قرصان الأدرياتيك
14/03/2009, 14:43
كانَ شوقي يدفعُني إلى الإسراعِ إليه... إلى رؤيته والعبث بما يحتويه! سرتُ نحوَ جسرِ الرّئيس في العاصمةِ السوريّة لغايةٍ واحدةٍ فقط: رؤية المئات والآلاف من الكتبِ المتناثرة على الأرصفةِ والزّوايا الممتدّة بين الأعمدة. جلتُ بينها ولمحتُ سلسلةً أجهدُ في اقتناءِ أعدادها كانت تصدر من العاصمة الكويتيّة تحت اسم "المسرح العالميّ"، واليوم آلت إلى "إبداعات عالميّة" لتشملَ، إضافةً إلى المسرح، سائر الفنون الأدبيّة من شعرٍ وقصّةٍ ورواية... إلخ. اتّفقتُ مع البائع على شراء كافّة الأعداد الموجودة لديه، فرضي بخمسٍ وعشرين ليرة ثمناً للعدد الواحد. بلغتْ الأربعينَ فدفعتُ إليه ورقةً ماليّةً واحدة من فئة الألف!
عجّلتُ في السّير بهذا الحملِ الثّقيل معنىً ومبنىً، وعندَ وصولي إلى صفّ المكتبات في الحلبوني، والكتب ترزحُ فوقَ الكتفِ الأيمن، وإذ بصديقٍ أعرفُه يمرّ بقربي فبادرتُه:
- أهذا أنت؟! أينَ كنتَ يا رجل؟!
- أهلاً أهلاً يا للمصادفة! لو تمنّينا اللقاءَ لما كانَ بهذا الشّكل!
- ألم تغادرْ البلدَ بعد؟
- اليومَ عصراً أسافر فبعد أسبوعٍ تبتدئ الدّروس.
- أنا جائع وأبحثُ عن مطعمٍ صغير أملأ فيه هذه المعدة الخاوية، هل تأكل معي؟!
- لا، اعذرني أرجوك فأنا صائم.
- أنا آسف... نسيتُ أنّنا في شهرِ الصّيام، حسناً ما دمتُ معك فلأبقَ صائماً!
أخذنا الطّريقَ في اتّجاه مؤسّسة البريد تاركين الحجازَ إلى الخلف وعرّجنا خلالَ أحاديثِنا الكثيرة السّريعة على "البونيّ" الذي اشتهرَ في التراث الإسلامي بالكتابة عن المعرفة والحكمة والسّحر، وأخبرتُه أنّي تعبتُ من البحث عن كتابِه "منبع أصولِ الحكمة" في القاهرة ولم أعثرْ عليه إلا في مكتبةٍ صغيرة بقرب "دار المعارف" المصريّة. أجابني: يا رجل هذا من أشهر الكتب في هذا الحقل وهو موجودٌ بكثرة في دمشقَ، لماذا لم تسألني؟ لم أكن أعرفُ ذلك فقد أُخبرتُ في العاصمة المصريّة أنّه من الكتب الممنوعة، واقتناؤه قد يعرّضني للسّجن، وبرغم ذلك حملتُ منهُ معي نسختين.
أخيراً وصلنا مكتبة "النوري" وسألتُ أحد الباعة فيها عن مؤلّفات الأديبِ اللبنانيّ الكبير ميخائيل نعيمة. قادني إلى مجموعة مطبوعة في "دار العلم للملايين" تضمُّ كافّة كتاباته بما فيها الرسائل وسيرته التي كتبها عندَ بلوغه السّبعين من العمر وسمّاها حينئذٍ "سبعون". بلغَ ثمنُها سبعة آلاف وثمانمئة ليرة سوريّة وهو ثمنٌ زهيدٌ جداً أمام قيمة المجموعة الكاملة. قلتُ للبائع: سأرسلُ إليكَ صديقاً يشتريها من أجلي إذ لا قدرة عندي بعد على حملِها بمجلّداتها التسعة. وقبلَ أن أخرج اشتريتُ كتابين أحدهما في علم الأديان المقارنة لعالمٍ ألمانيّ لا يحضرني اسمُه السّاعة، والآخر في علم التأويل وهو الترجمة العربيّة للهيرمينوطيقا يدورُ حول تاريخ هذا العلم الحديث والبحث في أهمّ أعلامه.
عندَ البابَ ودّعتُ صديقي الدّومانيّ على أملِ لقاءٍ قريب في مثوى الدّراسة روما. أسرعتُ من هناك إلى مكتبٍ للشّحن أرسلتُ منه الكتبَ الأربعين التي هدّت منكبيَّ، ثمَّ أخذتُ طريق العودة إلى نزلي في حيّ القصور، حيثُ أكلتُ على عجلٍ وأصرَّ صديقي على أن يقلّني بسيّارته! كانَ جراجُ حرستا على عتبةِ ثورةٍ بشريّة فقد غصَّ بكلِّ شكلٍ ولون. اعتقدَ المسلمون أنَّ العيدَ يقع في يوم الغد فقد سبقتْ المملكة السعوديّة إلى الإعلان عن ظهور القمر، ولهذا غادرَ دمشقَ كلُّ غريبٍ وعابرُ طريقٍ بمن فيهم الطلبة والعساكر وأولئك الذين رغبوا في قضاء العيد بالقربِ من عوائلهم وأقربائهم في المدن والمحافظات الأخرى.
هرعتُ بدوري إلى المكاتبِ أبحثُ عن شاغرٍ في حافلة مسافرة إلى المنطقة الشرقيّة، لكن عبثاً بحثتُ، فقرّرتُ السّفرَ أوّلاً إلى حلب خوفاً من التخلّف والبقاء في العاصمة طوالَ أيّام العيد. بعدَ عناءٍ ومزاحمةٍ وتدافع بين العشرات عثرتُ على مكانٍ بعدَ ثلاث ساعات كانَ عليّ أن أقضيها بين هذا الرّكام جالساً أو سائراً أو متأمّلاً! جلستُ على مقعدٍ خشبيّ وقرأتُ قليلاً في رواية الماغوط "الأرجوحة"، ثمَّ دوّنتُ بضعة مشاهد مرّت في فكري وأمام بصري، وتكلّمتُ عبر الهاتف مع عددٍ من الأصدقاء، والوقتُ لا يمضي أو لا يُريدُ ذلك! التفاتة هنا وهناك تحدّثك عن العساكرِ بثيابِهم الخاكيّة وشعور رؤوسهم المحلوقة، والرّجال والنّساء والأطفال مبعثرون بانتظار أوقات الرّحيل، والذّبابُ المسافرُ هو الآخر عبر الأثير يتواثبُ على الوجوه والأجسادِ والقمامة! تتداخلُ اللهجاتُ والأصواتُ ثمَّ تختلطُ، وتغيبُ الأشياءَُ في عتمة الانتظار. طالَ المكوثُ فقمتُ وتبوّلتُ بخمس عشرة ليرةٍ سوريّة... وبعدَ ساعةٍ بالضّبط كرّرتُ ذلك ودفعتُ الليرات كالسّابق. أن تتبوّل في هذا الوطن الكبير عليكَ أن تدفعَ من مالِك... وأن تتغوّطَ عليكَ أن تدفعَ من جيبِك، وأن تمشيَ وأن تتنفّسَ عليكَ أن تدفعَ وجيبُك يخلو وكروشهم تُحشى! ضرائبُ الحياةِ في ازديادٍ مطّرد وفقرُ التّعساء في ازديادٍ مطّرد وكلُّ شيءٍ في ازدياد إلا الكرامة والشّرف في وطنٍ ضاقَ بأبنائه!
عُدتُ إلى جلستي المعهودة على مقعدٍ خشبيٍّ تلوّنَ بفعل الظّروف والبشر. وما أن حملتُ القلمَ من جديد حتّى عاودت تلك الرّؤوس حركتها فاشرأبّت الأعناقُ واتّسعت الأحداقُ بفضولٍ تنظرُ هذا الغريبَ الذي يكتبُ شيئاً ما! أن تكتبَ فأنت غريبٌ... أن تفكّرَ فأنت غريبٌ... والغرباءُ في وطني يتناقصون ويتضاءلونَ والأمكنة تضيقُ باحتوائهم، وأهلُ البيتِ يزدادونَ بغير حساب!
أصنافٌ من البشر تزدردُ الطّريقَ الممتدّة بين المكاتب وإن تجرّأتَ على دخولِ أحدها، فما عليك إلا المقامرة والمغامرة بأن تلقي جسدَك وحمله بين الصّفوف المتراصّة المتدافعة، فتنهالُ اللكماتُ والرّفساتُ... وأيادٍ تلعبُ بالمؤخّرات والجيوب الفارغة، ومسافرون يصيحونَ وأسماء المدن تتناقل بين المسامع بينما يصمتُ الموظّفون أمام السّائلين، وانتظارٌ ولا إجابة! أرجوكِ... يا آنسة أرجوكِ... مكاناً واحداً فقط إلى حمصَ... إلى حماةَ... إلى حلبَ... إلى دير الزّور!!! وأخيراً ينهالُ الغيثُ فتكسرُ موظّفةٌ حاجزَ الصّمت قائلةً: شاغرٌ واحد فقط إلى الميادين! فينفجرُ البركانُ و"هاتِه" تأتيها من كلِّ حدبٍ وصوب! تهتزُّ الأيادي في الهواء تحملُ البطاقات الشخصيّة وتتساقطُ النّقودُ على الأرض فتغيبُ بين الأقدام. السّائلون يصيحون والموظّفاتُ يصمتنَ. وفتاةٌ تجلسُ مشمأزّة بقميصٍ يضيقُ بصدرِها فتنشدُّ أطرافُه وتختنقُ الأزرار أمام تدافع نهديها الكبيرين المثيرين! بينما يصيحُ لونُ حمّالة ثديَيها تحت قماشٍ شفّافٍ: أسود! أسود! أسود!
ضأضاءٌ يرتفعُ وصمتٌ ينخفضُ لا بل ينكسرُ، وموسيقى بلديّة مشوّهة تشنّف الآذان والجموع تتزاحمُ والأرصفةُ تضيقُ والأماكنُ يحتجزها الواقفون والجالسون والمقرفصون والنّائمون... أفواهٌ تدخّنُ وأخرى تعلكُ وتمضغُ طعاماً وتشربُ شيئاً فتصعدُ الحناجرُ عندَ كلّ لقمةٍ وتهبط! حاويةُ قمامة مرميّة في وسط الطّريق وقذاراتها متناثرةٌ تحت يديها ورجليها، وأكياسٌ مملوءة وأخرى فارغة ومناديل ملوّثة بالمخاط والبصاق والدّماء وأحمر الشّفاه مدعوسةٌ بين الإسفلت والإسفلت! وأعقابُ السّجائر المرميّة المسطّحة تحت النّعال تبكي ذاك الماضي التليد بين الشّفاه، كما يبكي العربُ حضارةَ الأمسِ الغريبة! فتياتٌ تروحُ وتجيء بأردافٍ تهتزٌّ مخنوقة وخدودٍ ترتجفُ بخجلٍ وبينهنّ كاعبٌ ناهدٌ تفترسها النّظرات من القدمين فالركبتين فما بين الفخذين حتّى النّهدين فالعنق فالشّفاه فالعينين، ثمَّ تعيد الكرّةَ نزولاً وصعوداً حتى تغيب عن البصر! فأمّا السّماء فمزرقّةٌ تتخلّلها غيومٌ تسيرُ ببطءٍ وتتحوّلُ من شكلٍ إلى آخر ساخرةً بأبناء البشر ورؤوسهم الفارغة من العقول المحشيّة بالنفايات وما تبقّى من رماد الغلاء!
وأنا مثلي مثل المئات أحلمُ بالمنزلِ حيث الدّفء والطّعام، هناك حيث لا جوع ولا عطش إلا في أيّام الرّقابة العمياء والسّرقات والفساد واللصوصيّة والسّطوة على كلّ شيء بما فيها العقول والأفكار والأقلام.
تعبتُ مثلما تعبَ الكثيرون من الرّواح والمجيء وشتمتُ مثلهم آلاف المرّات ولعنتُ آلهة الوطن ومعابده المقفلة في حجرات القصور، وبصقَ العساكرُ لعابهم الأصفر بفضلِ أسنانٍ لوّثها الدّخانُ وامتزجتْ بها الأميّة العمياء! وراحَ الشبّانُ يلاحقونَ الأردافَ المهتزّة إلى اليمين فالشّمال أو الأمام والوراء، لا فرقَ في الاهتزاز إلا الشهوة والاتّجاه! وبينما راحوا يلاحقونها رحتُ أبحثُ عن مثوى ألقي فيه ما تبقّى مني من السّباب وحبّات العرق وأنفاسٍ تخيبُ عندَ كلّ مرأى. هناك إلى جانبِ شبّان من عرب الميادين وألبوكمال جلستُ، وأسمرٌ بقربي سحبَ سيجارةً من علبة "الحمراء" وانتظرَ، لا أدري ماذا انتظر! حتّى طلبتُ منه واحدةً فقالَ: لا ولاعة عندي. أخرجتُ ولاعتي وأشعلتُ لفافته ثمَّ لفافتي وصَمَتْنا حتى اكتمال الموعد!
عجّلتُ في السّير بهذا الحملِ الثّقيل معنىً ومبنىً، وعندَ وصولي إلى صفّ المكتبات في الحلبوني، والكتب ترزحُ فوقَ الكتفِ الأيمن، وإذ بصديقٍ أعرفُه يمرّ بقربي فبادرتُه:
- أهذا أنت؟! أينَ كنتَ يا رجل؟!
- أهلاً أهلاً يا للمصادفة! لو تمنّينا اللقاءَ لما كانَ بهذا الشّكل!
- ألم تغادرْ البلدَ بعد؟
- اليومَ عصراً أسافر فبعد أسبوعٍ تبتدئ الدّروس.
- أنا جائع وأبحثُ عن مطعمٍ صغير أملأ فيه هذه المعدة الخاوية، هل تأكل معي؟!
- لا، اعذرني أرجوك فأنا صائم.
- أنا آسف... نسيتُ أنّنا في شهرِ الصّيام، حسناً ما دمتُ معك فلأبقَ صائماً!
أخذنا الطّريقَ في اتّجاه مؤسّسة البريد تاركين الحجازَ إلى الخلف وعرّجنا خلالَ أحاديثِنا الكثيرة السّريعة على "البونيّ" الذي اشتهرَ في التراث الإسلامي بالكتابة عن المعرفة والحكمة والسّحر، وأخبرتُه أنّي تعبتُ من البحث عن كتابِه "منبع أصولِ الحكمة" في القاهرة ولم أعثرْ عليه إلا في مكتبةٍ صغيرة بقرب "دار المعارف" المصريّة. أجابني: يا رجل هذا من أشهر الكتب في هذا الحقل وهو موجودٌ بكثرة في دمشقَ، لماذا لم تسألني؟ لم أكن أعرفُ ذلك فقد أُخبرتُ في العاصمة المصريّة أنّه من الكتب الممنوعة، واقتناؤه قد يعرّضني للسّجن، وبرغم ذلك حملتُ منهُ معي نسختين.
أخيراً وصلنا مكتبة "النوري" وسألتُ أحد الباعة فيها عن مؤلّفات الأديبِ اللبنانيّ الكبير ميخائيل نعيمة. قادني إلى مجموعة مطبوعة في "دار العلم للملايين" تضمُّ كافّة كتاباته بما فيها الرسائل وسيرته التي كتبها عندَ بلوغه السّبعين من العمر وسمّاها حينئذٍ "سبعون". بلغَ ثمنُها سبعة آلاف وثمانمئة ليرة سوريّة وهو ثمنٌ زهيدٌ جداً أمام قيمة المجموعة الكاملة. قلتُ للبائع: سأرسلُ إليكَ صديقاً يشتريها من أجلي إذ لا قدرة عندي بعد على حملِها بمجلّداتها التسعة. وقبلَ أن أخرج اشتريتُ كتابين أحدهما في علم الأديان المقارنة لعالمٍ ألمانيّ لا يحضرني اسمُه السّاعة، والآخر في علم التأويل وهو الترجمة العربيّة للهيرمينوطيقا يدورُ حول تاريخ هذا العلم الحديث والبحث في أهمّ أعلامه.
عندَ البابَ ودّعتُ صديقي الدّومانيّ على أملِ لقاءٍ قريب في مثوى الدّراسة روما. أسرعتُ من هناك إلى مكتبٍ للشّحن أرسلتُ منه الكتبَ الأربعين التي هدّت منكبيَّ، ثمَّ أخذتُ طريق العودة إلى نزلي في حيّ القصور، حيثُ أكلتُ على عجلٍ وأصرَّ صديقي على أن يقلّني بسيّارته! كانَ جراجُ حرستا على عتبةِ ثورةٍ بشريّة فقد غصَّ بكلِّ شكلٍ ولون. اعتقدَ المسلمون أنَّ العيدَ يقع في يوم الغد فقد سبقتْ المملكة السعوديّة إلى الإعلان عن ظهور القمر، ولهذا غادرَ دمشقَ كلُّ غريبٍ وعابرُ طريقٍ بمن فيهم الطلبة والعساكر وأولئك الذين رغبوا في قضاء العيد بالقربِ من عوائلهم وأقربائهم في المدن والمحافظات الأخرى.
هرعتُ بدوري إلى المكاتبِ أبحثُ عن شاغرٍ في حافلة مسافرة إلى المنطقة الشرقيّة، لكن عبثاً بحثتُ، فقرّرتُ السّفرَ أوّلاً إلى حلب خوفاً من التخلّف والبقاء في العاصمة طوالَ أيّام العيد. بعدَ عناءٍ ومزاحمةٍ وتدافع بين العشرات عثرتُ على مكانٍ بعدَ ثلاث ساعات كانَ عليّ أن أقضيها بين هذا الرّكام جالساً أو سائراً أو متأمّلاً! جلستُ على مقعدٍ خشبيّ وقرأتُ قليلاً في رواية الماغوط "الأرجوحة"، ثمَّ دوّنتُ بضعة مشاهد مرّت في فكري وأمام بصري، وتكلّمتُ عبر الهاتف مع عددٍ من الأصدقاء، والوقتُ لا يمضي أو لا يُريدُ ذلك! التفاتة هنا وهناك تحدّثك عن العساكرِ بثيابِهم الخاكيّة وشعور رؤوسهم المحلوقة، والرّجال والنّساء والأطفال مبعثرون بانتظار أوقات الرّحيل، والذّبابُ المسافرُ هو الآخر عبر الأثير يتواثبُ على الوجوه والأجسادِ والقمامة! تتداخلُ اللهجاتُ والأصواتُ ثمَّ تختلطُ، وتغيبُ الأشياءَُ في عتمة الانتظار. طالَ المكوثُ فقمتُ وتبوّلتُ بخمس عشرة ليرةٍ سوريّة... وبعدَ ساعةٍ بالضّبط كرّرتُ ذلك ودفعتُ الليرات كالسّابق. أن تتبوّل في هذا الوطن الكبير عليكَ أن تدفعَ من مالِك... وأن تتغوّطَ عليكَ أن تدفعَ من جيبِك، وأن تمشيَ وأن تتنفّسَ عليكَ أن تدفعَ وجيبُك يخلو وكروشهم تُحشى! ضرائبُ الحياةِ في ازديادٍ مطّرد وفقرُ التّعساء في ازديادٍ مطّرد وكلُّ شيءٍ في ازدياد إلا الكرامة والشّرف في وطنٍ ضاقَ بأبنائه!
عُدتُ إلى جلستي المعهودة على مقعدٍ خشبيٍّ تلوّنَ بفعل الظّروف والبشر. وما أن حملتُ القلمَ من جديد حتّى عاودت تلك الرّؤوس حركتها فاشرأبّت الأعناقُ واتّسعت الأحداقُ بفضولٍ تنظرُ هذا الغريبَ الذي يكتبُ شيئاً ما! أن تكتبَ فأنت غريبٌ... أن تفكّرَ فأنت غريبٌ... والغرباءُ في وطني يتناقصون ويتضاءلونَ والأمكنة تضيقُ باحتوائهم، وأهلُ البيتِ يزدادونَ بغير حساب!
أصنافٌ من البشر تزدردُ الطّريقَ الممتدّة بين المكاتب وإن تجرّأتَ على دخولِ أحدها، فما عليك إلا المقامرة والمغامرة بأن تلقي جسدَك وحمله بين الصّفوف المتراصّة المتدافعة، فتنهالُ اللكماتُ والرّفساتُ... وأيادٍ تلعبُ بالمؤخّرات والجيوب الفارغة، ومسافرون يصيحونَ وأسماء المدن تتناقل بين المسامع بينما يصمتُ الموظّفون أمام السّائلين، وانتظارٌ ولا إجابة! أرجوكِ... يا آنسة أرجوكِ... مكاناً واحداً فقط إلى حمصَ... إلى حماةَ... إلى حلبَ... إلى دير الزّور!!! وأخيراً ينهالُ الغيثُ فتكسرُ موظّفةٌ حاجزَ الصّمت قائلةً: شاغرٌ واحد فقط إلى الميادين! فينفجرُ البركانُ و"هاتِه" تأتيها من كلِّ حدبٍ وصوب! تهتزُّ الأيادي في الهواء تحملُ البطاقات الشخصيّة وتتساقطُ النّقودُ على الأرض فتغيبُ بين الأقدام. السّائلون يصيحون والموظّفاتُ يصمتنَ. وفتاةٌ تجلسُ مشمأزّة بقميصٍ يضيقُ بصدرِها فتنشدُّ أطرافُه وتختنقُ الأزرار أمام تدافع نهديها الكبيرين المثيرين! بينما يصيحُ لونُ حمّالة ثديَيها تحت قماشٍ شفّافٍ: أسود! أسود! أسود!
ضأضاءٌ يرتفعُ وصمتٌ ينخفضُ لا بل ينكسرُ، وموسيقى بلديّة مشوّهة تشنّف الآذان والجموع تتزاحمُ والأرصفةُ تضيقُ والأماكنُ يحتجزها الواقفون والجالسون والمقرفصون والنّائمون... أفواهٌ تدخّنُ وأخرى تعلكُ وتمضغُ طعاماً وتشربُ شيئاً فتصعدُ الحناجرُ عندَ كلّ لقمةٍ وتهبط! حاويةُ قمامة مرميّة في وسط الطّريق وقذاراتها متناثرةٌ تحت يديها ورجليها، وأكياسٌ مملوءة وأخرى فارغة ومناديل ملوّثة بالمخاط والبصاق والدّماء وأحمر الشّفاه مدعوسةٌ بين الإسفلت والإسفلت! وأعقابُ السّجائر المرميّة المسطّحة تحت النّعال تبكي ذاك الماضي التليد بين الشّفاه، كما يبكي العربُ حضارةَ الأمسِ الغريبة! فتياتٌ تروحُ وتجيء بأردافٍ تهتزٌّ مخنوقة وخدودٍ ترتجفُ بخجلٍ وبينهنّ كاعبٌ ناهدٌ تفترسها النّظرات من القدمين فالركبتين فما بين الفخذين حتّى النّهدين فالعنق فالشّفاه فالعينين، ثمَّ تعيد الكرّةَ نزولاً وصعوداً حتى تغيب عن البصر! فأمّا السّماء فمزرقّةٌ تتخلّلها غيومٌ تسيرُ ببطءٍ وتتحوّلُ من شكلٍ إلى آخر ساخرةً بأبناء البشر ورؤوسهم الفارغة من العقول المحشيّة بالنفايات وما تبقّى من رماد الغلاء!
وأنا مثلي مثل المئات أحلمُ بالمنزلِ حيث الدّفء والطّعام، هناك حيث لا جوع ولا عطش إلا في أيّام الرّقابة العمياء والسّرقات والفساد واللصوصيّة والسّطوة على كلّ شيء بما فيها العقول والأفكار والأقلام.
تعبتُ مثلما تعبَ الكثيرون من الرّواح والمجيء وشتمتُ مثلهم آلاف المرّات ولعنتُ آلهة الوطن ومعابده المقفلة في حجرات القصور، وبصقَ العساكرُ لعابهم الأصفر بفضلِ أسنانٍ لوّثها الدّخانُ وامتزجتْ بها الأميّة العمياء! وراحَ الشبّانُ يلاحقونَ الأردافَ المهتزّة إلى اليمين فالشّمال أو الأمام والوراء، لا فرقَ في الاهتزاز إلا الشهوة والاتّجاه! وبينما راحوا يلاحقونها رحتُ أبحثُ عن مثوى ألقي فيه ما تبقّى مني من السّباب وحبّات العرق وأنفاسٍ تخيبُ عندَ كلّ مرأى. هناك إلى جانبِ شبّان من عرب الميادين وألبوكمال جلستُ، وأسمرٌ بقربي سحبَ سيجارةً من علبة "الحمراء" وانتظرَ، لا أدري ماذا انتظر! حتّى طلبتُ منه واحدةً فقالَ: لا ولاعة عندي. أخرجتُ ولاعتي وأشعلتُ لفافته ثمَّ لفافتي وصَمَتْنا حتى اكتمال الموعد!