجل الذي قضى سنوات كثيرة في سجون الاستعمار الفرنسي، ثم سنوات أخرى أكثر مرارة، في سجون الاستقلال العظيمة، التي لم تكن تختلف عن أخواتها بل أنها أحيانا اختزلت الممارسات السابقة واكتشافات الغيستابو والسافاك الإيرانية وغيرهما.
وهو ما جسده البشير حاج علي في كتابه المخيف ''العسف'' Arbitraire'L'' ، الذي صور فيه تفاصيل التعذيب وتفنن المعذبين. وكيف يفقد الإنسان شرطه الإنساني منذ اللحظة التي يتخطى فيها عتبات أبواب السجن الثقيلة. المشكل أن البشير سُجِن ليس لأنه سرق مالا عاما أو باع وطنا، ولكنه فقط، فكر لا كما أُريدَ له أن يفكر، فقط ورفض أن تبنى جزائر الاستقلال على الانقلابات منذ بدء رحلتها الفتية حتى ولو تنوعت أسماؤها: التصحيح الثوري، العودة إلى الخط، سقوط الشعبوية... تساءلت وأنا أتأمل حركاته المليئة بالحياة أو ما تبقى منها: هل يعقل أن يكون هذا الجسد الذي ما يزال ممشوقا، على الرغم من انعكافه عند الظهر، هو جسد أجمل شاعر الذي كتب أناشيد 11ديسمبر، ليدم الفرح، شموس مضيئة، والموسيقى الأندلسية ونظمها الإيقاعية، ويحفظ جزءا كبيرا من مدوناتها. الشاعر الذي لم تأكله السياسة أبدا. لم يكن البشير ظلّ رجل كما يحدث عادة مع الذين تأكلهم السجون، ولكنه كان رجلا بأدق معنى الكلمة وقويا في استقامته كصفصافة. حضَّر لنا يومها قهوة وهو يضحك: لا أعرف شيئا غير هذا، الباقي، صفية تتقنه أحسن مني. كان يقصد زوجته لوسيت. ومضى زمن على الزيارة، ثم ورأيته ثانية. كان ذلك للمرة الأخيرة، في معرض فني لمريم بأن، في قصر الثقافة. كانت تتجول به عبر ممرات المعرض المخصص لرسوماتها التي شكلتها على إيقاعات أشعار بشير علي الثورية منذ أيام الحرب. كانت تقبض على يده وكلما شرحت له كالطفل الصغير أسرار اللوحات وذكرته بالتفاصيل، وكيف تشكلت اللوحة بينهما في ذلك الزمن الذي كان كل يوم يبتعد قليلا، برقت عيناه بشيء يشبه الحياة. ثم يهز رأسه مثل الطفل بالموافقة. كانت مريم بأن تلتفت صوب الفراغ لتكفكف دمعها، تمسحه لكي لا يراها. ثم تمشي به نحو لوحة أخرى. يتأملها. ثم تعاود الكرة. وكان من حين لآخر ينزلق من يدها نحو لوحة سبق أن شرحتها له قبل خمس دقائق، فتعاود بلا ملل الشرح.
وقتها لم تكن الوحيدة التي كانت تبكي. كل من عرف ذكاء هذا الشاعر وحساسيته الفنية عرف سعة الخراب الذي سُلِّطَ على الرجل، وكيف حُوِّل الذكاء إلى لاشيء. لقد كانت أقنعة الغباء أقوى في هذه اللعبة التراجيدية.
أدركت يومها أن الجريمة التي ارتكبت في حق البشير كانت أكبر من أي تصور. سنوات التعذيب وآثارها المدمرة ظهرت فيما بعد بشكل قاس على ذاكرته. فقد تعرض في معتقله لمحنة السطل الألماني Epreuve du casque allemand'L الذي كان يوضع رأس المعتقل ثم يضرب عليه بقوة بشيء ثقيل، فيحدث ذلك طنينا يصم الأذنين حتى يسيل الدم منهما. فكان الثمن هو محو الذاكرة. هل يجرأ اليوم قتلته، بعد صحوة ضمير فجائية، أن يقصوا علينا ليالي البشير وأحزانه غير ما قصته علينا رسائله للوسيت
Lettres à Lucette ؟ ثم ماذا ربحوا بمحو ذاكرته؟ وهل كانوا يدركون أنهم كانوا يصنعون صورا قاتمة لجزائر سيورثونها مقتولة ومغتصبة في ليلة عرسها، لشباب سيكفر بكل شيء، ولا يتوانى عن حتى عن رمي نفسه في البحر، في ظل استشراء العبث واللامعنى؟







كارلوس فوانتس مرايا الواقع والتاريخ
أهم حدث في معرض باريس للكتاب، لهذه السنة هو بلا منازع، استضافة المكسيك، وحضور الروائي المكسيكي العظيم، كارلوس فوانتس Carlos Fuentes الذي قدم محاضرة في الأوديتوريوم الكبير للمكتبة الوطنية حول الرواية الأمريكية اللاتينية الجديدة، كما استضافه الجناح الشرفي للمعرض. يكفي هذا الاسم لندرك ثقل تمثيل بلد وقيمته. لقد أصبح هذا الكاتب قيمة ثقافية عالمية بفضل منجزه الإبداعي والفكري المتنوع. ومثله مثل بقية الكتاب في أمريكا اللاتينية، فقد استمد فوانتس مادته الإبداعية والخامات الأولى لنصوصه، من التراث الهندي القديم الذي يشكل جوهر البنية التحتية لنظام القص في أمريكا اللاتينية، وفي المكسيك تحديدا. فكتاباته الكثيرة، التي تعدت الأربعين مؤلفا بين قصص وروايات ودراسات، تحيل إلى هذا العالم المتحوّل باستمرار داخل العنف، وداخل المصائر البشرية الحادة، وداخل التمزّقات الثقافية والإثنية المتعددة وغيرها. مما يجعل أعماله شديدة الارتباط بالإنسان وبكل ما يحيط به، على مدار كل إرثه الكتابي، والمترجم إلى العديد من اللغات العالمية، لم يخرج كارلوس فوانتس عن المدارات التي سطرها منذ بداية رحلته الكتابية: مصير الإنسان أمام تاريخه الفردي وتاريخه الجمعي. فقد استعمل كل ملكاته الكتابية للتعبير عن هذه الحالات. وظيفته الروائية المهيمنة، لم تمنعه مثلا من التصريح برأيه، بكل قوة، عن موقفه مثلا ضد ممارسات بوش التي قادت العالم نحو الحروب وتدمير كل ما بنته الحضارة الإنسانية، في كتابه النقدي الحاد: ضد بوش، لم يضع القفازات في نقده للغطرسة والهيمنة الأمريكية، أو كتابه سرفانتس ونقد القراءة الذي عاد فيه إلى الإرث الإسباني انطلاقا من نص دون كيخوتي. وعلى الرغم من ذلك التعبير الذي كثيرا ما اكتسى طابعا مباشرا، فقد ظل فوانتس مرتبطا عضويا بالكتابة الروائية التي استعمل فيها كل الوسائل البنيوية المعاصرة المساعدة، الوثيقة التاريخية، الرسائل، السير وغيرها من العناصر التكوينية. ولعل آخر نصوصه الكبيرة المثيرة للجدل: عرش النسر، الذي بني على المراسلات فقط، يكشف بشكل واضح البنية التاريخية المعقدة لمجتمع أمريكا اللاتينية. الانقلابات والدسائس والقتل من أجل السلطة ليست إلا صورا ومرايا كاشفة لحداثة غربية دخلت على أمريكا الجنوبية بكل وسائلها التدميرية. لم تكن ثقافة الهنود الحمر، في تقاليد الحكم، تسير بهذه الكيفية الظالمة. تدمير الوفاق الطبيعي هو الذي جاء بالدكتاتوريات المختلفة إلى مجتمع أمريكا اللاتينية. الانغماس في السياسة، لم يمنعه أبدا من كتابة روايات عظيمة أصبحت اليوم جزءا حيا من الذاكرة الجمعية، ومرآة لمجتمع معاصر يعيش على الحواف الأكثر حدة.
ولد كارلوس فوانتس في باناما في سنة 1928، وبدأ ينشر أعماله الأدبية بدءا من سنة .1954
ولم يكن مخطئا حينما أعطى لأعماله الكاملة عنوان: عمر الزمن âge du temps' l ، ويعني بذلك أن ما كتبه يتوغل عميقا إلى أبعد من عصرنا وزماننا. فكتابات فوانتس كلها مرتبطة عضويا بالهوية المكسيكية في تمزقها وبحثها الدائم عن التلاؤم وتاريخيتها. فقد أعاد في كتابه النقدي المرآة المدفونة (1994) تأملاته في إسبانيا ومفهوم العالم الجديد متسائلا عن التاريخ المتخفّي والمليء بالنور، ولكن المليء أيضا بالحرائق التي أكلت كل شيء في طريقها، وأبادت حياة ومجتمعات كانت قائمة. هذه الرؤية الحيوية والمتجددة باستمرار، هي التي جعلت كتاباته محبوبة في وطنها، ومتجذرة فيه، قبل أن تكون محبوبة أيضا في الخارج بخطابها الفاعل الملح على الحوار بين الثقافات وعدم الإقصاء. لا يوجد فعل إنساني، كيفما كان، خارج المنظومة البشرية العامة. كل إرثه الثقافي يستغله كارلوس فوانتس لصالح الإنسان. هذا الارتباط القوي بالتاريخ البعيد، لم ينس الكاتب ضرورة الارتباط بالحاضر الحي والملتصق بواقع المكسيك المتحرك باستمرار، في أفق من التناقضات الحادة والأحلام الممكنة، مثلما هو الحال في أعماله: كل العائلات سعيدة، والإرادة والمال (2008).
La voluntad y la fortuna الذي يجعل من مكسيك الزمن المعاصر بتناقضاته الكبيرة، موضوعا للكتابة الحيوية والباحثة عن شكلها دوما. لا يوجد شيء ثابت بالنسبة لفوانتس في عالم لا يعرف الاستقرار أبدا. ورواية العجوز غرينغو le vieux gringo (1986) الذي قبل أن يموت، ذهب في رحلة اختيارية أغرقته في تاريخ المكسيك الحديث، وفي الثورة المكسيكية الدموية، التي تأسس على أنقاضها جزء من هوية اليوم، متسائلا حول البداهة التي ليست كذلك دائما: هل التاريخ هو ما نكتبه ونسجله، ونشيعه بوسائط القنوات المعروفة، أم أن التاريخ هو ما يظل خفيا ومدفونا مع أصحابه؟ التاريخ ليس فقط ما يكتب، ولكن أيضا ما يعيشه الناس في لحمهم ودمهم. غرينغو بعد أن تعب وشاخ، أراد أن يختار موته، فخرج ولم يعد ليكشف لنا عن الظلال الخفية في أرض جرداء لا تنبت شيئا سوى أسرارها

butterfly
07/04/2009, 19:22
من المكتبة
:akh: