yass
21/03/2009, 01:10
قمت اليوم باستطلاع آراء كل من شاهدته من أصدقائي, و كان الاستطلاع يتألف من سؤال واحد فقط: ما هو الكولتان؟ و أعتقد أنني سألت عشرة أشخاص و تراوحت الأجوبة مابين من اعتقدوا أنه اسم دولة في إفريقيا أو جنوب شرق آسيا و من اعتقد أنه اسم دواء ما, و وجدت شخصاً واحداً يعرفه فقط.
للأمانة أعترف بأنني لم أكن أعرف ما هو الكولتان قبل شهرين, و سمعت عنه في ذلك الوقت في برنامج راديو و توسّعت معرفتي به من قراءتي لريبورتاج صحفي ممتاز في مجلّة شهرية مختصّة بالتاريخ و الجغرافيا أتابعها بانتظام.
الكولتان يا سادتي هو عبارة عن الاسم الشائع لخام الكولمبايت- تانتاليات, و هو الخام المعدني لعنصري النيوبيوم و التانتاليوم, و هذا الأخير بعد عزله له أهمية تقنيّة كبرى في الصناعة التكنولوجيّة الحديثة بسبب تمتّعه بخواص فيزيائية و كيميائية تمنحه قدرة تخزين كهربائي كبيرة بالإضافة إلى تحمّله لدرجات حرارة عالية, و لهذا فإن هذا العنصر يستخدم في صناعة مكثّفات كهربائية متناهية في الصغر و ذات فعالية ممتازة, و هذه المكثّفات تدخل في تركيب الأجهزة الخلوية الحديثة (60% من المستخرج من هذا الخام يتم استخدامه في صناعة الهواتف الخلوية) و الكمبيوترات النقّالة و كل الأجهزة المشابهة, بالإضافة إلى الاستخدام الواسع في المفاعلات النووية الحديثة و أجهزة الاستهداف المركّبة في الصواريخ بعيدة المدى.
هذا الاستخدام الكبير في الصناعة التكنولوجية و الطلب الكبير جعل سعر الكيلوغرام الواحد من هذا الخام يتجاوز الـ 700 يورو.
حسب تقديرات خبراء الجيولوجيا فإن 20% من المخزون العالمي لهذا المعدن موجود في باطن أراضي استراليا و البرازيل و تايلاندا, بينما تتركّز النسبة الباقية (80%) بأكملها في جمهورية الكونغو الديمقراطية (في شرقيها تحديداً), أو زائير سابقاً, و يعلم الله ما ستكون لاحقاً...
لماذا لعنة؟ لأن نظرية جوزف ستيغليتز (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد) التي تتحدّث عن "لعنة الموارد أو الثروات الباطنية" تنطبق تماماً على حالة الكولتان في جمهورية الكونغو الديمقراطية, فالكولتان و الصراع عليه قد سبّب أكبر مأساة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, فالحروب المتلاحقة التي عصفت بالكونغو قد سبّبت أكثر من أربعة ملايين قتيل و ملايين أخرى من الجرحى و المعوّقين, بالإضافة إلى الجرائم بحق الطفولة الناتجة عن استخدام الأطفال كجنود قسريين في هذه الحروب و إجبارهم أحياناً على قتل ذويهم لإثبات أنهم "رجال" و تطعيم شراستهم باستخدام مواد منشّطة و مخدّرات و استخدامهم للعمل في المناجم لصغر حجمهم.
ليس صدفةً, و الكل يعلم ذلك و يسلّم به و يقبل, كما يبدو, أن القلاقل و الحروب في وسط أفريقيا قد بدأت مع فورة الصناعات التكنولوجية الدقيقة, فمع انتصاف عقد التسعينات بدأت الأحداث مع وصول ملايين المبعدين من جمهوريات رواندا و بوروندي الهاربين من المذابح ما بين العرقية بين قبائل التوتسي و الهوتو إلى شرقي الكونغو (زائير آنذاك), و تسبّب هذا النزوح بحالة فوضى في البلاد تزامنت مع انحسار الدعم الغربي عن الديكتاتور موبوتو بعد ثلاثة عقود من التحالف ضد الحركات اليسارية و الشيوعية في المنطقة, و هذه العوامل قوّت شوكة الكثير من حركات المعارضة و التي ثارت ضد حكومة موبوتو بقيادة كابيلا (الأب) بدعم من الولايات المتحدة و بمساعدة جيوش رواندا و أوغندا التي قامت باجتياح البلاد من جهة الشرق, و بعد سنوات من الحروب الطاحنة و المذابح الرهيبة هرب موبوتو من البلاد (توفّي لاجئاً في المغرب ) و تولّى كابيلا الحكم, و باستلام الديكتاتور الجديد زمام الأمور انتهى ما يعرف بـ حرب الكونغو الأولى.
لم تدم فترة الاستقرار إلا شهوراً معدودة, فرواندا, حليفة كابيلا السابقة, وجدت في نهب مناجم الكولتان في شرقي البلاد الذي كانت مستمرة في احتلاله مصدر غنى رهيب, فهذه السيطرة كانت تورد لجيش رواندا حوالي المليون دولار يومياً (آنذاك), و لذلك رفضت الخروج عندما طلب منها كابيلا ذلك لتبدأ الحرب مرّة أخرى بتدخّل دول إفريقية كثيرة دعماً لطرف أو آخر, و بعد انشقاقات و انقلابات كثيرة في التحالفات و التوازنات انتهت الحرب اسمياً أو رمزياً باغتيال كابيلا الأب و استلام ابنه جوزف كابيلا الحكم, و يبدو أنه تلقى عروضاً بتركه يحكم مقابل إنهاء الحرب في الوضع الحالي, أي بفقدان السيطرة على شرقي البلاد حيث تتواجد كل مناجم الكولتان و التي تسرح فيها حالياً عشرات الميليشيات المختلفة الولاء, و تتصارع فيما بينها في حرب صامتة إعلامياً تنزف آلاف القتلى كل شهر, و لا أحد يدري.. أو ربما لا أحد يهتم..
هذه الحرب من أجل السيطرة على الموارد, و قانون الغاب السائد هو نتيجة حتمية لمصطلح "العولمة" و الليبرالية الاقتصادية المتوحشة و شعارها الديماغوجي "دعه يعمل, دعه يمر", فعلى اعتبار أنه لا توجد أي جهة تستطيع المطالبة بتوضيح مصدر المواد الأولية المستخدمة في الصناعة تقوم الشركات الكبرى في مجال الصناعة التكنولوجيّة, هذه التي تتجاوز في حجمها دولاً عديدة أحياناً, تقوم بتمويل الميليشيات و دعمها و مقابل تأمين السيطرة على المناجم و القتال لاحتلال مناجم جديدة و نهبها و الحصول على هذا الخام الثمين بأعشار قيمته الحقيقة في السوق, و لا أحد يستطيع المطالبة بتوثيق شرعية المصدر.
هذه هي العولمة يا سادة...
أتساءل منذ أن علمتُ بهذه الحالة إن كنا, نحن الذين نستخدم هذه التكنولوجيا, شركاء في هذه الجريمة من حيث عدم المطالبة (و خصوصاً في الدول الديمقراطية حيث يمكن للشعوب أن تشكّل جماعات ضغط) بتوثيق مصدر المواد الأولية بشهادة جهة حيادية ذات مصداقية أو منظمة دولية معنية بهذا الشأن يمكن إنشاؤها خصيصاً.
أو ربما من الأسهل البقاء على عادتنا البشرية بهز الأكتاف و النظر إلى اتجاه آخر... إلى شاشة الخلوي مثلاً...
Yass
للأمانة أعترف بأنني لم أكن أعرف ما هو الكولتان قبل شهرين, و سمعت عنه في ذلك الوقت في برنامج راديو و توسّعت معرفتي به من قراءتي لريبورتاج صحفي ممتاز في مجلّة شهرية مختصّة بالتاريخ و الجغرافيا أتابعها بانتظام.
الكولتان يا سادتي هو عبارة عن الاسم الشائع لخام الكولمبايت- تانتاليات, و هو الخام المعدني لعنصري النيوبيوم و التانتاليوم, و هذا الأخير بعد عزله له أهمية تقنيّة كبرى في الصناعة التكنولوجيّة الحديثة بسبب تمتّعه بخواص فيزيائية و كيميائية تمنحه قدرة تخزين كهربائي كبيرة بالإضافة إلى تحمّله لدرجات حرارة عالية, و لهذا فإن هذا العنصر يستخدم في صناعة مكثّفات كهربائية متناهية في الصغر و ذات فعالية ممتازة, و هذه المكثّفات تدخل في تركيب الأجهزة الخلوية الحديثة (60% من المستخرج من هذا الخام يتم استخدامه في صناعة الهواتف الخلوية) و الكمبيوترات النقّالة و كل الأجهزة المشابهة, بالإضافة إلى الاستخدام الواسع في المفاعلات النووية الحديثة و أجهزة الاستهداف المركّبة في الصواريخ بعيدة المدى.
هذا الاستخدام الكبير في الصناعة التكنولوجية و الطلب الكبير جعل سعر الكيلوغرام الواحد من هذا الخام يتجاوز الـ 700 يورو.
حسب تقديرات خبراء الجيولوجيا فإن 20% من المخزون العالمي لهذا المعدن موجود في باطن أراضي استراليا و البرازيل و تايلاندا, بينما تتركّز النسبة الباقية (80%) بأكملها في جمهورية الكونغو الديمقراطية (في شرقيها تحديداً), أو زائير سابقاً, و يعلم الله ما ستكون لاحقاً...
لماذا لعنة؟ لأن نظرية جوزف ستيغليتز (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد) التي تتحدّث عن "لعنة الموارد أو الثروات الباطنية" تنطبق تماماً على حالة الكولتان في جمهورية الكونغو الديمقراطية, فالكولتان و الصراع عليه قد سبّب أكبر مأساة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, فالحروب المتلاحقة التي عصفت بالكونغو قد سبّبت أكثر من أربعة ملايين قتيل و ملايين أخرى من الجرحى و المعوّقين, بالإضافة إلى الجرائم بحق الطفولة الناتجة عن استخدام الأطفال كجنود قسريين في هذه الحروب و إجبارهم أحياناً على قتل ذويهم لإثبات أنهم "رجال" و تطعيم شراستهم باستخدام مواد منشّطة و مخدّرات و استخدامهم للعمل في المناجم لصغر حجمهم.
ليس صدفةً, و الكل يعلم ذلك و يسلّم به و يقبل, كما يبدو, أن القلاقل و الحروب في وسط أفريقيا قد بدأت مع فورة الصناعات التكنولوجية الدقيقة, فمع انتصاف عقد التسعينات بدأت الأحداث مع وصول ملايين المبعدين من جمهوريات رواندا و بوروندي الهاربين من المذابح ما بين العرقية بين قبائل التوتسي و الهوتو إلى شرقي الكونغو (زائير آنذاك), و تسبّب هذا النزوح بحالة فوضى في البلاد تزامنت مع انحسار الدعم الغربي عن الديكتاتور موبوتو بعد ثلاثة عقود من التحالف ضد الحركات اليسارية و الشيوعية في المنطقة, و هذه العوامل قوّت شوكة الكثير من حركات المعارضة و التي ثارت ضد حكومة موبوتو بقيادة كابيلا (الأب) بدعم من الولايات المتحدة و بمساعدة جيوش رواندا و أوغندا التي قامت باجتياح البلاد من جهة الشرق, و بعد سنوات من الحروب الطاحنة و المذابح الرهيبة هرب موبوتو من البلاد (توفّي لاجئاً في المغرب ) و تولّى كابيلا الحكم, و باستلام الديكتاتور الجديد زمام الأمور انتهى ما يعرف بـ حرب الكونغو الأولى.
لم تدم فترة الاستقرار إلا شهوراً معدودة, فرواندا, حليفة كابيلا السابقة, وجدت في نهب مناجم الكولتان في شرقي البلاد الذي كانت مستمرة في احتلاله مصدر غنى رهيب, فهذه السيطرة كانت تورد لجيش رواندا حوالي المليون دولار يومياً (آنذاك), و لذلك رفضت الخروج عندما طلب منها كابيلا ذلك لتبدأ الحرب مرّة أخرى بتدخّل دول إفريقية كثيرة دعماً لطرف أو آخر, و بعد انشقاقات و انقلابات كثيرة في التحالفات و التوازنات انتهت الحرب اسمياً أو رمزياً باغتيال كابيلا الأب و استلام ابنه جوزف كابيلا الحكم, و يبدو أنه تلقى عروضاً بتركه يحكم مقابل إنهاء الحرب في الوضع الحالي, أي بفقدان السيطرة على شرقي البلاد حيث تتواجد كل مناجم الكولتان و التي تسرح فيها حالياً عشرات الميليشيات المختلفة الولاء, و تتصارع فيما بينها في حرب صامتة إعلامياً تنزف آلاف القتلى كل شهر, و لا أحد يدري.. أو ربما لا أحد يهتم..
هذه الحرب من أجل السيطرة على الموارد, و قانون الغاب السائد هو نتيجة حتمية لمصطلح "العولمة" و الليبرالية الاقتصادية المتوحشة و شعارها الديماغوجي "دعه يعمل, دعه يمر", فعلى اعتبار أنه لا توجد أي جهة تستطيع المطالبة بتوضيح مصدر المواد الأولية المستخدمة في الصناعة تقوم الشركات الكبرى في مجال الصناعة التكنولوجيّة, هذه التي تتجاوز في حجمها دولاً عديدة أحياناً, تقوم بتمويل الميليشيات و دعمها و مقابل تأمين السيطرة على المناجم و القتال لاحتلال مناجم جديدة و نهبها و الحصول على هذا الخام الثمين بأعشار قيمته الحقيقة في السوق, و لا أحد يستطيع المطالبة بتوثيق شرعية المصدر.
هذه هي العولمة يا سادة...
أتساءل منذ أن علمتُ بهذه الحالة إن كنا, نحن الذين نستخدم هذه التكنولوجيا, شركاء في هذه الجريمة من حيث عدم المطالبة (و خصوصاً في الدول الديمقراطية حيث يمكن للشعوب أن تشكّل جماعات ضغط) بتوثيق مصدر المواد الأولية بشهادة جهة حيادية ذات مصداقية أو منظمة دولية معنية بهذا الشأن يمكن إنشاؤها خصيصاً.
أو ربما من الأسهل البقاء على عادتنا البشرية بهز الأكتاف و النظر إلى اتجاه آخر... إلى شاشة الخلوي مثلاً...
Yass